عن السقوط قالوا لي
حسن جدًّا! لنواصِل ما انقطع من حديث ولكن كيف؟! إن الكاتب كاتب أولًا وأساسًا لأنه إنسان مُرهَف الحس إلى درجة تكون مرضية. بل أَجسُر وأقول: إنه حسَّاس إلى درجة مرضية فعلًا. ولولا أنه بكتابته تلك يُنتِج فنًّا، أي أروع وأجمل وأصح ما في الوجود من إنتاج بعد إعجاز الخلق الأعظم والحياة، لولا هذا لكان على البشرية أن تُودِّع كلَّ إنسان تَظهر عليه علامات الكتابة أو الفن، تودعه في مستشفى لعلاج الأمراض النفسية، كما تودع الخطرين على الحياة. بل إننا لو راجعنا تاريخ الفن لوجَدنا أن البشرية قد فعَلَت هذا في كثير من الأحيان، وأدَّت شدةُ الحساسية ببعضٍ من الفنانين والكُتَّاب إلى أن يَدخلوا مِصحَّات نفسية، وأحيانًا عقلية؛ ذلك أن البشرية ليست في كافة عصورها تلك الأمَّ الرَّءوم التي تَحْنو على أبنائها جميعًا وتَستجيب وتربت عليهم وتستجيب لصرخاتهم وآهاتهم، وتكون البلسم الشافيَ لأيِّ وكلِّ ما يُعانونه. البشرية في معظم أحوالها ومجتمعاتها غليظةُ القلب لا تَرحم، تدوس، كالقطيع المذعور الأهوج، على أقدام بعضها البعض بل أحيانًا على رقاب بعضِها البعض، وهي تَمضي خائفةً مرعوبة تَلهث وراء لقمة العيش والوجود. وجود إنسان حساس من المحتَّم عليه أن يَعيش وسط هذا القطيع الحيواني المهرول، كارثة، ليست كارثة البشرية ومجتمعاتها وقطيعها المهرول، ولكنها كارثة هذا الكائن؛ ولهذا فعلى الإنسان إذا خلق حساسًا أن يَدفع ثمن حساسيته تلك. ومثلما ذكاء المرء محسوبٌ عليه وليس محسوبًا له، فأيضًا حساسيته محسوبة عليه، لا بد أن يَدفع ثمنها كلَّ يوم من عمره، وربما دفَع عمره كله ثمنًا لها دون أن يوفي بالثمن!
وطوال الأسابيع الماضية وأنا أحسُّ أن بعض كُتَّابنا وشعرائنا العرب مستهدفون، وأنا لا أتحدث عن نفسي هنا باعتبارها نفسي؛ فالحديث عن النفس دائمًا شيء مكروه لقائله ولسامعه على حدٍّ سواء. ولكن إذا أصبحَت تلك النفس نموذجًا و«عيِّنة» لبشر يَحيَون بيننا، ونَدوسهم ونحن نُهرول في طريقنا لتحقيق الوجود الأحمق التائه، أحمق وأتفه وأحط لون من ألوان الوجود؛ فإنه لا يُصبِح حديثًا عن النفس بقدر ما يُصبِح حديثًا عن النوع كلِّه، وحينَذاك يَنتفي الحرَج، فالموضوع عام، والقضية خطيرة، ولا بد مِن حل.
أقول مستهدفًا، وأتوقف عمدًا عن الإفصاح؛ فقد كانت الطعنات تأتي من أكثرَ مِن جهة، ومن الأصدقاء والأعداء على حد سواء. بل ويحدث، ويا للغرابة، أن يتفق هدف الأعداء مع هدف الأصدقاء، ويلتقون جميعًا للنَّيل منك! وإلا فبربِّك فسِّر لي هذه الحملة الضارية التي تأتيني من صحفي وكاتب إسرائيلي، يَنشر في جريدة عالمية كبرى، ويُحاول أن يُشكِّك في ولاء العربي؛ لأنني في نفس الوقت الذي تُحاوِل فيه أقلامٌ وصحف عربية، لا أشكُّ لحظةً في أنها قومية وخالصةُ القوميةِ والاتجاه والهدف، تحاول هي الأخرى أن تُشكِّك في مقدرتك الفنية!
أما أن يُهاجمك الأعداء فهذا شيء طبيعي، لا بد أن تتوقعه باستمرار ولا تتوقفَ عنده، بل تتوقف عنده فقط إذا كفَّ هجومهم عليك؛ لأنك بموقفك أو بحُسن نيتك لا بد حينذاك أن تكون قد خدَمت قضيتهم.
هجوم الأعداء هذا شيء طبيعي، محاولاتهم المستمرة للتشكيك في قويمة بعض الكتاب العرب وبالذات بعض الكتاب المصريين، مسألةٌ كما يقولون واردة. وكان الردُّ عليها مفروضًا أن يَكون تلقائيًّا، كان مفروضًا أن يُدرِك القارئُ الذكي، سواءٌ في مشرقنا العربي أو مَغرِبهم الأوروبيِّ الأمريكي، أنه لولا أن هذا الكاتبَ ما زال يُقاوِم، وبشدة، أن يَحنِيَ للعاصفة رأسَه؛ ولهذا فهُم يَلْوون ذراعه، وبطريقة في غاية الذكاء والأحكام، ويحاولون أن يُظهِروه بمظهر أنه صديقهم، وأنه لا يُعاديهم، لما تعمَّدوا التشكيك في مواقفه، بل ولفعلوا العكس تمامًا، وحاولوا أن يُظهروه في نظر قومه على أنه قوي ووطني وعنيد لتغطية موقفه. هكذا يَفعلون مع كتاب غيره، يعرفون تمامًا ميولهم وكُنْه معسكرهم الحقيقي، وتظهرهم الدعاية الصهيونية بمظهر البطل الرافض الصِّنديد، بل وأحيانًا يُهاجِمونه لِنَزداد نحن تقديرًا له، وإيمانًا به.
أي قارئ ذكيٍّ كان باستطاعته أن يُدرِك هذا؟!
ولكن ما لا يَستطيع أن يُدرِكه أبدًا ذكاءُ أي قارئ فهو أن يحدث، وفي نفس الوقت أن تتولَّى أقلامٌ عربية قومية التشكيكَ في انتماء هذا الكاتب، وإن لم يكن في انتمائه، فالتشكيك في موقفه وإهالة التراب على رأسه وتصويره على أنه قد «سقط» أخيرًا هو الآخر، وتحس من لهجتهم أنهم سعداءُ تمامًا بهذا «السقوط» وكأنهم كانوا يَستعجِلونه أو بالأصح يتمنَّون. فالإنسان المخلِص حقًّا يَحزن لكل رجل في المعركة يَسقط، أو لكل قلم صادق يَسقط، أو حتى يتعثَّر؛ ذلك أنهم جميعًا في النهاية قوَّاته التي تُدافع عنه والتي يُشكل كلُّ فرد منها درعًا لا بد أن يحزن الإنسان حقًّا إذا سقط، أما أن يفرح ويُهلل ويزعق قائلًا: انظروا … هاهاها! ها هو ذا أخيرًا قد سقط.
إنهم بسرعة يريدون أن يُلحِقوك بطابور الذين سقَطوا فعلًا؛ ربما لكي تخلوَ لهم الساحة، ويَمرحون كتابةً ووجودًا باعتبارهم هم «الأشراف» وهم «الأطهار» وهم «الذين لا يُنافقون» وهم في النهاية العظماء وحدهم.
وليت سقوطَ كل الكتاب — حتى إذا كلُّ الكتاب سقَطوا — يصنع من غير الكاتب — كاتبًا، أو يُعطي للتَّافه منهم — مهما كان شريفًا أو خُيِّل إليه أنه شريف — يعطي له مقامًا وقُدرة؛ فقدرة الكتَّاب ومبلغ عطائهم مسألة لا يُحدِّدها حتى الكاتب نفسه؛ إنها خاصية فيه يُعطيها له الله سبحانه وتعالى يوم يَخلقه ويُدرِجه في سجلات الوجود. وكما يقول الكاتب المسرحي «بريخت» في مسرحيته عن جاليليو: إن سقوط نملة من فوق ناطحة سحاب لا يقتلها أو حتى يصيبها بكسر أو جرح، ولكن سقوط جَواد من الطابق الثاني فقط يقتله.
وهذا عن سقوط «جواد» فما بالك والذي يَسقط «كاتب».
لقد انتقلَت العدوى، وكان لا بد أن تَنتقل من بعض السياسيين العرب إلى بعض الكتَّاب العرب، وأصبح الحديث عن سقوط فلان الكاتب أو خيانته أو نهايته هكذا، وبجرة قلم، مسألة نضعها بمنتهى البساطة، وفي أي مجلس شراب أو جلسة قهوة. مع أن سقطة الكاتب شيء مُدوٍّ تمامًا، وخطير جدًّا إذ وكأنها أمَّة بأسرها هي التي تسقط. إن موقف «إزراباوند» من النازية لم ولن تَغتفره له البشرية بأية حال، والأمثلة على سقوط الكتَّاب الأوروبيين أو الأمريكيين أو الروس المعروفين ليست كثيرة؛ لأنها لا تَحدث، وليست أبدًا القاعدة، بل هي الشاذُّ الخارج على كل عُرف؛ فالكاتب ليس كالسياسي يَحترف مبادئه. الكاتب هو مبادئه، وسقوطه يعني تخلِّيَه عن أي مبدأ وعقيدة، بل وأكاد أقول إنه يعني أنه لم يكن موهوبًا أبدًا، مشهورًا ممكن، أما موهوبًا وفعلًا جاءت موهبته تعبيرًا عن إخلاصه وحرارة صدقه، فسقوطه مسألةٌ تكاد تكون مستحيلة.
وحين تذكر كلمة سقوط تَعني عند المتحضِّرين كافة أن إنسانًا «خان» مواقفه أو مبادئه أو أمتَه. أما أن نقولها لأن هذا الإنسان تحمس لقائد أو لحاكم، مجرد تحمُّس فهو أمر لا يحدث إلا في بلادنا العربية دونًا عن بلاد الدنيا. فكان، وبالضرورة لا بد أن يكون، موقف الكاتب هو موقفَ المعارض الدائم لأي نوع من الحكم، ولكن هذا هو بعينه موقف الطفل المريض، أما موقف الإنسان والرجل العاقل فهو أن يقول للمحسن أحسنت، مثلما يقول للمجرم أجرَمت. أجل لقد تحمستُ للرجل حسني مبارك — ولا أزال — لأني اعتبرته آخر عرَبة نظيفة في آخر قطار يحمل أماني مصر الوطنية في التحرير الوطني والاجتماعي والحياة الدستورية. ولقد قلتها يومَ لم يكن للرجل، أو بالأصح قبل أن يكون للرجل، مواقفُ تؤكد هذا المعنى وتدعمه، وحمدًا لله أن جاءت مَواقفه وخطواته وإجراءاته تؤكد كلُّها أن حماسي كان في محله تمامًا. كل ما في الأمر أن الناس كلهم لم يكونوا قد الْتقَوا به أو عرَفوه، وأني أردتُ لا أن أفعل مثلما يفعل قضاة العفة الثورية في وطننا العربي، وما أكثرَهم أولئك الذين لا يَعملون أبدًا للتغيير إلى الأصلح، أو حتى للثورة على الفاسد، إنما هدفهم الدائم الدائب هو انتظار الناس لكي يَسقطوا، أو لكي يُسقِطوهم هم في النهاية؛ زهقًا من انتظار سقوطهم ليُهلِّلوا ويرقصوا، ويقولوا: أخيرًا … ها ها ها … ها هو ذا يسقط. أردت ألا أنتظر سقوط التجرِبة مرة أخرى، لأهتف أو أحكم، وألا أترك للشياطين الحرباويين المغيِّرين لألوانهم دومًا، مجالًا أن يَفرُغ المسرح لهم، ويلعبوا لعبتهم المفضلة من تغمية وتعمية، ونفاقٍ وتهديم داخلي، حتى فعلا في معسكرهم، تسقط التجرِبة. أردتُ أن أهتف بكل الشجعان، وبكل المخلصين أن نتحرك ونُغيِّر نحن بأيدينا، وأن نمنع، ليس بقلوبنا فقط، وإنما بأقلامنا وبكلماتنا، نمنع الزيغ ونُغيِّر إلى الأحسن والأكثر صدقًا ووطنية، وديمقراطية وشعبية، ومن هنا، من هنا فقط، أخذَت كلماتي «شكل» الحماس الزائد الذي لا تستطيع أن تُفرِّقه عن أي نفاق إلا إذا، مرة أخرى أقول: إلا إذا استعملتَ المقياس الحقيقي الوحيد لمعرفة الصدق من الكذب، والحماس النابع عن الإخلاص، من كلمات النفاق النابعة عن زيفٍ وعن رغبة ذاتية جشعة، تستعمل الكلماتِ والأقلامَ وسيلةً لتحقيقها. ذلك القياس الوحيد هو: تاريخ القلم الذي كتب الكلمة، وتاريخ الكلمات التي قالها الرجل. نعم، حين تتشابه علينا الرؤيا، وما أكثرَ ما تتشابه علينا، في عالمنا العربي، الرؤيا! فليس سوى التاريخ ملجَأ يَقينا شرَّ أن نخطئ؛ أن نخطئ في الحكم على شهادة الشاهد، وأن نُخطئ بالتالي في الحكم على شخص المشهود له أو ضده؛ فليس كل الحكام «فلانًا» وليس كل الكتاب «علانًا» وكلمة الشرف تَستعملها أي امرأة لا شرف لها أكثرَ مما تستعملها المرأة الشريفة فعلًا، والتي تعتبر مسألة شرفها مسألةً لا تستحق أبدًا أن تُباهي بها، وإنما هي مجرد سلوكها العادي الذي لا حاجة لها أن تفخر بأنه سلوك شريف؛ لأنها لا تعرف سلوكًا آخر، أو تدرك أن لسلوكها هذا في سوق التوصيف والتوظيف قيمةً. والمنظر بالمناسبة، في قاهرتنا العزيزة هذه الأيام حقًّا يدعو للتفرج، فما أكثر المقالات التي تُكتَب الآن مُطالِبة الناسَ بالالتزام بالشرف وضرورة القدوة الحسنة، وحتمية «النظافة»! هل يَذكر بعض القراء مقالة كتبتها ذات يوم عام ١٩٧٧م عن ضرورة أن «ننظف» مصر؟ الآن، هم، أولئك الذين طلبتُ ذات يوم أن ننظف مصر منهم، هم الذين الآن يدعون لتنظيف مصر، وفي يقيني أنهم يدعون لتنظيفها من كل نظيف فعلًا، بحيث لا يبقى سِواهم نظيفين، وما أروعَها آنَذاك من نظافة! المنظر مضحك فعلًا، وليتصوَّرْه معي أولئك الذين يحيَوْن في لندن أو باريس حين تقوم مظاهرة من محترفات «سوهو» مثلًا يطالبن الإنجليزيات بأن يتصرفن بشرف وبنظافة، يُطالبن ربَّات البيوت الطيبات، والزوجات المحبات الوفيات المتفانيات، يطالبنهن بأن يُصبِحن مثلهن شريفات، ويَضربن من أنفسهن مثلًا للشرف والقدوة!
قد نَضحك والمنظر مضحك فعلًا، لكنه ليس كذلك هنا، إنه حقيقةٌ نحياها ونقرؤها كلَّ صباح ونضحك.
مرة أخرى أعود فأقول: سامح الله أولئك الذين أرادوا بسوء أو بحُسن نية، وعفا الله عما سلف، وليساعدنا الله أن نكون عند حُسن ظنِّ مَن أحسنوا الظن بنا، وأن يُخيب الله أصحاب النيات الخبيثة، ولا يحقق لهم ذلك الهدف الذي تمنَّوه طويلًا: أن نسقط.
وأنا لا أدعي أن الكُتَّاب منزَّهون أو أني شخصيًّا منزَّه. بل إني لأُرجع الأمر كلَّه إلى مواقفَ شديدة التهافت والتخاذل، اتخذَها نفر من كُتاب القمة في مصر وفي بعض البلاد الأخرى. ولكني أؤكد لهم أن قاهرتنا على طول تاريخها لم يكن السقوط فيها هو «المودة»، وإنما كانت وستظل دائمًا وأبدًا هي الصمود، بل وما أستطيع قوله أنني شخصيًّا، وإلى الآن على الأقل، لم أسقط بعدُ، وفي نيتي ألَّا أسقط، بإرادة الله سبحانه طبعًا؛ إذ لو تخلَّت عني إرادته، أو عن أحد، لسقطنا جميعًا، ولأصبحنا والعياذ بالله مثل تجار النظافة.