الذين يأكلون أمهم
أنا سعيد جدًّا وتعس جدًّا هذا اليوم، فبالأمس انتهى في مصر عصر بناء البيوت على حساب الأرض الطيبة المعطاءة التي نأكل منها ونعيش عليها، سعيد جدًّا لأنه أخيرًا جدًّا جدًّا تحركَت الآلة الحكومية المصرية، وأوقفَت جريمةَ تجريف الأرض الزراعية وإحالتها إلى قَمائن طوب أحمر، تعس جدًّا لأن هذا الإجراء تأخَّر كثيرًا وطويلًا وسبَّب لنا خسائرَ جسيمة لا تُعوَّض، فمنذ أكثرَ من ستِّ سنوات كتبتُ في هذا المكان عن «الذين يأكلون أمهم» وكنت أَلفِت نظر السلطات بشدة إلى الجريمة التي استشرَت في كل أنحاء المنطقة المزروعة من مصر، جريمة تجريف الأرض وإحالتها إلى بِرَك ومستنقَعات، أي حرمان المصريِّين من آلة الإنتاج الطبيعية التي منحَها الله لهم، عن طريق قشرة طَمْي النيل التي عليها يَحيَون ومنها يأكلون، وطالبتُ بإيقاف تلك الجريمة، وكانت تلك الكلمةُ أولى — أو مِن أوليات — الاستغاثات المكتوبة الموجَّهة للحكومة في ذلك الوقت، والتي تُنادي بسَنِّ قانون عاجل يحكم بالسجن ولو المؤبد على هؤلاء الذين يقتلون أمهم الأرض، ويخونون شعبنا ومستقبل أجيالنا القادمة. أقول الاستغاثات المكتوبة؛ لأن الاستغاثات بدأت شفوية وكنتُ أسمعها من أفواه فلاحي قريتنا، والغريب أنها أفواه المزارعين الذين لا يمتلكون أرضًا، ولكنهم أحرص على «الأرض» من أولئك الذين يمتلكونها بناء على عقد أو ميراث، هؤلاء كانوا يستغيثون في صمت وإذا رأوا «أفنديًّا» مثلي انفجرت صدورهم مما تحمل من غيظ تجاه الجريمة التي تُرتكَب أمام أعينهم، ولا يَملِكون لها دفعًا. ولم أفعل أنا أكثر من أني ترجمت هذه الصرخات إلى لغة مكتوبة نشرتُها في الأهرام — أهم جريدة — وكنتُ أتصور أني بنشرها سأُقيم الدنيا وأقعدها، ولكن مِن الغريب أن شيئًا مِن هذا لم يَحدث، فما جاءني رد من وزير أو مسئول، ولا تحركَت قوات المسطحات المائية ولا البرية ولا السمائية ولا الداخلية ولا الزراعية. وكأنَّ الحكومة وظيفتها أن تَحكم الشعب فقط ولا علاقة لها بالدفاع عن «أمنه» الترابيِّ أو الغذائي، وقد كانت قلة الأمن الغذائي في ذلك الزمن منذ ستِّ سنوات عالية النبرة يُتاجِر باسمها في أقوات الشعب، ويُثري البعض ثراء فاحشًا حرامًا مجرَّمًا.
وكنتُ كلما سافرت عبر الدلتا ورأيت «جبال» الطمي الشامخات مكوَّمةً أُحِس كأنها كومة من لحمي ولحمك، كُشِطَت من أجسادنا، وكُوِّمَت هكذا ليربح منها أناسٌ بلا وازع أو ضمير.
ومضت سنوات وسنوات والأرض تُجرَف نهارًا وليلًا جهارًا وخفية، ويَبلغ الربح من الفدان الواحد المجرف أكثرُ من ستين ألف جنيه والمسطحات المائية والبرية ومجلس الشعب ووزارة الزراعة ووزارة الداخلية «ولا هي هنا».
وأخيرًا جدًّا حين جاء فلاح فيومي حقيقي هو الدكتور يوسف والي على رأس وزارة الزراعة تحرك الموضوع، وبدأت الآلة الحكومية البالية تتمطَّع وتتمطى، وتُلملِم مَفاصلها المخلَّعة وصدَر القانون، وحدد الأمس موعدًا نهائيًّا «لمصادرة» أي طوب أحمر أو قمائن من الطمي، ومصادرة أي آلات تُستعمَل وغرامة، لستُ أدري كم، على مَن يرتكب هذه الجريمة القصوى، لا أعرف لماذا هذه الرقة في معاملة أناس أكثر إجرامًا من مهربي المخدِّرات؟! لماذا لا تجعل السجن المؤبد عقوبة مَن يمد يده على طَمْينا المقدَّس، جريمة خيانة لأرض أمنا، تخريب الاقتصاد القومي، حياتنا، لقد قرأتُ في تصريحات قائد شرطة المسطحات المائية الحالي: إن بلادنا فقدَت بتأخُّر صدور القانون أكثرَ من مليار من الجنيهات، ذهبَت حرامًا مجرمًا إلى جيوب بضع عشرات من الخونة المصريين، وأعتقد أن تقدير قائد الشرطة غير حقيقي، فمقدار التخريب الذي حدَث للتربة الزراعية ليس مقتصرًا على حساب ثمن الأرض التي اغتِيلَت، أي لا بد أن نَحسب أيضًا ثمنَ ما كانت ستُنتج تلك الأرضُ خلال السنين التي مضَت، والسنين الطوال القادمة التي ستَبقى فيها بُورًا بلا زراعة، وهنا سيتعدى الرقمُ عشرات المليارات من الجنيهات.
مَن أطالبه بتسديد هذه المليارات التي لو كان قد اتخذ إجراءً منذ ستِّ سنوات لما كانت قد ضاعت أبدًا؟
من أطالب؟
وكيف نُحاسِب المسئولين عن التباطؤ المتعمَّد أو غيرِ المتعمد في اتخاذ الإجراء وسَنِّ القانون؟
وإذا وجَدْنا المسئولين سواءٌ أكانوا شرطة أم زراعة أم أعضاء مجلس الشعب، أو بالذات أعضاء اللجنة الزراعية في مجلس الشعب السابق، هل نحبسهم «مصاريف» مدى الحياة استيفاءً لحق الأرض والشعب؟
أم ماذا نفعل بهم؟
إن مشكلة الحكومة المصرية أنها درَجَت خلال رُبع القرن الأخير في إهمال محاسبة المقصِّرين والمخطئين والمجرِمين في حق الشعب وحق الوطن والمواطن؛ ولهذا فإن أحدًا لا يُهِمه أن يتَّخِذ إجراءً ضد شيء إذ سيجرُّ على نفسه المشاكلَ دون داعٍ، والمهم أن أحدًا لن يُحاسبه إذا تقاعس أو قصَّر …
وإن مشكلتنا أننا ظنَنَّا أن الحكومة المصرية هي صاحبة مصر، ونمنا على هذا التصور طويلًا، وآنَ لنا أن نستيقظ على الإدراك أننا — نحن الشعبَ — أصحابُ مصر، وأنه لا بد لنا نحن «أن نحاسب كل مُقصِّر في حقها» صح النوم يا «مجلس الشعب».