مَن يخشى الله؟
ثلاثة أيام على شاطئ البحر الفسيح الممتدِّ عِشتُها في حيز لا يتعدى حجمُه الواحد على المليون من الملليمتر المكعب. كنتُ قد اصطحبتُ معي كتابًا أَهدانيه الأستاذ عبد الحميد غريب الناشر اسمه «في الهندسة الوراثية، صناعة الحياة ومن يحكم في البيوتكنولوجيا؟» وهو مِن تأليف العلامة إدوارد بوكسين، وقام بترجمته عالمٌ مصري آخَر هو الدكتور أحمد مستجير الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة، ترجمة ماذا أقول أروع كتاب علمي قرأتُه مترجمًا إلى العربية، وكأنما هو مؤلَّف بها أصلًا، ليس هذا غريبًا؛ فمن أول نظرة ألقيتها على مقدمة المترجم ووجدتُه يستشهد بأبياتٍ لشاعرنا الكبير المرحوم صلاح عبد الصبور أحسستُ أني أمام عالم شاعر.
وأقبلتُ على الكتاب!
كنت قد قرأتُ بضع مقالات متناثِرة عن ثورة الهندسة الوراثية أو القدرة التي أحدثَها التقدمُ الهائل في هندسة الوراثة، وذلك في الملاحق العلمية لبعض الجرائد والمجلات الأوروبية والأمريكية. وعرَفتُ أن الإنسان بعدما انتهى من تشكيل، أو بالأصح إعادة تشكيل، المادة أو الجماد الموجود على سطح الأرض، بدأ وبذكاءٍ خارق يَسبُر غَوْر التركيب الخلوي للكائنات الحية، ويفك كثيرًا من الغموض المحيط بمكونات الخلية الحية، وعلى رأسها نواة الخلية، أو «عقلها وجهازها العصبي والتكاثري»، وبالذات الكروموزومات الموجودة داخل النواة، والمسئولة عن برمجة الصفات الوراثية التي تحمل كل خصائص الكائن الحي، وإيصالها إلى الأجيال التالية من هذا الكائن. قراءات عامة جدًّا وعلم جديد غامض، وجوائز نوبل تَتْرى على علماء الهندسة الوراثية بالذات، إلى درجة أني بدأتُ أشعر أنه إذا كنا نحيا في عصر الكومبيوتر المعتمِد على استغلال القدرات الإلكترونية داخل الذرات في الطبيعة، فنحن في مجال الحياة وليس في مجال الجماد، والأهم نحيا في عصر الهندسة الوراثية، بداية تحكم الإنسان وتغييره في تركيبات الخلية الحية في النبات أو الحيوان أو حتى الإنسان.
ولكني لم أكن أعرف على وجه الدقة ماذا فعَل هؤلاء العلماء، وكيف يصلون إلى التدخل الدقيق هذا في تركيب الكروموزومات، بل حتى في التركيب الجزيئي، أي الوصول إلى حدِّ بلوغ التدخل في تركيب الجُزَيئات وبالذات جُزَيء حامض اﻟ «د. ن. أ» الذي تُبْنى منه هذه الكروموزومات. وقد أجابني هذا الكتابُ على ما أردتُه تمامًا. وأُقسِم أن لي سنواتٍ وسنوات لم يَشغَل خيالي كتابٌ كهذا الكتاب طوال الأيام الثلاثة التي قرأتُه فيها، وأنا ألهث وكأني كنتُ في حفرة، وشدَّني ما قرأتُ إلى حيث رحتُ أرقب الكون والكائنات والحياةَ من فوق ربوة في وضوحٍ غريب غرابةَ الأحلام، نَشْوة لم أُحِسَّها منذ أن كان عمري أربعة عشر عامًا، ووقع في يدي وأنا طالب ثانوي كتابٌ عن الفلَك أو علم الأكوان الحديث الذي أسسه أينشتين، وبهرت للكون الذي وجدتُه في الكتاب، وذلك الكون الكبير، نفسَ انبهاري بالكون الصغير الذي وجدتُه في كتاب الهندسة الوراثية؛ ذلك أن هذا الكون الصغير ليس صغيرًا بالمرة إنه فعلًا «كونٌ» آخر، ولكنه هذه المرةَ ليس مكوَّنًا من نجوم ومجرَّات وأقمار، ولكنه مكوَّن من جزيئات «حية»، ومعنى أنها حية أنها قادرة على التوالد والاندماج والانقسام وصناعة نفسِها بنفسها. والأهم من هذا هو قدرتها على «فك» كل ما هو غيرُ حي، وإعادة تركيبه وترتيبه بحيث يصبح مادة حية.
دلج العلماء إلى هذا الكون لِيَبهَرهم تلك الدقةُ الشديدة التي تُزاوِل بها الخلية الحية صَنعة نفسها، والعملياتُ الغريبة التي تقوم بها لتنقسم وتتكاثر …
إنه الإعجاز المطلق.