سؤال (١)
ليعذرني الأصدقاء القراء إذا أنا أحسستُ بشيء من تأنيب الضمير؛ لاضطراري إلى إنهاء موضوع بدأته، في الوقت الذي تستفحل فيه في ساحتنا المصرية والعربية؛ قضايا هامة وخطيرة؛ تشتد عن أن يقول الكاتب، كل كاتب، رأيه فيها. ولكن ما يُعزِّيني عن هذا التأنيب المرضي للضمير، أنني في حقيقة الأمر وواقعه أخرج عن الموضوع لأدخل في الموضوع وأتحدث عن أمريكا؛ لأرى أمتنا نحن ومشاكلنا نحن. إن المشكلة في قضايانا المحلية أو العربية أنها قضايا امتدت عبر زمنٍ طويلٍ جدًّا، بالقياس إلى عمر الإنسان منا منذ صباه، وأنا واحد من جيل، من عام ١٩٤٨م إلى الآن أكثر من سبعة وثلاثين عامًا، ونحن في همها — تلك القضايا — الانشغال الدائب، نتظاهر حين كنا طلابًا، ونُعتقَل، ونُسجَن، ويُنكَّل بنا بلا سجن أو فصل، ونحن دائمًا «داخل» القضية والقضايا، إلى درجة أننا في حين نكفُّ عن رؤيتها، تصاب أنظارنا بما يسمُّونه «تعب الرؤيا» الذي قد يصل إلى حد انعدام الرؤيا.
والوسيلة لهذا دائمًا هي الخروج من الخندق، وتفقُّد العالم من حولنا، واحتدام الحوار بيننا وبين الدنيا؛ لنعود إلى الداخل وقد اكتسبنا أبعادًا ما كانت لنا، وعمقًا وقدرة على مواصلة السير. فالقضية، بل حتى معظم القضايا لا يبدو حلُّها قريبًا بالمرة، ولو كنتم معي في أمريكا ورأيتم غسيل المخ الدائم الذي حدث ويحدث، وسيظل يحدث للرأي العام الأمريكي والأوروبي من «اللوبي اليهودي» لتأكدتم أن الدور الأمريكي لمناصرة القضية العربية، بل حتى المصرية، جد محدود؛ فأمريكا بلد الدعاية والترشيحات والانتخابات، والانتخابات مجالها الإعلان والإعلام التليفزيوني والإذاعي والصحفي، وهذه كلها تقريبًا يسيطر عليها اللوبي سيطرةً شبه تامة، إلى درجة أني في لوس أنجلوس لم أكن أسمع خبرًا في محطات الإذاعة أو التليفزيون إلا ومصدره القدس أو إسرائيل. أسطورة أرض الميعاد وشعب الله المختار أصبحت حقيقةً واقعة، يحياها الشعب الأمريكي، ويُسلِّم بها، إلى درجة أني أرقتُ ذات ليلة، وكان الوقت حوالي منتصف الليل، وفتحت الراديو فإذا بالمحطة هي المحطة اليهودية في لوس أنجلوس، وإذا بالمذيعة السيدة تقول: «لقد أذلَّنا المصريون وأسرونا وكبَّلونا بالأغلال، وهتكوا أعراض نسائنا ويتَّموا أطفالنا، ولكنا ثُرنا عليهم، وحررنا أنفسنا، وأصبحنا بهذا طليعة الأحرار في العالم.»
وحسبت أن المذيعة تتحدث عما حدث في حرب ٧٣ مثلًا، ولكن المذهل والمضحك أنها كانت تتحدث عن «الخروج» أي عن خروج سيدنا موسى وقومه من مصر، وهو الأمر الذي حدث، حسب تاريخهم هم، منذ أكثر من أربعة آلاف عام. أقول المضحك لأنها كانت تتحدث وكأن الخروج حدث بالأمس فقط، أو بالكثير في العام الماضي، وأن المصريين الذين أخرجوا قوم موسى منذ أربعة آلاف عام وفرعونهم، هم مصريو اليوم، وكأن التاريخ توقف، ونفس اليهود هم نفس اليهود، ونفس المصريين هم نفس المصريين، يحكمهم نفس الفرعون.
لا تزال هذه الصورة التي قد يضحك لها أيُّ محايد، ولا أقول صاحب القضية، هي بعينها الصورة التي يريدون تثبيتها تمامًا في عقل ووجدان، بل وعقيدة الشعب الأمريكي المسيحية؛ فكل تناقض بين المسيحية واليهودية قد زال وبُرِّئ اليهود من دم المسيح، وأصبح العهد القديم والعهد الجديد كتابًا واحدًا يُدرَّس للأطفال المسيحيين واليهود على حدٍّ سواء.
ولا أُنكر أن قطاعاتٍ كبيرة من الرأي العام الأمريكي، برغم غسيل المخ هذا أصبحت تؤمن بحق الشعب الفلسطيني في وطنه القديم وكيانه، ولكن الآلة الدعائية المخيفة لا تزال سادرة، لا يمكن لأي «لوبي» عربي مقاومتها أو النيل منها.
ولقد دخلتُ كثيرًا في المناقشات أثناء الندوات والمحاضرات التي ألقيتُها في أكثر من ست جامعات أمريكية حول علاقة مصر بإسرائيل، وحول حق إسرائيل في البقاء، وحول القضية الفلسطينية، ولم تخلُ تلك المناقشات من حدة وتطرف إلى درجة أن بعضهم كان يغادر القاعة احتجاجًا على آرائي، ولكني ما زلت أذكر ذلك السؤال الذي توجهت به إلى أستاذٍ إسرائيليٍّ أمريكي، «فهكذا أصبحوا علنا يصفون أنفسهم». كان السؤال يدور حول «أسطورة إلقاء إسرائيل في البحر»، وكان جوابي أن الذين أُلقي بهم في البحر فعلًا هم الفلسطينيون وعلى أيدي جيش «الدفاع الإسرائيلي».
وقطعت سلسلة الأسئلة التي بدأت تنهال عليَّ من بعض الإسرائيليين الأمريكيين بسؤال توجهتُ به إلى الأستاذ السائل: وماذا عن رأيك أنت في حل القضية الفلسطينية؟
وكانت إجابته غريبة حقًّا؛ فقد قال لي بالإنجليزية:
أي بالعربية: هناك قضايا «تُحل» وقضايا «تتحلَّل» أو تذوب، وكان يعني بالذوبان طبعًا القضية الفلسطينية.
وكان ردِّي عليه بسيطًا جدًّا؛ فقد قلتُ له: اسمح لي أن أقول لك إنك جدُّ مخطئ؛ فقضية فلسطين قضية شعب، ولو كانت قضايا الشعوب «تتحلَّل أو تذوب» لكانت قضية الشعب اليهودي أولى بالتحلل والذوبان خلال أربعة آلاف عام مضت عليها كما يقولون، فما بالك والقضية الفلسطينية لم يمضِ على وجودها إلا أقل بكثير من نصف قرن؟!
وتذوب أو لا تذوب، إن المواطن الأمريكي العادي في عالمٍ بعيد تمامًا، ومشاكلَ مختلفةٍ تمامًا عن مشاكلنا وعن قضايانا، وقضية مثل نيكاراجوا أو غيرها من قضايا أمريكا اللاتينية تحتل من تفكيره أضعافًا مضاعفة لما تحتله القضية الفلسطينية، رغم تعاطف كثيرين من المثقفين والكتاب الأمريكيين مع القضية، بل تعاطف كثير من أساتذة الجامعة اليهود تعاطفًا تامًّا مع حق الشعب الفلسطيني في الوجود.
ولكن السؤال يبقى: هل يستطيع هذا التعاطف المحدود أن يخلق رأيًا عامًّا في أمريكا أو في الغرب عامة، يستطيع إجبار الحكومات الغربية أو الإدارة الأمريكية على تغيير انحيازها الكامل لإسرائيل؟
الجواب بالنفي قطعًا، والتجاوب الوحيد الذي يمكن أن يحدث، لن يحدث إلا إذا تكاتف أصحاب القضية أنفسهم وصنعوا «قوة» تجد لها في العالم أنصارًا ومؤيدين، بل ومقاتلين.
إن الفلسفة التي قام عليها أكبر مجتمعٍ رأسمالي في العالم، الولايات المتحدة، فلسفةٌ واضحة كل الوضوح؛ أن لا مكان للضعيف في ذلك المجتمع، من يضعف يهلك، البقاء للأقوى، بل يبررونها علميًّا بقولهم إن هذا يعني البقاء للأصلح. وأنا شخصيًّا ممن يؤمنون أن ليس ضروريًّا أن يكون الأقوى هو الأصلح، ولكن ماذا يكون رأيي ورأي الكثيرين غيري إذا كان الأقوى هو الذي يصنع الأمر الواقع ويفرضه. إن وسليتنا إذن لفرض الأصلح هو أن نعتنق نفس المبدأ؛ إذ لو بقينا على حالنا من الضعف والتشتُّت، رغم فرض صحة رأينا وإنسانية دوافعنا، فسيسري قانونهم هم حتمًا، وبالقوة، يصير الأمر واقع حياة ووجودًا لا يزيلهما شيء.
إن الحديث عن أمريكا أمرٌ يطول وفي حاجة إلى كتب وليس إلى بضعة مقالات، بل في الحقيقة نحن في حاجة إلى مراكز للدراسات الغربية والأمريكية مثلما أقام الأمريكيون والأوروبيون مراكز لدراساتنا نحن، ودراسة الشرق الأوسط، شريطة أن تكون هذه المراكز مراكزَ وطنيةً فعلًا؛ فعلاقتنا بأمريكا وأوروبا علاقةٌ مفروضة علينا فرضًا، ونحن لا نعرف عنهم الكثير، بينما يعرفون هم عنا تقريبًا كل شيء، ابتداء من النكت إلى الأسرار الخاصة بالحكام والفنانين، وحتى كبار الضباط في الجيوش العربية.
مراكزُ هامةٌ لنا تمامًا، فنحن تجاه العالم الغربي في حالة مواجهة في أقل قليلها مواجهة حضارية، لن نصمد لها، ولا أقول ننتصر عليها، إلا بأن نفعل كما فعل الوالي الأمي العظيم محمد علي، وكما فعلت اليابان بعده؛ أن نأخذ من أمريكا وأوروبا كل تكنولوجياتهما، ونتعلَّمها ونهضمها، وأن نُبقي ونقوِّي ثراءنا نحن الروحي والوطني والحضاري، ومن هذا المنطق وحده نستطيع أن نوجد في العصر الحديث. بل قد نستطيع إذا فعلنا مثل اليابان أن ننتصر، ففي أسبوعي الأخير في أمريكا كان الحديث الدائر في الصحف حول اختلال ميزان المدفوعات بين أمريكا واليابان لصالح اليابان بعدة مئات من مليارات الدولارات، وكانت الإدارة الأمريكية هي التي «تسعى» لعقد اجتماع مع رئيس الوزراء الياباني، لتلتمس منه الشفقة على الاقتصاد الأمريكي بقبول استيراد البضائع الأمريكية، مقابل سيل البضائع اليابانية الذي يغرق السوق الأمريكية؛ من السيارات إلى الإلكترونيات إلى كل شيء قابل للاستعمال البشري. إن اليابان قد هُزمت عسكريًّا أمام أمريكا في الحرب العالمية الماضية، ولكن «روحها لم تنهزم»، بقي التحدي الحضاري والبشري عندها سليمًا لم يمسَّ، حتى في ظل الاحتلال الأمريكي وقوانينه التي كانت تهدف إلى سحق الرأسمالية اليابانية، فقد فرضت سلطات الاحتلال الأمريكية على اليابان ألا يزيد رأسمال أي شركة تقوم بعد الحرب على ألف دولارٍ أمريكي، ولكن الدأب وروح التحدي، جعلت هذه الشركات الصغيرة تستطيع أن تُصنِّع طائرات تتكلَّف ملايين الجنيهات، دون أن تخرق معاهدة الاستسلام؛ إذ كان كل مصنع تكفَّل بصنع قطعةٍ صغيرة من المحرك أو جسد الطائرة، ثم تجمع كل هذه على هيئة طائرة. وصناعة الترانزستور في اليابان التي كانت شركة «سوني» البادئة بها، قامت كلها برأسمال قدره عشرة آلاف دولار، اشترى بها صاحب الشركة حق استغلال الترانزستور من صاحبه الإنجليزي أو الأمريكي لا أذكر، وبالترانزستور وبأيدي فتياتٍ يابانيات رفيعة الأصابع تطورت هذه الصناعة إلى هذا الحجم الهائل، الذي حسبته مرة فوجدت أن قريتنا في الشرقية وحدها اشترت بضائع يابانية ثمنها لا يقل عن مائة ألف دولار. قريةٌ واحدة في دولةٍ واحدة من دول العالم التي تزيد على المائة وثلاثين دولة. الانتصار ممكن إذن إذا كانت الشخصية الوطنية لم تقهر أو تنهزم داخليًّا. فاليابان انتصرت هذا الانتصار الساحق بشعب كان يعيش على الجفاف وخارجًا من حربٍ ذريةٍ مدمرة، ولكنه حافظ تمامًا على ملامحه القومية كاملة، بما فيها عبادة الإمبراطور التي كانت جزءًا من هذه الملامح. ونحن المصريين العرب لا نحيا على كفاف، وإن كنا قد دخلنا حروبًا فإنها بكل ما فيها من شهداء وضحايا لم تؤثر في مجمعنا الكلي، ونعبد الله سبحانه ولا نعبد سواه، ولكن الشخصية القومية، هي التي كانت في حاجة إلى قوةٍ داخلية تصمد للتحدي، وما يحدث على الساحة العربية الآن خير شاهد، وأعداؤنا واعون بهذه النقطة تمامًا؛ فهم يريدون للفكرة الوطنية القومية أن تنمحي حتى ولو بمساعدة التطرف والتعصب، مهما كان دين حامله أو عقيدته.
•••
ثلاثة أشهر مضت كاللمحة لكثرة ما رأيتُه وسمعته وقلته؛ فآلة الحياة في أمريكا رهيبة، وأنا أنتقل من سرعة أتوبيسات الأرياف في بلادنا إلى سرعة الانفلات من الجاذبية الأرضية التي يحيا بها الناس هناك، أحتاج إلى أن أستعمل كل ما أمتلكه من قدرة على الإدراك والذكاء والمسئولية عن النفس، استيقظت فيَّ حواسُّ صدئت من قلة الاستعمال في قاهرتنا الطيبة، وجربت الاعتماد الكامل على الذات في مجتمع يحيا تسعةُ أعشاره معتمدين على عُشره، وكان مفروضًا أن أفتح للقارئ الحياة هناك؛ الأسرة، الشباب، المرأة، الإحساس الكامل بالذات، والرغبة العارمة في التفرد والاستقلال، تلك التي تؤدي إلى الفردية المطلقة، المختلفة تمامًا عن العائلية، والشللية والقبائلية التي نحيا بها هنا.
كنت أودُّ هذا، لولا أنني أحسُّ بواجباتٍ أخطر، بعد تلك الغيبة الحافلة والحديث الطويل عن الآخرين.
كل ما في الأمر أني قبل أن أُنهي هذه السلسلة، أود أن أُوجِّه رسالة إلى الأمريكيين أو بالأصح إلى الحكام الأمريكيين، أولئك الذين تركتهم يرصدون آلاف المليارات من الدولارات لما يسمى «حرب الكواكب» أو القدرة على ضرب الصواريخ السوفييتية في مواقعها، قبل أن تنطلق لتصيب الأهداف في أمريكا، إن الإدارة الأمريكية تسمي هذه العملية عملية السلام، أي سلام هذا؟! إن أمريكا إذا وصلت إلى هذه القدرة، فحتى لو كان يحكمها ملائكة لاستعملوها فورًا في هزيمة المعسكر الآخر، إذا كان قد تخلَّف عن إيجاد السلاح المضاد.
أريد أن أقول للشعب الأمريكي إن أمريكا ليست في حاجة إلى احتلال الكون أو ردعه والتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، فهي تملك ثلاثة أشياء، تنفرد بها، ويحتاجها العالم إلى درجة أنه مستعد أن يجثو أمامها ليحصل عليها:
- أولها: القمح، أي الخبز.
- ثانيها: الطاقة أي البترول.
- ثالثها: الأسرار التكنولوجية العليا.
هذه الأسلحة الثلاثة تنفرد بها أمريكا وتملكها، ويحتاجها العالم أجمع بما في ذلك الاتحاد السوفييتي والعالم الثاني والثالث، تستطيع أمريكا أن تتحكم في علاقتها بالعالم من خلالها بغير حاجة إلى جيوش وقوات انتشارٍ سريع وبطيء وبغير حرب نجوم أو كواكب أو مجرات. وإذا انصرفت أمريكا الغنية القوية إلى تطوير هذه الأسلحة العلمية السلمية؛ لأصبحت بها أقوى وأكثر إنسانية وحضارة، فلقد شاهدنا طويلًا عصر «القوة» الأمريكية التي أحيانًا تكون مصيرها الهزيمة الساحقة كما حدث في فيتنام ولبنان، أفلا يمكن أن نحيا لنرى عصر «الحضارة» الأمريكية الحقيقية؟ أم أن القوة هي شيطان الدول والإمبراطوريات، التي توسوس لها دائمًا بالرغبة في القوة الأكثر والأبشع والمؤدية بها حتمًا للتحلل والهلاك؟
أكبر الظن أن سؤالي سيقف معلقًا لفترةٍ طويلة جدًّا قادمة، إنما المهم، علينا نحن ألا ننتظر إجابة لهذا السؤال.