ما هذا يا سادتنا في الخارج؟
تحية طيبة وبعدُ …
لقد شدَّني مقال سيادتكم «وتبخرت المتعة» بجريدة الأهرام يوم ١٦ / ٩ / ١٩٨٥م، وقد دفعني ذلك للكتابة وسرد ما حدث لي من أهوال بالقنصلية المصرية بأثينا.
وأؤيد ما انتهى به مقالكم، وهو أن طيران أوليمبيك هو أسوأ طيران في العالم، فما حدث لك إنما هو الهيِّن البسيط مما حدث للفوج الذي كنتُ أشترك فيه، ولكن هذا شيء لا يهمني، ما يهمني حقيقة هو ما حدث وعايشته بقنصلية مصر بأثينا. فقد سافرت ضمن رحلةٍ سياحية إلى رودس بأثينا، تضمنا نحن موظفي أحد البنوك الاستثمارية وعائلات بعضنا، بالاشتراك مع شركةٍ سياحيةٍ مصرية. ولا أخفي على سيادتكم أنه لا وجه للمقارنة بين قضاء إجازة صيف بالإسكندرية وقضائها في إحدى جزر اليونان سواء من حيث التكلفة أو الراحة الجسمانية والروحية والذهنية، وأؤيدك الرأي فيما كتبتَه من انطباعات وملاحظات. فقد حدث لي باليونان وفي عدة دولٍ أوروبية أخرى زرتها من قبلُ. المهم أننا استمتعنا تمامًا في رودس لمدة أسبوع، وفي اليوم الثامن سافرنا إلى أثينا لقضاء ثلاثة أيام، ولكن قبل مُضي نصف ساعة في أثينا داخل الأوتيل بدأت نهاية المتعة بسرقة جواز سفري وجواز سفر زميلي بالعمل، وتذكرة الطائرة الخاصة به، وبعض المتعلقات والهدايا الصغيرة. ولست أدري هل هو حسن أو سوء الحظ في وجود أحد كبار مسئولي القنصلية المصرية في تلك اللحظة، وهو خال إحدى زميلاتنا بالرحلة، وقد أبدى استعداده لمساعدتنا، إلا أننا فضلنا عدم اتخاذ أي إجراء إلا بعد التأكد التام من فقدها. وأخيرًا لم نستدلَّ على المحفظة وما بها، وقررنا اتخاذ إجراءاتٍ سريعة لاستخراج وثائق سفر لدخول الوطن مصر.
واتصلنا تليفونيًّا بالمسئول الدبلوماسي السالف الذكر؛ لسؤاله عن الإجراءات، إلا أنه تنصَّل منا، واعتذر بقوله «آسف ما فيش في إيدي أي حاجة أقدر أعملها، وأساعدكم بها.» وكأننا نستجدي الحسنة، وبدأنا بعد السؤال والاستفسار بالبحث عن قسم الشرطة المختص الذي حوَّلنا إلى شرطة الأجانب، ثم إلى قسم الشرطة الذي يتبعه الأوتيل، وكل العناء والجهد كان بسبب جهل اليونانيين باللغات سوى اليونانية. وأخيرًا حصلنا على محاضر بفقد الجوازات، وقد لاحظنا أن رجال الشرطة يعرفون جيدًا اللصوص، وأوكارهم وأماكن السرقات، ولكن قلنا كله يهون، وبالضرورة سيُرَدُّ لنا اعتبارنا بالقنصلية، ولكن الطامة الكبرى حين وقفنا أمام شباك بها، وقدمنا أوراقنا لموظفٍ مصري يناهز العقد الخامس من العمر. وبدأنا بالتحية، إلا أننا فوجئنا بالتحية عبارة عن تكشيرةٍ غليظة من خلف النظارة، وقد تبدَّلت سحنة الرجل، وقال بشخط: «إنتو عايزين إيه؟» ورددنا أننا فقدنا جوازات سفرنا سويًّا، فأشار للمحاضر «وإيه ده؟» وكأنه يرى لأول مرة محاضر الشرطة اليونانية! المهم قال لنا: الشباك اللي جنبي. فسحبنا الأوراق ووضعناها في المكان المخصص للأوراق أسفل الحاجز الزجاجي، وانتظرنا على أعصابنا الموظف المسئول، ولم نكن نشاهد سوى سيدة تعدَّت الأربعين تجلس خلف مكتب، وكل فترة تنظر إلينا بشيء من اللامبالاة والاستهتار (السيدة الفاضلة كانت بدون عمل) وبعد ربع ساعة تمامًا تفضَّلت علينا، وسألتْ: «في إيه؟» فشرحتُ لها ما حدث لنا، وأوضحتُ لها عملنا ومركزنا الأدبي والاجتماعي، وأننا مستعدون لتقديم كافة الضمانات المادية الأخرى؛ وهنا كانت الفجيعة: «وإيه اللي يعرَّفني أنكم مصريون؟» فذكرتُ لها أن زملاء الرحلة والعمل وهم من أصحاب المراكز الاقتصادية المرموقة، وعائلاتٌ معروفة، وهم لنا شهود وضامنون، فقالت: «ده مش معترف به!» تخيَّل سيادتكم الموقف القاسي ومدى التشكيك في انتمائي لوطني، ثم طلبتِ البطاقات الشخصية، وذكرتُ لها أن خروجها من مصر ممنوع، كما أن جواز السفر يغني عن أي وثيقة، فقالت بصوتٍ عالٍ: «وازَّاي تمشوا من غير بطاقات، يبقى مش هتعرفوا ترجعوا مصر!» وتذكَّرت رخصة قيادتي الدولية، وكذا المحلية فقدَّمتها لها، فسألتْ: «وازاي تمشي برخصة القيادة وتخرج بها برة مصر؟» انظر يا سيدي مدى التناقض والتعقيدات! فشرحت لها أن إخوتي سيتركون لي إحدى سياراتنا بالمطار؛ لذلك أحمل الرخصة. وكانت المهزلة غير المتوقعة حين علمت أن القنصل لا يعترف بالرخصة كوثيقةٍ رسمية؛ لأنها ممكن تكون مزوَّرة، وكأن جوازات السفر والبطاقات وشهادات المعاملة وخلافه لا تُزوَّر! وأخيرًا أعطتنا أوراقًا لملئها، وطلبت صورًا وخلافه، أكملنا المطلوب وقدَّمناها، فذكرت لنا أن القنصل لا ينظر في أي أوراق قبل مضي ثلاثة أيام من تقديم الأوراق (انظر مدى الاستهتار بمصير الأفراد) ولكن الله سلم حين أرسل موظف يدعى تيمور تجاذبنا معه الحديث وعرضنا مشكلتنا بكل صراحة، كان الرجل مثالًا للشهامة والتفهُّم، أخذ الأوراق ودخل لعرضها على القنصل، وخلال فترة الانتظار رأينا حالات ومآسي مصريين تعدَّت الحالات العشرين، ولا يوجد معهم أي إثبات شخصية، أو كانوا ضحايا سرقات ونصب. لقد شاهدت رجال مصر يبكون كالنساء، وللأسف الشديد أن مشاعر الأجانب كانت أفضل مئات المرات من مشاعر المصريين! وبدأتُ أتجاذب الحديث مع أحد موظفي القنصلية، وهو مسئول، ومن خلاله تبينتُ عقلية سعادة البك القنصل الذي يعرف جيدًا أن هناك مئات المصريين يتسوَّلون فتات الخبر والأموال على أمل العودة لمصر، ومن بينهم من مرَّ عليه شهورٌ طويلة، ولا يجد الحل بالقنصلية بسبب حجة البك القنصل أنه يخشى على اسم وسمعة مصر من جوازات اليونان، حين تُصدر بيانًا يتضمن أن عدد المصريين الذين سافروا من اليونان بوثائق سفر عددهم كذا! تصوَّر يخشى جوازات اليونان، ولا يخشى على أبناء الوطن الملقَيْن بالشوارع الذين هم أساس اسم وسمعة مصر، كما أن هذا البك يخشى المشاكل لجوازات مصر، وأخيرًا فهو يخشى أن يكون أحدهم قد باع جوازه وارتكب جرمًا، فيقال إن القنصل ساعده على الهرب، وكأنه نسي أن تلك مشكلة البوليس اليوناني، وأن مصر عضو في الإنتربول! ولماذا الافتراض أن الجميع باعوا جوازاتهم أو أنهم ارتكبوا جرمًا؟!
المهم أنه دائمًا يخشى! وأخيرًا خرج الأستاذ تيمور وألقى إليَّ بمفاجأة أن القنصل البك لم يعترف برخصة القيادة المحلية، كما أنه يطلب تذكرة الطائرة؛ فقدمتُها، وأخذتْها السيدة السالفة الذكر، وسألتني: «إيه اللي يثبت إن التذكرة مقطوعة من مصر؟» فصرختُ بأعلى صوتي: مكتوب فيها القاهرة – أثينا – رودس – أثينا – القاهرة، ومدفوعة بالعملة المحلية تبقى مقطوعة منين؟ من أمريكا يعني! كما عرضنا ضمانًا نقديًّا يمكن تحويله إلى أحد البنوك اليونانية، سواء عن طريق الدفع الفوري، أو محوَّلًا من البنك الذي نعمل به، وكان الرفض وعدم جدوى ذلك هو المصير المتوقع. وأخيرًا حصلتُ على وثيقة السفر، أما زميلي فبدأتْ معه مشاكلُ أخرى سأتركها له لسردها إذا ما خصصتم بابًا لتلقِّي مشاكل المصريين من السفارات والقنصليات المصرية. وقد نبهني بعض أولاد الحلال في القنصلية إلى أن هذا ليس النهاية؛ فلا بد أن ينتظرني أحد بإثباتات شخصية داخل المطار بالقاهرة، وإلا فمصيري، إذا كان ربنا بيحبِّني، قضاء ثلاثة أيام بالمطار، سين وجيم ومباحث وخلافه ويتعمل لي «كعب داير» أو صينية إذا كان منظري لا يعجب البك الضابط، ويلففني الأقسام والمراكز من أسوان إلى الإسكندرية. وقد سمعت من عدد ممن فقدوا جوازاتهم وقابلتهم بمجمع التحرير، وكذلك من بعض ضباط الشرطة بالجوازات الذين هنئوني بسلامة الوصول، وأكدوا أنني نفذْتُ من هذا الإجراء. ولعلكم تتساءلون لماذا التهنئة؟ ولماذا نفذْتُ؟ والسبب يا سيدي الفاضل «الكوسة» من عدة جهات انتظرتني أسفل الطائرة، وخرجت من المطار مُعزَّزًا مكرمًا! إنها الوساطة التي ما زالت تعيش بيننا. بالله عليك قل لي لماذا التشكيك في انتمائي لمصر، أتساءل لماذا تنصَّل منا المسئول الشاهد على مصريتنا، وعلى فقد جوازاتنا، وهو يعلم علم اليقين ما سيحدث لنا من عدم استطاعتنا إثبات الشخصية؟ وما بالك بالمصريين الذين لا شاهد عليهم سوى الله.
أتساءل عن تفسير لتلك العقلية العقيمة التي يفكر بها البك القنصل من أجل حماية اسم وسمعة مصر، ويترك رجالها بالشوارع يستجدون؟ وكذا استهتاره بمصير الأفراد في الغربة بدون أي شيء يثبتون به جنسيتهم حتى يحنَّ أو يمنَّ عليهم، وينظر في أمرهم بعد ٣ أيام؟
أتساءل لماذا التشكيك في أن الجميع باعوا جوازاتهم أو ارتكبوا جرمًا؟
أتساءل ما مصير الذين ليس لهم كوسة مثلي؟ ولماذا لا تسارع وزارة الداخلية بوصل جسور الثقة بينها وبين المواطنين، ومحاسبة، كل من يسيء معاملة الجمهور؟ ولماذا لا تسارع بإدخال الكومبيوتر لتسجل جميع البيانات عن المواطنين، بحيث يمكن الرجوع إليها على وجه السرعة من أي مكان سواء بالمطار أو بالأقسام، بدلًا من المرمطة والبهدلة والكعب الداير؟ وأعتقد أن ذلك مهما كانت تكلفته، سيعيد الشعور إلى المواطنين بآدميتهم، وثقتهم بالشرطة التي فُقدت، والتي لا يخفى على أحد ذلك.
وفي النهاية أتمنى ألا تخرج علينا بياناتٌ مضللةٌ كاذبة من وزارة الداخلية أو من القنصلية المصرية باليونان؛ لأني سأتحدَّاهم بالشهود والأدلة والأسماء. سيدي الفاضل لقد سألتك كثيرًا، ولكن لا تسألني لماذا يترك الشباب وطنهم الغالي؟ ولماذا أنا راحل إلى المجهول، مضحيًا بكل حلوة ومرة، لاهثًا إلى حيث أجد الإنسانية والمعاملة الآدمية، بعيدًا عن التشكيك والروتين والعقليات المغلقة العقيمة؟ ولكن جنسيتي ستكون الوحيدة تلك التي سأعتزُّ بها، ولن تأخذها مني أي قوة حيث الأمل بالعودة.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
محاسب: م. ت. م.
برجاء عدم نشر الاسم والاحتفاظ به لديكم وأنا على استعدادٍ تام لمقابلتكم للرد على أي استفسار؛ والسبب خوفي من تعقيدات استخراج جوازٍ جديد.