ساعتان من الإسكواش السياسي
في ذلك الصباح «الثلاثاء» ٢١ يناير يوم افتتاح معرض الكتاب، لم أكن في حالةٍ مزاجيةٍ طيبة، ليس ذلك اليوم فقط، بل طوال الأسبوعَين اللذين سبقا لم أكن أيضًا في حالةٍ مزاجية تسمح لي بالكتابة، أو حتى بالقراءة ولكن كان عليَّ أن أفعل، وهذه مأساة الكاتب.
ولكن معرض الكتاب حدثٌ مهم جدًّا في حياة القاهرة، بل العالم العربي كله؛ ولهذا لم أتخلف إلا عامًا واحدًا عن حضوره، حين فرضت إسرائيل نفسها فرضًا على المعرض. حدثٌ ثقافي هائل لأنني فيه أستعيد ثقتي بأن الكتاب لا يزال بضاعةً مطلوبة لدى جماهيرَ واسعةٍ من شعبنا المصري والعربي، الذي كثيرًا ما نتهمه بأنه لا يحب القراءة، ثم هو فرصةٌ مثالية للاطلاع على معروضات دور النشر الأوروبية وغير الأوروبية، ومعرفة الجديد الذي صدر وشرائه أيضًا، ولهذا لم أتردد لتلبية الدعوة للافتتاح، خاصة وقد نشر في يوم الافتتاح أن الرئيس حسني مبارك سيفتتح المعرض، وهذه فيما أعتقد أول مرة يفتتح فيها رئيس الجمهورية معرضًا للكتاب في مصر، وحين اتصل بي الدكتور سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب؛ ليؤكد ضرورة حضوري أحسست أن الرئيس هذه المرة لن يجيء فقط لافتتاح المعرض، وإنما أيضًا ليلتقي بكبار الكتاب المصريين أو ما أسميتهم رموز الثقافة المصرية، بل العربية، وما دام الرئيس جاء ليلتقي بنا تكريمًا بعد الالتقاء بالفنانين في افتتاح «إيزيس» فإنه خبرٌ مفرح حقًّا؛ ذلك أن مَعْلمًا من معالم التحضر العربي والإسلامي من عصور الازدهار كان تلك الوشائج المتينة بين الخليفة أو الحاكم، وبين كُتَّاب عصره وفقهائه ومفكريه. وتأخر موعد الافتتاح، لأن الرئيس كان عليه أن يقابل سفراء ومسئولين، ويعقد جلسة محادثات أخيرة مع الرئيس التركي، استمرت أطول مما قدر لها بساعة، ثم يودعه في المطار.
وأخيرًا جدًّا جاء موكب الرئيس الذي سلم على مستقبِليه من رجالات الدولة والكتاب بحرارة، وبدأ جولته في الجناح الدولي للمعرض، وبدأنا معه الجولة. والحقيقة أنني فوجئت بهذا الكم المهول من الكتب الجديدة والمعاد طبعها لكافة اللغات، ومختلف فروع المعرفة، من أحدث كتب الأطفال إلى أحدث الإنسيكلوبيديات، من الجديد في فنون الدراما إلى أحدث ما وصلتْ إليه البحوث التكنولوجية المتقدمة.
كان المبنى الذي بدأ به الرئيس يضم معروضات فقط لثلاث وخمسين دولة، بينها ٢٢ دولةً عربية اشتركتْ في المعرض، أما «السرايات الباقية» فقد كانت للبيع.
والصالة كبيرةٌ جدًّا، واسعة، ولا يوجد بها ثقب إبرة خاليًا من رفٍّ ممتلئ بالكتب. والحقيقة أنني ومعي الأساتذة الكبار نجيب محفوظ وحسين فوزي ولويس عوض وسعد الدين وهبه ومحمود أمين العالم، ما لبث كلٌّ منا أن راح يتأخر ويتأخر حتى انفصل عن الموكب الذي يقوده الرئيس، وقيل لنا إن الرئيس يريد أن يلتقي بنا عقب جولته، وقادونا إلى المكان الذي سيحدث فيه اللقاء. وتصورت أنا أن الرئيس مبارك لن يقضي أكثر من عشر دقائق يوافينا فيها بما حدث؛ فأنا أعرف أن الرئيس يستيقظ مبكرًا جدًّا، ويبدأ يومه بساعتين من لعب «الإسكواش راكت» ثم يبدأ مقابلاته السياسية. وهو لا بد قد فعل كل هذا، ولا بد بعد تلك التمارين واللقاءات والمباحثات مع الرئيس التركي ووداعه حتى المطار، لا بد أنه مُتعَب، ولن تستغرق الجولة كثيرًا. ولكن خاب ظني؛ فقد استمرت الجولة أكثر من ساعة ونصف سيرًا بطيئًا على الأقدام متوقفًا لدى كل دار نشر تعرض، ولدى كل رف، ولدى كل ناشر.
ونحن الكتاب، وقد انضم إلينا نفر لا ناقة لهم في الكتابة ولا جمل، ولكنهم هكذا يحبون أن يُروا الرئيس أنفسهم، ويقحمون ذواتهم الفخمة على أي اجتماع أو أي لقاء. جلسنا ننتظر قدوم الرئيس، وما كاد الأستاذ يحيى حقي يجيء حتى تنازلت له عن مقعدي الذي كان قريبًا جدًّا من المقعد الذي خُصِّص للرئيس، فكما قلت، كنت أريد أن أقوم بدور المشاهد للحوار الذي سيدور بين جهابذة الفكر والكتابة في مصر وبين الرئيس، واخترت مقعدًا راعيت فيه أن يكون بعيدًا عن مركز الحوار.
وأيضًا، وأخيرًا جدًّا، جاء الرئيس، وجاءت معه الدولة «أو معظمها»، وقد كان يصحبه الدكتور رفعت المحجوب، والدكتور صبحي عبد الحكيم، والدكتور يوسف والي، والدكتور حلمي الحديدي، والدكتور الجنزوري وزير التخطيط، ناهيك عن الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة.
ولكنهم هم المسئولون جلسوا بعيدًا وتركوا الكتَّاب يحاورون الرئيس.
وحين جلسنا جميعًا رمَقَنا بنظرة فاحصة، مسحت أوجه كل الحاضرين، ثم استقرت على وجهي أنا في ابتسامة أعرفها عنه جيدًا، وقال: ما لك تخنت يا دكتور يوسف؟
أعرفها لأنها تشبه ابتسامة لاعب التنس أو الإسكواش العالمي، حين يقرر في أي ركن من أركان الملعب يُسدِّد كرته الأولى.
وقلت لنفسي سألوذ بالصمت الجميل.
وفجأة بدأت مداعبات الرئيس، ونالني منها نصيبٌ وافر وقلت لنفسي: سبحان الله … هذا رجل بذل منذ الصباح وإلى الآن (كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة) جهدًا كان كفيلًا بأن يذهب غيره من الرؤساء إلى استراحة القناطر ليُمضي ثلاثة أيام، يستجمُّ بعد هذا الجهد الذي بذله.
ولكن حسني مبارك (وأمسكت في سري الخشب) يتفجر شبابًا ورشاقة ونشاطًا وكأنه استيقظ من النوم لتوِّه.
بدأت المسألة مداعبات يطرب لها أي كاتب آخر، أما أنا فقد كنت أعرف أنها مقدمة، وأننا لا نلبث حتى ندخل في الموضوع.
وحين جاءت سيرة الكتابة قال الرئيس تشبيهًا أعجبني تمامًا، رغم أنه ضدي، قال: إن مقالاتك مثل الصورة الجميلة التي تعلقها مائلة إلى الأمام على حائط ثم تخفي وراء الصورة الجميلة ما شئت من أشياءَ ممنوعة. والحقيقة أنني كنت في وضعٍ نفسي لا أحسد عليه أبدًا. فأولًا الحاضرون جميعًا سكتوا وكأنما على رءوسهم الطير. الدولة برجالاتها سكتت، والكتاب الكبار سكتوا، ولم يبقَ متحدثًا سوى الرئيس ولم يكن الكلام موجَّهًا سوى لي. وفي ظل جمعٍ كثيرٍ ساكت هكذا، يختار الإنسان بين أن يحاور الرئيس محاورة الند للند، وبين أن يتذكر أنه رئيس الدولة وأن الرد عليه وسط هذا الجمهور الحاكم الذي يقوده الرئيس لَيصبحُ نوعًا من قلة الذوق في أقل قليله. ولكني أنظر في وجه الرئيس لأجد نظرته الشابة المتوثبة تستثيرني لأنطق وأرد، وكأنما أدرك بفراسته أني في حالةٍ مزاجية تثبطني عن أي حوار. وأخيرًا كان ما ليس منه بد، وقلت لنفسي: من العبث أن يجتمع الرئيس بمفكري وكتاب البلد، ونجلس صامتين هكذا، وكأننا فقدنا القدرة على الكلام، ولقد جاء الرئيس ليحاورنا، وإن صمت غيري فلأتكلم أنا.
قال: «تعيب على وزارة الداخلية أنها تحتل قلب القاهرة بالأمن المركزي كلما نزلتُ إلى القاهرة، ألا تعلم أني أعرف المشاكل التي تنتج عن توقُّف الحركة في شوارع القاهرة ووسطها. ولهذا لا أنزل أبدًا إلى قلب المدينة إلا مضطرًّا، خاصة حين يحتم الأمر إقامة وليمةٍ كبرى تليق بمكانة مصر لضيفٍ كبير، وقاعة الولائم في «قصر القبة» صغيرة؛ ولهذا نضطر اضطرارًا إلى إقامتها في قصر عابدين وسط البلد، ونضطر اضطرارًا إلى اتخاذ كل احتياطات الأمن التي شكوتَ منها. ثم ضحك الرئيس ضحكته المصرية الألوفة وقال: ويعني لا قدر الله لو حدث شيء ألن تقيموا الدنيا وتقعدوها لومًا وتأنيبًا لوزير الداخلية الذي لم يتخذ الاحتياطات الواجبة.»
وهنا تكلم الصامتون جميعًا وقالوا: بعد الشر عليك يا ريس.
«ثم تقول: إنه حدثت اختلاسات في عملية تجديد المسرح القومي بلغت حسب تقديرك ثلاثة أضعاف المبلغ الذي تكلفه التجديد. أتعرف تكاليف الديكور هذه الأيام يا يوسف، طبعًا أنت لا تعرف؛ فليس لديك مسرح أصلحته وجدَّدته، ولن تتصور مقدار ما سيتكلفه هذا الإصلاح والتجديد.»
ومن قبيل الأدب في مخاطبة الرؤساء ألَّا يقاطَع الرئيسُ أبدًا إلا حين ينتهي من كلامه. ولكن الرئيس جمُّ النشاط هذا اليوم باليمين واليسار، يضرب كرات لا يعطيك وقتًا لصدِّها. كان لا بد أن أقول شيئًا، وفتحتُ فمي، ولكن الرئيس كان ماضيًا في كلامه. كنت أريد أن أقول له: ما دامت الدنيا كلها قد امتلأت بإشاعات الاختلاس سواء عن حق أو كذب، سواء بتأثير صحف المعارضة، أو بتأثير الرؤيا المجردة لما حدث من تجديد وتطوير، فلماذا يا سيدي لا تأمر بالتحقيق في هذا الأمر سواء بالنيابة الإدارية أو بالنيابة العامة، وتُخلِّص نفسك وحكمك من سحابات الشك؟ أم أن هذا يُعتبر في رأيك استجابة لدعاوى المعارضة أو الإشاعات المغرضة السارية بين الناس؟ وماذا في هذا؟ إن الحكومة الحقيقية القوية هي التي تستجيب لمطالب الشعب، وليست تلك التي تعاند وتصرُّ أنها الأصح، وأن كل ما يقال إشاعاتٌ مغرضةٌ خبيثة. لماذا يا سيدي تُحمِّل حكمك ذنوبًا ارتكبها أناسٌ يستحقون العقاب؟ وبرفضك الاستجابة لا يستطيع القانون أن ينالهم!
إننا يا سيدي الرئيس لا نشك ولا أحد في مصر كلها يشك في إخلاصك ونقائك وطهارة يدك، فلماذا تصرُّ على تجاهل التهم التي توجَّه إلى بعض رجال الحكم، وتدفع هذا كله بأنه إشاعات وعمل معارضةٍ مغرضة، لماذا؟! وطبعًا لم أقل هذا، لأن الرئيس كان في وضع نفسي لا يريد معه حوارًا وكنت أعرف هذا، فحديثه في المصور كان مليئًا بالضيق من المعارضة والمغرضين ومروِّجي الإشاعات.
ثم دخلنا على قضية سليمان خاطر، وأوضح لنا الرئيس كثيرًا من الحقائق، ولكن بقيت في نفوسنا، أو في نفسي على الأقل، بعض الأسئلة، التي لم أُعطَ الفرصة لإلقائها؛ فالرئيس كان مشحونًا تمامًا بالرغبة في الرد على كل ما أثارته المعارضة، وقد ذكر لنا حقائق عن الموضوع لم نكن نعرفها، ولكنني انتهزت فرصة سكوته لحظة وسألت: طالما الأمر هكذا، وطالما الحكومة والأجهزة الحكومية على اختلافها بريئة، فلماذا ترفض الحكومة وتستشكل في إعادة تشريح الجثة؟ وانبرى الرئيس يقول: إن معنى هذا أننا نُشكِّك في كل شيء في مصر؛ فالقضاء مشكوك في أحكامه، والطبيب الشرعي مشكوك في تقاريره، والحراسة في السجن مشكوك في دورها.
هل يريدون أن يُشكِّكوا في كل الأجهزة الحاكمة في مصر، كيف تُزاول الحكومةُ — أي حكومة — سُلطتَها، وكل أجهزتها محلُّ شك؟ أي حكم أو حكومة في الدنيا ترضى بهذا؟
وصممتُ أن أسكت؛ فطريقة الرئيس في النقاش كانت تخجلني؛ إذ هي مزيج من المداعبة المحبة والجدية التامة في المضمون.
والجمع الكبير حولنا، حكوميًّا وكتَّابًا، ساكتون وأنا وحدي المتكلم السائل والمسئول، وهو وضع ليس مريحًا على الإطلاق، فلو كنتُ وحدي مع الرئيس لملكت حريتي في الأسئلة أكثر، وربما كان هو قد أراحني بإجاباته أكثر، ولكني في وسط جمعٍ حاشد عليَّ أن أحترمه، وأمام رئيس لا أُكنُّ له سوى الحب والتقدير.
وفعلًا، وكما قال هو بحق في حديث المصور: إن البديل عن الحكم الموجود بديلٌ خطير ومخيف ومعناه، وهذا التفسير من عندي: إما فاشيةٌ عسكرية أو فاشية دينية، وكلا الأمرين مر، ومعناه إبادتنا جميعًا. من هنا بات حرصي وحرص كل مصريٍّ وطنيٍّ مخلصٍ حر لا يريد أن يفرض عليه أحد وضعًا ونظامًا للحكم. يأتي حرصنا على الرئيس مبارك وعلى تدعيم حكمه وعلى عدم إحراجه؛ لأن الأحداث التي جرت منذ اختطاف الباخرة الإيطالية إلى الآن كان هدف الأعداء الخارجيين منها طبعًا، هو إحراج الرئيس مبارك أو لوي ذراعه أو تهديد حكمه واستبداله بحكمٍ عميل.
الحرج إذن قائم، والميزان دقيقٌ جدًّا، وعلى المعارضة، وعلى كل مخلص أن يتبين هذا، وقد كنت أتبينه تمامًا وأنا أحاور الرئيس، أو بالأصح وأنا أتلقَّى كراته الصاروخية في تلك المباراة الودية.
إن أهون عليَّ أن أخرج مهزومًا في مباراة إسكواشٍ سياسي من أن يحدث العكس؛ فمصلحتي ومصلحة الوطن في الالتفاف حول الرجل وحمايته، فما أكثر من ينظرون له شذرًا من الداخل والخارج.
كانت الساعة قد اقتربت من الرابعة، وذلك النقاش المداعب الودي الجدي الحامي الوطيس الذي كله ضربات إرسال من الرئيس لا أملك — في هذا الجمع الحاشد — لها صدًّا، وكنت قد تعبت وكللت وتكفل الأستاذ نجيب محفوظ بسؤال أراحني قليلًا؛ إذ مال على الرئيس وسأل: متى يا سيادة الرئيس يُنتظر أن تنتهي مصر من سداد ديونها. وضحكنا للسؤال.
وقلت مُفسِّرًا للرئيس: إن الأستاذ نجيب محفوظ لا يحب أن يُسلِّف أحدًا أو أن يستلف من أحد، ولهذا هو قلق جدًّا على ديون مصر، وكأنها ديون عليه هو شخصيًّا، ومن هنا يريد أن يطمئنَّ على تلك الديون.
وحدثنا الرئيس عن الديون طويلًا وعن مشاكل الكُتَّاب، وروى لنا قصصًا وكنت أسمع بآذاني، وخيالي يحلم بيوم يتدعم فيه نظامنا إلى الحد الذي نستطيع أن نجري فيه حوارًا صريحًا مع الرئيس في التليفزيون، وعلى الهواء وأمام كل المواطنين وبلا أي حرج. وهو حلم لا أعتقد أنه بعيد التحقيق، وأحيانًا أعتقد أنه بعيد التحقيق تمامًا.