م. د. م
أكذب على نفسي وعلى الحقيقة إذا قلت إنني لم أعجب إعجابًا شديدًا بخطاب الرئيس مبارك الأخير؛ ذلك أننا من كثرة ما كتبنا طوال السنوات الماضية عن «خطب» الرؤساء إذا أحسنوا الخطاب، لم يكن سوى كلام في كلام لم يتحقق منه شيء؛ ولهذا أصبح عسيرًا على الإنسان أن يمدح خطابًا للرئيس المصري، حتى لو أعجبه الخطاب.
لكن الخطاب لم يُعجبني لبلاغته أو ما فيه من معانٍ، الخطاب أعجبني لأن فيه «رؤية» شاملة للواقع المصري والعربي، رؤية شاملة للحاضر، ورؤية شاملة أيضًا للتاريخ، حتى إنه أول خطاب منذ ثلاثين عامًا يذكر فيه الرئيس المصري عيد الجهاد ويوم ١٣ نوفمبر، وهو العيد الحقيقي لقيام الوفد المصري برئاسة سعد زغلول، بمعنى أن مبارك لم يخفْ من التاريخ الذي مضى وتبنَّاه، بينما في هذه النقطة بالذات لم يعجبني خطاب رئيس الوفد الجديد الصديق الكبير «فؤاد سراج الدين» لأنه «تحزَّب» واتخذ موقفًا من ثورة ٢٣ يوليو، وكأن بينه وبينها ثأرًا، في حين أني قلت أمامه مرة في ندوةٍ وفديةٍ كبيرة في رمضان الماضي: إن ثورة ٢٣ يوليو لم تكن إلا تحقيقًا للمبادئ التي قام عليها الوفد، صحيح أن الوفد لم يقم بها، ولكن ألم يكن عبد الناصر وزملاؤه تلامذة لمصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس وقبلهم عرابي؟! ألم يسيروا في مظاهرات الوفد مردِّدين شعارات الوفد، حاملين ألوية الجهاد ضد السراي والإنجليز؟
كان المفروض من الوفد، حتى بعد ما حدث من تنافس بينه وبين الضباط الأحرار حول قيادة الطبقة المتوسطة، مما أدى إلى حل الأحزاب وانفراد الضباط بالسلطة، حتى بعد هذا كان مفروضًا أن يظل الوفد يتبنى ثورة ٢٣ يوليو ويدافع عنها، مثلما فعل اليسار المصري أو على الأقل أقسامٌ كبيرة منه، تلك التي كانت تضرب وتقتل في السجون، ومع هذا كانوا يؤيدون الثورة وكل خطوةٍ إيجابية تأخذها …
لقد حققت ثورة يوليو للشعب المصري والعربي الكثير، وكانت لها مآخذها الخطيرة، ولكنها أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ، ليس فقط من تاريخ مصر والعالم العربي، ولكن من تاريخ العالم كله، وكان مفروضًا من فؤاد سراج الدين ذلك السياسي المصري الفذ أن يقترب من ثورة يوليو ليقترب أكثر من كل حلقات تاريخنا الوطني، ويتحزب ضد التاريخ، ويقارن بين ما كان قبل يوليو و«الكوارث» التي حدثت بعدها … إنها نظرةٌ أضيق بكثير من نظرة الوفد، كما ينبغي أن تكون. لقد كنت طالبًا في الطب حين وصل الوفد وهو في قمة الحكم إلى تبنِّي الكفاح المسلح ضد الإنجليز، وألغى المعاهدة وأحرقت القاهرة والمظاهرات تطالب النحاس باشا بتوزيع الأسلحة على الشعب ليقاتل الإنجليز. وفؤاد سراج الدين نفسه وهو وزير للداخلية هو الذي أصدر أمره لقوات الأمن للدفاع عن محافظة الإسماعيلية ضد القوة الغاشمة البريطانية التي أرادت اقتحام مبنى المحافظة، وإذا كانت معركة فؤاد سراج الدين قد انتهت باستشهاد خمسين جنديًّا مصريًّا في الإسماعيلية وحرق القاهرة، فإن التاريخ لم يتوقف، وجاء جمال عبد الناصر وأكمل معركة الإسماعيلية في بورسعيد أثناء عدوان ٥٦. لو كان الوفد هو الحاكم لما تردد في الحرب عام ٦٧، ولا عام ٧٣، بمعنى أن كون الوفد كان حزبًا للوطنية المصرية لا ينفي أبدًا أن ثورة ٢٣ يوليو والضباط الأحرار الذين قاموا بها كانوا يقلون وطنية عن الوفديين، بل أذكر أن بُعد ثورة ٢٣ يوليو الاجتماعي كان أعمق بكثير من نظرة الوفد لذلك البعد، والمعارك الطاحنة التي خاضتها ثورة ٢٣ يوليو ضد الرجعية العربية والمحلية وإسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا هي خير دليل على أن تلك الثورة أقضَّت مضجع الغرب الأوروبي والأمريكي الذي ظل، وإلى الآن، ضد أن ترفع مصر رأسها أو أن تقوم لها قائمة.
ومن أجل هذا كان احتفالي بخطاب مبارك، فها هو سليل ثورة يوليو يعترف ويسجل للوفد عيده وتاريخه ودوره، بينما وفد سراج الدين يريد أن يمحو ثورة قامت لتحيل شعارات الوفد، ودعوته للاستقلال وإنهاء نفوذ السراي إلى واقعٍ عملي نحياه اليوم.
لقد أحزنني تمامًا هذا الموقف للوفد من ثورة يوليو، وهذا التحالف غير المقدس بينه وبين بعض فصائل الإخوان المسلمين للقضاء على يوليو، إنها إذن أحزاب وجماعات تقوم لا لتقدم لبلادنا ولمستقبلنا حلًّا ووجودًا، ولكنها عادت لتصفي الحسابات مع عبد الناصر — وبكل شجاعة — بعد أن توفاه الله. لقد علمنا الإخوان المسلمون حمل السلاح ضد البريطانيين وضد الإسرائيليين وتعلمنا من الوفد أن الدستور دستور، وأن الشعب مصدر السلطان، وأن الأمة فوق الحكومة؛ أما هذا الذي يبشران به اليوم من عودة لتصفية الحساب مع يوليو فأؤكد لك يا فؤاد «باشا» ويا مولانا عمر التلمساني وصلاح أبو إسماعيل أنها جهودٌ فاشلة سوف تذهب مع الريح؛ فقد أصبحت الثورة ليست ثورة العرب فحسب، وإنما ثورة العالم الثالث كله، ولم يعد التصرف فيها ملكًا لكم أو لي أو لأحد، لقد أصبحت ملكًا للتاريخ، وما أروع أن تكسبوا الغد بأن تغيروا موقفكم من الماضي، بدل أن تخسروا الغد وتكسبوا التاريخ، حتى لو كسبتم الجولة من التاريخ فإنكم تكسبون في هذه الحالة جولة مع الأشباح.
أعجبني خطاب الرئيس، خاصة بعد حادثة الطائرة والباخرة، لا لأنه نادى بأهمية وضرورة الصحوة، ولكن لأن الخطاب نفسه كان فيه «صحوة»، لم يكن فيه وقفة مع النفس، وأنا أكره كلمة وقفة تمامًا، وإنما كان فيه صحوة مع النفس لإنقاذ النفس وإعادة التنفس للجسد المصري المتوقف، وليس الواقف مع النفس …
أعجبني لأنه كان بسيطًا وصادقًا ووطنيًّا، وجعلني لأول مرة منذ زمنٍ طويل أتطلع إلى المستقبل، وأنا غير منزعج أو مذعورًا. يا ألطاف الله … إن القافلة ممكن أن تعود مرةً أخرى تسير … ومصيرنا ممكن ألا يكبل إلى الأبد بحكاية ٩٩ في المائة من أوراق اللعبة والعلاقات الخاصة جدًّا، ومصيرنا المعلق رهن إشارة تصدر من مساعد وزير الخارجية …
أعجبني لأنني عدت أحسُّ أن إرادتي المصرية تحررت، وأنني ممكن ألا أعيش عالة على الإحسان والقروض، وأحيل جيشي إلى قوات تابعة للنجم الساطع أو الهاوي.
صحوة الخطاب أيقظتني، ليس لأنني كنت أنا أو غيري نائمين، ولكن لأننا كنا نكاد نفقد الأمل أن تعود مصر مصر، وأن تعود لها إرادتها.
يا أصدقائي وأحبابي في الإخوان والوفد والتجمع والأحرار والعمل والناصريين والحزب الوطني، لماذا لا نكفُّ عن الحديث عما جرى وكان، بينما الذي يجري الآن أخطر بكثير مما جرى وكان؟ لماذا لا تضعون في اعتباركم أن الأجيال الشابة فقدت إيمانها بكم من فرط ما أغرقتموها في خلافاتكم التاريخية؟ بينما الناس تكويها نار الحياة اليومية والمشاكل الواقفة بدون حل حتى تستقر على جواب للسؤال: هل كانت ثورة يوليو جريمة أم كانت أعظم ثورات مصر في القرن العشرين؟ فلنفرض أنكم قررتم بإجماع الآراء أنها كانت جريمةً كبرى، فماذا تقترحون أن نفعل؟ أن نأمر الخمسين مليونًا بإدارة عجلة التاريخ إلى يوم ٢٢ يوليو ١٩٥٢م لنبدأ من جديد بداية ترضيكم جميعًا؟ وهي بداية من المستحيل أن تُقبَل؛ لأنكم من المستحيل أن ترضوا جميعًا على أي عهد، أو تُجمِعوا على أية طريقة للثورة، أو أي طريقة للحكم، والمنتظر لحل الخلافات بينكم، حتى نتفرغ لإنقاذ مصر، هو تمامًا كالمنتظر لكي يمر الجمل من ثقب الإبرة.
افعلوا هذا أرجوكم، قبل أن ينفضَّ الناس عنكم جميعًا؛ فالناس في وادٍ وأنتم في وادٍ آخر، والخيط الذي بينكم وبينهم على وشك أن ينقطع تمامًا، وإذا انقطع الخيط ضعتم؛ فعلى الأقل أنقذوا أنفسكم …