فان جوخ
ويبدأ السائر في خُطى فان جوخ جولته في العاصمة الفرنسية ذاتها، باريس التي تردَّد عليها الفنان مراتٍ كثيرة، وعاش فيها فترتين طويلتين نوعًا ما، ورسم فيها مجموعة من أبرز لوحاته، ضمَّها فيما بعد كتابٌ فنيٌّ مدروسٌ بعنوان «فان جوخ في باريس»، صدر عام ١٩٨٨م احتفالًا بمرور مائة عام على إقامته الثانية في العاصمة الفرنسية، وكانت إقامته الأولى هناك في منتصف مايو ١٨٧٥م حين نُقل للعمل بها في فرع مؤسسة «كوبيل وشركاه» للوحات والمطبوعات الفنية، واستمرَّت حتى أبريل ١٨٧٦م، ولكن زيارته الثانية هي التي تركت آثارها العميقة في تشكيله الفنيِّ، بعد أن كان قد قرَّر تكريس نفسه لفنِّ الرسم، وقد فاجأ فنسنت أخاه ثيو بوصوله فجأة إلى باريس في فبراير ١٨٨٦م، وأقام الأخَوان في شقة فسيحة في الطابق الثالث من المنزل رقم ٥٤ شارع «ليبيك» بمونمارتر، وهو الأثر الوحيد الباقي حتى الآن في هذا الحيِّ العتيق من بين المقاهي وصالات الرسم ومحلات الأدوات الفنية التي كان يرتادها الرسَّامون في ذلك الوقت، ويمكن للزائر أن يرى على هذا المبنى اللوحةَ التذكاريةَ التي وضعَتها بلديَّة باريس وتُبيِّن إقامة فان جوخ فيه، حيث سكنَه في الفترة من فبراير ١٨٨٦م حتى فبراير ١٨٨٨م، وللأسف لا يسمح سكان الشقة الحاليُّون لأحدٍ بزيارتها أو بتصويرها من الداخل، كما أن اللوحة التذكارية قد سُرقت عدة مراتٍ على يد هُواة جمع التذكارات الفنية المتعلِّقة بالمشاهير.
ومعظم لوحات فان جوخ الموجودة في باريس معروضةٌ في متحف دورساي، الذي أقامَته الحكومة الفرنسية عام ١٩٨٦م على أنقاض محطة سكَّة حديدية، وأودعَت فيه — ضمنَ ما أودعَت — لوحات الانطباعيِّين والمُحدَثين التي كانت موجودة في متحف «جي دي بوم» الذي ضاقَت مساحته عن استيعاب الزوَّار المتلهِّفين على رؤية روائع اللوحات الفنية التي طبَّقَت شهرتها الآفاق، ومن أهم لوحات فان جوخ الموجودة في باريس: صورة الدكتور جاشيه، كنيسة أوفير، غرفة الفنان في آرل، ومن عجَبٍ أن معظم اللوحات التي رسمها فنسنت إبَّان إقامته في باريس عن العاصمة كما كان يراها في زمنه، مثل نهر السين ومطاعم باريس وطواحين مونمارتر ومقاهيه، هي كلُّها الآن إما في متحفه الشامل بأمستردام، وإما في مجموعاتٍ خاصَّة.
والمدينة الفرنسية الثانية التي يحُجُّ إليها عشَّاق فان جوخ هي «آرل»، التي تقع في جنوب البلاد من بين مدن إقليم البروفانس الشهير، وقد نزح فان جوخ إليها سعيًا وراء الإلهام والشمس التي يستطيع أن يقوم في ظِلالها بدراساته للضوء، وكان يحلُم بإقامة مستعمرة للرسَّامين هناك حيث يعملون جنبًا إلى جنبٍ ويتبادلون الخبرات الفنية، وقد وصل إلى آرل بالقطار في ٢٠ فبراير ١٨٨٨م، حيث خُيِّبَت آمالُه الأولى بالثلج الذي كان يُغطِّي كلَّ شيءٍ، وبمشاكلِه مع صاحب الفندق الرخيص الذي كان يتشاجر معه بسبب اللوحات والألوان التي كان ينثرها فنسنت في كلِّ مكان، ولكن مُقامه بالمدينة طاب حين تعرَّف على ساعي البريد «جوزيف رولان» الذي ساعده على تأجير منزل صغير بسعرٍ بَخسٍ، اشتُهر هذا المنزل بعد ذلك باسم «المنزل الأصفر» بعد أن خلَّده الفنان بلوحة بهذا العنوان، وكان رولان هو صديقه الوحيد في المدينة، فرسم له فان جوخ أربع لوحاتٍ مختلفة، وتعوَّد الفنان على العمل المستمرِّ في كلِّ الأنحاء، وطَفِقَ يرسم الحقول والفلاحين والأنهار والكباري والميادين والمقاهي والناس، ولما اشتدَّت وطأة الوَحدة عليه، أرسل إلى صديقه الرسَّام جوجان الذي وافاه في آرل وأقام معه في المنزل الأصفر، وشرعا يرسمان معًا، ولكن حِدَّة طِباع فان جوخ وبُدائيَّة جوجان جعلتهما في شِقاقٍ مستمر، انتهى بالحادثة المشهورة التي قطع فيها فنسنت أذنَه في أول صورة من صور «جنونه».
ولقد دفع ما حدث سكانَ آرل إلى كتابة التماس وقَّع عليه الكثيرون، يحتجُّون فيه على وجود ذلك «المجنون» في وسطهم، ويطلبون إبعاده عنها، وانتهى الأمر إلى إلحاقه بمصحَّة «سان بول» ببلدة سان ريمي القريبة من آرل، وكان الذي أوصى بذلك هو الطبيب الذي عالجه في مستشفى آرل، ويُدعى الدكتور «فيلكس ري»، والذي رسم له فان جوخ صورة امتنانًا منه له، ولكن والدة الطبيب لم تُعجِبها اللوحة، فاستخدمتها لسدِّ ثغرة في أحد أبواب منزلها! وهي موجودةٌ الآن في متحف بوشكين بموسكو.
وأمضى فان جوخ في مصحَّة سان بول بسان ريمي الفترة من ٨ مايو ١٨٨٩م حتى ١٥ مايو ١٨٩٠م، وقد قام فنسنت في ذلك العام برسم مجموعة من أشهر لوحاته وأهمِّها، منها: أشجار السرو، وأزهار السوسن، والليلة المُرصَّعة بالنجوم، ومناظر المصحَّة وبعض نُزلائها، وقد رسم صورة لطبيبه المعالِج الدكتور «ري» امتنانًا له. كذلك ترجع إلى هذه الفترة لوحة «فترة الراحة للمسجونين»، التي نقلها عن لوحة لجوستاف دوريه، والتي ذكر أستاذنا الكبير نجيب محفوظ أنها من بين اللوحات التي تركَت في نفسه أثرًا بالغًا.
وزائرُ آرل يمكنه الاشتراك في رحلة على الأقدام يُنظِّمها مركز الاستعلامات بالمدينة لزيارة الأماكن الهامَّة المرتبطة بفان جوخ، بصحبة أحد الشُّرَّاح، وتبدأ من مُتنزَّه آرل الذي يتوسَّطه تمثالٌ للفنان، أما المنزل الأصفر فإنه غير قائم الآن؛ إذ إن الغارات الألمانية على المدينة إبَّان الحرب العالمية الثانية قد دمرَته تمامًا، وإن كان بإمكان الزوَّار أن يرَوا مكانه في ميدان لامارتين، والآثار التي ما زالت باقية كما هي من أيام إقامة الفنان هناك. وهناك أيضًا جولة مصحوبة بمرشد في سان ريمي، يتوجَّه فيها الزائر إلى مصحة سان بول التي لا تزال قائمة، ويرى الطبيعة المحيطة بها التي أوحَت لفان جوخ أعماله، وكلُّها على ما كانت عليه أيامه، ومنها أشجار الزيتون، وأشجار السرو التي كان الفنان يُشبِّهها في رسائله لأخيه بالمِسلَّات الفرعَونية.
ومِن عجَبٍ أن آرل المدينة التي شهدت أفراح فان جوخ وأتراحه، والتي تنكَّرت للفنان في محنته وهاجمه سكانها أبشعَ هجوم، حتى إنهم كتبوا التماسًا جمعوا له التوقيعات بطلب ترحيله عنها خوفًا من تصرُّفاته، هي نفسها المدينة التي تعيش اليوم اقتصاديًّا على اسم فان جوخ؛ فالسيَّاح يقصدونها من كلِّ مكان، والمحلات تبيع تذكاراته من كلِّ شكلٍ ولون، ونُسَخ لوحاته متوافرةٌ في كل الأحجام. ورَغم ذلك، لا يوجد في آرل ولا في سان ريمي أيُّ لوحة أصلية من لوحات فان جوخ، وإنما هي خُطاه وروحه ووجوده يلمسها الزائر في كل الأنحاء.
وبعد خروج الفنان من المصحَّة، يتوجَّه إلى منزل أخيه ثيو بباريس، لرؤية زوجة أخيه وطفلهما الذي سمَّياه على اسم الفنان: فنسنت، ثم يشدُّ الرِّحال إلى بلدة إلى الجنوب من باريس هي «أوفير سيرواز» كانت قد جذبَت عديدًا من الرسَّامين من قبل، منهم سيزان وبيسارو، حيث اعتزم البقاء هناك تحت رعاية طبيبٍ يُدعى جاشيه كان فنانًا وراعيًا للفنانين.
وأوفير مليئةٌ بالآثار المرتبطة بفان جوخ، ولذلك فزيارتها ضروريةٌ للساعين في خُطى الفنان، ولكن يجب على الزائر أن يعرف أن المَبيت في أوفير شبه مستحيل؛ إذ ليس بها أيُّ فنادق، فعليه المَبيت، والأمر كذلك إن أراد، في مدينة «بونتواز» على مَبعَدة ربع ساعة بالسيارة من أوفير. وأهم الآثار في البلدة هي مقهى فان جوخ الذي يعلوه البيت الصغير الذي تُوفي الفنان فيه بعد أن أطلق الرصاص على نفسه في حقلٍ مجاورٍ بينما كان يرسم هناك. والبيت الآن متحفٌ يَؤمُّه الزوَّار ويشاهدون فيه غرفة فان جوخ التي اكتراها بعد وصوله إلى أوفير، وملحقٌ به صالة مبيعاتٍ لكلِّ التذكارات التي يمكن تخيُّلها عن الفنان ولوحاته، أما المقهى فيتحوَّل في ساعات الطعام إلى مطعمٍ فاخرٍ يُقدِّم وجباتٍ غالية الثمن، وفي مواجهة المقهى، يوجد مبنى البلدية الذي رسمه فان جوخ في لوحة شهيرة، ووراء المقهى هناك سُلم حجَري نصعد عليه ونسير بعده في طريقٍ تحفُّه الفيلَّات الخاصة، ومنها منزل الدكتور جاشيه.
وينتهي بنا الطريق إلى كنيسة أوفير التي خلَّدها الفنان في واحدة من أشهر لوحاته، ويمكن أن نرى بوضوحٍ الطابع التأثُّري في الرسَّام من مقارنة الكنيسة في الواقع، وقد استحالت في اللوحة إلى انطباع شامل يعكس رؤية الفنان لها وليس كما هي في الواقع.
وفيما وراء الكنيسة، هناك طريق طويل يشقُّ حقول القمح المترامية الأطراف التي طالما رسمها فان جوخ، مما يُعيد إلى أذهاننا على الفور لوحته الأخيرة «غِربان فوق حقل قمح». وتجيء هذه الذكرى نذيرًا بالنهاية الأليمة التي لاقاها الفنان في أوفير؛ إذ يقودنا الطريق إلى مقبرة البلدة حيث دفن فان جوخ في ٣٠ يوليو ١٨٩٠م، وهو يرقد هناك إلى جوار أخيه ثيو الذي مات بعده بستة أشهرٍ في هولندا، ولكن زوجته التي تعلم مدى حبِّ الأخوين نقلَت رُفاته إلى أوفير ليرقد إلى جوار أخيه، ولا ينقطع الزوَّار يومًا عن زيارتهما وإلقاء الزهور على قبريهما؛ تلك الزهور التي هامَ بها فنسنت ورسمها في كثيرٍ من لوحاته.
وقد قمتُ أنا وزوجتي بعد أن طُفنا بأماكن فان جوخ الفرنسية، بوضع زهرتين على مثواه هو وأخيه؛ تَذكارًا لزيارتنا، وتقديرًا لهذا الرسَّام الذي أمتعَتنا لوحاته وما تزال تُمتعنا في كلِّ حين.