رسَّامة أمريكا الأولى
وقد وُلدَت جورجيا أوكيف في ١٥ نوفمبر ١٨٨٧م بولاية وسكونسن، وتبدَّت مواهبها الفنية في فترة مبكرة من حياتها، فتلقَّت تعليمًا في الرسم في مدارس وكليات فنية متعددة في شيكاغو ونيويورك. وقد جاء ذلك في وقت لم يكن تخصُّصُ الفتيات في الفنون الجميلة يَلقى تشجيعًا، نظرًا لما يتطلَّبه ذلك من دراسة الجسم الإنساني في كافَّة حالاته وأوضاعه. ومما يُحكى عن جورجيا أنها خرجَت هاربة من الكلية في أول مرة يُطلب منها رسم جسد عارٍ!
وقد بدأَت علاقة الفنانة بالجنوب الأمريكي منذ عام ١٩١٢م، حين عملت مشرفة فنية بإحدى مدارس مدينة «أماريللو» ثم مدينة «كانيون» بولاية تكساس. وقد عُرفَت جورجيا بمزاجها العصبي الحادِّ في دفاعها عن نفسها وأفكارها، وكان الكثيرون يتجنَّبونها لأفكارها المتفرِّدة. وقد وضعَت نُصب عينَيها منذ صباها أن تصبح فنانة، وأخذَت تجاهد في سنوات التكوين كي تجد لنفسها أسلوبًا يُميِّزها بوصفها فتاة أمريكية تريد أن تُعبِّر عن مشاعرها الفنية بصورة تختلف عما كان الفنانون الأمريكيون يُبدعونه أيامها من لوحات تقليدية، بينما أوروبا تعُجُّ بالتيارات الفنية الحديثة.
وقد ارتبطَت جورجيا أوكيف في نيويورك بصالة عرض شهيرة في أوائل القرن، تُسمَّى صالة ٢٩١ نسبة إلى رقم البناية التي توجد فيها بالجادة الخامسة هناك، وصاحبِها «ألفرد ستيجلتز» الذي كان رائدًا من رُوَّاد فن التصوير الفوتوغرافي في أمريكا، وكانت صالة ٢٩١ وصاحبها في طليعة مقدِّمي الفن الأوروبي الحديث في أمريكا، وكانت الصالة من أوائل المعارض التي قدَّمَت للأمريكيين أعمال بيكاسو وماتيس وسيزان وفان جوخ وغيرهم من أعلام الفن الحديث، وكانَت الأوساط الفكرية في أمريكا تسعى آنذاك جاهدة لخلق روحٍ أمريكية، خاصَّة في الفنون والآداب، وقد وجدَت في جورجيا أوكيف رمزًا للرسم الأمريكي الحديث، كما كان ويليام كارلوس ويليامز وشرود أندرسون وجرترود شتاين وروبرت فروست وإرنست همنجواي يسعَون إلى خلق لغة أمريكية صِرف في الأدب والفكر الأمريكيين، ولهذا تحمَّس ألفرد ستيجلتز للوحات جورجيا أوكيف حين عرضَتها عليه صديقةٌ للطرفين، وأعلن: «أخيرًا، أصبح لأمريكا فنانتُها الأصيلة»، وقد تبنَّى ألفرد جورجيا فنيًّا، وبعد انتهاء عقد عملها في تكساس، دعاها إلى العمل في نيويورك، حيث وفدَت في ١٩١٨م، وبدأَت علاقة عملٍ وفنٍّ مع المصوِّر، سرعان ما انقلبَت إلى حبٍّ جارف. وكان من بين اللوحات التي أُعجب بها ألفرد والتي ترجع إلى فترة مقام جورجيا في تكساس، اللوحة المسمَّاة «نجمة المساء»، وهي تحكي أنها نتاج الأثر الذي تركه في نفسها أول مرة ترى فيها نجوم المساء في نفس الوقت الذي يكون قرص الشمس لا يزال ساطعًا في السماء، وهو شيءٌ عجيبٌ لم ترَهُ إلا هناك.
وقد تميَّزَت الفترة التي قضَتها جورجيا أوكيف في نيويورك بالعمل المركَّز الكثيف في الفن والأدب. فإلى جانب عملها في الكثير من اللوحات، طالعَت كتبًا فنية وأدبية مختارة، أهمُّها كتابٌ وضعه الرسَّام التجريدي «فاسيلي كاندينسكي» بعنوان «عن الرُّوحية في الفن»، وهو من أشدِّ الكتب التي أثَّرت في جورجيا بما فيه من نظريات وخواطر فنية، كذلك قرأَت الروايات الأمريكية الكلاسيكية، وأيضًا، مثل كل الفنانين متوقِّدي الخيال، كتاب ألف ليلة وليلة. وقد أخذَت جورجيا عن كاندينسكي نظرتَه إلى أهميَّة الألوان والأثر النفسي الذي تتركه لدى المشاهدين. وقد وَعَت في ذاكرتها الاستعارة التي عبَّر بها عن ذلك: «يؤثِّر اللون تأثيرًا مباشرًا في روح الإنسان؛ فاللون هو المفاتيح الموسيقية، والعين هي التي تدقُّ، والرُّوح هي الآلة ذات الأوتار المتعدِّدة، والفنان هو اليد التي تعزف، فتلمس هذا الوتَر أو ذاك في نظام، فتُحدِث ذبذباتٍ في قرارة الرُّوح.»
وقد عاش ألفرد وجورجيا معًا في نيويورك، قبل زواجهما في عام ١٩٢٤م، في وقت لم يكن هذا النمط من العَلاقات مألوفًا، ولكن الفن جمع بينهما، فقضيا عدة سنواتٍ من العمل الدائب: جورجيا تقدِّم اللوحة تِلوَ اللوحة، وألفرد يجمع صوره الفوتوغرافية، وأهمُّها مجموعةٌ ضخمةٌ من الصور التي كان موضوعها هو مصدر إلهامه: جورجيا أوكيف! وقد مثَّلت مجموعة الصور الفنية التي التقطها ألفرد لجورجيا موضوعًا متكاملًا، وتمَّ عرضها من حينٍ لآخر في المتاحف الشهيرة ما بين أعوام ١٩٢١ و١٩٨٣م، ولا تزال تُعَد من خيرة المجموعات الفوتوغرافية العالمية.
وفي الصيف، كان الفنانان يقضيان أوقاتًا طويلة في منطقة «بحيرة جورج» في أعالي نيويورك، حيث أقاما «استوديو» لهما، وهناك أنتجت جورجيا مجموعة من اللوحات التجريدية عن الطبيعة في تلك المنطقة. وكانت جورجيا ترسم دائمًا في إطار مجموعات تدور حول نفس الموضوع، فبدأت بمجموعة لوحات للطبيعة الصامتة، تبعتها بمناظرَ في نيويورك، ثم رسمَت لوحات «بحيرة جورج» التجريدية. وفي العشرينيات، بدأت في رسم المجموعات التي اشتهرَت بها أكثر من غيرها، وهي الأزهار، من كل صنف ولون. فقد رسمت زهور الخشخاش، والسوسن، والليلك، والنرجس، والزنابق، والبانسيه، والزهور والنباتات الأمريكية مما تراه حولها في كل مكان، وقد رسمَت معظم هذه الأزهار مُكبَّرة بشكل لافت للنظر، كأنها صورةٌ مأخوذةٌ عن قرب. وكانت دائمًا تردُّ على سؤال: لماذا ترسم الزهور كبيرة هكذا؟ بسؤال: ولماذا لا تسألني لماذا أرسم الأنهار والجبال صغيرة هكذا؟! وقد كتب النُّقاد كثيرًا عن الرموز الجنسية في لوحات الأزهار تلك، وخلَصوا منها إلى نظريات نفسية كانت جورجيا تسخر منها وترفضها، ولكن الإجماع النقدي الآن يُسلِّم بوجود تلك الرموز في لوحاتها، حتى وإن كان ذلك من عمل اللاشعور الذي يخرج في صورة لا يراها الفنان وإنما تراها عين الناقد الخبيرة الفاحصة.
وبعد أعوامٍ في نيويورك، تاقت جورجيا إلى الخلاء والأماكن الفسيحة والهدوء الذي عرفَته من قبل في الجنوب الأمريكي؛ ولذلك بدأت منذ عام ١٩٢٩م في قضاء بعض الوقت في نيومكسيكو، وجذبها ما وجدته في تلك الولاية في ذلك الوقت من الطبيعة البدائية والبساطة، ونوعية الضوء والنور هناك، وهما أساسيان بالنسبة للرسَّامين، وفوق كل شيء: مناظر الصحراء والوديان والهضاب المتناثرة في كل مكان، وشجَّعها على إطالة إقامتها هناك ما طرأ على علاقتها بزوجها من فتور نتيجة اهتمامه بفنانة جديدة واعدة هي «دوروثي نورمان»، التي أخذ يُشجِّعها ويُنمِّي نشاطها الأدبي إلى أن شقَّت طريقها إلى عالم الشهرة، وقابلت جورجيا الروائي الإنجليزي د. ﻫ. لورانس وزوجته فريدا في بلدة «تاوس» بنيومكسيكو، حين كان لورانس يبحث في كل مكان عن الحضارة البُدائية، ورسمت لوحة لشجرة أمام المزرعة التي كان يقيم فيها، واسم اللوحة «شجرة لورانس»!
وفي السنوات من ١٩٣٥ إلى ١٩٤٥م، أصبحت جورجيا تقضي جانبًا من وقتها في نيومكسيكو، حيث استأجرَت منزلًا في منطقة تُسمَّى «مزرعة الأشباح» لترسم فيه كلما ذهبَت إلى هناك. وقد أنجزَت في تلك الفترة مجموعات من اللوحات الفريدة في تاريخ الرسم الأمريكي؛ فقد رسمت لوحاتٍ للتلال، وبيوت الطوب النَّيء الصغيرة، والكنائس البدائية، والصُّلبان السوداء، وكلها مستوحاة من جوِّ المنطقة الصحراوي. ثم جاء غرامها برسم عظام الحيوانات وجماجمها؛ فأنتجت عددًا كبيرًا من لوحات جماجم الأبقار والجياد، مما دفع النُّقاد، ممن يبحثون عن أثر فرويد في كل ما يدرسونه، إلى الإشارة إلى استحواذ فكرة الموت على الفنانة في تلك الفترة، ولم يعُد يربطها بنيويورك سوى وجود زوجها هناك. وكانت جورجيا في إحدى رحلاتها الفنية حين مرض ألفرد مرضه الأخير، فعادت إلى نيويورك على عَجَل، وظلَّت إلى جواره حتى وفاته في يوليو ١٩٤٦م، ثم قضت عدة سنواتٍ في تدبير أمور التَّرِكة والممتلكات الفنية، حيث أوصى ألفرد لها بكل ذلك، ثم تعود إلى نيومكسيكو، التي اتخذتها مقامًا دائمًا منذ عام ١٩٤٩م. وقد قسمت وقتها هناك ما بين منزل «مزرعة الأشباح» ومنزل أثَري تاريخي آخر اشترَته عام ١٩٤٥م بمبلغٍ رمزيٍّ مع تعهُّدها بترميمه والمحافظة عليه. وهذا المنزل يقع في قرية منعزلة تُسمَّى «أبيكيو»، ويتكوَّن من عدة غرفٍ مبنية بالطوب النيِّئ وسط حدائق برِّيَّة تبلغ مساحتها حوالي ثلاثة فدادين. والمنزل يعود إلى القرن الثامن عشر، أيام كانت الولاية كلها تابعة للمكسيك، والتي لم تنضم إلى الولايات المتحدة إلا عام ١٩١٢؛ كانت والضَّيعة كلها محاطة بسورٍ خشبيٍّ عالٍ لحمايتها من هجمات المُغِيرِين الهنود أيامها، وقد عملت جورجيا أوكيف على ترميم المنزل مع الاحتفاظ بطابعه القديم، مع تهيئته لمعيشتها وعملها هناك. وقد عمل اكتشاف الفنانة لقرية أبيكيو إلى ظهورها على الخريطة الأمريكية!
ويقع هذا المنزل الآن تحت إشراف مؤسسة جورجيا أوكيف، التي جعلت منه مزارًا سياحيًّا وفنيًّا لعشاق سيدة الرسم الأمريكي، ونظرًا لضعف بِنية المنزل، لا يُسمح بزيارته إلا لأفواجٍ قليلة العدد، ولهذا يلزم الحجز قبل الزيارة بخمسة أشهرٍ على الأقل، ويرى الزوَّار فيه الاستوديو الذي كانت تستخدمه الفنانة، وغرفة نومها، والحديقة والساحة ذات الطراز الإسباني، وثمَّة مُستنسَخات للوحات جورجيا، أهمها لوحة «سماء مُلبَّدة بالسحب» الموجودة في متحف شيكاغو للفنون، وقد رسمَت هناك مجموعة لوحاتها المستوحاة من مناظر السحب التي كانت تراها في رحلاتها الجوية المتعدِّدة، والتي بدأت ترسمها بعد عام ١٩٦٠م.
أما لوحات جورجيا أوكيف الأصلية، خارج المجموعات الخاصة والمتاحف العالمية، فهي موجودةٌ في المتحف الذي يحمل اسمها بمدينة «سانتافي» بنيومكسيكو، وقد أحسنت مؤسسة أوكيف الاستعداد لتجهيز هذا المتحف المموَّل تمويلًا خاصًّا، فقد وضع تصميمَ بنائه مهندس معماري متميز، وافتُتح عام ١٩٩٧م، ويضمُّ بين جدرانه عددًا كبيرًا من لوحاتها ورسومها ومنحوتاتها، مما يجعله موقعًا أساسيًّا لزيارة المهتمِّين بالفنانة وعملها.
وقد عانت جورجيا أوكيف من عوارض الشيخوخة في آخر أيامها، ومنها ضعف البصر الشديد وصعوبة الحركة، ولكن المعروف عنها أنها لم تكُفَّ عن الإنتاج حتى وفاتها في ٦ مارس ١٩٨٦م، بعد أن شارفَت على إتمام المائة سنة من عمرها.
واليوم، أصبح اسمها علَمًا على الشخصية الأمريكية المتميِّزة في الرسم الحديث، وسار على دربها العديد من الفنانين الذين تأثَّروا بلوحاتها وآرائها الفنية.