جوجان رسَّام البحار الجنوبية
كان فنان هذه المقالة من الجُموح بحيث يحمل من يريد التعرُّف على خطاه إلى بِقاعٍ قصيَّة، وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدلُّ على رُوح الفنان التي لا تهدأ ولا تستقرُّ إلا حين تُحقِّق ذاتها، وإن كان ذلك يعني السير في الطريق الوعر، طريق العزلة والغربة والموت.
فنان اليوم كان ربَّ أسرة ناجحًا، يعمل في باريس في وظيفة محترمة ببورصة الأوراق المالية، وزوجًا لحسناء دانمركية أنجب منها خمسة أطفال، ويعيش في دَعة في عاصمة النور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن بذرة الفن كانت في صميم فؤاده، وتمثَّلَت أول الأمر في اهتمامه بالرسم والرسَّامين، وشراء اللوحات الفنية التي يحبها، خاصَّة من إنتاج أولئك الانطباعيين الذين كانوا حديث أهل الفن وقتها، مثل: بيسارو ومونيه ومانيه وديجا وغيرهم. وفجأة، بعد أن حدثت هزَّةٌ في الاقتصاد العالمي والفرنسي خاصة، فقد جوجان وظيفته. ورَغم أنه كان بإمكانه الحصول على عملٍ آخر بسهولة، فقد اعتبر ما حدث مؤشِّرًا له لتغيير حياته، إذ شعر بأن الوقت قد حان كيما يُطلق بذرة الفن الكامنة في أعماقه إلى النور، وهكذا قرَّر أن يتخذ الرسم مهنة يتكسَّب منها، رَغم اعتراض أصدقائه من الفنانين، وعلى رأسهم بيسارو الذي اعتبر نفسه مسئولًا عن قرار جوجان، وتغيَّرت أحوال الأسرة نتيجة لذلك، فقد انتقلت من باريس إلى مدينة «روان» في الشمال الشرقي توفيرًا للنفقات، وتبِعَت ذلك سنتان من عدم الاستقرار، إذ لم تحتمل زوجته المعيشة في روان، فرحلت مع أولادها إلى كوبنهاجن، ثم لحق بهم جوجان، إلا أن شِجارَه الدائم مع أسرة زوجته دعاه إلى ترك الدانمرك والعودة مع أحد أبنائه إلى باريس حيث بدأ يُثبِّت خطاه في طريق الفن. ورغم أنه قد عاش تلك الفترة في فقرٍ مُدقِعٍ، فإنه تمكَّن من المشاركة في آخر معرضٍ للانطباعيين بسبعة عشر لوحة. وألحَّت عليه بعد ذلك فكرة انتقاء منطقة يستقرُّ فيها وينشئ ما يشبه المُستعمَرة للرسَّامين من أمثاله، فوقع اختياره على بقعة نائية من مقاطعة «بريتاني» تُدعى «بون آفان»، عاش فيها بين أحضان الطبيعة والمشاهد الفلكلورية التي يتميَّز بها أهل المقاطعة، وهو ما انعكس على لوحاته في تلك الفترة، وأهمها «صورة ذاتية» و«فلاحات بريتاني».
وقد تخللت إقامته الطويلة في بريتاني مغامرةٌ قام بها في ١٨٨٦م بالسفر إلى بنما حيث كان يحلم بالعمل هناك، إلا إن الأمر انتهى به إلى العمل «فاعلًا» في قناة بنما، مما أنهكه وشغله عن فنه، واضطرَّت السلطات بعد ذلك إلى ترحيله إلى بلاده من جزر المارتينيك حيث كان قد رحل.
كذلك ترجع إلى تلك الفترة زياراته المتعدِّدة إلى باريس للقاء أهل الفن وتبادل الخبرات والآراء، وقد تعرَّف في أثناء ذلك على فان جوخ، وتوطَّدت أواصر الصداقة بينهما، خاصَّة أن فان جوخ شاطَرَه حلم إقامة المستعمرة للرسَّامين، بل وشرعَ في تنفيذها بالرحيل إلى بلدة آرل بجنوب فرنسا، في انتظار أن يلحق جوجان به، وهذا ما حدث بالفعل. إلا إن إقامته هناك لم تتعدَّ الشهرين، وانتهى الأمر بالفنانين الكبيرين إلى الشِّقاق والشِّجار العنيف، مما حمل جوجان على العودة إلى باريس، بينما أدَّى إحباط آمال فان جوخ إلى قطعِه أذنَه في نوبة من الهِياج العصبي، وقد كتب جوجان عن اختلاف شخصيتَيهما قائلًا: «إن فنسنت رومانسي، أما أنا فأميل نحو البدائية.»
وتبع ذلك فترةٌ من العمل المُكثَّف في باريس وفي مناطق بريتاني التي أحبَّها، برزت فيه ملامح الخطوط الفنية التي تميَّز بها جوجان، وتطوَّرت رسومه من الانطباعية إلى ما بعد الانطباعية إلى الرمزية، نتيجة اتصاله بالشعراء الرمزيين، وأنتج في تلك الفترة عددًا كبيرًا من أعماله المشهورة، منها: المسيح الأصفر، رؤيا بعد العظة، أنجيل الجميلة، بين الأمواج.
وقد أجمع النُّقاد على أن جوجان قد بلغ آنذاك مرحلة من النضج الفني حملت معها بساطة في التعبير وجرأة في الضرب بريشته على اللوحة في نفس الوقت، ثم أخذت تستبين تدريجيًّا في رسومه ملامح «البدائية»، وهي السِّمة التي ستغلب عليه منذ ذلك الوقت وحتى النهاية، وقد أراد أن يُطبِّق على حياته ما يُطبِّقه على فنه، خاصَّة بعد أن لم يعُد يُطيق الحياة في باريس بكل زَيفها وصَخَبها، فأخذ يفكر في النُّزوح إلى مكانٍ آخر لم تصل إليه الحضارة الحديثة وتُغطِّيه بزيفها وماديَّتها، وخطرت له أولًا فكرة الرحيل إلى مدغشقر بأفريقيا، وكتب أثناء ذلك يتحدَّث عن عزمه «الرحيل عن الغرب المتعفِّن من الحضارة الصناعية. إن أقوى الرجال وأنشطهم سيزداد قوَّة ونشاطًا حين تمسُّ يداه أرض الشرق، وبعد سنة أو اثنتين، يعود المرء قويًّا معافًى …» ثم كتب في سبتمبر ١٨٩٠م: «إن مدغشقر قريبةٌ من العالم المتحضِّر. لسوف أذهب إلى تاهيتي حيث آمل أن أقضي بقية حياتي هناك. إني أعتقد أن فني ما هو إلا بذرةٌ سوف أزرعها في تاهيتي كي تؤتي ثمارها في تلك الأرض البدائية الوحشية.»
ويضع جوجان مشروعه موضع التنفيذ على الفور، فيعقد مزادًا في فبراير ١٨٩١م في فندقٍ مشهورٍ لبيع ما تجمَّع من لوحاته كي يجمع المال اللازم لرحلته إلى تلك الأصقاع النائية، ونجح المزاد، وبعد زيارة سريعة إلى أسرته في الدانمرك، أقام له أصدقاؤه الباريسيون، وعلى رأسهم شاعر الرمزية ستيفان مالارميه، حفلًا لتوديعه. وقد صرَّح جوجان عشيَّة رحيله بقوله الشهير: «إني أرحل بحثًا عن السلام؛ كيما أُخلِّص نفسي من تأثير الحضارة. إني أريد فحسب أن أخلق فنًّا يتَّسِم بالبساطة، البساطة الشديدة. وأنا أحتاج لذلك أن أُجدِّد نفسي وسط حضارة لم تمتدَّ إليها أسباب الفساد، أريد ألا أرى من حولي إلا الناس البدائيين، وأن أعيش كما يعيشون، دون رغبة سوى أن أنقل في لوحاتي ما يخطر على بالي، لا يدفعني في ذلك إلا وسائل التعبير البدائية، وهي الوسائل الوحيدة التي تتَّسِم بالحق والصدق.»
ومع رحيل جوجان إلى تاهيتي مستقلًّا الباخرة من ميناء مرسيليا في ١ أبريل ١٨٩١م، تبدأ معايشته للحضارة البدائية الفطرية، ومعاناته معها، في سلسلة من الرحلات بين جزر البحار الجنوبية تلك وبين فرنسا.
ومنذ رحيله الأول ذاك، اتَّسَمَت لوحاته بذلك الطابع البدائي العفوي — الأقرب إلى رسوم الأطفال — الذي تميَّز به، والذي نراه في عشرات اللوحات التي أصبحت بعد ذلك دُررًا فنية تُزيِّن المتاحف العالمية والمجموعات الخاصة.
وفي إقامته الأولى في «بابيتي» عاصمة تاهيتي، اندمج مع السكان الأصليين، وعاش نفس معيشتهم، ولكن خاب أمله في العثور على أهل الفطرة الطبيعية فيهم؛ إذ كان سكان العاصمة ينقسمون إلى مستعمرين فرنسيين يَحيَون حياة البرجوازية المتعالية، والسكان الأصليين، وهم في حالة من الفقر المُدقِع والتبعية الكاملة.
وعندها انتقل جوجان إلى منطقة تبعد حوالي مائة كيلومترٍ من العاصمة، في مقاطعة تُسمَّى «ماتايا»، حيث وجد ضالَّته المنشودة من جمال الطبيعة والسكان، فأقام لنفسه كوخًا هناك، يرسم فيه ويعيش عيشة أقرب إلى الفطرة، وركَّز في لوحاته على الرجال والنساء من أهل البلاد وهم يقومون بأعمالهم اليومية، حيث تمتزج الطبيعة البدائية من حولهم بنفوسهم العَفوية، وهو مزيجٌ نجح جوجان نجاحًا كبيرًا في تجسيده في لوحاته التي تعود إلى تلك الفترة من حياته، ومنها لوحات «امرأة وزهرة»، «على الشاطئ»، «نوم القيلولة». وتُظهر لوحته المشهورة «حامل الفأس» حركة عزقة الفلاح وقد تجمَّدَت في الزمان والمكان بتأثير الكآبة الحلمية التي تطغى على اللوحة.
وقد كتب يقول عن إقامته في ماتايا: «إني أعمل بجدٍّ الآن، وقد أصبحت أليفًا بالأرض التاهيتية ورائحتها، وما زال أهل تاهيتي الذين أرسمهم على نحوٍ مليءٍ بالأسرار، يحتفظون بطابعهم البولونيزي الأصلي، وهم ليسوا كالشرقيين الذين نراهم في باريس.» وقد كان مُحِقًّا في إدراكه أنه قد توصَّل إلى فَهم نفسية أهل البلاد، فقد اتخذ له فتاة منهم كانت مصدر إلهامه في لوحاته وفي مُشاطرته حياته هناك، كما أنها ساعدته في معرفة تاريخ البلاد وتقاليد أهلها وعاداتهم وطقوس معيشتهم، وقد تمخَّضَت تلك المعرفة عن كتابٍ وضعه بعد ذلك عن تلك البِقاع، ولوحات كثيرة أشهرها «روح الموتى يقظة».
ورَغم سعادة جوجان في موطنه النائي، فإن الوحدة كانت تثقُل عليه، ثم غلبه على أمره افتقاره الشديد إلى المال؛ ولذلك فقد اضطرَّ إلى العودة إلى فرنسا بعد عامين أنجز فيهما ثمانين لوحة.
ووصل إلى باريس وليس في جيبه سوى أربعة فرنكات، ولكن رأسه كان عامرًا بالآمال اعتمادًا على صيته الذي ذاع عن إنجازاته الفنية في تاهيتي؛ بَيد أن تلك الآمال تبدَّدَت سريعًا، إذ كان كثيرٌ من رفاقه الفنانين قد رحلوا، ولم يتفهَّم مَن بقي منهم نمطه الفني الجديد، عدا «ديجا» الذي اقتنى عددًا من لوحاته مجموعته الخاصة، وجماعة الرمزيين الذين احتفلوا برسومه إجلالًا لصديقه مالارميه.
وقضى جوجان ما يقرب من عامين في فرنسا، ما بين باريس وبريتاني، مثيرًا عجب الناس بغرابة أطواره وملابسه، وأقام معارض للوحاته في باريس، طلب من صديقه المسرحي الكبير ستريندبرج أن يكتب له نُبذة يُدرِجها في كتالوج المعرض، ولكن الكاتب اعتذر برسالة بلغ من إعجاب جوجان بها أن طبعها في الكتالوج مع تعليقه عليها. وقد صوَّر الفيلم الأمريكي «الذئب وراء الباب»، الذي أُنتج عام ١٩٨٦م وقام فيه «دونالد سذر» بدور البطولة، هذين العامين من حياته تصويرًا مفصَّلًا رائعًا.
وبعد أن أيقن جوجان عدم تفهُّم أهل الفن لطريقته الجديدة في الرسم، قرَّر أن يهجر بلاده إلى الأبد، ويعيش بقية حياته بعيدًا عنها وعن أسرته، وهكذا عاد في سبتمبر ١٨٩٥م إلى تاهيتي ليجد أن هذين العامين قد أضفيا عليها مسحة غريبة جعلتها أقرب ما يكون إلى المَسخ المُشوَّه، وزاد من أزمته أن داهمته الأمراض في هذه الزَّورة الأخيرة. وترجع إلى تلك الفترة الحادثة المشهورة حين وافق صيدلي المدينة على إلغاء ديون جوجان لديه مقابل إحدى لوحاته، فرسم له الفنان لوحته المعروفة «الحصان الأبيض»، ولكن الرجل ثار وغضب عند رؤيته للوحة؛ لأن الحصان كان مرسومًا باللون الأخضر وليس الأبيض!
ودفعت به تلك الظروف القاسية إلى التفكير في إنهاء حياته، وقام برسم لوحة كبيرة هامَّة لتكون بمثابة وصيَّته الأخيرة، وأطلق عليها عنوان «من أين نأتي؟ ومن نحن؟ وإلى أين نمضي؟» وهي لوحة ملحميَّة ضخمة، تُصوِّر الإنسان ومسيرته من الطفولة إلى الكهولة فالشيخوخة. ورسمَ بعدها، بعد أن زالت عنه غُمَّة الانتحار، رائعة أخرى عنوانها «أبدًا بعد ذلك»، استوحاها من قصيدة إدجار ألان بو «الغراب» التي عرفها من ترجمة مالارميه، ومزج فيها ما بين البدائية والرمزية الفنية.
ومرة أخرى، يتجه جوجان إلى مكان بعيد عن مدَنية العاصمة، واختار هذه المرة جزيرة أخرى تابعة لفرنسا هي «جزر المركيزات»، وابتَنَى له بيتًا بدائيًّا هناك، حفر على واجهته نقوشًا غريبة، وأطلق عليه اسم «منزل البهجة»، وقضى الفنان سنتين أُخريين هناك قبل أن تقضي عليه أزمة قلبية في ٨ مايو ١٩٠٣م.
وفي حين تنتشر لوحاته في حواضر العالم، فإن متحفه الوحيد هو في ماتايا، تلك البلدة الواقعة في أطراف تاهيتي التي قضى فيها أصفى أيامه، وهكذا يفرض جوجان على محبِّي فنه الذهاب معه إلى آخر الدنيا في تلمُّس خُطاه والتعرُّف على حياته.