كاليفورنيا تحرق كتب جون شتاينبك
وقد ركَّزت رواية عناقيد الغضب على محنة فئة معيَّنة هي «عمال التراحيل» الذين نزحوا من أنحاء الولايات، خاصة أوكلاهوما، بحثًا عن عمل في كاليفورنيا ذات الأراضي الخصيبة، فوقعوا في براثِن كبار المُلَّاك وممثِّليهم الذين استغلُّوا أولئك العمال أسوأ استغلال، واستثمروا جهودهم لقاء ملاليم معدوداتٍ لا تقيم الأَوَد، حتى إن الكثيرين ماتوا جوعًا، وتشتَّتَ شمل الأُسَر تحت وطأة الفقر المُدقِع في بلد الخصب والثراء، وهذا كله مثَّلته الرواية خير تمثيل، فقد جهَّز شتاينبك لمادَّتها ثلاث سنوات كاملة، صاحَب خلالها أولئك العمال في حياتهم وتجوالهم بحثًا عن عمل، ورأى بعينيه مدى تدهور أوضاعهم ومدى الاستغلال الذي يتعرَّضون له. وقد أثارت الرواية والفيلم الذي أُعِدَّ عنها ومثَّل فيه هنري فوندا أحد أروع أدواره، تحقيقات في الكونجرس الأمريكي، أيَّدت صحة ما رواه شتاينبك عن أحوال العمال، وأدَّت إلى سَن تشريعات جديدة لتحسين أوضاعهم والحفاظ على حقوقهم.
بَيد أن كل ما لاقاه جون شتاينبك من ردود فعل عنيفة على كتاباته الواقعية الصرف، لم يمنع تقدير العالم له، فقد حصل في النهاية على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٦٢م. كذلك لم يمنع من إحلاله المحلَّ اللائق به في وطنه، بل وفي بلدته التي سبق أن هاجمته وأحرقت كتبه، فقد أقامت ساليناس «مركز جون شتاينبك» و«مكتبة شتاينبك» اللذين أصبحا مَجمَعًا يقوم على تعزيز دراسة أعمال الكاتب وإحياء تراثه، وذلك بالإضافة إلى افتتاحها، في ٢٧ يونيو ١٩٩٨م، متحفًا كبيرًا يضمُّ كل ما يتعلَّق به، استمرَّ التخطيط له وإقامته عشرين عامًا وتكلَّف عشرة ملايين دولار، ولمَّا كانت ساليناس تضمُّ أيضًا منزل مولده وفيها القبر الذي يأوي رماده، فهي قد أصبحت بذلك قِبلة محبِّي شتاينبك والسائرين على خطاه.
وقد وُلد جون شتاينبك (وينطق لقبه ستاينبك بأمريكا) في ٢٧ فبراير ١٩٠٢م في ساليناس، حيث قضى طفولته ودرس في مدارسها حتى عام ١٩١٩م. وتذكُر أمه أنها قالت ذات مرة وهو صبي: «إن جون إما أن يصبح عبقريًّا وإما لا يكون شيئًا بالمرَّة.» وقد غيَّر مسار حياته كتاب «سيرة الملك آرثر» لتوماس مالوري؛ إذ وضع في ذهنه أن يعمل على تسجيل تاريخ عصره بصورة قصصية على نحو ما فعل ذلك الكاتب بالنسبة للعصور الوسطى. ولهذا، حين التحق بعد ذلك بجامعة ستانفورد، التي قضى بها ست سنوات ولم يتخرَّج فيها، ركَّز اهتمامه على دراسة المواد التي تعينه على أن يصبح قصصيًّا. ورغم أنه كان يدرس العلوم الإنسانية بصفة عامة، إلا إنه تقدَّم لدراسة الطب وعلوم التشريح لمدة عام، مُعلِّلًا ذلك برغبته في دراسة الكائن البشري الذي سيكتب عنه بعد ذلك. وقد وضع ذلك الهدف نُصبَ عينيه على الدوام ولم يَحِد عنه، فبعد أن هجر دراسته الجامعية، عمل في حِرَف متنوعة، إلى أن عُهد إليه العناية بقصر ريفيٍّ منعزل، فساعده ذلك على التفرُّغ للكتابة، حيث أنتج أول رواياته في الفترة من ١٩٢٩ إلى ١٩٣٥م، وهي على التوالي: القدح الذهبي، مراعي السماء، إلى إلهٍ مجهول. وقد تعرَّف في ذلك الوقت على زوجته الأولى كارول، التي ساعدته على طباعة مخطوطات رواياته لتقديمها للناشرين. وكان يعيش على مصروفٍ شهريٍّ يقدِّمه له والده، بالإضافة لأي مرتبٍ تحصل عليه زوجته من عملها. ولم تحظَ رواياته الأولى بنجاحٍ كبير، إلى أن التفتَ إلى موطنه كاليفورنيا بكل اتساعها وتنوعها، واهتمَّ بحياة العمال وأمانيهم وصراعهم من أجل البقاء، وبعد ذلك أخرج عددًا من الروايات بتلك الخلفية، أُولاها «تورتيلا فلات» (١٩٣٥م)، التي لفتَت إليه أنظار القرَّاء والناشرين على حدٍّ سواء. وكان أن تعاقدت معه الصحف لكتابة مقالاتٍ عن الموضوعات التي تُهِمُّ الناس في تلك المنطقة. وكانت تلك المقالات بداية التفكير في رائعته «عناقيد الغضب»، التي سبقها ومهَّد لها روايتان أُخريان من روائع شتاينبك تنسجان على نفس موضوع حياة الفقراء والمطحونين في دوَّامة الحياة الأمريكية التي يسيطر عليها الأغنياء وكبار المُلَّاك، وهما روايتا «المعركة سِجال» (١٩٣٦م) و«عن الفيران والناس» (١٩٣٧م). ثمَّ اكتملت الثلاثية بصدور «عناقيد الغضب» في عام ١٩٣٩م.
ورغم ثورة أصحاب الأراضي على تلك الرواية وعلى مؤلفها، واتهامهم إياه بالمغالطة وتَبنِّي المبادئ الهدَّامة، فإن قيمة شتاينبك الأدبية والفنية استطالت بها، وأصبح يُعَد من كبار الأدباء في أمريكا.
وبينما كان إرنست همنجواي وسكوت فتزجيرالد وغيرهما يجولون في فرنسا وإسبانيا ويكتبون عن حياة الأمريكيين في أوروبا، استقرَّ شتاينبك في موطنه وتفرَّغ لفنِّه، وكتب عن مشاكل قومه وبلاده وأهلها من الفقراء والمستضعفين، فاكتسب بذلك احترامهم واحترام القرَّاء. ولئن كان همنجواي قد أثَّر على الرواية الأمريكية من حيث الشكل والتكنيك الفني، فإن شتاينبك قد أثَّر فيها بصورة رئيسية من حيث المحتوى والمضمون. وقد تأكَّدت قيمة الرواية بحصولها على جائزة بولتزر، أسمى الجوائز الأدبية الأمريكية، لعام ١٩٤٠م، وبوصولها إلى عامَّة الناس عن طريق تحويلها إلى فيلم سينمائيٍّ تمَّ ترشيحه لعدة جوائز أوسكار، وقد دفعت له هوليوود خمسين ألف دولارٍ ثمنًا للقصة. وقد انغمس شتاينبك بعد ذلك — كيما يتشاغل عن الضجَّة التي أثارتها روايته — في أعمالٍ سينمائية في هوليوود خاصَّة بقصصه، وأصبح صديقًا مقرَّبًا من سبنسر تراسي وجون هيوستون وشارلي شابلن.
ومن المؤسف أنَّ تحسُّن أحوال شتاينبك المالية قد أثَّر على زواجه من كارول التي لم تتحمَّل التغيُّر الشديد في أوضاعهما، وانتهى الأمر بطلاقهما في عام ١٩٤٢م، وتزوَّج شتاينبك بعد ذلك بعامٍ من فنانة عرفها في هوليوود هي جويندولين كونجر، وأنجب منها ولديه الوحيدين توم وجون.
وقد شارك الكاتب في الحرب العالمية الثانية بالعمل مراسلًا صحفيًّا لصحيفة هيرالد تريبيون؛ مما أتاح له أن يشهد العمليات العسكرية عن كَثَب، وألهمته تلك الفترة بأحداثها الجِسام مسرحيته المعروفة «مغيب القمر» التي نالت نجاحًا كبيرًا، والتي تُرجمت إلى العربية وعُرضت على مسارحنا إبَّان ازدهار الستينيات المسرحي. وتتوالى رواياته وكتبه، تبني صرحًا أدبيًّا وطيدًا، فقد أصدر رواية «كانيري رو»، وهي عن الحياة في منطقة خليج كاليفورنيا وعن علم الأحياء المائية، الهواية التي عشقها وأمضى أوقاتًا طويلة في دراستها مع صديقه المفضل «إد ريكتس». وأصدر أيضًا «الجوهرة» (١٩٤٧م) و«يوميات روسية» (١٩٤٨م).
وقد شهد عام ١٩٤٨م طلاقَه من زوجته الثانية، ووفاة صديقه ريكتس في حادث سيارة، وانتخابَه عضوًا في الأكاديمية الأمريكية للآداب. وكعادته، أغرق شتاينبك همومه بالانغماس في الأعمال السينمائية؛ فبعد إخراج فيلم «المهر الأحمر» عن قصته بنفس الاسم، انهمك الكاتب في إعداد سيناريو أحد أعظم الأفلام الأمريكية وهو «يحيا زاباتا»، الذي طلبه منه المخرج إيليا كازان. وقد توفَّر شتاينبك على تجهيز السيناريو بالقراءة عن الثورة المكسيكية، وعن الشخصيات السياسية التي عاصرتها، وعن حياة زاباتا ورفاقه، وسافر إلى المكسيك لدراسة بيئة الفيلم على الطبيعة، والاستماع إلى القصص الشعبية الشفهية التي يتداولها عامة الشعب المكسيكي عن زاباتا، وساعده في ذلك تمكُّنه من اللغة الإسبانية، ثاني اللغات انتشارًا في الولايات المتحدة. وقد مهَّد للسيناريو الفعلي بكتابٍ قصصيٍّ تاريخيٍّ عن زاباتا وثورته عنوانه «زاباتا، النمر الصغير». وهذا الكتاب كان يُعَد مفقودًا إلى أن تمَّ العثور على نسخة منه في الأرشيف السينمائي لجامعة كاليفورنيا، ونُشر لأول مرة عام ١٩٩١م. أما الفيلم فقد تمَّ إنتاجه عام ١٩٥٠م، وتقاسم بطولته مرلون براندو وأنتوني كوين مع الممثلة جين بيترز في دور زوجة زاباتا. ونجح الفيلم نجاحًا كبيرًا حتى في أمريكا الرأسمالية، رغم توجُّهِه الثوري الواضح وانحيازه إلى صف الفقراء من الفلاحين المُعدَمين ومطالبته بالعدالة الاجتماعية للشعوب، وقد تركَّزت الأضواء في مصر على هذا الفيلم غداةَ ثورة ١٩٥٢م، وتمَّ تسليط الضوء على أوجه الشبه بين المجتمع المصري والمجتمع المكسيكي آنذاك.
وقد تعرَّف الكاتب خلال فترته السينمائية تلك على زوجته الثالثة والأخيرة «إيلين»، وهي الزوجة السابقة للممثِّل المشهور زخاري سكوت، وقد تزوَّجها شتاينبك عام ١٩٥٠م، وأقاما في نيويورك في منزلٍ بمنطقة «لونج أيلاند» يُطِلُّ على المحيط الأطلسي؛ وكان يقول إنه بذلك قد ملك بلاده من أطرافها، من كاليفورنيا المُطِلَّة على المحيط الهادي إلى نيويورك في الطرف الشرقي من القارَّة.
ثم قضى شتاينبك عامين في كتابة ملحمة قصصية جديدة عن تاريخ أسرته بأجيالها الثلاثة في كاليفورنيا، وكان عنوانها الأصلي «وادي ساليناس»، ولكنها أصبحت في النهاية الروايةَ الشهيرة «شرقي عدن»، التي سرعان ما تحوَّلت أيضًا إلى فيلم سينمائيٍّ قام ببطولته جيمس دين.
ثم يسافر الكاتب بصحبة زوجته إلى أنحاء كثيرة من العالم، حيث كان يُنظر إليه بوصفه ضمير أمريكا الحي؛ وأفاد هو بالتعرُّف على الحضارات والثقافات العالمية المختلفة، وبعد أن عاد من سنوات الترحال، شعر أن المجتمع الأمريكي يمرُّ بمرحلة تغييرٍ جذرية؛ لذلك فقد ابتاع شاحنة قديمة أسماها «روسيتانتي» باسم حصان دون كيخوته، واصطحب معه كلبه شارلي في جولة بولايات أمريكا الغربية، كان نتاجها كتاب «رحلات مع شارلي».
وبعد عودة شتاينبك من تلك الرحلة بوقتٍ قصير، علِمَ من التليفزيون بنبأ حصوله على جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٦٢م، وقد جدَّد فوزه بالجائزة العالمية عداء نُقاده، الذين هاجموه بضراوة أثَّرت في نفسية الكاتب الكبير إلى حدِّ أنه لم يعد إلى كتابة القصص بعد ذلك، وكانت آخر رواياته هي «شتاء السخط» عام ١٩٦١م.
بَيد أنَّ سطوع نجمه على الساحة العالمية بعد نوبل أفسح له المجال إلى البيت الأبيض، حيث أصبح صديقًا للرئيس كنيدي، ثم جونسون من بعده، حيث كان يُعِدُّ له خُطَبَه الهامَّة، ويبدو أن اتصاله بجونسون هو الذي مهَّد للتحوُّل الفكري الجذري الذي مرَّ به شتاينبك في سنواته الأخيرة؛ إذ أن هذا الكاتب الثوري، صاحِبَ كتب الاحتجاج الاجتماعي، خرج بمناصرته لتدخُّل أمريكا في فيتنام على إجماع المثقفين والثوريين. وقد كان يدافع عن موقفه ذاك بأنه كان دائمًا يُعبِّر عمَّا يؤمن به، حتى وإن خالف ذلك رأي الأغلبية.
ولكن كل المعارك الفكرية والفنية التي خاضها شتاينبك لم تؤثِّر في قيمته ككاتبٍ عظيم؛ فعند وفاته في ديسمبر ١٩٦٨م، كانت كتبه هي الأكثر انتشارًا ومبيعًا، كما أصبحت كتبه التي أحرقتها كاليفورنيا يومًا ما، من الأدب الكلاسيكي المُقرَّر على طلبة المدارس والكليات.
وكما ذكرنا في أول المقال، أنفقت بلدته «ساليناس» عشرة ملايين دولار لإقامة متحفه في مبنًى عصريٍّ ضخم، لا يبعد كثيرًا عن الساحة التي أُحرقت فيها كتبه عام ١٩٣٩م!