دولتان تتنازعان
وربَّما كان بيكاسو هو الشخص المفرد الذي كان له أكبر أثرٍ في الفن الحديث، فقد ترك بصماته الواضحة على كل مناحيه، وهو رائد المذهب التكعيبي في الرسم مع صديقه جورك براك، ولكنه كذلك فنان متعدِّد المواهب، فهو رسَّام ونحَّات وخزَّاف، بل وكاتب أيضًا. ورغم أنه اشتهر بالتكعيبية، فقد ضرب إنتاجه بسهم في كل مجال وكل مذهب فني، حتى إن هناك لوحات يُدهَش المرء أن يعلم أنها بريشة بيكاسو لقدر ما هي بعيدة تمامًا عن التجريد والتكعيب.
وبيكاسو الإنسان ظاهرةٌ لوحدها، فهو قد اشتهر بتعدُّد علاقاته النسائية بالزواج وغير الزواج، وتعدُّد منازله ومحالِّ سكنه؛ وهو في كل مرة يتزوج أو يقيم علاقة دائمة مع إحدى حبيباته، يُغيِّر مكان إقامته إلى مسكن أو فيلَّا جديدة، ثم يخُطُّ لنفسه اتجاهًا فنيًّا جديدًا يواكب حياته العاطفية الجديدة، ويتخذ من شريكة حياته إلهامًا للوحاته؛ ولهذا فقد خلَّف بيكاسو وراءه ثروة هائلة لا يمكن حصرها من الأعمال الفنية، واسمًا شهيرًا استثمره ورثته في أعمال تجارية تراوحت بين طبع لوحاته على قمصان «تي شيرت»، وبارفان ابنته بالوما بيكاسو، إلى ما سمعناه أخيرًا من اعتزام شركة ستروين الفرنسية إنتاج سيارة جديدة تحمل اسم بيكاسو! ولكن ما يهمُّنا ذكره في هذا المجال هو أن هناك ثلاثة متاحف مخصَّصةٌ له وحده؛ اثنان في فرنسا، وواحدٌ في برشلونة بإسبانيا.
وبيكاسو تتنازعه دولتان هما إسبانيا وفرنسا؛ الأولى بحكم مولده وأسرته وفترة صباه، والثانية بحكم إقامته وميوله وهواه؛ فقد وُلد بابلو رويث بيكاسو في أكتوبر ١٨٨١م في مدينة مالقة (مالاجا) في الجنوب الإسباني، وهي مدينةٌ عربيةٌ أصيلة، بقيت تحت حكم العرب أكثر مما بقيت تحت حكم الإسبان، وما تزال بها آثار عربية تشهد على حضارة عظيمة وفنٍّ أصيل. وكان أبوه أستاذًا للرسم، فنشأ بيكاسو نشأة فنية خالصة، تعلَّم فيها كيف يلهو بالأقلام على الورق قبل أن يتعلَّم المشي أو الكلام. وتلقَّى تدريبه المبكِّر على الرسم من أبيه، وفي المدارس التي التحق بها في مالقة، ثم في برشلونة التي انتقلت الأسرة إليها في ١٨٩٥م، ويُحكى أن والده ترك له لوحة كان يرسمها كيما يُتمَّها، ولمَّا عاد ورأى ما فعله الصبي؛ بهره عمله، فأعطاه كل أدوات الرسم التي يملكها، وعهد إليه بالرسم بدلًا منه، ولم يعُد الأب إلى الرسم مطلقًا بعد ذلك.
ثم يتلقَّى بيكاسو تعليمًا عاليًا في مدرسة الفنون الجميلة ببرشلونة، وبعدها في كلية سان فرناندو الشهيرة بمدريد. وفي العاصمة، شاهد ودرس لوحات الأساتذة العظام في متحف البرادو: جويا، فيلاسكيث، الجريكو، وغيرهم من أساطين الرسم.
ثم يقضي بيكاسو السنوات من ١٩٠١ إلى ١٩٠٤م في سفر متواصل ما بين باريس وبرشلونة، إلى أن قرَّر أخيرًا الاستقرار في باريس نهائيًّا واتخاذِها موطنًا ثانيًا له. عاش بيكاسو في حي مونمارتر مع ثُلَّة من الفنانين الإسبان من زملائه، ومنهم الشاب غريب الأطوار شارل كاساجيماس الذي أنهى حياته بالانتحار في أحد المقاهي لفشله في حبِّه، وهو الحادث الذي ترك أثرًا بالغًا في نفس صديقه بيكاسو. وقد عانى الفنان وهو يجاهد في سبيل فنه، من الفقر وشَظَف العيش، ومرَّت عليه أيامٌ لم يكن يجد فيها ما يأكله، بل كان يقضي أيامًا في الفراش تحت الأغطية؛ لأنه وأصدقاءَه لا يملكون ثمن التدفئة!
تعرَّفَ في باريس على أقطاب الفن والشعر والأدب، وأصبح من أصدقاء جورج براك وجييوم أبولينير، وأندريه بريترون، وماكس جاكوب. ويُطلِق نُقاد الفن اسم المرحلة الزرقاء على لوحات بيكاسو في الفترة ١٩٠١–١٩٠٤م، وهي تتميَّز بالواقعية والتعبير عن الموضوعات الحزينة والتشاؤم، تتبعها المرحلة الوردية من ١٩٠٤ إلى ١٩٠٦م التي عمد فيها إلى تصوير أفراد السيرك والفرق الفنية المتجوِّلة، فكان نتاجها لوحات المهرِّجين والبلياتشو والبهلوانات. وكانت أول صديقة دائمة للفنان في تلك السنوات العِجاف هي فرناند أوليفييه التي عاش معها من ١٩٠٥ إلى ١٩١٢م.
ويتعرَّف بيكاسو على جرترود شتاين وأخيها، وكانا من أكبر رعاة الفنانين والأدباء في باريس. وجرترود هي التي ساعدت الكثير منهم في فترات كفاحهم الأولى، ومنهم همنجواي. وقد تحمَّسَت لبيكاسو واشترَت هي وأخوها بعض لوحاته بأثمان عالية بحساب ذلك الوقت، وكان ذلك بداية عهد بيكاسو باليُسر المادِّي. ثم يلتفت أكبر متعهِّدي اللوحات الفنية في باريس وقتها «أمبرواز فولار» إلى أعمال بيكاسو، فيشتري الكثير منها ويعرضه ويبيعه في صالته المشهورة. ومنذ ذلك الوقت يصبح بيكاسو معروفًا بلوحاته ومنحوتاته وتصاويره، ويبدأ مشواره الجادَّ في البحث عن التجديد الفني، ويأتيه الإلهام من زيارة متحف التروكاديرو الذي كان يضمُّ مجموعة ضخمة من الفن الإفريقي البدائي، ويتأثَّر بيكاسو كثيرَا بالأقنعة الأفريقية التي يشاهدها. وبهذه الخلفية، يرسم الفنان لوحته الجديدة «فتيات آفينيون» عام ١٩٠٧م، التي كانت نقطة فارقة في أسلوبه، وحملت الكثير من التأثيرات الإفريقية والتجريد وبدايات التكعيبية، وقد اضطرَّ بيكاسو إلى نبذها، ولكن إلى حين، نتيجة ثورة زملائه الفنانين عليها.
وفي عام ١٩٠٨م، وبدون اتفاق سابق، يرسم كلٌّ من براك وبيكاسو، منفصلين، لوحات بأسلوب جديد تمامًا. وقد لاحظ «ماتيس» أن لوحات براك تتكوَّن من «مكعباتٍ صغيرة»، ومن هنا تناول النُّقاد تلك العبارة لوصف ما أتى به براك وبيكاسو في وقت واحد تقريبًا، وأطلقوا على ذلك الأسلوب الجديد اسم التكعيبية. وقد عمل الرسَّامان لفترة تالية لذلك الاكتشاف في تعاون وثيق أنتج أعظم أعمال المذهب الجديد الأولى. وتشهد السنوات التالية نشاطًا محمومًا لفنَّانِنا، من بينه وضع الرسومات المصاحبة لكتب أصدقائه الأدباء، فرسم لأبولينير وماكس جاكوب وجان كوكتو الذي قدَّمه لفريق الباليه الروسي الذي تعرَّف عن طريقه على دياجليف ونجنسكي وسترافنسكي، بَيد أن أهم حدث في تلك المرحلة هو تعرُّفه على أولجاكوخلوفا، إحدى راقصات الباليه الروسي، وزواجه منها عام ١٩١٨م. وبعد الزواج تغيَّرت طريقة معيشته، وانتقل إلى شقة رحيبة في شارع «بويسي» الراقي، وانتهج أسلوب الطبقة البورجوازية إرضاءً لزوجته، ولوحته المعروفة لأولجا تعود إلى الأسلوب الطبيعي للرسم، وإن كانت تتميَّز بدفق التعبير وأصالة التشكيل. وقد ثار عليه أصدقاؤه واتهموه بالزَّيف الفني، ولكنه كان يردُّ بأنه لا يتبع أي مذهب وإنما يرسم ما يراه بإملاءٍ من عاطفته وذهنه.
وفي عام ١٩٢٥م يفاجئ الجميع بلوحته «الرقصة» التي يَنهَج فيها أسلوبًا تجريديًّا خالصًا جعل النُّقادَ يُلحقونه بالحركة السيريالية التي كان يقودها «أندريه بريتون» في الأدب، والذي سرعان ما نشر صورة للوحة بيكاسو «فتيات آفينيون» في «الثورة السيريالية» مما جعلها على كل لسان.
وقد مرَّ بيكاسو بحالة ضيق شديد من جرَّاء الرتابة والجمود والرقابة التي كانت تفرضها عليه زوجته نتيجة غيرتها عليه، حتى إنه كتب قصائد من الشعر الغنائي يُنفِّس بها عن نفسه، ونُشرت في مجلة «كراسات فنية». وانتهى به الأمر إلى الانفصال عن أولجا، لتَدخُل حياته بعد ذلك «ماري تيريز والتر» التي أنجب منها ابنته «مايا».
وفي عام ١٩٣٧م تعهدت إليه حكومة الجمهوريين في إسبانيا رسم لوحة لمعرض باريس الدولي، فيختار بيكاسو موضوع أهوال الحرب الأهلية الإسبانية، فيرسم رائعته «جرنيكا» عن البلدة الباسكية في شمال إسبانيا، التي قصفتها طائرات ألمانيا وإيطاليا وقتلت وجرحت الآلاف من سكانها المدنيين. وقد استأجر الفنان مَرسمًا ضخمًا في شارع «جران أوغسطين» في قلب باريس لرسم هذه اللوحة الضخمة التي طار صِيتُها في كل مكان، والتي استقرَّت مدة طويلة في متحف الفن الحديث بنيويورك، إلى أن عادت الديمقراطية إلى إسبانيا مع الملك خوان كارلوس، فعادت اللوحة — حسب وصية بيكاسو — إلى بلاده لتستقرَّ الآن في متحف الملكة صوفيا بمدريد.
وبعد أن عبرت الفنانة «دورا مار» حياة بيكاسو عدة سنوات، استقرَّ بعد ذلك مع الرسَّامة الشابة «فرانسواز جيلو» التي عاشت مع بيكاسو من ١٩٤٤ إلى ١٩٥٣م، وأنجبت منه ابنه كلود وابنته بالوما. وكان بيكاسو من بين قِلة من الفنانين والأدباء ممن بقوا في باريس بعد سقوطها تحت الاحتلال النازي، رغم المضايقات والتهديدات التي كان يتعرَّض لها من الألمان المُحتلِّين الذين منعوا عرض لوحاته في أي مكانٍ باعتبارها ممَّا كانوا يُسمُّونه بالفن الانحطاطي.
وبعد تحرُّر عاصمة النور، أصبح بيكاسو من المعالم السياحية التي يزورها الناس في فترة ما بعد الحرب. وقد ألهمته فرانسواز العديد من أعماله، وأقام معها في فيلا «لا جالواز» ببلدة فالوريس بجنوب فرنسا، وبدأ هناك اهتمامه بفن السيراميك الذي أنتج منه آلاف القطع الفنية. وبعد أن انفصلت فرانسواز عنه أصدرت كتابها «حياتي مع بيكاسو» الذي وصفت فيه بالتفصيل السنوات التي قضتها معه، ورسمت له الشخصية التي اشتهرت عنه بعد ذلك: الفنان المُتسلِّط الأناني، الذي يُضحِّي بكل شيء في سبيل مشاعره الشخصية، والذي يكره النساء ويعاملهنَّ بقسوة شديدة ولا يتردَّد في نبذهنَّ بعد أن يمتصَّ كل ما فيهنَّ من عاطفة وحيوية ونشاط. وقد حاول بيكاسو منع نشر هذا الكتاب دون جدوى، وقد أثَّر فيه تأثيرًا كبيرًا.
وعاش الفنان بعد ذلك مع «جاكلين روك» الي عمَّرت علاقته بها حتى آخر أيامه، والتي انتقل معها إلى فيلا جديدة سمَّاها «كاليفورنيا» بالقرب من مدينة «كان» الساحلية. ولمَّا كانت زوجته الأولى قد تُوفيت، فقد أصبح بإمكانه الزواج من جاكلين في ١٩٦١م، وانتقلا بعدها ليعيشا في بلدة «نوتردام دي في»، وهو المكان الذي تُوفي فيه في أبريل ١٩٧٣م عن واحدٍ وتسعين عامًا.
وقد عمد الفنان في المرحلة المتأخرة من حياته إلى رسم سلسلة من اللوحات التجريدية تنويعًا على لوحات واقعية أو انطباعية معروفة، فرسم لوحاته هو عن «نساء الجزائر» لديلاكروا، و«غذاء على العشب» لمانيه، و«المنيناس» لفيلاسكيز. ويتبدَّى فن بيكاسو التجريدي على أوضح نحوٍ وأفضله من مقارنة لوحاته تلك باللوحات الأصلية.
وكان أول متحف يُخصَّص لبيكاسو هو متحف «أنتيب» في الجزيرة الفرنسية المسمَّاة بهذا الاسم، حيث كان يقضي عطلات الصيف هناك ويعمل في المتحف المحلِّي طوال الفترة التي يقضيها في البلدة. وقد ترك كلَّ ما رسمه هناك للمتحف، الذي انتهز هذه الفرصة ليصبح متحفًا لبيكاسو يَؤمُّه الزوَّار ليروا لوحاتٍ للفنان لا توجد في مكانٍ آخر. ثم يُفتَتح في عام ١٩٦٣م أول متحف عالمي لبيكاسو في مدينة برشلونة، ثانية مدن أسبانيا. وقد خصَّصَت له المدينة قصرًا أثريًّا كبيرًا، وضمَّت فيه ثروة هائلة من اللوحات والتماثيل للفنان، كانت بحوزة صديق بيكاسو وسكرتيره المخلص «خايمي سابارتيس». ولم يُخف بيكاسو اغتباطه بتخصيص متحفٍ له في بلاده، حتى وإن لم يكن ليزوره؛ لأن البلاد لا تزال تحت حكم فرانكو، ولكنه أهدى متحف برشلونة أعمالًا كثيرة، منها كل رسومه الأولى في فترة الصبا. ولهذا فزيارة المتحف تتِمُّ على أساسٍ زمني، يبدأ الزائر فيها بمشاهدة رسومات بيكاسو حين كان في التاسعة من عمره، ثم يتدرَّج إلى لوحات الفترة الزرقاء فالفترة الوردية.
أما متحفه الدولي الآخر فهو في باريس، وقد افتُتح في ٢٨ سبتمبر ١٩٨٥م في قصرٍ فخيمٍ يرجع تشيده إلى القرن السابع عشر في قلب العاصمة الفرنسية. ويضمُّ المتحف عددًا كبيرًا من اللوحات والتماثيل والسيراميك والرسومات للفنان الكبير، كما يضمُّ عددًا آخر من اللوحات التي كان يقتنيها بيكاسو لرسَّامين آخرين، منها أعمالٌ لسيزان وفان جوخ وماتيس ورينوار و«روسو الجمركي»، وكان يقال إن محتويات المتحف قد قُدِّمت هدية من ورثة بيكاسو، ولكن الباحث في الأمر يكتشف أنهم قد قدَّموا تلك الأعمال مقابل إعفائهم من ضريبة التَّرِكات بعد وفاة بيكاسو وتوزيع ثروته السائلة والمنقولة، وكلها في فرنسا، على ورثته، ممَّا عاد بالفائدة على كل الأطراف، وكسِبَ عالم الفن متحفًا جديدًا يضمُّ روائع أهم شخصية فنية في تاريخ الفن الحديث في القرن العشرين.