الأصم الذي ملأ الدنيا ألحانًا وأنغامًا
والحقُّ أن الموسيقار العالمي لم يختَر تلك الصورة لنفسه، بل إن ظروفه ومسار حياته هي التي فرضتها عليه فرضًا، ولكن ساهم فيها أيضًا حبه الجامح للحرية مما جعله لا يُطيق أن يخضع لأيَّة قيودٍ سياسية كانت أو اجتماعية. ومن أشهر الأحداث التي تُبيِّن ذلك، إعجابه الشديد بقائد عصره نابليون بونابرت، الذي استطاع أن يلُمَّ شمل فرنسا بعد عصر الإرهاب ويصنع منها دولة قوية متحدة، فأهداه بيتهوفن سيمفونيته الثالثة في بداية الأمر. ولما سمع الموسيقار أن نابليون قد توَّج نفسه إمبراطورًا، أعلن أن القائد قد خان مبادئه الديمقراطية، ومحا بيده اسم نابليون من صفحة سيمفونيته، وسمَّاها بدلًا من ذلك بسيمفونية البطولة، وقال إنها لذكرى رجل كان عظيمًا!
ولا شك أن السائر على خطى بيتهوفن لا يحتاج كثيرًا إلى الذهاب إلى متاحفه والمدن التي عاش فيها، ففي وُسعه الاستماع إلى روائعه الموسيقية أينما كان؛ بَيد أن التعرُّف على حياته والتمتُّع برؤية مُتعلقاته ستحمل المُعجَب به إلى مدينتين: بون في ألمانيا، وفيينا عاصمة النمسا. ومتحف بيتهوفن الأساسي هو المنزل الذي وُلد فيه في مدينة بون، وعاش فيه حتى رحيله النهائي إلى فيينا. ويتجوَّل الزائر في أبهائه التي شهدها الموسيقار العظيم في صباه وشبابه المبكِّر، ويرى مئات الأشياء التي كان يستخدمها في حياته اليومية، والآلات الموسيقية التي عزف عليها، ومنها فيولين نادر كان محببًّا إليه حتى أنه ختمه باسمه. كما يضمُّ المتحف أكبر مجموعة من المخطوطات الأصلية بخط بيتهوفن لمؤلفاته الموسيقية. ومن حسن الحظ أن هذا المبنى لم يُصَب بسوءٍ في أثناء القصف الذي تعرَّضت له المدينة في الحرب العالمية الثانية. وهناك تمثالٌ ضخمٌ لبيتهوفن بالقرب من متحفه.
وقد وُلد بيتهوفن في ١٧ ديسمبر ١٧٧٠م في تلك المدينة، وكانت في ذلك الوقت إحدى ما يقرب من مائة مدينة تضمُّها علاقات واهية تحت اسم الإمبراطورية الرومانية المُقدَّسة، التي قال عنها فولتير مقولته الشهيرة بأنها آنذاك لم تكن لا إمبراطورية ولا رومانية ولا مُقدَّسة، وقد ركز العديد من تلك المدن جهده في رعاية الثقافة والفنون، خاصَّة الموسيقى التي كان الأمراء والنبلاء يُشجِّعونها على أفضل وجه. وقد جاء بيتهوفن من أسرة عمِلَ جيلانِ منها موسيقيينَ في قصر أمراء مدينة بون، ولذلك كان من الطبيعي أن يُهيِّئه أبوه كي يسير على نفس الدرب، بل وعملَ ما في وسعه من أجل أن يصبح ابنه «موزار» آخر. وقد عانى بيتهوفن من قسوة أبيه الذي كان يجبره على الدراسة المُكثَّفة للموسيقى والجلوس ساعاتٍ طويلة أمام البيانو للتمرين، حتى إن المرء ليعجب كيف لم تؤدِّ هذه السياسة بالصبي إلى كره الموسيقى وكل ما يتصل بها.
بَيد أن بيتهوفن برع في دراسته الموسيقية، مقتفيًا خطى جَده الموسيقي وليس أبيه، وأُتيح له تقديم أول حفل موسيقيٍّ وهو في التاسعة من عمره، رغم أن أباه قدَّمه على أنه في السابعة حتى يزيد من إعجاب الناس بنبوغه المُبكِّر.
ورغم أن نجاح بيتهوفن في نشاطه الأول لم يكن كبيرًا، فقد وضع الكثيرَ من المقطوعات، كما نشر أول ثلاث أسطواناتٍ من تأليفه وهو في الثالثة عشرة من عمره فحسب، وجذب ذلك النبوغ المبكِّر اهتمام كبار الموسيقيين، فتولَّوه بالرعاية والتشجيع، فتتلمذ على يد واحدٍ منهم هو «نيفي»، الذي سرعان ما أوصى بضرورة أن يتوجَّه إلى عاصمة الموسيقى في كل زمان، فيينا. ويتضافر بعض نُبلاء مدينة بون كي يُحقِّقوا ذلك، فيسافر بيتهوفن إلى فيينا عام ١٧٨٧م بهدف أن يتتلمذ على يدَي موزار هناك. ونحن نعلم أن موزار لم يُدرِّبه على شيءٍ، ولكن الحكاية تقول إنه قابل بيتهوفن واستمع لعزفه ثم قال: «راقبوا هذا الفتى، فسيصبح له شأنٌ كبيرٌ في يومٍ من الأيام.»
ويضطرُّ بيتهوفن إلى العودة إلى بون لمرض والدته التي سرعان ما تُوفيت، مما جعل الأب يهوي بعدها إلى إدمان الشراب وإهمال أولاده، لدرجة أن بيتهوفن أصبح رسميًّا عام ١٧٨٩م عائلَ أسرته من الدخل الذي يتأتَّى له من الحفلات والدروس الموسيقية، بالإضافة إلى وظيفته كعازف الأرغن في بلاط أمير البلاد. وحين مرَّ الموسيقار المشهور هايدن ببون عام ١٧٩٢م، يوافق على طلب مشجعي بيتهوفن أن يصطحبه معه إلى فيينا ليتتلمذ عليه، وكان موزار قد تُوفي، وتاق أهل بون أن يصبح مواطنهم الشاب خليفته على عرش الموسيقى.
ورحل بيتهوفن إلى فيينا في نوفمبر ١٧٩٢م واستقرَّ بها بقية عمره. وكان الجو الموسيقي فيها يعمر بالنشاط والمنافسة الحادَّة في نفس الوقت، وكان لكل نبيلٍ أو ثريٍّ موسيقاره الخاص الذي يعزف له في حفلاته. ولكن طبيعة بيتهوفن المستقلة وحِدَّة طباعه جعلت من الصعب عليه أن يرتبط بعِلية القوم في فيينا مثل هذا الارتباط الذي كان يعتبره لا يليق بالفنان الأصيل، وكثيرًا ما كان يغادر حفلاتٍ دُعِيَ إليها لأنه لم يجد الترحيب اللائق به. وقد نَمَت تلك النزعات الثورية في نفس موسيقارنا بفضل أحداث الثورة الفرنسية التي طرحت شعارات الديمقراطية والمساواة. وبالرغم من طبيعته النافرة، سرعان ما احتلَّ مكانة مُتقدِّمة في الوسط الموسيقي في فيينا. وانتشر صيته الفني بفضل طريقة عزفه الأصيلة المتميِّزة التي اتَّسمَت بجدة في الشكل بصفة خاصة. ولهذا ما إن بلغ بيتهوفن الثلاثين من عمره حتى كانت شهرته قد ثبتت، وموهبته معترفًا بها من الجميع. وتقع مؤلفاته حتى عام ١٨٠٠م فيما يُسمِّيه النُّقاد بالطور الأول من إبداعه، وهي المرحلة التي سار فيها على خطى هايدن وموزار وساليري، وحمل نهجهم الكلاسيكي حتى منتهاه، إلى أن دخل في طَوره الثاني الذي يتمثَّل في التجديد الرومانسي الذي بدأ مع سيمفونيته الثالثة، التي كسرت بشكلها المُبتكَر التقاليدَ الرسمية للموسيقى الكلاسيكية، وأعلنَت مولد عصر جديد بمحتواها الذي يُشيد بالحرية والكرامة الإنسانية.
وزاد إعجاب الناس بفنِّه وإنتاجه بقدر ما أزعجهم سلوكه الاجتماعي الغليظ الذي يقترب من الفظاظة، وتُحكى عنه قصص كثيرة من سوء معاملته، وعدم اهتمامه بمظهره، وهيامه في الطرقات وهو يُهمهِم بالنغمات التي يسطرها بعد ذلك في نوتة صغيرة يحملها معه دائمًا لمثل هذه المناسبات. وكان يأنَف حتى من تحية النُّبلاء والأثرياء، ويعتبر ذلك تذلُّلًا لهم، وله قصة مشهورة مع شاعر ألمانيا الكبير «جوته» حين كانا يتمشَّيان معًا في مدينة بالقرب من «كارلسباد»، حين تنحَّى جوته عن الطريق كي يُحَيِّي شلَّة من النبلاء، الذين لم يُعِيروه التفاتًا بينما توجَّهوا بالتحية إلى بيتهوفن الذي مضى في طريقه ولم يردَّ عليهم، وقال بعد ذلك لجوتة معاتبًا: «هناك جوتة واحد وبيتهوفن واحد، أما هم فهناك الآلاف منهم.»
ثم يطرأ تغيُّر خطير على حياة بيتهوفن؛ إذ بدأ يشعر أن سمعه يضعف تدريجيًّا، وهو ما تأكَّد له بعد ذلك بالفحص الطبي، وجاء ذلك ضربة شديدة لطموحه الفني قلبت حياته رأسًا على عقب. وللقارئ الذي يريد أن يدرك عمق هذه الكارثة بالنسبة للموسيقار، أن يتصوَّر «بيكاسو» وقد أُصيب في عينه، أو «بافاروتي» وقد فقد صوته. وكان رد فعل بيتهوفن الأوَّلي عنيفًا، إذ اعتكف في المنزل الذي كان يسكنه وقتها، وكتب خطابًا — لم يرسله — موجَّهًا إلى أخوَيه، وهو عبارة عن وثيقة حادَّة اللهجة يصف فيها الظلم الذي أنزلته به الحياة، وكيف أنه كان قد قرَّر الانتحار، إلا إنَّه استقرَّ على أن يعيش لفنِّه ويحيا به. والخيط الفضِّي لتلك الكارثة التي حلَّت ببيتهوفن هو أنه قد توفَّر على التأليف الموسيقي بدلًا من صرف وقته في إحياء الحفلات عازفًا موسيقاه وموسيقى غيره. وقد حملته مرارة فقدان سمعه على الدخول في عالم جديد من الألحان التي لم تُسمع من قبل، والتي زخر بها الطور الثاني من إنتاجه (١٨٠٦–١٨١٢م)، الذي يشمل سيمفونيَّاته من الرابعة حتى الثامنة التي تبرُز من بينها السيمفونية الخامسة بافتتاحيَّتها الشهيرة، والسيمفونية الرَّعوية التي استلهم مؤلفها الطبيعة الساحرة للغابات المحيطة بفيينا والتي كان يعتكف فيها مُناجيًا الأشجار والطيور والمياه الرقراقة. كما وضع بيتهوفن في تلك المرحلة الأوبرا الوحيدة التي ألفها وهي «فيدليو»، وافتتاحية مسرحية جوتة «إجمونت»، وصوناتة كرويزر، ومقطوعة «إلى إليز» التي أصبحت من أشهر مقطوعات البيانو الخفيفة، وذلك ضمن عشرات الأعمال القصيرة الأخرى.
وقد شهدت تلك الفترة من حياته أحداثًا أساسية، منها معركته القضائية مع «جوانا» أرملة أخيه «كاسبار» لتولِّي الوصاية على ابنها «كارل»، وقد انتصر الموسيقار فيها بعد ثلاث سنواتٍ مُضنية من النزاع القضائي أثَّرت في صحته وأعصابه، وتولَّى تنشئة الصبي بطريقته الخاصة، محاولًا أن يجعله يسير على دربه في مهنة الموسيقى. ولكنه سرعان ما أدرك أن الصبي لم يُخلق لذلك، فاكتفى أن يكون له بمثابة الأب، وجاهد كي يترك له من المال ما يكفل له مستقبلًا مريحًا.
ويبدأ الطور الفني الأخير لبيتهوفن حوالي عام ١٨١٦م، وتتميَّز أعماله فيه بدرجة أكبر من العمق والتعقيد. وتعتبر دُرَّة هذه المرحلة سيمفونيته التاسعة التي استغرق تأليفها منه ست سنواتٍ وأتمَّها في ١٨٢٣م، وقد أدخل فيها لأول مرة في الفن السيمفوني الكورال الذي غنَّى مقطوعة «نشيد للبهجة» من تأليف الشاعر الألماني شيللر.
ومن مقطوعاته الشهيرة أيضًا «القداس الجليل»، ورباعياته الوترية الخمس الأخيرة، وعشراتٌ من الألحان والأغاني القصيرة.
وقد أضفى بيتهوفن على موسيقاه عمقًا وكثافة لم تشهدها من قبل، وتأثَّر بها الكثير من كبار الموسيقيين الآخرين مثل: شوبرت وبرليوز وبروكنر وجوستاف مالر.
ورغم أن بيتهوفن لم يتزوج أبدًا، فقد كانت له علاقات عاطفية مُتعددة؛ بَيد أنها لم تؤدِّ إلى نتيجة ناجحة، فقد كانت إما مع نساء متزوجات أو في درجة أعلى اجتماعيًّا، وبعد وفاة بيتهوفن، عُثر بين أوراقه على عدة خطابات غرامية ملتهبة وجَّهها إلى مَن أسماها «الحبيبة الخالدة» والتي لم تتأكَّد هُويَّتها على وجه التحديد، وإن كان من المُرجَّح أنها هي «جولييت جويشياردي» التي كانت تتلقَّى دروس الموسيقى عليه، والتي أهدى لها مقطوعته الشهيرة «ضوء القمر».
وقد أمضى بيتهوفن عامه الأخير فريسة للمرض، وتُوفي في ٢٦ مارس ١٨٢٧م في ليلة عاصفة مُرعِدة، وشيَّع جثمانه ثلاثون ألف شخصٍ حيث وُورِي الثرى في ركن الموسيقيين بمقبرة فيينا المركزية، التي تضمُّ أيضًا رفات شوبرت وبرامز، ولا يحمل شاهدُ قبره إلا كلمة واحدة: بيتهوفن.
وتَزخَر فيينا بالمنازل المُرصَّعة بعلامة تُبيِّن أن بيتهوفن كان من سكانها، وهي كثيرة؛ لأن الموسيقار الشهير كان كثير التنقُّل باستمرار نظرًا لضيق الناس به وضيقه بالناس. أما المَسكن الذي كتب فيه خطابه الشهير لأخويه في بَدء إصابته بالصَّمَم، فقد تحوَّل عام ١٩٧٠م إلى متحف يضمُّ بعض آثار الموسيقار، ومن بينِها صورة الخطاب المذكور؛ إذ إن الأصل محفوظٌ في مكتبة جامعة هامبورج. وهناك أيضًا تمثال فخيم لبيتهوفن يُمثله جالسًا ومن حوله تماثيل ترمزُ لموضوعات السيمفونية التاسعة. كذلك يمكن لمحبِّي بيتهوفن رؤية الجداريات الرائعة التي رسمها فنان فيينا «جوستاف كليمت» عام ١٩٠٢م بمناسبة إقامة المدينة لمهرجان ضخم لبيتهوفن، قُدِّمت فيه أعماله، وعُرضت لوحات وتماثيل له.
وتُمثِّل جداريات كليمت تصوُّرَه لأنشودة البهجة في السيمفونية التاسعة. وفوق كل هذا، فإن زائري فيينا يسمعون أينما توجَّهوا ألحان بيتهوفن، جنبًا إلى جنبٍ مع ألحان موزار وشتراوس، تنساب إلى آذانهم من المقاهي والمحلات العامة، في هذه العاصمة التي صدق مَن سمَّاها بحقٍّ «مدينة الموسيقى».