أيرلندا تُخيب ظن جيمس جويس
وكان هذا هو عين ما فعله، إذ رحل عنها عام ١٩٠٤م، وتردَّد عليها عدة مرات قبل رحيله الأخير عام ١٩١٢م، والذي لم يرَها بعده أبدًا حتى وفاته عام ١٩٤١م. إذن كيف خيَّبت أيرلندا ظنَّه؟ لقد فعلت ذلك بأن احتفت به على نحوٍ لم تحتفِ بمثله من أبنائها، ووضعته في مستوًى فنيٍّ أصبح فيه هو شكسبير أيرلندا، مُتفوِّقًا على بيتس وسنج وأوسكار وايلد وغيرهم من كبار الأدباء الأيرلنديين. وأصبح الآن يوجد متحف جيمس جويس في دبلن، وجمعيات أيرلندية لجويس، وفصلية جويس، ومركز جويس، وتمثال جويس بالحجم الطبيعي في قلب دبلن. وقد أصدرت أيرلندا عام ١٩٨٢م طابع بريدٍ وميدالية تذكارية للكاتب الكبير بمناسبة مرور مائة عامٍ على مولده، كما تَحمِل ورقة العشرة جنيهات الأيرلندية صورة جويس في وجهها، وأول سطور روايته الأخيرة مع توقيعه في ظهرها؛ فيا لَها من خيبة ظنٍّ رائعة!
ولقد كانت حياة جويس في أيرلندا سلسلة من الصراعات من أجل تحرير نفسه وروحه من مجموعة من الأغلال التي تصوَّر أنها ستقف في سبيل تحقيق أعلى قدرٍ من الأصالة والصدق الفني، سواءٌ كانت تلك الأغلال هي الأسرة التقليدية، أو الدين بمعناه الحرفي، أو القومية الضيقة. ولذلك فقد نحَّى جانبًا الفكرة التي كانت قد خطرت له في صباه بالانخراط في سلك الكهَنوت، ورفض الالتحاق بوظيفة بعد حصوله على الليسانس من الكلية الجامعية بدبلن، ثم اتخذ الخطوة الأخيرة وهي الرحيل عن أيرلندا والذهاب إلى باريس «كي أقابل للمرَّة المليون حقيقة التجرِبة، وأُصنع في مصهر روحه الضمير الذي لم يُخلق لعنصري.» وهو يعتمد في حياته الفنية تلك على ثلاث ركائزَ ذكرها أيضًا في نهاية روايته «صورة الفنان في شبابه»، وهي: الصمت، والمنفى، والدهاء.
وعاش جويس أشهُرًا في العاصمة الفرنسية عام ١٩٠٢م ما بين الدراسة والكتابة وإعطاء دروس ٍفي الإنجليزية. وقد عطَّل مشروعَه ذاك البرقيةُ التي وصلته بضرورة العودة إلى دبلن لأن أمه تحتضر؛ فعاد لوداعها وإن رفض توسُّلاتها إليه بهجر حياته البوهيمية والعودة إلى حظيرة الدين. ولمدة عامين بعد وفاة والدته، عاش جريس في دبلن حياة شبيهة بحياة ستيفن ديدالوس في رواية «عوليس»، خاصَّة الفترة التي أقام فيها في «برج مارتللو» مع صديقه طالب الطب «أوليفر جوجارتي» بينما هو يتكسَّب القليل من النفوذ بعمله في إحدى المدارس. وقد تعرَّف في تلك الأثناء بفتاة لفتت انتباهه، تعمل في أحد فنادق العاصمة الأيرلندية، هي «نورا برناكل» التي صحبته بقية حياته. وكان اليوم الذي التقيا فيه لأول موعدٍ غرامي، وهو ١٦ يونيو ١٩٠٤م، يومًا هامًّا في حياة جويس، حتى إنه خلَّده باختياره اليوم المفرد الذي تقع فيه أحداث رواية عوليس المزدحمة بالوقائع المتشابكة والتي تَربُو صفحاتها على السبعمائة. وقد أصبح ذلك اليوم من كل عامٍ يُدعى «بلومزداي» أو يوم بلوم، نسبة إلى بطل الرواية ليوبولد بلوم؛ ويحتفل به «الجوسيون» في أنحاء العالم بإحياء ذكرى جويس بكل الصور: من قراءاتٍ كاملة لعوليس، إلى تمثيلياتٍ مأخوذة عنها، بل وتناول الأطعمة التي ورد ذِكرُها في الرواية خاصَّة «الكلاوي» المقليَّة.
ويُقنع جوريس نورا بطريقة حياته وبفلسفته، فتوافق على صحبته في منفاه الاختياري، ويرحلان معًا عام ١٩٠٤م إلى «القارة»، إلى أوروبا، حيث يحصل جويس على وظيفة مدرِّس في مدارس «برليتز» العالمية للغات، وساعده على ذلك دراسته وإتقانه للفرنسية والإيطالية إلى جانب إنجليزيته الأم. وتمتدُّ هذه المرحلة من حياته إلى عام ١٩١٥م، ويشهد فيها أحداثًا خطَّت سطورًا هامَّة في حياته وإنتاجه الأدبي ونظرته للحياة ولبلده أيرلندا. وقد تنقَّل في تلك السنوات ما بين مدن بولا وتريستا — وكانت ضمن إمبراطورية النمسا والمجر آنذاك — وروما التي عمِلَ فيها موظفًا كتابيًّا في أحد البنوك. وانهمك أيامها في كتابة قصصه القصيرة التي ظهرت بعد ذلك في كتابه «أهالي دبلن» وروايته الأولى صورة الفنان، وكذلك القصائد التي ضمَّها ديوان شعره الأول «موسيقى الحجرة».
واتصفت حياته بسِماتٍ استمرَّت معه طول حياته، منها صعوبة حصوله على مال، ومصاعب العثور على ناشرين لأعماله، وكذلك آلام عينيه التي اضطرَّته إلى إجراء العديد من العمليات الجراحية فيهما، وأنجب من نورا ابنه جورجيو وابنته لوسيا في بداية سنوات ترحاله.
وعاد جويس في تلك الفترة مرات قليلة إلى أيرلندا، أولاها عام ١٩٠٩م مع ابنه في زيارة للعائلة، وبعدها جذب انتباهه عدم وجود دارٍ للسينما — ذلك الفن الناشئ أيامها — في دبلن، فكان أن عرض على بعض المُموِّلين في تريستا إنشاء دار عرضٍ هناك. وهكذا كان لجويس فضل إدخال السينما إلى بلاده، وافتتحت دار عرض «فولتا» في دبلن عام ١٩١٠م. ومع أن المشروع بدأ بداية مُشجِّعة، إلا إنه تعثَّر بعد ذلك، واضطرَّ جويس وشركاؤه إلى بيع الدار بخسارة مالية. وتدلُّ تلك المبادرة إلى اهتمام جويس المبكِّر بفن السينما، الذي ألهمه نقل بعض أساليبه الجديدة إلى رواياته، خاصَّة الفلاش باك والتنقُّل المفاجئ بين المناظر.
وكانت آخر زيارة لجويس إلى أيرلندا عام ١٩١٢م في محاولة منه لحلِّ المشاكل التي كانت تُواجه نشر مجموعته القصصية أهالي دبلن. وانتهت مفاوضاته مع الناشر والطابع إلى فشلٍ ذريعٍ بعد طلبهما من المؤلف — خوفًا من الصراحة التي تميَّزت بها القصص في وصف المدينة وسكانها — إجراءَ تغييراتٍ جذرية لم يوافق جويس عليها، ففسخ الناشر عقده، وقام الطابع بإتلاف صحائف الكتاب. وغادر جويس بلاده إلى غير رجعة وهو يشعر بمرارة شديدة تجاه الفشل المادي والأدبي الذي لاقاه هناك. وقد كتب في القطار الذي عاد به إلى تريستا قصيدة هجائية مُقذِعة ضد الناشر الذي خذله، جعل عنوانها «غاز من موقد».
وبعد تلك القطيعة الحاسمة، بدأت أحوال جويس في التحسُّن تدريجيًّا، فقد ساعده مواطنه الشاعر العظيم ييتس في الاتصال بالشاعر الأمريكي المقيم في باريس عزرا باوند، الذي تعرَّف على موهبة جويس القصصية وأتاح له نشر صورة الفنان مسلسلة في مجلة «الإجويست» البريطانية.
ثم صدرت «أهالي دبلن» أخيرًا في يونيو ١٩١٤م، مما أتاح لجويس البدء في أعمالٍ جديدة، فكتب مسرحيته الوحيدة «المنفيون»، ثم بدأ في تسطير عوليس.
ولم يؤثِّر اندلاع الحرب العالمية الأولى على وضع جويس في تريستا إلا بعد دخول إيطاليا الحرب، وبعدها اضطرَّ جويس إلى الرحيل مع عائلته إلى البلد المُحايد سويسرا، حيث استقرُّوا في زيورخ. وأمضى جويس أربع سنواتٍ ونيف في زيورخ، تغيَّرت فيها أوضاعه المالية، إذ نجح بيتس وباوند في الحصول له على منحة من الحكومة البريطانية، بالإضافة إلى إعانة أخرى من الصندوق الأدبي الملكي. وقد برزت في تلك الفترة راعية جويس الكريمة، السيدة «هارييت ويفر» التي أُعجبت بعبقرية جويس القصصية، فأوقفت له أموالًا دوريَّة كي يتفرَّغ لإبداعه الأدبي. وإلى جانب ذلك، ساعدت السيدة ويفر على نشر كتب جويس في إنجلترا وأمريكا، مما عمل على ذُيوع صيته وعاد عليه بإيرادات نشرها.
وقد أدَّى كل هذا النجاح إلى تغيُّر نظرة جويس إلى الحياة، بما في ذلك موقفه من بلاده أيرلندا؛ حيث خفَّف كثيرًا من حِدَّة انتقاده لها. وركز الكاتب على المُضيِّ قُدُمًا في العمل الكبير الذي كان بصدده، وهو رواية عوليس التي استمرَّ يكتب فيها طوال سنوات زيورخ. ولما كانت الرواية كلها تدور في دبلن وتحكي عن سكانها وشوارعها ومحلاتها ومقاهيها ومبانيها العامة ومكتباتها، فقد أصبح جويس يعيش بذهنه كله في تلك المدينة، بل إنه كان يكتب لأقاربه ومعارفه هناك كيما يُوافُوه بمعلوماتٍ مُعيَّنة يحتاجها للرواية، أو للتأكُّد من اسم شارعٍ أو مطعم، وما إلى ذلك من التفصيلات الدقيقة.
وبعد الحرب، اقترح عزرا باوند على جويس أن يذهب إلى باريس حيث إمكانيات العمل الفني أوسع، فتوجَّه إليها مؤلفنا عام ١٩٢٠م بنية أن يبقى فيها وقتًا قصيرًا، فكان أن بقي فيها عشرين عامًا كاملة. وقد مهَّد له المعجبون بأدبه الطريق إلى لقاء مجموعات الأدباء والفنانين والنُّقاد الذين كانت تعجُّ بهم عاصمة النور في فترةِ ما بين الحربين، فتعرَّف جويس على همنجواي وسكوت فتزجيرالد وجرترود شتاين، وقابل بروست، بَيد أن أهمَّ مَن تعرَّف بهم بالنسبة لإنتاجه هي «سيلفيا بيتش» الأمريكية صاحبة مكتبة «شكسبير وشركاه»، التي كانت أشبه بتجمُّعٍ أدبيٍّ وفنيٍّ للكتَّاب المغتربين في باريس، وهمزة وصلٍ بينهم وبين أدباء ونُقاد فرنسا. وهكذا عندما علمت بيتش بعدم وجود ناشر لعوليس رغم ذيوع صيتها حتى قبل صدورها في كتاب، عرضت عليه أن تقوم مكتبتها بنشرها، ووافق جويس على الفور. وجرى الطبع على قدمٍ وساقٍ في مطبعة بمدينة ديجون الفرنسية، وتولَّى أصدقاء جويس وبيتش جمع الاشتراكات في الكتاب، وقدَّمت بيش لجويس يوم احتفاله بعيد ميلاده الأربعين في ٢ فبراير ١٩٢٢م أول نسخة من الرواية. وقد تطلَّب الأمر سنواتٍ طوالًا من المعارك والقضايا حتى تمَّ السماح بنشر الكتاب في أمريكا وبريطانيا، أخذت الكثير من الجهد والوقت من الكاتب الكبير ومحبِّيه وعلى رأسهم سيلفيا بيتش.
وتفرَّغ جويس بعد صدور عوليس لكتابة التالي الذي أبقى عنوانه سرًّا إلى آخر وقت، مشيرًا إليه بعنوانٍ موقَّتٍ هو «العمل مستمر»، والذي قضى في كتابته سبعة عشر عامًا كاملة، وصدر في النهاية بعنوان «فينيجانز ويك». وقد أثارت روايته الثالثة العجب؛ لتعقيدها الشديد وغرابتها الأشد، فهي تحكي تاريخ البشرية عن طريق أحلام شخصياتها ورُؤاهم، بلغة مستمدَّة من كل لغات العالم، وبكلماتٍ من ابتكار جويس. وأبدى الجميع، بمن فيهم أصدقاء الكاتب المقرَّبون، تشكُّكَهم في ذلك العمل، بَيد أن الزمن أثبت أصالته، وتوالت الكتابات النقدية تشرح الرواية وتُبسِّطها لأذهان القرَّاء، وأصبحت الآن في طليعة الكتب التي يتبارى أساتذة الأدب في التعليق عليها واستخراج كنوزها، حتى لقد أعلن أحد النُّقاد الأمريكيين مؤخَّرًا أنها ستكون رواية القرن الحادي والعشرين.
وليس ذلك غريبًا؛ إذ أصبح الجميع يعترفون الآن بعبقرية جويس اللغوية التي طبقها في رواياته، فكانت روايته عوليس الأولى بين أهم مائة رواية في القرن العشرين، التي كان من بينها أيضًا روايتاه الأخريان. ويسارع المترجمون الآن إلى إخراج روايته الأخيرة باللغات المختلفة مع صعوبة ذلك الأمر، حتى أن الترجمة الفرنسية لها لم تصدر نهائيًّا إلا من عدة سنواتٍ فحسب، وعندنا في اللغة العربية، توفَّر «راهب جويس» الدكتور طه محمود طه، على إخراج عوليس بطبعتيها الأولى والمُصحَّحة، كما أنه يترجم منذ زمنٍ روايته الأخيرة والتي أستسمح الدكتور طه في الإعلان ربَّما لأول مرة عن ترجمة عنوانها الذي اختاره لها وهو «مأتم إلى الفينيجينات»، ولا شك أنه عنوانٌ مبدعٌ جاء بعد أعوامٍ من دراسة الرواية وحلِّ ألغازها، وإن صدور هذه الرواية بالعربية، الذي ترجو أن يكون وشيكًا، سيكون مفخرة للغة الضاد ولمصر التي أنجز أحد أبنائها مثل ذلك العمل.
ومع أن جويس قد أمضى أكثر عمره خارج أيرلندا، فإن السائر على خطاه لا يجد مبتغاه إلا في ذلك البلد. ففي عام ١٩٦٢م، افتتحت الدولة متحف جويس في برج مارتللو الذي أقام فيه جويس بعض الوقت، وهو يضمُّ كل ما يتعلَّق بجويس من تذكاراتٍ شخصية، ونُسَخٍ من الطبعات الأولى لكتبه، ومخطوطاته، وتُقام فيه المحاضرات التي تتناول حياته وأعماله. وبالإضافة إلى ذلك، ثمَّة منازلٌ عديدةٌ في دبلن وضواحيها لافتاتٍ تشير إلى إقامة جويس فيها حين كانت أسرته كثيرةَ التنقُّل بسبب عسر الأب المالي، وهناك أيضًا المدارس والكليات التي تلقَّى فيها العلم، وكلها مذكورةٌ في رواياته، أما أعظم ما يصبو إليه عشاق الكاتب العارفين خفايا روايته عرليس، فهو التجوُّل في دبلن متتبِّعين سَير أحداث الرواية في الأماكن المذكورة فيها، بدءًا ببرج مارتللو الذي تبدأ الرواية فيه، مرورًا بكل ما رآه بطلا الرواية ليوبولد بلوم وستيفن ديدالوس. وهكذا كانت العلاقة بين الكاتب الكبير وبلده؛ علاقة الحب العميق الذي يكمُنُ في أعماق النفس حتى مع غلاف الكراهية الظاهرية. وليس من دليلٍ أبلغ على هذا من إجابة جويس على سؤالٍ يقول: «ومتى ستعود إلى أيرلندا؟» بقوله: «وهل أنا تركت أيرلندا حتى أعود إليها؟!»