لوركا بين غِرناطة ونيويورك
وقد وُلد لوركا في قرية «فوينتي فاكيروس» من أعمال غرناطة، إحدى محافظات مقاطعة الأندلس الإسبانية، وكان مولده في ٥ يونيو ١٨٩٨م، في منزل عائلته هناك: ٦ شارع ترينيداد، وهو منزلٌ أندلسيٌّ أصيل، اشتهر بساحته المميَّزة التي انتقلَت إلى العِمارة الأندلسية منذ أيام العرب، وبأزهار الياسمين التي تتبدَّى على جدرانه، وقد شهد هذا المنزل السنوات الخمس الأولى من طفولة لوركا، وطبع في نفسه جوَّ القرية بما فيها من جمال الطبيعة وبساطة الحياة القروية وقصص الأطفال التي وعاها في ذاكرته، ولا غَروَ أنه بعد أن تمَّ رفع الحظر عن الشاعر وفكَّر المسئولون في إقامة متحفٍ له، لم يجدوا لهذا الغرض أفضل من هذا البيت الذي شهد مولده؛ ومِن ثَم فقد افتُتح المتحف عام ١٩٨٦م، وتمَّ تأثيثه — بقدر الإمكان — على النحو الذي كان عليه إبَّان إقامة الأسرة فيه، ويضمُّ مُتعلَّقات الشاعر بما فيها مهده وصوره ومخطوطاته ونُسَخٌ من كتبه وما كُتب عنه، ولهذا فإن زيارة المتحف هي أول شيءٍ في الرحلات التي تُنظِّمها شركات السياحة للمهتمين بلوركا وفنِّه، ومن المُهِم أيضًا أن نعلم أن اسم الشارع الذي يقع فيه المتحف قد تغيَّر ليصبح شارع الشاعر غرسيه لوركا.
كان والد الشاعر فديريكو رودريجث، من كبار المزارعين وأصحاب الأراضي في المنطقة، أما والدته «فسنته لوركا» فكانت تعمل مدرِّسة بالقرية قبل زواجها، وأنجبا ولدين: فديريكو وفرانسسكو، وبنتين: كونشا وإيزابل، وقد انتقلَت الأسرة بعد ذلك إلى قرية مجاورة هي بلد روبيو — أو «بلد الربى» — حيث كان الأب يمتلك ضَيعة هناك، وقد شهدَت تلك القرية مسارح الصبا المبكِّر للشاعر، وتعرَّف فيها على كثيرٍ من القصص التي حدثَت لأُسرٍ في القرية، والتي ألهمَته بعد ذلك حبكة مسرحيتَيه الشهيرتين «يرما» و«بيت برناردا ألبا»، كما استلهم أحداث الزِّفاف الدامي من واقعة أخرى حقيقية في إحدى القرى المجاورة.
ثم تنتقل زيارة لوركا الأندلسية إلى مدينة غِرناطة مع انتقال الأسرة إليها عام ١٩٠٨م بحثًا عن المدارس المناسبة لتعليم الأولاد والبنات، ويلتحق فديريكو بمدرسة القلب المقدَّس، التي بقيَ فيها حتى حصوله على البكالوريا، واستأجرت الأسرة شقَّة مناسبة في وسَط المدينة، ولكن الأب يبتاع ضَيعة صغيرة خارج غرناطة لتمضية فصل الصيف والإجازات بها، وأسماها «بستان سان فنسنت»، ووجد لوركا في غرناطة متنفَّسًا أكبر لحياته الشعورية والفنية؛ إذ التقى فيها وجهًا لوجهٍ بآثار الحضارة العربية والإسلامية الباهرة، متمثِّلة في قصر الحمراء بكلِّ أُبَّهته وروعته، ورياض «جنة العريف» الملحقة به، مما أشعل خيال الشاعر وجعله يقارن بين تلك العظمة الحضارية ﻟ «مملكة غرناطة» وبين واقع المدينة والأندلس عامة، ذلك الذي كان متدهورًا في ذلك الحين بالنسبة إلى بقية المُقاطَعات الإسبانية. كذلك احتكَّ الشاعر الصبيُّ بعالم الغَجَر، وكثيرًا ما كان يذهب إلى هناك مع أصدقائه؛ للتعرُّف على حياتهم وأغانيهم وأقاصيصهم، التي انعكست بعد ذلك في كثيرٍ من قصائده، لا سيَّما ديوانَيه «حكايا الغجر» و«الغناء العميق». كذلك حملته قدماه إلى التجوُّل في حيِّ «البيازين» العربيِّ الأصل، الذي احتفظ باسمه منذ أيام بني الأحمر، والذي لا يزال يُطالِع زائريه إلى اليوم بلافتاتٍ تقول بالعربية: «الحي العربي يُرحِّب بكم».
ويبقى لوركا في غرناطة حتى عام ١٩١٩م، وقد حفلَت تلك الفترة بنشاطه الفني والأدبي المبكِّر، حيث كان دائم التردُّد على المركز الفني في غرناطة، كما كانت له ندوته الثقافية في ركنٍ من أركان مقهى «ألاميدا» هناك، وإلى تلك الفترة ترجع صداقته للموسيقار الإسباني العالمي مانويل دي فايا، وللأستاذ الجامعي فرناندو دي لوس ريوس الذي سيمدُّ له يد العون دائمًا بعد ذلك. وبالإضافة إلى بَدء العديد من قصائده المشهورة، شهدَت تلك الفترة صدور كتابه الأول بعنوان «انطباعات وصور». وبعد أن حصل على البكالوريا عام ١٩١٥م، التحق بكلية الحقوق جامعة غرناطة استجابة لرغبة والده، ولكنه درس أيضًا في كلية الآداب التي كان يهفو إليها، ومن الغريب أنه تخرَّج في كلية الحقوق، وإن يكن بعد سنواتٍ كثيرة، ولم يعمل بشهادتها قط، ولكنه لم يتخرَّج أبدًا من كلية الآداب!
وتضمُّ الرحلة السياحية المُنظَّمة التعرُّفَ على كلِّ هذه المغاني الغرناطية المرتبطة باسم لوركا، وزيارة بستان سان فنسنت الذي تمَّ تزويده هو الآخر ببعض مُتعلَّقات الشاعر، وقد حَوَّلت بلدية غرناطة المكان إلى مزارٍ سياحيٍّ يُسمَّى «متنزه غرسيه لوركا»، وشرعَت في إقامة ما سيصبح أكبر حديقة ورود في أوروبا في تلك البقعة.
وفي عام ١٩١٩م يشعر لوركا أن جوَّ غرناطة يضيق عن تحقيق آماله وطموحاته الفنية، فينجح في إقناع والديه بالسماح له بالانتقال إلى العاصمة مدريد، على وعدٍ بالحضور إلى غرناطة كلَّما استطاع ذلك، لا سيَّما طوال أشهر الصيف، وهو وعدٌ وفَّى به لوركا على الدوام، حتى زيارة صيف ١٩٣٦م التي كلَّفته حياته ذاتها.
وفي مدريد، تتفتَّح أزهار لوركا الفنية على أجمل وجه، ويبلغ فيها ما كان يحلم به من شهرة ومجد، وأقام الشاعر عشر سنواتٍ في المدينة الجامعية بمدريد، وكانت مركزًا ثقافيًّا هامًّا يجتمع فيه صفوة الأدباء والفنانين، حتى إنها أصبحَت تُعرف باسم «أكسفورد الإسبانية» حيث تعرَّف هناك عليهم، وارتبط مع بعضهم بصداقاتٍ وطيدة مثل سلفادور دالي ولويس بونيويل ورافاييل ألبرتي وغيرهم.
ويتردَّد لوركا على متاحف المدينة المشهورة وعلى رأسها «البرادو» صِنو اللوفر الفرنسي في العراقة، وعلى مركز مدريد الثقافي «الأتينيو» حيث يلتقي بكبار مفكِّري وأدباء عصره ومنهم: أونامونو، أورتيجيا إي جاسيت، منندث بيدال، أنطونيو ماتشادو، خوان رامون خيمينيث. كما تشهده عضوًا في اللقاءات الأدبية التي تُعقد في مقاهي العاصمة البارزة، ومنها مقهى «خيخون» الذي لا يزال قائمًا حتى الآن في قلب مدريد، والذي رأينا فيه في أوائل السبعينيات، تلك اللقاءات الأدبية التي كان نجمها آنذاك «كاميلو خوسيه ثيلا» الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٩م.
وقد قضى لوركا زُهاءَ عشر سنواتٍ في المدينة الجامعية، ثم انتقل إلى شقة واسعة في شارع القلعة الرئيسي في مدريد، وتوالى إنتاج لوركا الأدبي والفني منذ عام ١٩٢٠م من مسرحياتٍ ودواوين شعرٍ ومعارض رسم؛ فعرض له مسرح إنسلافا «سحر الفراشة اللعين» التي لم تنجح لغرابتها على الجمهور الإسباني آنذاك، ثم صدر له ديوانَا «كتاب أشعار» و«حكايات الغجر»، فلقيا نجاحًا كبيرًا خاصَّة الديوان الغجري الذي ذاعت قصائده على كل لسانٍ وتُرجمت إلى عديد اللغات.
وفي عام ١٩٢٩م يمرُّ الشاعر بأزمة نفسية طاحنة، لا يجد مخرجًا منها إلا في قبول منحة للسفر إلى نيويورك لدراسة اللغة الإنجليزية لمدة سنة، وتُمثِّل نيويورك لمحبِّي لوركا العالمَ الثاني الذي يتلمَّسون فيه آثارَه وخطاه، بما تُمثِّله من نقيض تام للعالم الأندلسي الذي عاش فيه قبل ذلك، ويقيم لوركا في قاعة «جون جاي» بجامعة كولومبيا بنيويورك، وبدلًا من حضور الدروس بانتظامٍ والتوفُّر على دراسة اللغة، نجده يمضي جُلَّ وقته مع المثقفين والأدباء الإسبان المقيمين في نيويورك مثل: «داماسو ألونصو» و«آنخل دل ريو»، والشاعر «ليون فيليبي» الذي قرأ معه أشعار والت ويتمان وتأثَّر بها، ونراه يطوف مع رفاقه في أرجاء المدينة الهائلة التي أحدثت في نفسه صدمة كبيرة نظرًا لسيطرة المادة والمال على كل مناحي الحياة فيها.
وقد تبدَّى أثر الزيارة الأمريكية في قصائد ديوانه «شاعرٌ في نيويورك»، الذي لم يُنشر إلا بعد وفاة لوركا، ونرى في هذه القصائد صورًا شعرية بالغة الغرابة، وهي تعبيرٌ عن عجز الشاعر عن فهم تلك الحضارة المختلفة تمامًا عن حياته في إسبانيا، وقد ظهرَت في قصائد الديوان الكثيرُ من معالم نيويورك التي تركَت في نفس لوركا أكبر الأثر: ناطحات السحاب المتطاولة، خاصَّة مبنى «كرايزلر»، وملاهي وشاطئ «كوني أيلاند»، وحيُّ المال في وول ستريت، ونهر الهدسون، وجسر بروكلين؛ بَيد أن حي الزنوج في هارلم كان هو الواحة التي استراح إليها في تلك الفترة؛ فقد شعر تجاه الزنوج المطحونين بنفس الودِّ والقرب الذي شعر بهما تجاه الغجر وتجاه الناس البسطاء في حي البيازين في موطنه، وكتَب عنهم بعض قصائد الديوان، وأشهرها «أنشودةٌ إلى ملك هارلم».
وبعد زيارة إلى كوبا، يعود لوركا إلى إسبانيا وقد تجدَّد نشاطه وعادت إليه حيويته. وتتوالى الأحداث السياسية في بلاده، فيتنازل الملك عن العرش وتُعلَن الجمهورية في ١٤ أبريل ١٩٣١م، وينفِّد لوركا مشروعه بإقامة المسرح الشعبي المتنقل «لابارَّاكا» ليطوف به في القرى والنجوع مقدِّمًا التراث الإسباني لجموع الشعب، وهو يوالي في الوقت نفسه نشر قصائده الجديدة في كبريات المجلات الأدبية في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وينشر ديوان «الغناء العميق» الذي وضعه من قبل، و«مرثية مصارع الثيران» الشهيرة، ويعمل في قصائد ديوان «شاعر في نيويورك»، وديوان «التماريت»، اللذين يصدران بعد موته.
كما تشهد هذه السنوات تركيز لوركا جهده في تأليف الأعمال المسرحية، ومنها مسرحيات «الإسكافية العجيبة» و«إذَن فلتمرَّ خمس سنوات» و«الآنسة روزيتا العانس»، ولكن قمة النضج الدرامي والغنائي المسرحي عنده تتمثل في الثلاثية الأندلسية التي تشتمل على مسرحيات «الزفاف الدامي»، و«يرما» و«بيت برناردا ألبا».
وتتفجَّر الأزمة السياسية بين اليمين واليسار في إسبانيا إلى حدٍّ يُفضي إلى وقوع تمرُّد ١٨ يوليو ١٩٣٦م الذي قام به العسكريون الملكيون، مما أدَّى إلى اندلاع الحرب الأهلية الشرسة التي عصفَت بالبلاد ثلاثة أعوامٍ طوال.
وكان لوركا قد توجَّه كعادته إلى بستان سان فنسنت بغِرناطة لقضاء الصيف مع أسرته، ولكن في ظهيرة يوم ٢٠ يوليو، تستولي العناصر الموالية للملكيين على غرناطة وتسيطر على الموقف فيها، وتقوم من فورها بتصفية العناصر المُناوِئة وعلى رأسها عمدة المدينة، وهو زوج أخت لوركا، وفي ظلِّ هذه الظروف، ترى الأسرة أن يقيم لوركا لدى صديقه الشاعر لويس روسالس، الذي كانت أسرته من قادة الفالانخ الملكيين، ولكن يد الغدر والحقد تطال الشاعر حتى في مأمنه، فيُلقَى القبض عليه في ١٦ أغسطس، ويُساق بعدها إلى قرية فيزنار لِيُعدم ليلة ١٩ أغسطس ١٩٣٦م في منطقة تحمل اسمًا عربيًّا هو «عين الدمعة»؛ ليسقط ضحية الفوضى التي سادت في تلك الأيام العصيبة، وللإشاعات التي ربطَت بينه وبين اتجاهاتٍ سياسية لم يكن له فيها ناقةٌ ولا جمل.
وتمضي الزيارة الغرناطية إلى نهايتها في تلك المنطقة التي أعادت البلدية تخطيطها وزرعتها بالأشجار المُحبَّبة إلى لوركا: أشجار الحور وأشجار الزيتون، فتحوَّلت إلى بستانٍ ضخم، ووضعت هناك لوحة تذكارية باسم لوركا.
وهكذا، في نهاية الأمر، يردُّ التاريخ الاعتبارَ للشاعر الإسباني العظيم.