في أحضان عروس الشعر
منذ الصبا الباكر، تعلمتُ مع عددٍ من أصدقائي الولع بشعر أحمد شوقي، الذي عرفناه أول ما عرفناه من خلال الأغاني العذبة لعبد الوهاب وأم كلثوم، فكنَّا نَهِيم بأغانٍ مثل: نهج البردة، والنيل، ويا جارة الوادي، ودمشق، ومنها تعَلمنا الرجوع إلى قصائد شوقي الأخرى والتغنِّي بها. وقد جذبنا إلى شعره ما وجدناه من طلاوة وإيقاعٍ موسيقيٍّ في لغته الشعرية، تجعله سهلًا ليِّنًا في أفهامنا، مقارنة بالنصوص الصعبة التي كنا نجدها في القصائد المقرَّرة علينا من الشعر القديم. وكنا نعجب من الحملة الضارية للعقاد — وكنَّا نُجِلُّه ونُقدِّره — على شوقي وشعره، ولا نرى بأسًا في الجمع بين إعجابنا بهما مع ما بينهما من اختلافٍ ومعارضة. وقد صحِبَني شوقي بعد ذلك على الدوام، فقد درسناه على يد الدكتور شوقي ضيف في الجامعة، وحرصت على اصطحاب ديوانه متعدِّد الأجزاء أينما ذهبت، إلى إسبانيا حيث أقام هو سنوات المنفى، ثم إلى أرض العالم الجديد.
وكان لافتتاح متحف أحمد شوقي فرحٌ خاصٌّ في نفوسنا التي تَتُوق لرؤية هذا النوع من المتاحف لكل الشخصيات الأدبية والفنية البارزة في بلادنا. وكانت زيارته التي قمت بها في الصيف الماضي من أبرز العلامات في تلك الإجازة الساحرة، وهذه الفيلا الأنيقة تُضارع في تصميمها وتجهيزها — كمتحف وبيت أمير الشعراء — المتاحف المماثلة الموجودة في أوروبا وأمريكا، عدا كثرة الإقبال على زيارتها، إذ وجدتُ أنني وصديقي علي كمال زغلول — العائد من طوكيو — أول زائرين لها منذ عدة أيام، من واقع السِّجل المُعَد لتدوين أسماء الزوَّار.
وقد كانت كَرمَة ابن هانئ هي أول دارٍ للشاعر في حي المطرية، وقد اختاره حتى يكون قريبًا من سراي الخديوي الذي ارتبط به في القسم الأول من حياته، ولكنه بعد سنوات المنفى وعودته إلى القاهرة عام ١٩١٩م اختار حيَّ الجيزة مقامًا لبيته الذي أطلق عليه نفس الاسم الذي هام به. وكلمة كرمة هي الدار التي تحيط بها حديقة، وبالأخصِّ تعريشات العنب وهو الكرم، وقد انتقلت الكلمة إلى اللغة الإسبانية وتُستخدم حتى الآن في الكلمة الشهيرة «كارمن»، التي هي من أكثر أسماء الأعلام شيوعًا في الإسبانية، ومعناها بالضبط هو معنى الكرمة. وفي الأندلس الحالية الكثير من الكرمات، وهي بالمعنى الحديث الفيلات، ومنها في غرناطة كرمة الموسيقار العالمي دي فايا التي تحوَّلت هي الأخرى إلى متحفٍ له.
دخلنا ذلك الصباح إلى كرمة ابن هانئ، فاستقبلنا في الحديقة تمثالٌ ضخمٌ رائعٌ لصاحب الدار، وهو من أعمال المثَّال الراحل جمال السجيني، ونُقل إليها مع الاحتفال بمرور خمسين عامًا على وفاة شوقي. وهناك تمثالٌ آخر للشاعر في الطابق الأرضي للدار. وبَهو المتحف يُبهر الرائي بفخامته التقليدية وطرازه الذي يجمع بين الطابع الفرنسي الكلاسيكي واللمسات الشرقية الأندلسية. وتبدأ زيارة المتحف من الدور الثاني حيث يرى الزائر حجرة نوم الشاعر، وهي أنيقةٌ صغيرة، وبها سريرٌ من النِّحاس الأصفر وإلى جواره مقعدٌ أسيوطيٌّ جميل، وفيها مكتبٌ صغيرٌ وبعض الكتب. وتشرح مضيفتنا في الزيارة أن الشاعر كان يقوم بمعظم كتاباته في هذه الحجرة وليس في حجرة المكتب، ولذلك فإننا نجد فيها الكتب التي كان دائم الاطِّلاع فيها، ومعظمها المراجع اللغوية، مثل: «فقه اللغة وسر العربية» للثعالبي، وكتاب «الألفاظ الكتابية»، وغيرهما من كتب اللغة. وللحجرة شرفةٌ واسعةٌ تُطِلُّ على الحديقة الغنَّاء، ويبين وراءها النهر الخالد. وشرحت مضيفتنا أنه حين ابتَنى الشاعر هذه الفيلا لم تكن المنطقة مأهولة بالشكل الذي هي عليه الآن، وكانت الكرمة تُطِلُّ على النيل مباشرة قبل إنشاء الكورنيش، وكان الشاعر يرى الأهرامات من بعيدٍ من شرفته هذه، فلم يكن بينه وبينها المباني الكثيفة العالية القائمة الآن والتي تحيط بالكرمة من كل جانب.
ثم دَلفنا بعد ذلك إلى غرفة المكتب، يتوسَّطها مكتبٌ رائعٌ من طراز عصر الإمبراطورية الفرنسي، وأمامه مقعدٌ كبير، وعلى المكتب بعض صور الشاعر. وفي هذه الغرفة توجد المكتبة التي تضمُّ العديد من الكتب المُجلدة تجليدًا ثمينًا، والتي كان شوقي يقرأها ويرجع إليها، خاصَّة فيما يتعلق بدقائق اللغة والمفردات، وكذلك موضوعات مسرحياته الشعرية. ومن أبرز الكتب التي كان الشاعر يقتنيها مجلدات «نَفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» للمقري، ورسالة الغفران للمَعَرِّي، والبيان والتبيين للجاحظ. وكان القاموس الذي يرجع إليه هو لسان العرب في ١٨ جزءًا، بالإضافة إلى معجم البستاني، وكتاب أقرب الموارد في فصحى العربية.
أما دواوين الشعر التي كان يقتنيها، فهي — إلى جانب ديوان المتنبِّي الذي كان يُكِنُّ له إعزازًا خاصًّا — دواوين البارودي وابن الرومي والبهاء زهير والشريف الرَّضِي والبُحْتُرِي، وديوان الحماسة لأبي تمَّام. أما كتاب الأغاني للأصفهاني فقد كان شوفي — كما يذكر ابنه الأستاذ حسين — يُدمن قراءته. ومعروضٌ أيضًا في الدار مخطوطاتٌ ثمينةٌ بقلم الشاعر عليها تعديلاته الأخيرة على قصائده قبل نشرها.
وخلال تجوالنا بين الحجرات التي قضى فيها الشاعر أيامه وأنتج في أثنائها درره الشعرية، كانت حياته تجول في أذهاننا مع الخطرات التي تُقدِّمها لنا مضيفتنا الكريمة عنها. فقد وُلد أحمد شوقي عام ١٨٦٩م من أسرة ذات أصولٍ عربية وكردية وتركية ويونانية، ونشأ قريبًا من بلاط الخديوي إسماعيل، ذلك الذي كان «آخر من ينثر الذهب في مصر.» وتنقَّل الشاعر في طفولته وصباه في مراحل التعليم المختلفة، من الكتَّاب إلى مدرسة المبتديان فالمدرسة التجهيزية. وأتاح له يُسر أسرته المادي الالتحاقَ بمدرسة الحقوق عام ١٨٨٥م، وبعد عامين فيها ينتظم في قسم الترجمة الذي أُنشئ حديثًا بها، وبعد سنتين أخريين فيه يتخرَّج حاملًا إجازة الحقوق والترجمة، ثم أوفده الخديوي توفيق إلى فرنسا؛ للاستزادة من دراسة القانون، وأوصاه بدراسة الآداب والفنون أيضًا، والتعرُّف على الثقافة والآداب الأوروبية بوجهٍ عام. وقد قضى الشاعر في تلك البعثة الخارجية ثلاثة أعوامٍ زار فيها العديد من المدن الفرنسية، بالإضافة إلى إنجلترا والجزائر التي قصدها للاستشفاء من مرضٍ شديدٍ ألمَّ به. وقد تأثَّر شوقي في تلك الفترة بما قرأ وشاهد في فرنسا، خاصَّة وأن إقامته فيها واكبَت عصر «الحقبة الجميلة» في الفن والأدب هناك في أواخر القرن التاسع عشر ومشارف القرن العشرين. ولا شك أن شوقي قد استلهم الكثير من تجديداته الشعرية في تلك الفترة، وأهمها وضع مسرحيات شعرية لموضوعات تاريخية، مثل تلك التي قرأها لراسين وكورني وموليير.
وقد بدأ كتابة مسرحية عن علي بك الكبير وهو في فرنسا، إلا إن عدم التشجيع الذي لاقته منعه من إكمالها في ذلك الوقت، وقرأ شوقي أيضا لفيكتور هوجو ولامارتين ودي موسيه ولافونتين وتأثَّر بهم في شعره.
وقد تحدَّث كثيرٌ من النُّقاد — خاصَّة الدكتور هيكل — عن الانفصام الذي عانى منه شعر شوقي، ما بين مدائحه للخديوي وعِلية القوم في القسم الأول من حياته، وفترة الانعتاق من أَسْر السلطة ومسايرة الأحداث الوطنية والشعبية. بَيد أن الدكتور شوقي ضيف قد ألقى الضوء على هذه المشكلة في كتابه «شوقي شاعر العصر الحديث»، حين نفى وجود مثل تلك الازدواجية في شخصية أمير الشعراء وإنتاجه، وأرجع وجود الاختلاف في توجُّهات شعره إلى الصفات الخاصَّة التي يتميَّز بها أهل الفن والأدب بصفة عامة، الذين تجتمع فيهم المتناقضات أحيانًا من اندفاعٍ وزهد، وجُموحٍ وتردُّد، ونزوعٍ إلى النقد والهجاء تارة وإلى المديح والثناء تارة أخرى؛ ففي رأي الدكتور ضيف أنه «لا خلاف بين الحياتين أو تخالُف»، وإنما هي في مجموعها خصال شوقي وصفاته. وقد أورد الشاعر نفسه بيانًا عامًّا عن حياته في مُقدِّمة أول طبعة من ديوانه «الشوقيات»، الذي صدر عام ١٨٨٩م، الذي يمكن اعتباره سيرة ذاتية موجزة للشاعر حتى ذلك الوقت، نعرف منها بدايات قوله الشعر، وعلاقاته بحكام مصر في تلك الفترة، وأساتذته الذين تعلَّم منهم وتعلَّموا منه، ولمحة عن حياته في البعثة الخارجية.
ومع عودة الشاعر إلى الوطن، تمَّ تعيينه في قلم الترجمة بقصر الخديوي عباس الثاني، ولم يقتصر نشاط شوقي في تلك الفترة على مدح الخديوي بحكم منصبه وقربه منه، بل تعدَّدت موضوعات قصائده، كقصيدته عن مأساة دنشواي، ورثاء مصطفى كامل، والهلال الأحمر، وحريق ميت غمر، وغير ذلك كثير. ومن أبرز مُنجَزات الشاعر القصيدةُ التي ألقاها في المؤتمر الشرقي الدولي الذي انعقد في جنيف في سبتمبر ١٨٩٤م — وحضره مندوبًا عن الحكومة المصرية — وعنوانها «كبار الحوادث في وادي النيل» ومطلعها المشهور:
وهذه القصيدة في رأيي من عيون شعر شوقي، الذي قام بعد ذلك بتناول موضوعاتها في قصائد ومسرحياتٍ أخرى، ولا أدلَّ على أهمية شوقي في الحياة السياسية ووزنه الثقافي في بلده من أنَّ الإنجليز قد فطِنوا إلى خطورة أثره وقوة شعره إذا هم تركوه في مصر بعد عزل الخديوي عباس الثاني وتولية حسين كامل سلطانًا على البلاد، فقرَّروا نفيَه إلى إسبانيا التي اختارها للأواصر التي تربط تلك البلاد بنفْس كل عربي، وقضى الشاعر زُهاءَ خمس سنواتٍ في المنفى، بين مدينة برشلونة أساسًا ومدن إسبانيا الأخرى بعد انتهاء الحرب، خاصَّة مقاطعات الأندلس التي تركت في نفسه أثرًا عميقًا بآثارها الإسلامية والعربية الزاخرة، واستوحى وهو هناك موضوعاتٍ أندلسية في عددٍ من أشهر وأحلى قصائده، بالإضافة إلى مسرحية «أميرة الأندلس».
ثم يعود شوقي عام ١٩١٩م إلى وطنه، الذي لقيه بعد يأسٍ فكأنه قد لقِيَ به الشبابا، ليجد الأحوال السياسية والاجتماعية وقد تغيَّرت عمَّا كانت عليه، ولم تعد له تلك المكانة الوثيقة لدى الحكام الجدد — وإن ظلَّ على صِلة بهم، ووجد البلاد والشعب في فَورة المطالبة بالاستقلال والحقوق السياسية، وقد شارك شوقي نبضات الشعب وتطلُّعاته بصورة أكبر، وبدأ تلك المشاركة في أول قصيدة ألقاها في القاهرة بعد عودته من المنفى، حيث ضمَّنها سطورًا عن المصاعب التي يجدها الناس في الحصول على المواد الغذائية في ذلك الوقت. وعمدَ — وقد وهَنَت علاقته بالقصر — إلى مغادرة حي المطرية والانتقال إلى الجيزة، حيث ابتَنى كرمة ابن هانئ مرة أخرى على الضفَّة الغربية من النيل، وأعدَّ دارًا أخرى له بالإسكندرية سمَّاها «دُرَّة الغوَّاص»، استلهامًا للبحر الأبيض المتوسط الذي كان يَهيم به وكتب عنه في شعره. وذاعت شهرة شوقي في طول البلاد العربية وعرضها، حتى إذا أصدر طبعة جديدة من الشوقيات عام ١٩٢٧م، أُقيمت له الاحتفالات في كل مكان، وتوافدَ المندوبون من كل حدبٍ وصوبٍ لمبايعته أميرًا للشعراء، الأمر الذي تركَّز في ذلك البيت الشهير الذي وجَّهه له حافظ إبراهيم:
وقد أثرى الشاعر التراثَ العربي الحديث بعددٍ من المسرحيات الشعرية استمدَّها من التراث العربي والمصري، بالإضافة إلى موضوعين حديثين هما «البخيلة» و«الست هدى».
وعاش أحمد شوقي حياة الفنان الخالصة الهنيَّة، مستجيبًا لربة الشعر حينما وكيفما وحيثما دعته، متنقِّلًا بين الأماكن والمدن التي أحبها، في صحبة أصدقائه وخِلَّانه، حتى لقِيَ وجه ربِّه الكريم في ١٤ أكتوبر ١٩٣٢م.
وقد صدرت كتبٌ كثيرةٌ عن الشاعر، ومنها ما تعلَّق بحياته ونوادره مثل كتاب «اثنا عشر عامًا في صحبة أمير الشعراء» لأحمد أبو العز سكرتير شوقي، وكتاب «أبي شوقي»؛ ونظرًا لعدم توافر هذين الكتابين في الأسواق، فقد اطَّلعتُ على لمحاتٍ منهما في مقالين للأستاذ رجاء النقاش عن شوقي ضمَّهما كتابه «ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء».
تردَّدت هذه الحياة الثرية في ذهنينا ونحن نهبط مع مضيفتنا إلى الدور الأول من الكرمة، حيث شرحت لنا أن حجراته كانت مُخصَّصة للاستقبال والزيارات التي كان يتلقَّاها الشاعر من أصدقائه ومن كثيرٍ من وجوه المجتمع والساسة المشهورين. وشاهدنا الغرفة التي خصَّصها الشاعر لمحمد عبد الوهاب في هذا الدور الأرضي، وأطلق عليها اسم «عش البلبل». وقد ارتبط عبد الوهاب بأمير الشعراء برباطٍ وثيقٍ من الصداقة والرعاية التي كان الموسيقار يتلقَّاها من الشاعر، حيث كان يصاحبه في حلِّه وترحاله، وجال معه في فرنسا ولبنان. وفي المقابل، نهل محمد عبد الوهاب من شاعريَّة شوفي ومؤلفاته، فأحال بعضها إلى دُرَرٍ غنائية من أروع ما تضمُّه الأغنية العربية. وقد لحَّن الموسيقار من تأليف الشاعر ما مجموعه ٣٢ عملًا، ظهر منها ٢٢ إبَّان حياة شوقي. وقد تنوَّعت تلك الأعمال بين القصائد المأخوذة من مسرحية مجنون ليلى، ويا جارة الوادي، والنيل نجاشي، وبلبل حيران. ومعظم هذه الأغاني موجودٌ ونستمتع به لحسن الحظ، وإن كان البعض الآخر غير متوافرٍ حتى الآن، والأمل معقودٌ على ظهوره في يومٍ من الأيام بعد أن ظهرت في الأعوام الأخيرة أغانٍ لم نكن نسمع بها من قبل، منها «دار البشاير» التي غنَّاها عبد الوهاب في حفل زفاف ابن الشاعر في كرمة ابن هانئ عام ١٩٢٤م. وكانت المفاجأة لنا أن من بين القصائد التي لحَّنها عبد الوهاب للشاعر قصيدته المشهورة عن شكسبير ومطلعها «أعلى الممالكِ ما كرسِيُّه الماءُ»، وهي من الأعمال التي نَتُوق إلى العثور عليها لنرى كيف طوَّعها الموسيقار للغناء بموهبته الفذَّة.
وخرجتُ وصديقي من هذا المتحف الرائع ونحن نتمنَّى دِعاية أكثر له في أوساط الشباب من الطلبة الذين لا بُدَّ وأنهم يدرسون أحمد شوقي في مرحلة من مراحل تعليمهم، وما يمكن للمدارس والكليات من تنظيم زياراتٍ لهم إلى هذا المتحف للاستفادة من المعلومات المُتاحة فيه عن الشاعر وإنتاجه. وحبَّذا أيضًا لو زُوِّدت الكرمة بتسجيلات كاملة للأغاني التي وُضعت من تأليف الشاعر، والكتب التي صدرت عنه، بحيث يتاح للباحثين كلَّ ما يحتاجون معرفته عن أمير الشعراء في عُقر داره.