بيير لوتي صديق مصطفى كامل
وقد بدأ لوتي نشاطه الأدبي في عام ١٨٧٢م بنشر أولى مقالاته عن زيارته لجزر «إيستر»، وقد قام بعد ذلك بزياراتٍ عدة إلى تاهيتي والسنغال والجزائر، وكان دائمًا يئُوب بعد كل رحلة إلى روشفور حيث يستقرُّ مدة في بيت الأسرة هناك.
ثم تقع واحدة من أهم رحلاته، حيث ينتقل مع سفينته إلى ميناء سالونيك في البلقان التابع آنذاك للإمبراطورية العثمانية، ويمكث فيها ثم في الأستانة طول الفترة من أغسطس ١٨٧٦م حتى مارس ١٨٧٧م، وفي سالونيك يقع في غرام سيدة تركية فائقة الجمال تُدعَى آزيادي، التي ألهمَته رواياته المشهورة، ويحتال على لقائها بمساعدة صديقه صامويل في عرض البحر في منتصف الليالي.
وحين يعلم رؤساؤه بمغامراته الليلية تلك، يَصدُر الأمر بنقله إلى الأستانة (القسطنطينية قديمًا)، ويعود إلى إقامته في حاضرة الخلافة العثمانية هُيامُه الفني والأدبي بالشرق الإسلامي الذي كانت تركيا رمزًا له في ذلك الوقت، ويدفعه ذلك الشعور إلى الاختلاط بالسكان بوصفه من الألبان المسلمين وتزيَّا بزِيِّهم، وأقام في حي أيوب الأنصاري الإسلامي القُح، وكان طبيعيًّا أن يقوم بتعلُّم اللغة التركية، التي كانت لا تزال أيامها تُكتب بحروفٍ عربية، وقد شهد لوتي إبَّان إقامته عزل السلطان مراد وتولِّي السلطان عبد الحميد سُدَّة الخلافة العثمانية.
ولم يمضِ وقتٌ طويلٌ منذ انتقال لوتي إلى القسطنطينية، حتى انتقلت إليها آزيادي مع زوجها التركي بعد أن أقنعته بنقل تجارته إلى العاصمة، وتستمرُّ لقاءات العاشقين حتى صدور الأوامر بعودة البحرية الفرنسية إلى بلادها، ويفكر لوتي جِديًّا في الاستقالة والبقاء في البلاد التي أحبَّها وبالقرب من آزيادي، إلا إنه يضطر إلى التخلِّي عن هذه الفكرة إشفاقًا على والدته التي كان يُكِنُّ لها حبًّا عظيمًا.
وكان وداع آزيادي للوتي مأساويًّا، وانعكس بعد ذلك في الرواية التي وصف فيها الكاتب حياته في تركيا وقصة غرامه، إذ إنَّها تنتهي بموت العاشقَين على نحوٍ فاجع.
وبعد عودة لوتي إلى روشفور تنشُب الحرب بين تركيا وروسيا، ويتناهى إلى سمعه خبر موت زوج آزيادي التركي، ولكن جميع محاولاته من أجل إحضارها إلى فرنسا كي يتزوجا ويستقرَّا معًا تبوء بالفشل، ومن هنا نشأَت الأسطورة التي ربطَت بين لوتي وآزيادي التي أصبحَت رمزًا لهُيامه بالشرق، وللحب الضائع الذي سيذهب بعد ذلك بحثًا عن أطلاله في تركيا، وسيُخلِّده، إلى جانب الرواية الشهيرة، في الآثار التي سيجلبها من هناك إلى بيته في روشفور، ويرجع إلى هذا الوقت إقامته للصالون التركي في الطابق الأول من منزله، والذي يرى فيه الزائر الطنافس والآثار التركية إلى جوار لوحة لآزيادي رسمتها أخت لوتي بناءً على وصفه لها.
وقد صدرت رواية آزيادي عام ١٨٧٩م بعد مفاوضاتٍ كثيرة مع الناشرين، وبدون اسم المؤلف، ولكنها لم تلقَ نجاحًا يُذكر نظرًا لنهايتها الفاجعة، ولكن ذلك لم يُثنِ الناشر الفرنسي عن طلب رواية جديدة من لوتي، مما شجع الأخير على وضع رواية أخرى مستوحاة من فترة إقامته في جُزُر تاهيتي، ويعرض الناشر الرواية الجديدة على جولييت آدم، وكانت هذه السيدة راعية للمفكرين والأدباء، وسيكون لها أثرٌ بالغٌ في حياة ونشاط كلٍّ من بيير لوتي ومصطفى كامل فيما بعد، وكانت تُصدر مجلة أدبية هي «لانوفيل ريفيو» (هي نفس المجلة التي نشرت فيها مقالاتٍ لمصطفى كامل)، فنشرت فيها على حلقاتٍ رواية لوتي الجديدة، وأطلقت عليها عنوان «زواج لوتي»، وقد لاقت الرواية نجاحًا ورَواجًا ساحقَين، وصدرت في كتابٍ عام ١٨٨٠م، وقد شجَّع هذا النجاح مؤلفنا على إصدار رواية ثالثة هي «قصة فارس» عام ١٨٨١م، وهي أول كتابٍ يصدُر باسمه الأدبي الذي اختاره لنفسه: بيير لوتي، وقد دفع نجاح الروايتين إلى اهتمام القراء بالرواية الأولى آزيادي، فأُعيد طبعها عدة مرات، وذاعت شهرة لوتي في فرنسا كلها، وأجمع مشاهير الأدباء على الإعجاب به: إسكندر دوماس الابن، أناتول فرانس، إرنست رينان، كما كان مارسيل بروست من قرائه الحميمين.
ويرحل لوتي مع سفينته إلى الجزائر، وتلهمه الزيارة قصتين: «سلمية» و«سيدات القصبة الثلاث»، كما أقام بعدها صالونًا عربيًّا في بيته بروشفور، ولمَّا ضاق المنزل عن احتواء ما يجلبه الكاتب من أسفاره، عمد إلى شراء المنزل المجاور وضمِّه إلى منزله، وهكذا فبعد سفره إلى الشرق الأقصى، أسَّس معبدًا يابانيًّا (باجودا) في إحدى القاعات، وإن لم يبقَ له أثرٌ في المتحف الحالي، وخلال السنوات التالية يقيم لوتي في المنزل «الصالون الأحمر» و«الصالة القوطية» اللذَين يمكن زيارتهما الآن، كما يفتتِح صالة للآثار القديمة يسمِّيها رمزيًّا باسم صالة الموميات، ولا يضمُّها المتحف الحالي.
ويُلبِّي لوتي الرغبة الأساسية الثانية لوالدته، فيتزوَّج في أكتوبر ١٨٨٦م من «بلانش فرييه»، ويسافران إلى إسبانيا لقضاء شهر العسل في مدريد ثم في ربوع الأندلس وقصر الحمراء بغرناطة الذي ترك في نفسه أثرًا بالغًا، انعكس بعد ذلك في طريقة تأسيسه للقاعات العربية والإسلامية في منزله.
ويزور لوتي بعد ذلك إستانبول مرتين، كانت ثانيَتهما بدعوة شخصية من السلطان عبد الحميد الذي اجتمع به في قصر يلدز الشهير، وقيل إن سبب الدعوة حثُّ لوتي على الكتابة عن تركيا، وهو ما فعله في مجموعته المسمَّاة «القسطنطينية ١٩٠٠م».
ويستغلُّ لوتي زيارته في حِمَى السلطان كي يحمل معه شاهد قبر حبيبته آزيادي، بعد أن اقتفى آثارها وعرَف بوفاتها، ولا يعلم أحدٌ على وجه اليقين ما إذا كان الشاهد الذي أتى به لوتي من تركيا والموجود الآن في متحفه بروشفور هو الشاهد الأصلي أم هو نسخةٌ منه طلب لوتي إعدادها على سبيل الذكرى، وقد وضع لوتي هذا الشاهد في قلب الجامع الذي شيَّده في صالة ضخمة من المنزل الثاني الذي وصله بمنزله الأصلي، وقد حصل على مكوِّنات هذا «الجامع» لدى زيارة له إلى دمشق، من أنقاض جامعٍ أثريٍّ هناك تمكَّن من شرائها ونقلها بحرًا إلى روشفور، ويشكِّل هذا الجامع «اللوتي» أهمَّ الصالات التي يضمُّها المُتحف حاليًّا.
وينفِّذ لوتي رغبة ثالثة لوالدته عام ١٨٩٤م، قبل عامين من وفاتها وهي قيامه بزيارة الأماكن المقدَّسة في فلسطين، وقد وصل إلى هناك مرورًا بمصر وبيروت ودمشق، ونتج عن هذه الرحلة ثلاثة كتبٍ هامَّة هي: «الصحراء» و«القدس» و«الجليل».
بَيد أن الزيارة الرئيسية له إلى مصر كانت في الفترة من ٢٤ يناير حتى ٣ مايو من عام ١٩٠٧م، حين زار الديار المصرية بدعوة من الزعيم الوطني مصطفى كامل، وكان لوتي قد تعرَّف على مصطفى كامل في فرنسا عن طريق جوليت آدم التي لعِبَت دورًا كبيرًا في دعم القضية المصرية في فرنسا ضد الاحتلال البريطاني، وهكذا يحصل لوتي على «إجازة بدون مرتب» لمدة ستة أشهرٍ يسافر فيها إلى مصر ويزور معالمها زيارة تفصيلية، ويطَّلع على جهاد صديقه «مصطفى» ضدَّ الإنجليز، الذين كان لوتي يُكِنُّ لهم كراهية عميقة، وقد كتب خلال الزيارة رسائل من مصر كانت تُنشر في النسخة الفرنسية من جريدة «اللواء» التي يُصدرها مصطفى كامل، في نفس الوقت الذي تُنشر في الفيجارو الفرنسية، وكان نتاج هذه الزيارة كتاب لوتي «موت أنس الوجود» الذي يقصُّ بالتفصيل خطواته في وادي النيل، وقد رتَّب له صديقه المصري العظيم زيارة شيخ الأزهر والخديوي، وكل معالم القاهرة، بما في ذلك زيارة خاصة له وحده إلى المتحف المصري على ضوء الشموع برفقة مديره الفرنسي الشهير جاستون ماسبيرو، ثم تبدأ رحلته إلى الصعيد بالذهاب إلى المنيا بصحبة مصطفى كامل، ثم يستقلُّ وحدَه «دهبية» فاخرة خاصة بالخديوي تهبِط به حتى أسوان، وتستغرق إقامته بالدهبية ستة أسابيع، يطوف خلالها بمدن الصعيد وقُراها، يستمتع فيها بالنيل وبالآثار الفرعونية العظيمة، ولا يُفسد عليه تلك المتعة إلا «أبناء وبنات كوك» كما كان يُسمَّى السياح الذين تجلبهم شركة توماس كوك إلى كل الأنحاء! ويلحق به مصطفى كامل في الأقصر، ويزور معه معبد الكرنك، أما لوتي فيعود من أسوان إلى القاهرة في الدهبية ذاتها، ويمكث فيها حتى سفره إلى الإسكندرية ليستقلَّ السفينة إلى مارسيليا.
وقد نشرَت اللواء والفيجارو أول مقالتين عن الزيارة بينما كان لوتي لا يزال في مصر، ثم توالت المقالات في الصحيفتين حتى بلغت عشرين مقالة، وبعد ذلك، صدرت المقالات في صورتها النهائية في كتابٍ بعنوان «موت أنس الوجود»، وأنس الوجود هو معبد فيلة ذلك «المنتحي بأسوان دارًا»، الذي خلَّف انطباعًا عميقًا في نفس لوتي لدى زيارته له في مكانه الأصلي (قبل نقله إلى مكانه الحالي عند بناء السد العالي)، وقد لاقى الكتاب نجاحًا باهرًا جعله أكثر كتب لوتي غير القصصية مبيعًا، وتلقَّاه النُّقاد لقاءً حسنًا، وإن انتقدوا فيه النبرة العالية لكراهية الإنجليز التي تسوده، وقد أرجع البعض تلك النبرة الحادَّة إلى اقتناع لوتي بآراء مصطفى كامل وبعدالة قضيته وكفاح الشعب المصري لإجلاء الإنجليز عن مصر.
وقد وقع نبأ وفاة مصطفى كامل على لوتي وَقع الصاعقة، مما جعله يُهدي كتابه إليه، بهذه العبارة البليغة: «إلى ذكرى صديقي العزيز والنبيل مصطفى كامل باشا، الذي وافته المنيَّة في ١٠ فبراير ١٩٠٨م إبَّان جهاده العظيم في إعلاء صرح الوطن والإسلام في مصر.»
ويضمُّ الكتاب خواطر متنوعة وحقائق تاريخية عن القاهرة في الوقت الذي زارها فيه لوتي، مع التركيز على المساجد الأثرية وضواحي العاصمة، وعن الأزهر الشريف «مركز الإسلام» وعلومه ودراساته، وعن قدماء المصريين والنيل، ثم عن مدن الصعيد الثرية وخاصَّة الأقصر وجزيرة فيلة، وتجدُر الإشارة إلى أنه كان من الصعب العثور على هذا الكتاب ولو بلُغتِه الأصلية حتى عام ١٩٩٠م، حين أعيد نشره مع مقدِّمة عن احتفاء الصحافة المصرية بزيارة لوتي، ومع مقتطفاتٍ من يوميات لوتي غير المنشورة عن زيارته المصرية، ولا شك أن ترجمة هذا الكتاب إلى العربية مهمٌّ للتعريف بجانبٍ من اهتمام لوتي بمصر وبالشرق عمومًا، كما أن وجود ترجمات عربية لأعماله تُوضع نُسَخ منها في متحفه لَهُو خير تحيَّة لهذا المؤلف الفرنسي الذي شغف بالعرب وبالإسلام على نحو ما تُبدي حياته وأعماله على حدٍّ سواء.