الجنة الأرضية
وقد عاش مونيه في جيفرني حتى وفاته، وبعدها سقطت الحدائق فريسةَ الإهمال حتى كادت تندثر آثارها، وفي عام ١٩٦٦م، أهدى ميشيل مونيه، ابن الفنان الكبير، الضَّيعة كلها إلى أكاديمية الفنون الجميلة في فرنسا، بَيد أن عملية إعمار البيت والحدائق على نفس النمط الذي تركه مونيه لم تبدأ إلا عام ١٩٧٧م، وذلك على يد المهندس جيرالد فان كمب، الذي سبق له إعادة الحياة إلى قصر فرساي، وتمَّت عملية جيفرني بالاستعانة بكل من عرف الفنان وعاصر حياته عن قرب، ومع تلقِّي التبرُّعات المالية الكافية لتغطية ذلك المشروع الكبير، والتي جاء معظمها من المليونيرة الأمريكية أتشيسون والاس، التي كانت من عشاق فن مونيه، والتي تم وضع لوحة تُشيد بفضلها على باب المتحف. وافتُتح المتحف وحدائقه لأول مرة في سبتمر ١٩٨٠م، ومنذ هذا التاريخ أصبحت تلك البقعة مزارًا «فنيًّا» لمحبِّي هذا الفنان الشهير الذي تنتشر لوحاته في كل متاحف العالم.
ويستقبل المتحف نصف مليون زائر كلَّ عام على مدار سبعة أشهر في السنة، ويطوف الزوَّار ببيت الفنان بحجراته المتعددة، ويتعرَّفون على أدواته وعاداته في الرسم وفي المأكل والمشرب. والمنزل برتقالي اللون تتسلقه الورود الكثيفة من كل لون ونوع، وهناك بعد ذلك الأتيليه الذي كان الفنان يعمل فيه، وهو يضمُّ الآن قسمًا للمبيعات يشمل كل ما يتصل بالفنان من تذكارات ولوحات، ثم يخرج الزائر إلى الحدائق الغنَّاء التي صمَّمها مونيه بنفسه، ومن خلال الممرات الضيقة المغطَّاة بالحصباء، يسير المرء بين مئات من أحواض الزهور المختلفة من ورود وسوسن وزنابق متنوعة وأزهار الخشخاش التي خلَّدها الرسَّام في لوحاته، وتنقسم الحديقة إلى قسمين كبيرين يربط بينهما ممر أرضي يقوم تحت الطريق العام الذي يشقُّ الضَّيعة، كما أن أماكنها المشهورة تُعرف بأسماء معيَّنة؛ فهناك «الركن النورمندي» الذي يخترقه طريق مغطًّى بالأقواس الحديدية التي تغطِّيها الورود من كل جوانبها، ثم هناك «حديقة المياه» التي أنشأها مونيه بتحويل مجرى نهر صغير يمرُّ بالقرية إلى داخل حديقته، مما أثار أيامها خوف السكان من أن تؤدِّي «النباتات الغريبة» التي يزرعها الفنان إلى تسميم مياه الأنهار التي يعتمدون عليها!
وقد استلهم مونيه في إنشاء بحيرته رسوم الحدائق اليابانية التي كانت شائعة بين الفنانين آنذاك، وفي حديقة المياه يوجد الجسر الياباني الشهير تغطِّيه نباتات «الوستريا» المتسلِّقة، وجسورٌ أخرى أصغر منه، وثمَّة أشجار الصفصاف بتعريشاتها الكثيفة في كل مكان، حيث تبدو أشعة الشمس من خلالها كأنها «دنانير تفِرُّ من البنان»، ثم هناك الزنابق التي تُزهر في أركان البحيرة طوال الصيف، والتي رسمها الفنان في لوحاتٍ ضخمة الحجم معظمها الآن في متحف الأورانجيري بباريس، وبعضها في متحف الفن الحديث بنيويورك.
وإنَّ ما ينتاب الزائر الذي يتجوَّل في أنحاء ذلك الفردوس الأرضي، هو التفكير فيما يرى من بديع صنع الله الذي يتجلَّى في ألوان الأزاهير والأشجار والمياه والطيور، ثم فيما خَطَّته ريشة الفنان في لوحاته التي تصوِّر هذه الأشياء نفسها، فيجد بالطبع أنه لا مجال للمقارنة؛ فالطبيعة الإلهية الحية لا يُضارعها أيُّ شيءٍ من صنع الإنسان المخلوق. ويقفز إلى ذهننا نحن أبناء لغة الضاد ما ترنَّم به أحمد شوقي مبيِّنًا نفس هذا المعنى حين قال متحدِّثًا عن الربيع:
وقد وُلد كلود مونيه في باريس عام ١٨٤٠م، وانتقل مع أسرته بعد ذلك إلى مدينة الهاسر الشمالية الساحلية بمقاطعة نورماندى، حيث قضى فترة صباه؛ وقد بدا ميله إلى الرسم منذ طفولته، فكان يرسم صورًا كاريكاتورية لزملائه ولمدرِّسيه بدلًا من الإصغاء إلى الدروس، وتعرَّف هناك بعد ذلك إلى الرسَّام النورمندي «يوجين بودان»، الذي علَّمه الاهتمامَ برسم البحر والسماء والطبيعة من حوله، ثم رسخ اهتمامه بالضوء وآثاره على الموضوعات التي يرسمها خلال إقامته لمدة عام في الجزائر، إبَّان فترة تجنيده التي كانت ستستمرُّ ستة أعوام لولا إصابته بالتيفود وإخراجه إثرَ ذلك من الخدمة العسكرية.
وانتقل بعد ذلك إلى باريس حيث رفض الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، مفضِّلًا — عِوَضًا عن ذلك — تلقِّي دراسات وتدريبات حرَّة في أكاديمية خاصَّة كان من بين الدارسين فيها رينوار وسيزلي وبازيل، الذين جمعتهم أواصر الصداقة بمونيه، وأصبحوا يلتقون في مقاهي باريس يتناقشون في أمور فنهم مع غيرهم من الفنانين، وقد تعرَّفوا هناك على سيزان وبيسارو وموريزو وديجا ومانيه، وكلهم كانوا يتَّصِفون بالانطباعية في وقت من الأوقات.
كانت تلك المجموعة من الفنانين قد اختطَّت لنفسها نهجًا في الرسم يختلف عن الطرق التي كانت سائدة أيامها، تلك التي كان كبار الرسامين يتبعونها في باريس، والذين كانت أعمالهم تُعرَض في الصالون السنوي الذي يُقام تحت رعاية الدولة، والذي لم يكن يتضمَّن إلا الأعمال الكلاسيكية التي يرضي عنها رجال أكاديمية الفنون الجميلة.
وبدلًا من ذلك، كان هؤلاء الرسَّامون الانطباعيون يرقبون الطبيعة عن كثب ويدرسون الظاهرة المرئية بطريقة تكاد تكون علمية، ثم ينقلون أفكارهم عن كل ذلك إلى لوحاتهم، ورَغم أنهم اتجهوا في رسمهم إلى تصوير موضوعات الحياة اليومية، فقد تجنَّبوا الموضوعات القبيحة أو المُبتَذلة، وكان أفراد المجموعة يُجِلون الرسَّام إدوار مانيه، وتعلَّموا منه الكثير، وكان مانيه رائدهم في الثورة على الصالون الرسمي، حين رفض صالون عام ١٨٦٣م لوحته الشهيرة «إفطار على العشب» ولوحات عددٍ آخر من المجدِّدين، فثارت ثورتهم إلى الحدِّ الذي دفع الإمبراطور نابليون الثالث إلى إنشاء صالونٍ آخر لهم عُرف باسم «صالون المرفوضين».
وبعد زيارة استمرَّت عدة شهورٍ إلى لندن عام ١٨٧٠م تعرَّض فيها مونيه لتأثيرات عملاقَي الرسم البريطانيين «كونستابل» و«تيرنر»، عاد إلى باريس ليستأنف نشاطه في الرسم بين أحضان الطبيعة؛ فأنجز مع زميله رينوار عديدًا من اللوحات عن نهر السين وضفافه ومقاهيه ونسائه، وقد تحلَّقت جماعة مونيه وزملائه حول إدوار مانيه، حيث كانوا يعقِدون ندواتهم الفنية في مقهى «جيربوا» الشهير آنذاك في مونمارتر، حيِّ الفنانين. وبعد ذلك، حين رفض الصالون الرسمي أعمال خمسة من أفراد تلك الجماعة، هم مونيه وسيزلي ورينوار وديجا وبيسارو، نظَّموا مَعرِضًا مستقلًّا لهم عام ١٨٧٤م في صالون المصوِّر الفوتوغرافي الشهير «نادار»، وقد تعرَّضت أعمالهم لسخرية المشاهدين والنُّقاد، وأطلق عليهم أحدهم اسم الانطباعيين نقلًا عن عنوان لوحة مونيه الشهيرة «انطباع شروق الشمس»، ثم لصقت بهم هذه التسمية منذ ذلك الوقت، وأصبحت علَمًا على تلك المدرسة التصويرية، ورَغم أن أفراد تلك الجماعة كانوا ينضَوون في البداية تحت شعار جماعي، فقد كان لكلٍّ منهم أسلوبه المغاير للآخرين، ثم تفرَّقت بهم السبل بعد ذلك، وأصبح لكل واحدٍ منهم نهجه الخاصُّ به، وكان الوحيد الذي ظلَّ على إخلاصه لأسس الانطباعية وتقاليدها حتى النهاية هو كلود مونيه.
كان مونيه يتجه في لوحاته إلى رسم موضوعات حيَّة مما يدور حوله وما يراه في حياته اليومية ويرسم في الأماكن المفتوحة في أحضان الطبيعة، وقد انصبَّ اهتمامه على الضوء، فأخذ يدرس الطريقة التي يسقط بها على الأشياء في كل وقتٍ من أوقات النهار، وأحبَّ مونيه رسم انعكاسات الأشياء في صفحة المياه، حتى أنه شيَّد لنفسه قاربًا خاصًّا طاف به فوق المياه بينما هو يرسم ما يراه أمامه وما يراه على صفحة النهر، وكثيرًا ما كان يرسم الموضوع الواحد في أوقاتٍ مختلفة من أوقات النهار وفي فصولٍ مختلفة، كيما يُبيِّن كيف يختلف مرأى الموضوعات باختلاف الضوء المُلقَى عليها، وأفضل الأمثلة على تلك الطريقة هي لوحاته عند حزم التبن في الحقول، وكاتدرائيَّة روان، ومبنى البرلمان في لندن.
وقد عانى مونيه من الفاقة في السنوات التي صاحبت معرِض الانطباعيين الأول، ولكن أحواله المالية تحسَّنت تدريجيًّا بعد ذلك، حتى تمكَّن آخر الأمر من الانتقال إلى جيفرني والاستقرار هناك وسط منشآته الفنية، وحين يرى المرء هذه الضيعة، ويشاهد منزل الفنان هناك فيتعرَّف على طريقة حياته، يدرك تمامًا أنه كان يعيش في سَعة وترف لم يعرفهما كثيرٌ من أقرانه في ذلك الوقت، خاصَّة وأن بعضهم كان يَلقَى نهايته في جوٍّ من البؤس والفقر، وما مِثالا موديلياني وفان جوخ منه ببعيد.
وقد أنفق مونيه الكثير من الأموال على فنِّه وحدائقه، فكان يدفع المال الوفير للمزارعين في الحقول كيما يتركوا أكوام التبن ليرسمها في أوقاتٍ زمنية متباينة. كذلك صرف الكثير من أجل تحويل مجرى نهرٍ صغيرٍ إلى حدائقه حتى يُشكِّل منه بحيرته الأساسية، وكان يبتاع بأيِّ مالٍ يصله المزيد من الأرض المحيطة به كي يوسِّع من حدائقه ويزيد من أنواع الزهر والشجر والنباتات الجديدة فيها.
وقد تُوفي كلود مونيه في ٥ ديسمبر ١٩٢٦م، وشيَّع جثمانه كبار رجال الفن والدولة في عصره، ودُفن في القرية التي أحبَّها والتي خلَّد اسمها متحفه الذي يؤُمه عشاق الفن في كل مكان، وقد أصبحت لوحاته الآن تباع بأعلى الأسعار في سوق الفن العالمية، ولا تتفوَّق عليها من هذه الناحية إلا لوحات فان جوخ.