البحث عن بروست
ورَغم أن عالم مارسيل بروست يتركَّز في إيلييه — كومبريه حيث يوجد متحفه، فقد وُلد في باريس في ١٠ يوليو ١٨٧١م، ووالده هو الدكتور أدريان بروست الذي أصبح طبيبًا ذائع الصِّيت، وتزوَّج من جان فايل، سليلة عائلة ثريَّة يهودية الأصل، وأنجبا ولدين هما مارسيل وروبير. وفي حين سار روبير على درب أبيه وأصبح طبيبًا هو الآخر، ورث مارسيل خصائص الأم؛ إرهاف الحس، والخيال المتَّقد، والهُيام بالموسيقى والرسم، وقد ارتبط مارسيل بأمه ارتباطًا وثيقًا بلغ حد الهوَس، وبادلته هي تلك الرابطة الأسرية الوثيقة، حتى أصبح يرى أن أقصى عذابٍ يمكن أن يقع له هو أن تكون بعيدة عنه أو أن يفقد حبَّها له، وقد انعكس هذا التعلُّق والحبُّ في روايته في المشهد الخالد في أول جزء، الذي يُصوِّر حالة الراوي وهو صبي، إذ لا يستطيع أن ينام قبل أن تحضُر إليه أمُّه وتقبِّله قبلة المساء.
وقد كانت فترة الصِّبا لبروست حاسمة في تكوينه في المستقبل؛ إذ انكبَّ على القراءة والتأمُّل، خاصَّة عندما تكون الأسرة في «إيلييه»، حين تعوَّد أن ينزوي في أي ركن قصيٍّ من منزل عمته هناك، أو ينطلق بعد الغداء إلى الحقول، يلتهم الكتب التهامًا، ويحلم ويحلِّق في أجواء الخيال، وكان من بين ما قرأ في فترة صباه الأولى كتابان كان لهما أكبر الأثر في إنتاجه فيما بعد، وهما «ألف ليلة وليلة»، ورواية جورج إليوت «طاحونة نهر فلوص»، وكانت ألف ليلة تلقَى رَواجًا هائلًا في الغرب كله منذ صدورها لأول مرة بالفرنسية عام ١٧٠٤م بترجمة «جالان» الشهيرة، وقد ذكر بروست بعد ذلك أنه قرَّر أن يكتب كتابًا في ضخامة ألف ليلة وليلة وأهميتها، على أن يَستعيض عن الأحداث المتوالية فيها بالتحليل وبالتفاصيل النفسيَّة الدقيقة للشخصيات التي سيخلقها، على نحو ما فعلت جورج إليوت في روايتها.
ويبيِّن استطلاعان للرأي ملأهما بروست حين كان في الرابعة عشرة من عمره وفي الثامنة عشرة، على التوالي، أن مؤلِّفِيه المفضلين هم جورج صاند، وأناتول فرانس، وبيير لوتي، وبودلير، وأنَّ أحبَّ الموسيقيين إليه موزار وبيتهوفن، وثمَّة إجابةٌ في الاستطلاع الأول لم يلتفت إليها النُّقاد ولم يبحثوا في أصلها، وهي إجابته عن الشخصيات التاريخية التي يُفضِّلها، إذ كان من بينها: نبيُّ الإسلام محمد ﷺ.
ويلتحق بروست بليسيه «كوندرسيه» بباريس، حيث يحصل على البكالوريا عام ١٨٨٩م، ويمرُّ بعدها بفترة من النشاط المحموم، امتزجت فيها الصداقة بالعلاقات الاجتماعية والتعرُّف على الشخصيات البارزة. أما من ناحية الدراسات الجامعية، فقد التحق بكلية العلوم السياسية وكلية الحقوق، كذلك دأَبَ على حضور المحاضرات التي كانت تُلقَى في جامعة السوربون، ونحن نعرف أنه قد واظب وتأثَّر إلى حدٍّ بعيد بآرائه عن الزمن والديمومة ودور الذاكرة، التي ترفد كلها جميع أحداث روايته الكبرى. أما على صعيد النشاط الاجتماعي، فقد تعرَّف بروست في تلك الفترة التكوينية من حياته على معظم الشخصيات والأصدقاء الذين اتخذهم بعد ذلك أمثلة للشخصيات التي تزخر بها روايته، وبعد الدراسة واجهَ بروست عملية صعبة هي اختيار مهنته في الحياة، وهذه أيضًا نجدها في الرواية، حين يتردَّد مارسيل في الرواية بين العمل بنصيحة والده وهي الالتحاق بالسلك الدبلوماسي الذي يضمن له حياة محترمة، أو التفرُّغ للكتابة. وقد اختار بروست أن يصبح كاتبًا، وساعده على ذلك توفُّر دخلٍ مناسبٍ له من والديه، خاصَّة والدته، وكذلك سوء حالته الصحية التي عانى منها منذ أن كان في العاشرة من عمره حين أُصيب بحالة شديدة من الرَّبو وضيق التنفُّس، رافقته طوال حياته وأثَّرت في الطريقة التي يقضي بها أيامه، وأدَّت في نهاية الأمر إلى وفاته ولم يَكَد يتعدَّى الخمسين من عمره.
وهكذا بدأ بروست في موافاة الصحف الشهيرة بمقالاته التحليلية، ثم أصدر أول كتبه «المباهج والأيام» عام ١٨٩٦م، بمقدِّمة من أناتول فرانس أشهر كاتب في زمانه، فلقِيَ ترحيبًا متواضعًا من القرَّاء والنُّقاد، وبعد ذلك توفَّر بروست على دراسة أعمال وحياة الكاتب الإنجليزي جون راسكن، وكتب عنه عدة مقالاتٍ تعريفية، ثم أخرج ترجمته لكتاب راسكن «إنجيل إميان» الذي يعمر بالتذوُّق الفني والمعماري للآثار الشهيرة وخاصَّة الكنائس والكاتدرائيات الأوروبية، وفيما بين هذين الكتابين، قام بروست بزيارة عدة بلدانٍ أوروبية منها هولندا وفينيسيا، حيث شاهد روائع رسوم المدرسة الفلمنكية ولوحات رمبرانت، ولكن أكثر ما أثَّر فيه هو الرسَّام الهولندي «فرمير»، وخاصَّة لوحته «منظر دلفت»، وهي المدينة التي عاش فيها الرسَّام في القرن السابع عشر، وتتردَّد في رواية بروست أصداءُ تلك الرحلات، ولوحات فرمير الذي كان موضعَ دراسة يُجريها «شارل سوان» أحد أبطال الرواية الرئيسيين.
ثم يواجه بروست ما بين سنتي ١٩٠٣ و١٩٠٥م أشدَّ ضربات الحياة إيلامًا له؛ وهي وفاة والده، ثم والدته التي لم يكن يتصوَّر الحياة بدونها. وليس أدلُّ على أثر ذلك فيه من اضطراره إلى دخول مصحَّة عصبية بعد وفاة الأم، حيث قضى شهورًا عدة للعلاج، وبعد ذلك بدأ فترة عزلته الحادَّة واستبطانه الذاتي العميق، وهي الظروف التي أحاطت بإخراجه رائعته الكبرى «البحث عن الزمن الضائع». ففي تلك المرحلة، سيطر عليه إدراكه بأنه قد خرج من الجنة التي كانت توفِّرها له أمه، وأنه قد حان الوقت الذي يعيد فيه خلق تلك الجنة عن طريق وصفها على الورق، ذلك أن «الفردوس الحقيقي الوحيد هو الفردوس المفقود». وانتقل بروست إلى مسكنٍ مستقلٍّ، في تلك الشقة الشهيرة في شارع هوسمان، التي قام بتبطين غرفة نومه فيها بالفلِّين؛ حتى تعزله تمامًا عن ضجيج الحياة الخارجية. واشتدَّت عليه نَوبات الرَّبو، إلى الحدِّ الذي أصبح معه يقوم الليل وينام النهار حين تضطرم الحركة ويثور الغبار الذي يؤجِّج حساسيته المرَضية.
وساعدته تلك العزلة النسبية على أن يركِّز كل تفكيره وانتباهه في البدء في روايته التي يحكي فيها عن نفسه، عن الزمن الضائع، حيث يصبُّ فيها كل ما وقع له من أحداث، ويصوِّر فيها ما عرف من شخصيات، ويصِفُ ما رآه من أماكن. وهو هنا لا يلتزم بالتتابُع الزمني للأحداث، بل على ما تمدُّه به الذاكرة من وقائع وأفكارٍ تتولَّد الواحدة فيها من الأخرى، مازجًا تداعِي الأفكار بالتحليل النفسي بتيَّار الشعور، على نحوٍ فريدٍ جعل من روايته إحدى دور القصص في القرن العشرين.
وقد ترك له أبواه ثروة كبيرة أتاحت له أن يتفرَّغ للكتابة، وأن ينفق عن سَعة على نفسه وخدمه، وفي سبيل جمع المادة اللازمة للرواية، وهكذا بدأ أخيرًا في تسطير الكتاب الذي سيُخلِّد اسمه، وانتهى من جزئه الأول «طريق سوان» عام ١٩١٣م، وحين رفضها الناشرون، ومنهم «أندريه جيد»، في دار «نوفيل ريفيو» أقدَمَ بروست على طبعها على نفقته الخاصة. وبعد صدور الكتاب، وإدراك النُّقاد لمدى قيمته، أعادت النوفيل ريفيو النظر، ووافقت على نشر بقية الأجزاء، ولكن اندلاع الحرب العالمية الأولى عطَّل النشر، فلم يخرج الجزء الثاني بعنوان «في ظلال الصبايا المتجمِّلات بالأزهار» إلا في نوفمبر ١٩١٨م مع إعلان نهاية الحرب.
وقد شنَّ المعجبون ببروست وكتابه حملة كبيرة أدَّت إلى حصول الكتاب على جائزة الجونكور، وهي أسمى الجوائز الأدبية في فرنسا، وتوالى بعدها صدور الأجزاء الأخرى، والرواية تتضخَّم يومًا بعد يومٍ نتيجة الإضافات السابغة التي يُمليها بروست عند مراجعته الأصول الطباعية. فصدر الجزء الثالث «طريق جيرمانت» عام ١٩٢٠م، والجزء الرابع «سُدوم وعَمُورة» عام ١٩٢٢م، أمَّا بقية الأجزاء فلم تصدُر إلا بعد وفاة المؤلف في ١٨ نوفمبر ١٩٢٢م، وهي: «السجينة» (١٩٢٣م)، و«اختفاء ألبرتين» (١٩٢٥م)، ثم الجزء الأخير «الزمن المستعاد» (١٩٢٧م).
وكان بروست قد انتقل من شقة شارع هوسمان إلى مسكنٍ آخر بشارع «هملان»، وهو الذي شهد سنواته الأخيرة القاسية وهو يصارع المرض ويسابق الزمن حتى ينتهي من آخر جزءٍ في الرواية، ويصوِّر فيه حالته حين أدرك أن مهمَّته في الحياة أن يصير كاتبًا يضع كل حياته بين دفتَي كتابه الحافل، ولمَّا كان لا يستطيع العمل إلا ليلًا، ويغمره القلق ألا تمهله الحياة الفرصة لإكمال كتابه الضخم، فقد مثَّل حالَه بحال شهرزاد التي لا تعرف كل ليلة ما إذا كان السلطان شهريار سيمنحها مهلة كيما تكمل قصصها على مدى ألف ليلة وليلة.
هذا هو الكاتب الذي سطَّر روايته بدماء قلبه، وضحَّى بحياته في سبيل إكمال كتابه؛ بَيد أن محبِّي بروست لا بُدَّ أن يضيفوا إلى قراءة الرواية التعرُّف على عالمه بزيارة بلدته كومبريه والتجوُّل في متحفه، وهو أصلًا منزل «العمَّة ليوني» الذي كانت العائلة تنزل فيه عند زياراتها المتكرِّرة للبلدة، ويتعرَّف الزائر على غرفة الطعام والمطبخ الذي كانت تعمره الخادمة «فرانسواز» في الطابق الأرضي، ثم يصعد إلى الطابق الثاني ليرى غرفة مارسيل الصغير التي بدأت الرواية فيها، ثم غرفة العمة ليوني حيث تذوَّق مارسيل كعكة «المادلين» مع رشفة شاي بالليمون؛ وفي الذكرى التي استعادها الراوي بعد ذلك فأعادت إلى ذاكرته بلدة كومبريه بأحداثها وكنيستها وسكانها بما فيهم شخصيات القصة، خاصَّة سوان وآل جيرمانت.
وبروست معروفٌ جيدًا لدى القراء والأدباء العرب، وروايته وأسلوبه القصصي ضرورتان لازمتان لكل من أراد أن يسير في درب الرواية.
وقد ذكر الأستاذ نجيب محفوظ أنه يحمَد الله على أنه قد قرأ رواية بروست في إبَّان الشباب كيما يحتمل طولها وصعوباتها، وقد قام الدكتور نظمي لوقا بترجمة الجزء الأول من الرواية، وصدر ضمن مطبوعات كتابي بعنوان «غرام سوان»، وترجمتُه سلِسة مِطواعة، وإن كانوا قد أخذوا عليها حذفَ الكثير من العبارات والأوصاف.
ولهذا فقد صارت ترجمة جديدة للأستاذ إلياس بديوي بالتعاون مع قسم الترجمة في البِعثة الفرنسية للأبحاث والتعاون بالقاهرة، وهي ترجمةٌ كاملةٌ وأمينة، وإن كانت قد ضارعت الأصل في صعوبته وشدَّته على القارئ. وبالترجمة بعض الإبهام، زادت فيه اللغة التي يألفها القرَّاء المصريون، وهو ما يحملنا إلى الدعوة إلى الاتفاق بين المترجمين على مستوى العالم العربي على طريقة لتوحيد ترجمة أسماء الأعلام بالعربية حتى لا يزداد القارئ حَيرة وبلبلة، ومن المناسب أن تضطلع منظَّمة الثقافة العربية بمثل هذا المشروع حتى لا يكون أمامنا عشرة طرق لنقلِ اسم واحد من لغته الأصلية، وهو ما يحدث الآن للأسف الشديد.