فنان ثوري ومأساة أمريكا
وكانت هذه الواقعة مأساة فنِّية بمعنى الكلمة، تمثَّلَت في ضياع عملٍ فنيٍّ هائل، لفنانٍ أصبحت لوحاته الآن تباع بملايين الدولارات، وأصبح يُمثِّل مع زوجته فريدا كاهلو الأساس الرئيسي الذي تقوم عليه السياحة الفنية في المكسيك، إذ إن أعمالهما تنتشر في خمسة متاحف مختلفة في مكسيكو سيتي وضواحيها.
وتبدأ قصة هذه المأساة، أو الفضيحة الفنية، حين قرَّر الرأسمالي الأمريكي أن يُزيِّن البَهو الرئيسي لأحدث مبانيه في الشارع الخامس بنيويورك، والذي يُشكِّل الآن جزءًا من مركز روكفلر، بلوحة من صنع أحد أشهر الرسَّامين المعاصرين له، وبعد اتصالات بكبار الرسامين، بابلو بيكاسو وهنري ماتيس ودييجو ريفيرا، تم الاتفاق مع الأخير على إنجاز اللوحة مقابل ٢١ ألف دولار، وهو مبلغ ضخم آنذاك والآن. وكان الموضوع الذي اختاره روكفلر عنوانه: «الإنسان في مفترق الطرق»، يتطلَّع بأمل ورؤية سامية لاختيار مستقبل جديد أفضل، وفي مارس ١٩٣٣م، بدأ الفنان العمل مع رَهط من المساعدين الذين يتطلَّبهم عمل الجداريَّات الضخمة، ووصلوا الليل بالنهار كيما ينتهوا من اللوحة قبل أول مايو من نفس العام، وهو التاريخ المُحدَّد لافتتاح المبنى الشاهق الجديد؛ ولكن مع متابعة وسائل الإعلام للعمل وتطوَّره، بدأت تكتب عن مشكلة فيه، وهي أن ريفيرا رسمَ في جزءٍ من الجدارية وجهَ لينين! وسرعان ما تلقَّى الفنان طلبًا من روكفلر برسم وجهٍ آخر مكانه، وبعد تفكُّر وتأمُّل، ردَّ ريفيرا بأنَّ رفضَ أي جزءٍ من اللوحة هو رفضٌ لمفهومها بكامله، وعرَضَ أن يضيف في المقابل وجوه بعض الشخصيات الأمريكية البارزة، ومنهم أبراهام لنكولن وهارييت بينشر ستاو. وبعد يومين من الصمت المريب، تم حصار المكان بقوَّاتٍ من الشرطة والخيَّالة، وطلب مندوب المليونير الأمريكي إلى ريفيرا التوقف عن العمل ومغادرة المكان، وقدَّم له شيكًا بكامل أتعابه التي سبق الاتفاق عليها، ومع صيحات الانتقاد لهذا الحدث من جانب الفنانين الأحرار، اكتفى روكفلر في البداية بتغطية اللوحة كلها بالقماش، ثم أمر بعد عامٍ بتحطيمها وتدميرها تمامًا، ويعتبر هذا من أكبر أعمال التخريب الفني في التاريخ الحديث.
ولم تكن تلك الحادثة بفريدة في حياة رسَّامنا، ذلك أن الكثير من الجدال والمشاكل صاحبت معظم أعماله الهامة، على نحو ما سنوضحه فيما بعد.
وقد وُلد ريفيرا في ديسمبر عام ١٨٨٦م في مقاطعة جوانا خوانو بالمكسيك، وانتقل مع أسرته إلى العاصمة وهو في السادسة من عمره. وتبدَّى حبُّه للرسم منذ صباه؛ فالتحق بكلية الفنون الجميلة «أكاديمية سان كارلوس»، وتلقَّى علومه الفنية ومِرانَه على أيدي الأساتذة المشهورين في بلاده، ولفت ريفيرا الانتباه إلى موهبته منذ دراسته في الأكاديمية؛ فاشترك عدة مرات في معرضها السنوي. وتشرَّب الفنان في دراسته أصول الفن المكسيكي الأصلي في فترةِ ما قبل الاستعمار الإسباني، وقد تركَت في نفسه بذرة ستنمو وتترعرع في مرحلة لاحقة من حياته. ثم يحصل على منَح دراسية متتالية تُتِيح له السفر إلى إسبانيا والتجوُّل بين ربوعها، ثم إلى فرنسا وبلجيكا وإنجلترا وإيطاليا، على مدى سنواتٍ عديدة.
ويتعرَّض ريفيرا في سنوات الغربة تلك إلى التيارات الفنية التي كانت تموج بها أوروبا آنذاك، وخاصَّة في إسبانيا وفرنسا التي يقيم فيها معظم سنوات غربته. وفي إسبانيا، يقضي وقته في متحف البرادو دارسًا لوحات جويا وفيلاسكيث وألجريكو، وناقلًا لها، وهو يزعم في مذكِّراته أن بعضًا من النُّسَخ التي تدرَّب على عملها للوحاتٍ قد بيعَت بعد ذلك بوصفها أصلية!
وأول طابع غلبَ على لوحات ريفيرا كان الطابع التكعيبي، وأنتج معظمها في عالم ١٩١٣. وقد تعرَّف على بيكاسو في باريس، وأُعجب بيكاسو برسومه، وكان يصطحب أصدقاءه من الشعراء والرسَّامين إلى استوديو ريفيرا ليريهم لوحاته، مما رفع أسهم فناننا في ميدانه. إلا إن علاقة ريفيرا بالتكعيبية لم تَطُل، حين تحقَّق أن كل هذه الابتكارات والتجديدات لا علاقة لها بواقع الحياة، وأخذ يسعى جاهدًا في البحث عن أسلوب خاص في الرسم يُحقِّق من خلاله مشاعره الدفينة، وبعد أن قضى فترة في أحضان ما بعد الانطباعية، متأثِّرًا خطى سيزان، اكتشف أخيرًا في أعماقه كنزًا فنيًّا لا يفنَى من تراث بلاده التاريخي في مختلف معالمه، وهو تراث غنيٌّ يُتِيح للفنان الأصيل أن يخلق فنًّا للجماهير العريضة من الشعب، إذ يصورهم وهم يعملون ويُقاسون ويحاربون ويمرحون ويعيشون ويموتون، وهو يقول عن لحظة الكشف تلك: «لقد وُلد أسلوبي كما يولد الأطفال، في لحظة، باستثناء أن هذا الميلاد قد جاء بعد فترة حملٍ عويصة مقدارها خمسةٌ وثلاثون عامًا.» وقد تواكب اكتشافه ذاك مع اندلاع الثورة الشعبية المكسيكية وظهور زاباتا وبانشو فيلا ورفاقهما، الذين أقاموا حكم الشعب في البلاد، وقد توجَّه ريفيرا إلى المكسيك في تلك الفترة لِيُعايش تلك الأحداث ويشترك فيها. وشهدت تلك الفترة كذلك قيام الثورة الروسية عام ١٩١٧م، والتي تعاطفَ ريفيرا تعاطفًا كاملًا مع أهدافها ومبادئها.
وهكذا يعود الفنان إلى وطنه عودة نهائية في عام ١٩٢٩م كي يضع نظريته الفنية موضعَ التنفيذ. وكان أول عمل له هو إنجاز لوحة جداريَّة لمبنى المدرسة التجهيزية القومية بعنوان «الخلق»، على مساحة ألف قدمٍ مربَّع. وتوالت المهام بعد ذلك، ومنها جدارية وزارة التعليم بعنوان «الرؤيا السياسية للشعب المكسيكي»، التي يعرض فيها لوحات نابضة تُصوِّر جوانب هامَّة في تطور الوعي القومي للشعب على مدار تاريخه الطويل، ثم جدارية المدرسة القومية للزراعة، المُعنوَنة «أغنية للأرض وزارعيها ومحرريها».
وعُهِد إليه بعد ذلك رسم جداريات أهم مبنى في العاصمة وهو «القصر القومي»؛ فأعدَّ له سلسلة من اللوحات بعنوان «تاريخ الشعب المكسيكي»، وهو يَعُدها أفضل أعماله، وقد باشر رسمَها خلال فترة طويلة تخلَّلتها أعمالٌ أخرى وسفراتٌ وزياراتٌ إلى الخارج، بل إنه عاد إليها عام ١٩٥٥م ليضع آخر لمساته وتعديلاته.
وهذه المباني الأربعة تُشكِّل الآن جزءًا هامًّا من الزيارات الفنية التي تنظِّمها شركات السياحة لزوَّار المكسيك، ويستبين فيها الخط المُميَّز الذي ابتدعه ريفيرا وأصبح معروفًا به منذ ذلك الوقت، وقد تزوَّج ريفيرا في تلك الأثناء من إحدى موديلاته وهي لوبي مارين، وهي الوحيدة من بين زوجاته الثلاث التي أنجب منها ابنتَيه لوبي وروث.
وقد جذب ريفيرا بفنِّه الرفيع انتباه الأثرياء من الأمريكان الذين اتجهوا إلى الفنون لموازنة حياتهم المادية الصِّرف؛ فتلقَّى عروضًا للعمل في الولايات المتحدة، أهمها رسم جداريات مبنى بورصة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا. وسافر الفنان بصحبة زوجته الثانية فريدا كاهلو في نوفمبر ١٩٣٠م، وأنجز عملًا رائعًا سمَّاه «قصة كاليفورنيا»، ووضع في اللوحة ثلاثًا من الشخصيات الشهيرة في الولاية، منهم «هيلين مودي» التي حازت بطولة التنس الدولية في تلك الآونة. وقد أثار هذا الاختبار غَضبة أهل كاليفورنيا الذين قالوا إن ولايتهم أكبر من أن تُمثَّل على هذا النحو، وكانت مجابهة انتصر فيها الفنان وبقيَت اللوحة كما أرادها.
ثم رسم جدارية أخرى لكلية الفنون الجميلة في سان فرانسيسكو أيضًا، أثارت له مشكلة جديدة حين صوَّر فيها الرسَّامين على السقالات يرسمون على الجدار، وصوَّر نفسه من الخلف جالسًا على السقالة يرسم معهم. واتهمته الصحافة بأنه تعمَّد أن يُدير ظهره لأهل أمريكا احتقارًا لشأنهم!
ولكن ذلك لم يمنع الأمريكيين من الإعجاب بالفن الذي يقدِّمه، فكان أن دعاه متحف الفن الحديث بنيويورك إلى إقامة معرِضٍ خاصٍّ بأعماله، وهو ما تمَّ فعلًا، وكان ريفيرا ثاني فنان يقيم في المتحف معرِضًا خاصًّا منذ افتتاحه عام ١٩٢٩م. وبعد ذلك، أسنَد إليه الصناعي الرأسمالي الشهير «هنري فورد» تزيين معهد دترويت للفنون بلوحاتٍ جدارية. وكان نتيجة ذلك جداريَّته التالية وهي «الإنسان والآلة»، وتتكوَّن من ٢٧ لوحة يُصوِّر فيها ثلاثة موضوعات رئيسة؛ الأول: العامل في المصنع، والثاني: الآلات في عملها، والثالث: الثروات الطبيعية والبشرية في المنطقة. وكان من بين الرسوم العديدة مناظرُ وجد فيها المتربِّصون بالفنان الثوري الأجنبي عنهم فرصهم المنشودة، إذ اتهموه بالإباحية والتجديف والقبح الفني، وطالبوا بإزالة اللوحات على الفور. وفي المقابل، هبَّ المدافعون عن الفنان إلى تعضيده، بل إن عُمَّال المصانع شكَّلوا فيما بينهم فرقة تتناوب حراسة اللوحات من أي محاولات تخريبية. ولم تهدَأ الضجَّة إلا بإصدار المليونير فورد بيانًا يدافع فيه عن ريفيرا ولوحاته.
بَيد أن العاصفة التالية كانت للأسف مناوئة للفنان، وهي قضية أحد مباني «روكفلر سنتر» التي جرَى ذِكرُها في أول المقال، والتي انتهت نهاية مأساوية، ونتج عنها أن ألغَت شركة جنرال موتورز عقدًا كانت قد عهِدت بموجِبه لريفيرا أن يزيِّن بلوحاته مبناها الرئيس في شيكاغو، وتقطَّعت بذلك علاقة الفنان بأمريكا لفترة طويلة؛ ولكن ريفيرا العنيد انتقم لنفسه بعد ذلك، إذ أعاد رسم اللَّوحة نفسها بوجه لينين في أحد جوانب القصر القومي بالمكسيك حين عاد لإكمال عمله فيه بعد عودته من أمريكا، وعمد إلى إضافة وجه جون روكفلر — عميد العائلة — إلى مشهد الكاباريه الذي تضمَّنته الجدارية! وقد شهدت بقية سنوات الثلاثينيات عددًا من الأعمال التي أنجزها الفنان في بلاده، أشهرها لوحةٌ من جداريَّة جعل موضوعها «الدكتاتور»، وهو موضوع حرَص كلُّ فناني أمريكا اللاتينية على تقديمه في أعمالهم، بمن فيهم القصَّاصون المشهورون كأستورياس الجواتيمالي وماركيز الكولومبي وأليخو كاربنتييه الكوبي، وجاءت لوحة ريفيرا تعبيرًا تشكيليًّا يُماثل ما عبَّرت عنه روايات هؤلاء القصَّاصين.
وشهدت تلك الفترة أيضًا مشاكل صحية وزوجية لفريدا كالهو، واكَبَت ازدهارَها الفني الذي أثمر في دعوتها للعرض في باريس، حيث احتفى بها كاندينسكي وديشامب وبيكاسو، ثم في نيويورك. وتبِع ذلك عودة ريفيرا إلى أمريكا، حين قامت السلطات المكسيكية بالزجِّ به ظلمًا في محاولة اغتيال تروتسكي الذي كان لاجئًا سياسيًّا بالمكسيك (والذي تمَّ اغتياله بالفعل بعد ذلك)؛ لذا اضطرَّ الفنان إلى الخروج إلى المَنفَى، بمساعدة أصدقائه، والتوجُّه إلى سان فرانسيسكو التي يعرفها جيدًا من قبل. وأنجز ريفيرا عددًا من الأعمال هناك مرَّة أخرى؛ ثم عاد إلى بلاده بعد أن تغيَّرت الأحوال السياسية، واستأنف عمله في لوحات «القصر القومي» وفي العديد من الجداريات الأخرى واللوحات الخاصة، ومنها لوحة الغلاف لديوان بابلو نيرودا الملحمي «النشيد الشامل»، وهي لوحةٌ تصوِّر حضارة المكسيك القديمة، ويستبين فيها بوضوحٍ تأثُّر ريفيرا بالرسوم الفرعونية في مصر القديمة، وتُعيد إلى الأذهان أوجُه الشَّبَه التي يشير إليها العلماء بين الحضارة الفرعونية وحضارة المكسيك القديمة.
ولم يَسلَم ريفيرا من الهجوم على أعماله حتى في بلاده، غير أنه كان يقف صامدًا دون أن يُضحِّي بأمانته الفنية وحريته في التعبير حتى آخر يوم في حياته.
والآن، وبعد وفاة الفنان العظيم في ٢٤ نوفمبر ١٩٥٧م، تتوزَّع آثاره بين أربعة أماكن في العاصمة المكسيكية وحدها، فبالإضافة إلى جدارياته العديدة التي يزورها السيَّاح وأهل الفن في كثيرٍ من المباني العامة، هناك متحف دييجو ريفيرا، واستوديو ريفيرا، ومتحف الفن الحديث، ثم المتحف الذي شيَّده الفنان على نفقته الخاصة وصرفَ عليه كلَّ ما كسِبه من مال، ويتضمَّن نماذج لفنِّ السكَّان الأصليين في المكسيك وحضاراتها القديمة قبل الاستعمار الإسباني.
وكانت وصية ريفيرا مرآة لوطنيته وحبِّه الأصيل لبلاده؛ إذ أوصى بكل ما ترك من لوحاتٍ وجدارياتٍ لشعب المكسيك، وهو ما يفسِّر كثرة المتاحف الخاصة به في بلاده، إلى جانب الأعمال الأخرى التي تزهو بها المتاحف العالمية.