الشريد الذي أصبح رائدًا للحرية والتنوير
وروسو يتنازعه بلدان، سويسرا وفرنسا، إلا إنهما يتعاونان معًا في سبيل الإبقاء على آثاره، وإنشاء المتاحف في المناطق التي عاش فيها. فسويسرا مثلًا هي التي قدَّمَت الأموال اللازمة لإقامة متحف روسو في «مونمرنسي»، التي تقع في قلب فرنسا، بَيد أنها كانت تُسهم أيضًا في إحياء ذكرى هذا المواطن «الجنيفي» الشهير.
ذلك أن روسو قد وُلد أصلًا في جنيف بسويسرا في ٢٦ يونيو ١٧١٢م، ومنزل مولده هو أول أثرٍ يزوره مَن يسير على خطاه، ولكنه ليس متحفًا، وكل ما به لوحةٌ تشير إلى أن جان جاك روسو قد وُلد في هذا البيت، وقد قضى طفولته في كَنَف أبيه بعد وفاة أمه عند ولادته، وقد علَّمه أبوه — صانع الساعات والقارئ النهم — حبَّ القراءة ومطالعة الكتب، وكانا يقضيان أوقاتًا طويلة يقرآن معًا، وكان أكثر ما اهتمَّ به الصبي كتاب بلوتارك عن حياة العظماء، بالإضافة إلى الروايات القصصية التي كانت شائعة آنذاك، الأمر الذي غذَّى فكرَه وشحَذ خياله. وقد اضطرَّ الأب إلى هجر موطنه نتيجة لشجاره المتكرِّر الذي أوقعه في مشاكل قانونية، وتركَ ابنه لدى خاله الذي ألحقه بالعمل والتدريب لدى أحد نقَّاشي المعادن، ولكن قسوة الظروف هناك دفعته إلى الهرب. وكان ذلك بداية عهد التشرُّد وعدم الاستقرار الذي ظلَّ حياته كلها، عدا فترات معيَّنة حين أقام في «شامبيري» ثم في «مونمرنسي»، وهما المكانان اللذان أُقيمَ فيهما بعد ذلك أهم متاحف روسو. وقد هجر روسو مدينة جنيف، وسار على قدميه ضاربًا في منطقة «سافوا» على جانبَي سويسرا وفرنسا، مفتونًا بطبيعتها ومغانيها الساحرة. وقد ساقته الأقدار إلى مدينة «آنسي» الفرنسية كي يلتمس معونة مدام فارانس التي سمع عن حدبها على الفقراء والمساكين وجهودها لمساعدتهم. وبعد أن قابلها، وجَّهته إلى الذهاب إلى تورينو، في إيطاليا حاليًّا؛ ليبنيَ مستقبله هناك مزوَّدًا بتوصياتها، ولكنه يتشرَّد مرَّة أخرى متنقِّلًا من تورينو إلى ليون ثم لوزان ونيوشاتيل إلى باريس، ولم يجد بُدًّا من العودة في النهاية إلى راعيته مدام فارانس في مقرِّها بمدينة شامبيري، ومن ثَم أقام في دارها هناك، وكانا يقضيان الصيف والعطلات في دارٍ خارج المدينة تقع في أحضان الطبيعة وسط الغابات والحقول، وهي الدار المسمَّاة «لي شارميت». وشكَّلت تلك الفترة المحطة الأولى من فترات استقرار جان جاك روسو، حيث قضى هناك ما يربو على سبع سنواتٍ من السعادة والاستقرار وبداية الإنتاج الفني، ويذكر لنا روسو في اعترافاته الشهيرة كيف توَّفر في تلك الفترة على دراسة الموسيقى وتعليمها لمن يرغب من الأُسَر الصديقة لراعيته، كما تعلَّم التلحين وتأليف الأغاني في نفس الوقت، بالإضافة إلى استمراره في قراءة كل ما يقع في يديه من كتب. وأتاحت له إقامته في صحبة مدام فارانس التعرُّف على عِليَة القوم في المنطقة، مما أثار خوف راعيته من وقوعه فريسة لأحابيل النساء من حوله، وانتهى الأمر بها أن قدَّمَت له نفسها حماية له من الغَواية.
ودار «لي شارميت» هي الآن من متاحف روسو الهامة، وتقع خارج مدينة شامبيري في وسط شرق فرنسا. والدار مؤثَّثة على الطِّراز الذي كان سائدًا في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، أي بعد الزمن الذي كان روسو وراعيته يعيشان فيها، إلا إنها تُعطي للزائر فكرة واضحة عن حياة الكاتب فيها والتعرُّف على حجرته هناك، وتقع وراء الدار حديقة واسعة يرى فيها الزائر نفس النباتات التي كانت موجودة أيام روسو، والتي استرعَت انتباهه فأخذ يدرسها ويقرأ عنها حتى أصبحت معرفته بها في مستوى المتخصصين، إلى حدِّ أنه كان يتراسل مع علماء النبات المشهورين في عصره لتبادُل الخبرة والمعلومات.
ولكن فترة استقرار روسو الأولى انتهت حين وجد برودًا من مدام فارانس تجاهه، فعقد العزم على أن يبدأ جهوده العملية بنشر إنتاجه في ميدان الموسيقي، فتوجَّه إلى باريس حاملًا معه طريقة جديدة ابتكرها لتدوين النوتة الموسيقية، ونجح عن طريق خطابات التوصية التي تزوَّد بها في الوصول بمولَّفِه إلى الأكاديمية الفرنسية. وناقشه أعضاء الأكاديمية في مشروعه الجديد، بَيد أنهم رفضوه على أساس تعقيده وعدم صلاحيته للتطبيق. ويَعزو روسو في اعترافاته ذلك الرفض إلى أن مشروعه قد عُرض على علماء «لم يكن بينهم مَن له إلمامٌ كافٍ بالموسيقى». وبعد هذا الفشل، نجح في الالتحاق بالعمل سكرتيرًا لسفير فرنسا في البندقية «فينيسيا»، ورحل إلى هناك حيث قضى عامًا في شِقاقٍ متواصلٍ مع السفير. وترك العمل في السفارة، وعاد إلى باريس يعمل في تدريس الموسيقى ونسخ النوتات الموسيقية بالأجر. وفي تلك الأثناء، تعرَّف في الفندق الذي كان يقيم فيه على إحدى عاملاته وهي «تيريز ليفاسير»، التي عاشت معه بعد ذلك طوال حياته. وثابر روسو على تآليفه الموسيقية، وحقَّق في ذلك الميدان نجاحًا لا بأس به، ووصل الأمر إلى وضعه أوبرا بعنوان «عرَّاف القرية» لاقَت نجاحًا في البلاط المَلَكي.
ثم تقع لروسو أهم أحداث حياته، حين كان يتصفَّح جريدة «مركير دي فرانس»، وطالع فيها إعلانًا عن مسابقة يُجريها المحفل العلمي لمدينة «ديجون»؛ لتأليف مقالة موضوعها «هل ساعدَ تقدُّم العلوم والفنون على إفساد الأخلاق أو على تقدُّمها؟» وحين قرأ هذا العنوان انتابَته شبه غيبوبة — أو بُحران بلغة الدكتور لويس عوض — أتاه خلالها الإلهام بنقاط المقال الذي اعتزم التقدُّم به للمسابقة. ويفوز مقاله بالجائزة عام ١٧٥٠م، فعمل ذلك على ذيوع اسمه في الأوساط الفكرية والعلمية، كما كان حافزًا له على السعي قُدُمًا في طريق التأليف الفكري والثقافي، فكتب مقالاتٍ أخرى أهمها «البحث عن أسباب عدم المساواة بين البشر».
وتعرَّف بعد ذلك إلى الفيلسوف «ديدرو» الذي كان يعمل على إصدار دائرة المعارف، وهي أول موسوعة فرنسية، فشارك روسو فيها بوضع الباب الخاص بالموسيقى. وتُعَد تلك الموسوعة الشهيرة نقطة الارتكاز لعملية التنوير في فرنسا، وساهمت في إذكاء العقول وإرهاف المشاعر في طريق قيام الثورة الفرنسية.
وقد مكث في الصومعة ١٨ شهرًا بدأ فيها في وضع الخطوط الرئيسية لأهم مؤلفاته القصصية والفكرية والتربوية، ونعني بها رواية هلويز الجديدة وكتاب إميل أو التربية، ثم كتاب العقد الاجتماعي. وقد استلهم مادة روايته الشهيرة من الغرام العنيف الذي أحسَّه تجاه الكونتيسة «صوفي دي إديتو»، التي وقع في هواها وأحبَّها حبًّا رومانسيًّا ملَك عليه فؤاده. ثم ينشأ الخلاف بينه وبين مدام دي بينيه، التي يتوهَّم أنها تساعد «أعداءه» في باريس لِبثِّ الفُرقة بينه وبين تيريز وأمها، بالإضافة إلى ذيوع خبر حبِّه للكونتيسة دي إديتو، فيترك الصومعة إلى منزلٍ آخر في مونمرنسي أيضًا، وهو المنزل الذي سيصبح المحلَّ الرئيسي لمتحف روسو الآن، وقد قضى في هذا المنزل زُهاءَ الخمس سنوات تُشكِّل فترة الاستقرار الثانية والأخيرة في حياته المضطربة.
ومتحف روسو في مونمرنسي، ويُسمَّى مبناه «مون لوي» منذ كان روسو يقيم فيه، يضمُّ طابَقين مليئين بآثار وتذكارات الفيلسوف العظيم؛ ففي المدخل نرى البارومتر الذي يعتمد عليه روسو في معرفة أحوال الطقس كما يُحدِّد أوقات نزهاته الخلوية أو عمله في خارج البيت، ثم تمثالًا نصفيًّا من صنع المثَّال «هودون». وكان الطابق الأول مخصَّصًا لتيريز وغرفة الطعام والمطبخ، أما الطابق العلوي فكان مخصَّصًا لغرفة نوم روسو، ونرى فيها سريره، وغرفة مكتبه التي لا يزال بها المنضدة التي كتب عليها رواية هلويز الجديدة. كما نرى في الخارج المقعد والنضد الحجريين اللذَين اعتاد الكاتب العمل عليهما حين يسمح الطقس بذلك. ويضمُّ المتحف أيضًا المخطوطات والطبعات النادرة لكتبه، وقد شُيِّد حديثًا مُلحَقٌ لهذا المبنى خُصِّص كمركزٍ لدراسات وأبحاث القرن الثامن عشر.
ورَغم أن روسو قد أقام مجده بتلك المؤلفات الثلاثة التي أنجزها في مونمرنسي، إلا إن أفكاره الثورية في إميل والعقد الاجتماعي أثارت عليه السلطات في فرنسا وفي سويسرا، فهامَ شريدًا من أوامر القبض عليه ومُصادرة كتبه وإحراقها، وكثيرًا ما كان الناس يقذفون مسكنه بالحجارة حتى يجبروه على الرحيل عن مدينتهم، واضطرَّ آخر الأمر إلى قبول ضيافة الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»؛ حيث بدأ في تسطير كتابه الشهير «الاعترافات». ولكنه عاد إلى فرنسا بعد عامٍ واحد؛ إذ إنه تشاجر مع مضيفه كعادته، وقد قضى سنواته الأخيرة في باريس أو بالقرب منها، يردُّ على المؤامرات التي كان يتوهَّم أن أصدقاءه يَحِيكونها ضدَّه، ونتج عنها آخر كتابٍ له وضعه إبَّان تجوُّلاته في ضواحي باريس، وهو بعنوان «أحلام جوَّال منفرد»، وهو بمثابة خاتمة مؤسية مريرة لقصة حياته التي سطَّرها في أشهر مؤلفاته وهي الاعترافات.
وقد قامت آراء روسو الفكرية والسياسية على دعامتَين أساسيتين هما الطبيعة والحرية؛ فهو يرى أن العودة إلى الطبيعة فيها الخلاص من كل الشرور الاجتماعية، كما أن العدل الاجتماعي والحرية هما أساس المجتمع السليم، وقد افتتح كتاب العقد الاجتماعي بتلك العبارة التي ذهبت مثلًا: «لقد وُلد الإنسان حرًّا، ومع ذلك فهو يرسُفُ في الأغلال في كل مكان.»
واللافت للنظر هو تناقض حياة روسو مع ما كان يُبشِّر به من أفكارٍ سامية، فهو يروي في اعترافاته بلا مُوارَبة الكثيرَ من المثالب الأخلاقية؛ كالسرقة والعلاقات المحرَّمة، وأيضًا أشد ما عابَه عليه نُقاده، وهو عدم احتفاظه بأطفاله الخمسة من تيريز ليفاسير؛ إذ كان يُودِعهم الملاجئ أولًا بأول، مبرِّرًا ذلك بشتَّى الأعذار والحجَج الواهية.