علَى العَهْدِ
عَلِم قرَّاء هذه التراجم وجهتنا التي نتجه إليها في كتابتها، ولا نحسب أن أحدًا ممن تتبعوها — أو تتبعوا معظمها ينتظر منها بحثًا غير بحوثها التي عنيناها، فليس يعنينا منها سرد الحوادث ولا استقصاء البيان عن فترة من السنين، وإنما يعنينا من الحادثة التي نعرض لها ومن الفترة التي نستبينها أنها وسيلة إلى مقصد واحد: وهو التعريف بالنفس الإنسانية في حالة من أحوال العظمة والعبقرية، أو حالة من أحوال النبل والأريحية، فإن جاوزنا هذا المقصد إلى غيره فإنما نجاوزه لجلاء فكرة تحيط بأطوار التاريخ الإنساني، وتُخْرِجه من غِمَار التِّيه والظلمة، وتسلك به مسلكًا غير مسلك التخبط والضلال.
•••
ونحن نقيس أثر هذه التراجم بمِقْيَاسين متقابلين، بل متعارضين متناقضين، ولكنهما ينتهيان إلى نتيجة واحدة.
نقيس أثرها بالرضى والقبول من الموافقين، ونقيسه بالسخط والنفور من المخالفين، وكلاهما دليل على أثر نغتبط به ونستزيد منه، دليل على أن التراجم رمية أصابت مرماها، وهذا كل ما نبغيه.
ومن الملاحظات التي نغتبط بها خاصة أن جانب الرضى عن هذه التراجم غير مقصور على أبناء دين واحد أو أبناء نِحْلة واحدة. فتراجمنا لعظماء الإسلام قد اطلع عليها وتتبعها أناس كثيرون ممن لا يدينون بالإسلام، وترجمتنا لغاندي قد كان أكثر قرائها من المسلمين، وهؤلاء وهؤلاء قد عرفوا وجهتها ولم يخرجوا بها عن سبيلها؛ فليست النفس الإنسانية ملكًا لأبناء دين واحد، وما من شيء يجعل للدين نفسه معنى إن لم تكن النفس الإنسانية ذات معنى وذات قيمة وذات علاقة أصيلة بهذا الوجود أجمع، فلا يَضِل معتقد عن هُدَى عقيدته حين يؤمن بجانب من جوانب عظمتها، أو جانب من جوانب النبل والأريحية فيها. والسؤال الذي يسأله من يعرف المسألة كلها هو: هل تستحق الحياة أن نحياها؟!
فإن كانت حياة الإنسان أهلًا للثقة بها والإيمان بقدرها؛ فالجواب: نعم، وإن لم تكن كذلك؛ فلا جواب للسؤال غير اليأس والضياع والانحلال، بل نحن نرى أن الشَّاكين والمترددين يثوبون إلى طريق الأمل والرجاء كلما لمسوا للنفس الإنسانية جذورًا عميقة في أصول الحياة، وهذه الجذور نلمسها لمسًا كلما علمنا أن النفس الإنسانية قابلة لعمل عظيم، وكلما علمنا أن قوة الاعتقاد بالخير هي نفسها عمل عظيم. وليس الخلاف إذن بين دين ودين، أو بين مذهب ومذهب أو بين فلسفة وفلسفة؛ ولكنه خلاف بين حياة لها جذور وحياة مُستأصَلة من جميع الجذور، وهو بعبارة أخرى خلاف بين حياة لها معنى وحياة فارغة من كل معنى، ولو كان هذا المعنى من مخترعاتها المُلفَّقة وأباطيلها المزجاة.
•••
نقيس أثر هذه التراجم بالرضى من هؤلاء المؤمنين بمعنى الحياة وهؤلاء الباحثين عن معناها.
ونقيسه كذلك بسخط الساخطين وغيظ المحنقين، وكلما اشتد هذا السخط واضطرم هذا الغيظ؛ علمنا موقع الرمية من الهدف الصميم، فهو موقعها الذي أصبنا به المقتل من ذلك المعسكر الذي يُسمي نفسه بمختلف الأسماء، ولا يصدق عليه اسم كما يصدق عليه اسم أعداء الإنسان.
وإنما تصدق الأسماء حيث تصدق على الصفات والأعمال، وقد سُمِّي بأعداء النوع الإنساني قديمًا معاشرٌ من الخلق كانوا يكرهون النعمة، ويعافون السرور، ويتجنبون معاشرة الناس، ولكنها تسمية لم تكن على صواب؛ لأنهم كرهوا النعمة وعافوا السرور؛ إيمانًا بنعمة أشرف من جميع النعم، وشوقًا إلى مسرَّة أرفع من جميع المسرات، ثم تجنبوا معاشرة الناس؛ نُبوًّا بضمائرهم عن العيش الذي لا يعرف النعم والمسرات إلا في أحضان الرذائل والشهوات، فمن شاء فليُسَمِّ هؤلاء المتزمتين بما شاء من الأسماء إلا أن يسميهم بأعداء الإنسان.
أما أعداء النوع الإنساني حقًّا فهم الحريصون على تصغير كل عظيم فيه، الملوِّثون لكل صفحة نقية من صفحاته، العاكفون على هدم كل ما بناه في تاريخه الطويل من قيم الأخلاق وعقائد الخير والفلاح، الذين يعملون ما لا يعمله إلا عدو مُغِير على الأرض يتعقب بقايا أهلها، كما يتعقب العدو اللدود جنسًا من ألد الأعداء لجنسه، فلا يسرُّه شيء كما يسره أن يرجع إلى ماضيه وحاضره بالتشويه والتخريب، وذم الحميد منه وتسجيل الذميم المعيب.
•••
ويبلغ المسخ بهؤلاء المساكين أنهم يخلصون في بغضائهم إخلاص الجنسين المتعاديين بالطبيعة؛ فلا يقنعون بما يجدونه من العيوب والأدناس، بل يتجسسون عليها ويلحون في تأويلها، ولا يطيب لهم شيء كما يطيب لهم أن يبطلوا الثناء على بطولة البطل وتفدية الشهيد وإيثار الكريم، فيردوه إلى الزراية والمهانة، وتعليل الأمور بأسوأ العلل، وتفسيرها بأقبح البواعث والأغراض … ومثل هذه اللجاجة في تلطيخ تراث الإنسانية كله بالأوزار والأدناس لا تصدر إلا من طبع سقيم وخليقة عوجاء، فيجوز لكل صاحب عقل أن يفهم بعقله علل الأعمال: سامية أو مُسِفَّة، وعامة أو خاصة، ومخلوطة بالأثرة أو خالصة للإيثار، ولكن الهيام بتحقير كل عظيم واتهام كل ثناء، والحماسة المتشنجة لتغليب الخسة على النبل، ونبش السمعة المأثورة عن جراثيم النتن والقذى؛ ليس المرجع فيه إلى فهم ودراسة، ولكنه يرجع إلى مسخ في الكيان يسلخ المبتلى به في مسالخ العدو المبين لنوع الإنسان.
وما كان في وسع إنسان حي أن يسيغ الحياة كما يريدها هؤلاء المسخاء المنكودون، ولكنهم فقدوا الثقة بالحياة المثلى؛ فعوضوها ببديل منها لا يُغني عنها إلا إلى حين. إن المنحدر من القمة إلى الهاوية يتحرك في انحداره، بل يتحرك سريعًا إلى قراره، وهو في حركته هذه أسرع من الصاعد إلى القمة … بجهده وهدايته، وأسبق منه جدًّا إلى غايته بل نهايته. إلا أنها حركة المصاب بالحركة على الرغم منه، فلا وجه للمقابلة بين الصاعد المجاهد والهابط المقذوف كما ينقذف الجلمود، وإن لاح لمنْ يراهما أنهما متحركان وأن الهابط منهما أقدر من الصاعد على العَدْوِ والجريان.
وقد امتلأ مكان الثقة من نفوس هؤلاء المسخاء بسخائم المقت والكراهية؛ فكانت لهم عوضًا بئس العوض، كانت لهم عوضًا كعوض الحركة الهابطة من الحركة الصاعدة، وليس أدل على ضرورة الثقة للإنسان في اجتماعه وانفراده من حاجة هؤلاء إلى تعويضها بذلك الثمن الثقيل، وإنه لجِدٌّ ثقيل في الحقيقة، فإنه لهو الانتحار بغير إرادة الانتحار.
ونحمد الله على نصيبنا من هذه الكراهية كما نحمده على نصيبنا من تلك الثقة، فهذه وتلك كلتاهما مقياس صادق لأثر هذه التراجم التي نزيدها اليوم ترجمة جديدة، وسنزيدها بمشيئة الله؛ كلما اتسع الوقت وأحسسنا الرضى من هنا والكراهية من هناك.
•••
إن سيرة الخليفة الثالث نمط من أنماط متعددة زخرت بها الدعوة الإسلامية من سير الخلفاء وغير الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة، وخالد، وسعد، وعمرو، وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ما منهم إلا من كان عظيمًا بمَزْية، وعلَمًا من أعلام التاريخ، فأين كان موضع هؤلاء من العظمة ومن تاريخ بني الإنسان لولا العقيدة الدينية ولولا الرسالة المحمدية؟
ليقل مَنْ شاء مِنْ فلاسفة التاريخ ما يشاء في التعليل والتحليل والتلخيص والتفصيل، فمهما يقل القائلون، ومهما يشرح الشارحون؛ فليس من السهل على عقل رشيد أن يزعم أنها كلها خدعة وَهْمٍ في رءوس أناس جاهلين، ولا حاجة هنا إلى الفلسفة ولا إلى الحذلقة ولا إلى الجدل الطويل، فالقول الفصل بعد كل قول ووراء كل شرح: إن الوهم الخادع في رءوس الجاهلين خير ألا يكون، وماذا يبقى من تاريخ الإنسانية لو حذفنا منه هذه العوامل الحية، وقلنا مع القائلين: إنها وهْم من الأوهام كان خيرًا لها أنه لم يكن ولم يكن بعده ما جرى في مجراه؟!
•••
وفي هذه السيرة — على ما نرجو، وعلى خلاف ما يخطر في بال الكثيرين لأول وهلة — شواهد على هذه العِبْرة الكبرى أكبر من شواهد أخرى، فلعلها لا تبرز لنا عبقرية كعبقرية الصديق أو الفاروق أو الإمام، ولكنها تبرز لنا من جانب الأريحية صفحة لا تُطوى، ولا يستطيع العقل الرشيد أن يرجع بها إلى باعث غير باعث العقيدة والإيمان.