الخلافة
بين هذه النذر قامت أصعب خلافة تولاها خليفة قط في صدر الإسلام، وقد كانت ثورة المرتدين في أول خلافة الصديق محنة شديدة نهض لها المسلمون جميعًا متساندين متآزرين؛ فابتلي عثمان في أول خلافته بما يشبه تلك الثورة ويزيد عليه: الخلاف في الداخل، والتغير في الدواعي النفسية، وهو أخطر المصاعب جميعًا في خلافة عثمان.
كانت هيبة عمر تملأ الجزيرة العربية وما حولها، وكان أصحاب الدولتين الكبيرتين من الروم والفرس أهيب له من رعيته في الجزيرة؛ لأن هذه الرعية تعتصم من هيبته بحق يعرفه لها وتعرفه لنفسها، ولم تكن للروم والفرس عصمة من هيبته إلا بالحذر والدسيسة، ورستم بطل الفرس المشهور الذي كاد أن يصبح من أبطال الأساطير هو القائل عن عمر: «أحرق كبدي عمر، إنه يكلم الكلاب فتفهم عنه!» يعني أنه جعل من عرب البادية الذين ازدراهم الفرس أبطالًا كالأسود بفضل ما يسدى إليهم ويستمعون إليه من نصيحته والاقتداء بسيرته، وقد خطر للمؤرخين في صدر الإسلام أن الهرمزان كان من المتآمرين مع أبي لؤلؤة على قتل عمر، وهو خاطر قريب إلى الذهن، ولو لم يعتمد فيه المؤرخون على غير القرائن التي شهد بها يومئذِ شهود الفاجعة قبل وقوعها، ولكننا نحسب أن المؤامرة أكبر جدًّا من ظواهرها التي تحصرها في أبي لؤلؤة والهرمزان، وأن تدبيرها في معسكرات فارس وبلاط يزدجرد وحاشيته أقرب إلى الخاطر وأدنى إلى المنظور في مجمل الأحوال.
فما هو إلا أن ذاع في ساحات المشرق والمغرب مقتل عمر؛ حتى تلاحقت الثورات والفتن كأنما كانت على موعد، وتمرد من قبائل الفرس والترك والروم من كان قد أذعن وتعاقد مع قادة الحرب على الصلح والطاعة، ونقضت دولة الروم صلحًا فأغارت على الإسكندرية برًّا وبحرًا وأرسلت أساطيلها إلى شواطئ فلسطين، وأطلقت في الميادين خفية من يبث فيها الوعد والوعيد ويغري المطيع بالعصيان، وأحصى المؤرخون البيزنطيون عدة السفن والجيوش التي اشتركت في حركات الثورة والانتقاض فقال بعضهم: إنها جاوزت خمسمائة سفينة ومائة ألف مقاتل، وسرعان ما تسايرت الأنباء بهذه الزحوف بين الخزر والأرمن ومن وراءهم من الشعوب الآسيوية؛ فهبوا يتعللون بالذرائع لنقض الصلح، أو ينقضونه بغير ذريعة وينتهزون الفرصة التي علموا أنها لا تسنح مرة أخرى إذا استكانوا للطاعة المسالمة.
لقد كانت محنة كمحنة الردة أو أكبر منها في اتساع ميادينها وتباعد أطرافها.
وكان عثمان كفؤًا لها بالعزم والرأي والسرعة في تصريف الأمور وتسيير النجدات وإسناد كل عمل إلى من يحسنه ويسد فيه أحسن سداد.
ولقد درج العاذرون واللائمون في تاريخ عثمان على التسليم بضعفه كأنه حالة لا تفارقه في جميع أعماله، أو كأنه حالة لم تفارقه قط في عمل مما تولاه.
فالذين آمنوا منه بحسن القصد، كانت معذرتهم له بالضعف واللين أسبق معاذيرهم إلى ألسنتهم حيث يوفقون بين خطته وحسن قصده، والذين أفرطوا في اللوم جعلوا من ذلك الضعف خطلًا في الرأي قد يغطي على حسن النية لو افترضوه وسلموه، وهؤلاء وهؤلاء يستغربون أن يقال: إنه كان كفؤًا لتلك المحنة بعزيمته وأصالة رأيه، ويخيل إليهم أن كلمة «الضعف» تلغي كل قوة وتبطل كل عزيمة، أو ينسون أن الضعفاء لا يتساوون، وأن الضعف لا يلازمهم في كل ما يعملون، وأن الضعف كالمرض تتفاوت فيه مناعة الأبدان ومناعة النفوس، فقد يعدي القوي الركين وإلى جانبه النحيل الهزيل لا تسري إليه عدواه، وقد يكون القوي في حالات أضعف من الضعيف في حالات، وهذا مع التسليم بضعف عثمان على العلات، وهو قول لا يقبل على إطلاقه؛ إذ لا نرى من علامات ضعفه إلا ما يظهر فيه الضعف بالنسبة إلى موقف من المواقف قد يحار فيه الأقوياء كما يعيى به الضعفاء.
فلا تنس أن عثمان قد ولي أعمالًا ناجحة في الجاهلية والإسلام، وأن من هذه الأعمال قوافل تترحل في الصيف والشتاء، وتوافق مطالب اليمن في الجنوب والشام في الشمال، وإنه استطاع أن يصرف هذه القوافل ويوائم تلك المطالب وهو مقيم في مكة أو المدينة، وأنه تعود أن يستشار فيما يحضره ويغيب عنه، وأنه تعود كذلك أن يعرف مشورة غيره في مثل عمله، وأن يعرف أخبار من تقدمه ومن عاصره من نظرائه، وأنه بعد الإسلام قد لازم ولاة الأمر في السياسة والحرب من عهد النبي عليه السلام إلى عهد الفاروق، وشاركهم في كثير، وسمع أوامرهم وحضر مشاوراتهم في كثير.
فلا تكونن كلمة الضعف حاضرة في الذهن كلما حضرته حادثة من حوادث سيرته أو آية من آيات عزمه وتدبيره، وليكن للضعف محله فلا يشغل كل محل في معارض هذا التاريخ العجاب.
إن علاج عثمان لمشكلات الدولة «الخارجية» التي فاجأته بعد ولايته قد كان كأحسن علاج يتولاه خليفة في تلك الآونة: عزم وسداد وسرعة، مع الحيطة والأناة والرفق في سياسة الأولياء والخصوم.
ولا شك أن الخليفة كان معانًا على عمله، ولم يكن منفردًا بعبئه في تلك المحنة الجائحة: كان معانًا عليه بحمية الجند وكفاية القادة، وكانت حمية الدين التي حفزت دعاة الإسلام من نصر إلى نصر، ومن عزمة إلى عزمة، وصحبتهم من بدر إلى القادسية وتبوك وبابليون، صامدة على سمتها كأقوى وأقوم ما كانت في يوم من أيامها، بل لعلها في حروب الفرس والروم كانت أقوى وأقوم من حروبها في الجزيرة العربية؛ إذ كانت أنفة العربي أن ينهزم أمام المتعجرفين عليه من الأعاجم كفيلة أن تنفث في قلبه الغضبة القوية التي لا تثيرها حرب العربي للعربي والشبيه بالشبيه.
كان حبيب بن مسلمة الفهري يقاتل الروم في ميادين سورية وفلسطين، فاستعان بمدد من الجزيرة فوصل إليه، واستعان بمدد من الكوفة فأبطأ عنه، فلما أقبلت الروم قبل وصول المدد وهم لا يتوقعون القتال مع قلة الجند في معسكر العرب أتاهم حبيب من حيث لم يتوقعوا وبيتهم بليل. فانتصر وانهزموا.
وإن الدهشة من هذه الجرأة لتغمرها؛ حتى لتكاد تمحوها دهشة أخرى من دهشاتها التي لا عداد لها في كل وقعة من وقعاتها: كانت أم عبد الله امرأة حبيب معه وهو ينوي الهجمة بليل قبل أن يسفر نور الصبح ويأتي المدد المرتقب، فسألته: أين الموعد؟! قال: سرادق «الموريان» أو الجنة فوجدها عند السرادق سبقته إليه.
وقبل هذا أُعين الصديق والفاروق بحمية الأجناد وكفاية القواد، ولكن أعباء الجهاد في أوائل أيام عثمان كانت أشق وأكبر وأحوج إلى التوجيه الناجز والتصريف الذي لا يغني الإجمال فيه عن التفصيل، على حسب الأطوار المتجددة والطوارئ المتقلبة، لامتداد خطوط القتال وتعدد الفتن وتباعد المسافات بين البلدان وتكاثر العناصر والأجناس في جيوش المسلمين؛ فقام الخليفة الشيخ بأعبائه الجسام على أحسن ما يقام بها في تلك المحنة الجائحة، وكان له ولا شك أكبر الفضل في تثبيت مهابة الدول الجديدة بعد ما أصابها من الوهن والتخلخل عند مقتل عمر، فوقر في أخلاد الأمم المحيطة بها أنهم ينازلون قومًا لا يقدح في قوتهم موت خليفة أو تبديل قائد، وأنهم منتصرون مستميتون في سبيل النصر على اختلاف القادة والرؤساء، فقتل بعد هذه التجربة عثمان، ثم قتل عليٌّ، ثم مات معاوية، ثم مات يزيد وتخلى معاوية الثاني عن الملك، وانقسم المسلمون على أنفسهم، ولم تقم للثورة عليهم قائمة في بلاد الروم أو بلاد الفرس إلا ما كان من شغب متفرق على غير وجهة، يعرو الدول من داخلها ومن خارجها بلا انقطاع ولا يُخاف منه على دعائمها وأركانها.
•••
ولم يقنع عثمان بتسكين الثورات حيث يكفي فيها التسكين أو قمعها حيث تحتاج إلى القمع في بلاد الطغاة والمتجبرين؛ فصالح من صالح وحارب من حارب، ثم أمر قواده بمجاوزة البلاد التي نشبت فيها الثورات إلى ما وراءها منعًا لارتداد الهاربين إليها وانبعاث الفتن والدسائس من قبلها، فتقدمت جنوده شرقًا إلى حدود الهند والصين، وشمالًا إلى ما وراء بحر الخزر، وغربًا إلى أبواب القسطنطينية وتخوم الأندلس، وجنوبًا إلى السودان وجوانب الحبشة، ولم يؤخذ عليه قط وناء في إنفاذ نجدة أو تسيير مدد أو تدارك خطر في أوانه من أقصى تلك البقاع إلى أقصاها.
وعرضت له مسألة عسيرة من المسائل التي استطاع الفاروق إرجاءها ولم يكن ثمة بد من عودتها في أوانها.
عرضت له غزوة قبرص ورودس وجزر بحر الروم، وإعداد العدة لدفع الغارات البحرية عن شواطئ مصر والشام والقيروان، فكانت بحق مسألة — بل مشكلة — من المشكلات التي لم تستحكم قبل أيامه ولم تتطلب الحل السريع من وليٍّ لأمر المسلمين في الجزيرة العربية، أو في البقاع التي انتهت إليها الفتوح.
وكان من سياسة عمر ألا يجعل بينه وبين جيش من المجاهدين بحرًا ولا جسرًا ولا قنطرة، وأن يجنبهم ركوب البحر ما استطاع، وكان معاوية يلح عليه في غزو الروم بحرًا، ويهون عليه خطب هذه الغزوات، ولا يفتأ يحضه على ذلك، ويقول فيما قاله حضًّا عليه: «إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم» يعني جزيرة أرواد.
فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يسأله أن يصف له البحر وراكبه ويقول له: «إن نفسي تنازعني إليه.»
فكتب إليه: «إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء. إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد به اليقين قلة والشك كثرة، وهم فيه دود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق …» إلى آخر ما هول به عليه؛ فأقسم عمر لا يحملن عليه مسلمًا أبدًا، ورضي من ملك الروم بترك القتال، ثم زاد ملك الروم فكاتبه وقاربه وبادله الهدايا وأرسل مع البريد هدية من الملكة إلى السيدة أم كلثوم زوجة عمر تحتوي فيما احتوته عقدًا فاخرًا يقوم بأضعاف أضعاف هدية الطيب التي أرسلتها إليها أم كلثوم؛ فباع عمر العقد وأودعه خزانة بيت المال، وكتب إلى معاوية يحذره من القتال وينذره أن يصيبه منه ما أصاب العلاء الحضرمي إذا هو أقدم عليه بغير إذنه.
•••
أما قصة العلاء هذه فقد كان لها أثرها الذي لم ينسه عمر، ولم يزل عالقًا بذهنه يعاوده كلما عاوده بذكر البحر وغزواته، وخلاصتها أن العلاء الحضرمي والي البحرين كانت بينه وبين سعد بن أبي وقاص منافسة في الجهاد، فبرز اسم العلاء في حروب الردة، ثم غلبه سعد فضلًا وهمة في وقعة القادسية «وأزاح الأكاسرة عن الدار وأخذ حدود ما يلي السواد» قال ابن الأثير: «فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئًا … وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر، فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى إصطخر وبإزائهم أهل فارس، وعليهم الهربذ، فحالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم … واقتتلوا قتالًا شديدًا بمكان يدعى طاوس، وقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرج المسلمون يريدون البصرة ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلًا، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا …»
قال ابن الأثير الذي تلخص منه قصة هذه الغزوة: «ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إليه عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا … وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه وهو تأمير سعد عليه؛ فشخص العلاء إلى سعد بمن معه» ولم يكن أشد على نفسه من هذا العقاب الأليم، وما كان ليطيعه لولا إيمانه وتقواه وأنه استحقه بمخالفته من لا ينجو من عقابه مخالف كائنًا من كان.
وبقيت عبرة هذه الغزوة لا تنسى ولا تغيب عن فكر عثمان بعد عمر، وأوشكت مصائبها جميعًا أن تعزى إلى البحر وإلى كل ماء من بحار فارس والروم، ثم عادت المسألة — أو المشكلة — إلى عثمان فوجب أن يفصل فيها برأيه وهو على ذكر من سياسة عمر وسياسة أبي بكر من قبله: لا يحملن أحدًا من المسلمين على ركوب البحر، أو على ركوب الغرر — في قتال.
ونظرة عثمان في هذه المشكلة من أدل أعماله على نصيبه من الاجتهاد ومن الاقتداء، ومن أدل الأمور على إقدامه حيث يحجم من هم أشهر منه بالإقدام.
إن المشكلة هنا قد تغيرت ولم يبق بينها وبين مجازفة العلاء الحضرمي غير شبه قليل.
تغير من ركوب البحر أنه أصبح اليوم ضرورة لا محيد عنها، بعد إذ كان مجازفة لا حاجة إليها.
فقد أصبحت قبرص ورودس وجزر الشاطئ القريب ملتقى تتربص فيه الأساطيل المتجمعة من أقطار دولة الروم، وأصبح امتناع السفن المغيرة بها خطرًا على الشام وفلسطين ومصر والقيروان، لا يؤمن على غرة، ولا على استعداد وأهبة، ثم كان ما كان من اختيار المسلمين ركوب البحار اضطرارًا وتجربتهم للسفن كبارها وصغارها، فذللوا المركب العصي الذي طالما تجنبوه، وتغيرت المشكلة ولم يبق بينها وبين مجازفة البحرين غير شبه قليل.
وعلى هذا الشبه القليل بين الأمس واليوم لم تزل شبهة التغرير بالناس قائمة لا تدفع إذا خيف الضرر ووقع الخطر، وقيل: إن ولاة الأمر لم يحذروا ما كان حذرهم منه عمر وأوجب الحذر منه على أتباعه وتابعيه.
وعسير أن يمنع غزو البحر، وعسير مثله أن يباح، فخرج عثمان من العسرين خير مخرج، وكتب إلى معاوية يأذن له ويشترط عليه «ألا ينتخب الناس ولا يقترع بينهم، وأن يخيرهم فمن اختار الغزو طائعًا حمله وأعانه …»
وعلى هذا الشرط غزا عبد الله بن قيس الجاسي قائد الأسطول خمسين غزاة «بين شاتية وصائفة في البر والبحر ولم يغرق أحد ولم ينكب …»
واتفقوا مع أهل الجزر على شروط تحميهم الغرة وتبيحهم أن ينزلوا بها؛ ليمنعوا نزول العدو بأرضها واحتماء الأساطيل المغيرة بمرافئها، ورتبوا الحملة عليها من مصر والشام تأمينًا للطريق من شرقها وغربها وجنوبها، فأمنوا البحر وأمنوه لمن يسلكونه من المسلمين والمسالمين، ولو أنهم تركوا البحر وشأنه لاستعصى عليهم بعد ذلك أن يدفعوا غارة الروم من قبل البحر كما دفعوها، وأن يسيطروا على سبل الملاحة خلال سنوات معدودات كما سيطروا عليها.
وكانت هذه الهمة من عثمان في علاج الأخطار الخارجية حلًّا نافعًا في شئون الدولة الداخلية إلى حين؛ لأن مدافعة الأخطار من الخارج شغلت الناس زمنًا عن شواغل السلم والدعة التي تفرقهم وتفرغ أوقاتهم للنقاش والجدال فيما يعنيهم أو لا يعنيهم، ولكن مواقع الجهاد اختلفت واختلف عدد المجاهدين فيها ونصيب كل مجاهد من غنائمها وأنفالها ومن رواتبها وأعطيتها.
وبدأ ذلك في عهد عمر، كما تبدأ مشكلات الميادين التي لا تستقر على قرار، بين الكر والفر، والإقامة والترحال، وتعاقب الأمراء والقادة في ميادين القتال، فمما حدث في عهد عمر من ذلك أن أهل البصرة شكوا عجز خراجهم على كثرتهم، وأن أناسًا يشاركونهم فيه ممن أقاموا معهم بعد تمام الفتح؛ فاختصم أهل البصرة وأهل الكوفة «وادعى أهل البصرة قرى افتتحها أبو موسى دون أصبهان، أيام أمد به عمر بن الخطاب أهل الكوفة، فقال لهم أهل الكوفة: أتيتمونا مددًا وقد افتتحنا البلاد؛ فأنشبناكم في المغانم، والذمة ذمتنا، والأرض أرضنا. قال عمر: صدقوا. فقال أهل الأيام والقادسية ممن سكن البصرة: فلتعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤكم فيه من سوادهم وحواشيهم؛ فأعطاهم عمر مائة دينار برضا أهل الكوفة، أخذها من شَهِد الأيام والقادسية …»
وقد عزل عمر والي الكوفة عمار بن ياسر واستعمل عليها أبا موسى، وكان أهل الكوفة يشكون عمارًا ويقولون لعمر: إنه لا يدري علام استعملته، فسألهم: ومن تريدون؟ قالوا: نريد أبا موسى، فولاه عليهم، فأقام عليهم سنة، ثم باع غلامه العلف فشكوه؛ فعزله وصرفه إلى البصرة.
ولبث عمر مهمومًا مغمورًا بأمر هذه الشكايات، حتى اضطجع يومًا بجانب المسجد وهو يفكر فيها واستيقظ وهو مكروب بادي الأسى، فقال له المغيرة بن شعبة: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلا من عظيم، فقال: وأي شيء أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟ وأتاه أصحابه وهو بتلك الحال من الغم والأسى فسألوه: ما شأنك؟ فقال: إن أهل الكوفة قد عضلوني. واستشارهم فيمن يوليه، فأشاروا عليه بتولية المغيرة، فولاه، وأقام واليًا عليها أكثر من سنتين إلى مقتل عمر، وكان من رأي المغيرة الذي استمع إليه عمر أن الوالي القوي المسدد أصلح من الضعيف التقي «أما الضعيف المسلم فإن إسلامه لنفسه وضعفه عليك وعلى المسلمين، وأما القوي المسدد فإن سداده وقوته لك وللمسلمين.»
ولم ينحسم هذا الخلاف في عهد عمر ولا في عهد عثمان ولا في عهد عليٍّ إلى أيام الدولة الأموية، فكان معاوية يأخذ لجند قنسرين بنصيب من فتوح العراق وأذربيجان والموصل والباب، وهكذا كان يحدث في الميادين عامة بين من ظفروا فيها، ثم تحولوا عنها إلى غيرها، وبين من أقاموا فيها ولم يشهدوا فتوحًا، ولا ظلم ولا غبن في التقسيم والتقدير، وإنما هي جرائر السعة واشتباك النظم والولايات وكثرة الأمداد التي تنتقل من ميدان إلى ميدان ومن ولاية إلى ولاية، ولنا أن نقول: إنها جرائر الاختلاف من نظام الخلافة إلى نظام الملك، والدولة التي تواجهها كل يوم قضية من قضايا المعيشة مقرونة بقضايا الجهاد، أو قضية بين حالة عاجلة وحالة باقية على مدى الأيام، ولا ينفصل فيها نظام المعيشة ونظام الجهاد كل الانفصال.
وليس بالنادر بين هذه القلاقل أن يخف الجيش لنجدة جيش آخر فلا يصل إلى المكان المحصور أو المهدد إلا بعد الاستغناء عن نجدته، وليس بالنادر أن تتنافس الجيوش بالقادة والسمعة والسابقة؛ فينفس بعضها على بعض أن ينحاز لقيادته وأن يكون أميره تابعًا لأمير آخر لم يعرفه قبل ذلك.
ومما اتفق من ذلك أيام عثمان أن حبيب بن مسلمة الذي سبقت الإشارة إليه كتب إلى عثمان يسأله المدد، فكتب عثمان إلى معاوية في الشام يأمره أن يشخص إليه من أهل الشام والجزيرة قومًا ممن يرغب في الجهاد، وكتب إلى سعيد بن العاص في الكوفة يأمره بأن يمد حبيبًا بجيش عليه سلمان بن ربيعة الباهلي، فسار سلمان في ستة آلاف من أهل الكوفة ولم يصل إلى حبيب إلا بعد فراغ حبيب من حملته الظافرة على الموريان.
ولقد كان كلاهما — حبيب وسلمان — من أشجع القواد وأخبرهم بفنون القتال، وكان كل منهما «غزَّاء» معروف السابقة في ساحات الجزيرة والشام، فلما أراد سلمان أن يلي إمارة الجيشين أبى عليه حبيب ذلك، ودخل جند القائدين في المنافسة، وقال أهل الشام لنَضْرِبَنَّ سلمان: إن أبى إلا الرئاسة علينا؛ فأجابهم أوس بن مغراء من جند سلمان بشعر يقول فيه:
ولكن القائدين كانا أحكم وأكرم من أن تفسد عليهما هذه المنافسة عملًا حاضرًا بين أيديهما، فافترقا على أن يوغل حبيب في غرب أرمينية، وأن يوغل سلمان في شرقها، وأن يتلاقيا إلى الشمال بعد فتح المواقع بينهما؛ فدان لهما ما بين البحر الأسود وبحر الخزر، وصرفا بأسهما إلى العدو ضنًّا بقوة الجيشين أن تتفرق في المنافسة على الإدارة والسمعة، ولكنها منافسة كانت تحتدم في أيام السلم وبين سكان المدن؛ فلا تنتهي بغير خصومة ولا تنتهي الخصومة فيها بغير شر وعناد.
•••
ومن مقابلة النقيض بالنقيض أن نستطرد من قصة حبيب وسلمان إلى قصة الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص اللذين تعاقبا على ولاية الكوفة في عهد عثمان، وقد أجمع المؤرخون على فداحة الخطر الذي نجم من هذه القصة على إمامة عثمان بين أهل الكوفة، ثم بين سائر الأمصار.
كان الوليد بن عقبة والي الكوفة قد اتهم بشرب الخمر؛ فعزله عثمان وأمر بإشخاصه إليه وأسند الولاية بعده إلى سعيد بن العاص؛ فغضب نفر من بني أمية على سعيد؛ لأنه غسل منبر المسجد قبل أن يخطب عليه، وعدوا ذلك تشهيرًا بالوالي المعزول، وتربصوا به الدوائر يكيدون له بين رعيته ويغرون به من يلغط في مجلسه.
ونحن نقتبس من جملة المؤرخين، كالطبري وابن الأثير وغيرهما، زبدة هذه القصة التي كان لها كل ذلك الخطر من بدء الفتنة إلى مقتل عثمان.
وزبدة هذه القصة من مراجعها المتواترة أنْ سعيدًا اختار وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة، فكان هؤلاء دخلته داخلًا وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه.
وسأل عن أهل الكوفة فأطلعوه على حالهم؛ فكتب إلى عثمان بما انتهى إليه كما أمره، وقال له فيما قال: «إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغُلب أهل الشرف منهم، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت، وأعراب لحقت، حتى ما ينظر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها …»
فأتاه الجواب من عثمان أن يفضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعًا لهم، إلا أن يكون أهل السابقة قد تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، وليحفظ لكل منزلته ويعطيهم جميعًا بقسطهم على سنة العدل والمعرفة بأقدار الناس.
وأرسل سعيد إلى وجوه القوم فقال لهم: «أنتم وجوه من وراءكم، والوجه ينبئ عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة، ثم أدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف وخلص بالقراء والمتسمتين في سمره، فانقطع الذين لا سابقة لهم ولا قدمة بعضهم إلى بعض، وجعلوا يقعون فيه وفي عثمان، وكلما لحق بهم لاحق من ناشئ أو أعرابي أو مولى طليق أعجبه كلامهم؛ حتى غلب الشر وفشت القالة، فكتب سعيد بذلك كله إلى عثمان على ما تعوده الولاة من إبلاغ كل كبيرة أو صغيرة إلى الخليفة منذ أيام الصديق، فنادى منادي الخليفة إلى صلاة جامعة وخطبهم وتلا عليهم ما جاءه من سعيد، وذكر لهم أنه يريد أن يبعث إلى العراق بمن شاء النقلة إليه من أهل السابقة، ويأذن له في أن يبيع ما يملك بالحجاز عسى أن يستعين بهم سعيد على نصيحة الشاغبين من الروادف والأتباع.
على أن سعيدًا لم ينقطع عن لقاء العامة إذا جلس للناس، فحدث في بعض هذه المجالس أن فتى غرًّا أثنى على طلحة بن عبيد الله فقال: ما أجود طلحة! قال سعيد: إن من كان له مثل بساتينه لحقيق أن يكون جوادًا … والله لو أن لي مثلها لأعاشكم الله بها عيشًا رغدًا … فقال عبد الرحمن بن قيس، وهو فتى حدث: والله لوددت أن لك ما كان لكسرى على نهر الفرات؛ فانتهره أناس من الحاضرين وصاحوا به: أتتمنى له سوادنا! وهاج الشر بينهم وبين أهل الفتى، وسمع قومه من بني أسد بما أصابه فجاءوا وأحاطوا بالقصر، وعاذت القبائل بسعيد، فأقسم ألا يغشى مجلسه أحد من أولئك الشاغبين «فقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان.»
ونما خبر هذا الشغب إلى عثمان؛ فأذن لسعيد في إخراجهم إلى الشام، وكتب إلى معاوية: «إن نفرًا قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدًا فاقبلهم، وإن أعيوك فارددهم علي.»
فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق، وكان يتغدى ويتعشى معهم ويحادثهم ويستخبرهم عن شكاتهم عسى أن يقنعهم، فقال لهم في بعض الأحاديث: بلغني أنكم نقمتم قريشًا، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة. إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المئونة. والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم.
قال رجل منهم — وهو صعصعة: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلصت إلينا.
قال معاوية: عرفتكم الآن. وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، ثم قال لصعصعة: أنت خطيبهم ولا أرى لك عقلًا … أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني الجاهلية.
وخرجوا قبل أن يخرجهم معاوية من الشام؛ فقصدوا إلى الجزيرة ولم يعودوا إلى الكوفة اتقاء الشماتة بهم، وسمع بهم والي حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ فاستدعاهم منذرًا متوعدًا وقال لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبًا بكم ولا أهلًا … خسر والله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم. يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية. أنا ابن خالد. أنا ابن من قد عجمته العاجمات. أنا ابن فاقئ الردة … والله يا صعصعة … لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى.
ثم أقامهم شهرًا كلما ركب مشاهم معه، وخافوه فاستقالوه وأعلنوا له توبتهم، وسرح أحدهم — وهو الأشتر — إلى عثمان فخيره عثمان أن يحل حيث شاء، فاختار العودة إلى ولاية عبد الرحمن.
وجرى في البصرة ما كان يجري في الكوفة من أشباه هؤلاء الروادف، وكان في بعض قرى الولاية قاطع طريق يُسمَّى حكيم بن جبلة العبدي يصاحب الجيش، ثم يخنس عنه ويغير على أهل الذمة، فشكاه أهل الذمة ورؤساء المسلمين إلى عثمان؛ فكتب إلى ابن عامر والي البصرة أن يحبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة «حتى تأنسوا منهم رشدًا» فحبسه وتعقب خبره، فجاءه النبأ ذات يوم أن رجلًا يدعى ابن السوداء نزل عليه وأخذ يصرح له ولأمثاله بالطعن في عثمان وخلافته، فدعا بابن السوداء هذا فإذا هو عبد الله بن سبأ، يهودي من أهل اليمن يقول برجعة النبي إلى الدنيا ويظهر التشيع لعلي، فسأله ابن عامر: من أنت؟ قال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. ثم أخرجه من البصرة لما علم من لياذه بالمفسدين فيها، فذهب إلى الكوفة يلوذ فيها بأمثال حكيم بن جبلة فأخرج منها، وذهب إلى مصر فجعل يكاتب من تركهم في البصرة والكوفة. وأوى بمصر إلى حمران بن إبان وهو رجل موتور من عثمان، كان قد تزوج امرأة في عدتها؛ ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة، فسعى هناك في وقيعة بين الوالي ورجل من النساك، وافتضح كذبه عليه؛ فأخرج من البصرة، وذهب يتردد بين الشام والحجاز ومصر، فلقيه فيها ابن السوداء وأوى إليه وأدخله معه في مكاتباته وسعاياته، وكثرت السعاية بين أهل الأمصار من الروادف وأشباههم، فمن نزل منهم بالشام أرضاه معاوية أو أخرجه، ومن تحول عنها كاتب غيره للاجتماع في مكان لا رقابة عليهم فيه.
وحدث أن الكوفة خلت من واليها سعيد بن العاص وخلفه عمرو بن حريث، فإذا بجموع المكاتبين تلتقي فيها؛ وإذا بأناس منهم يشيعون في الناس أن سعيدًا عائد إليهم، وأنه ذهب إلى الخليفة يراوده على نقصان رزق نسائهم إلى مائة درهم، ورد أولي البلاء من المجاهدين إلى ألفي درهم، ويزعم أن الفيء من العراق بستان قريش وأنها تأخذ منه ما تأخذ وتدع ما تدع، وطفق دعاة منهم يذيعون هذه القالة أيام الجُمَع والناس مجتمعون في المسجد؛ فيستخفون ألبابهم، ولا يستمعون لذي رأي يبطل لهم ما يذاع على كذب بينهم، وتصدى عمرو بن حريث — خليفة سعيد على الكوفة في غيابه — لتفنيد ما زعموا؛ فقام على المنبر في يوم جمعة ينصح لهم ويوصيهم بالطاعة ولا من سميع.
قال القعقاع بن عمرو: «أترد السيل على أدراجه؟ هيهات، والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تنتضي ويعجون عجيج العيدان، ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبدًا؛ «فاصبر» قال عمرو: «أصبر». وتحول إلى منزله لا يأمر ولا ينهي.
هذه بداية تتبعناها إلى نهايتها. بدأت في أوائل خلافة عثمان، وتتبعناها إلى نهايتها قبيل مقتله، وما يبلغ من خطب هذه الغاشية أن تفضي إلى مقتل رئيس دولة، لولا شذوذ في طبيعتها خرج بها عن سوائها وتعدى بها أطوارها.
نعم، هي غاشية هان خطبها لو أنها صادفت أميرًا يعالجها بنظام الإمارة، وهان خطبها لو أنها صادفت واليًا مسئولًا عن نظام ولايته مطلق اليد في دفع شواجر الفتنة عنها، وقد عالج كل والٍ من ولاة ذلك العهد ما وقع منها في ولايته؛ فاستطاع أن يصرف عنه غائلتها، عالجها معاوية بنفي القائمين بها، وعالجها عبد الرحمن بن خالد بتأديب دعاتها، ولم يستفحل شرها في الكوفة إلا بعد أن غاب عنها واليها سعيد بن العاص، ووقف دونها خليفته عمرو بن حريث مكتوف اليدين وهو بعيد عن مشورة عثمان ومشورة أمير الولاية سعيد، ولو كان له أن يسكنها بالسيف كما قال القعقاع؛ لما كان تسكينها كثيرًا عليه، ولكن القعقاع نفسه لم يشر عليه بامتشاق السيف على توقعه أن يعج عجيجها، وإنما أشار عليه أن يصبر فصبر، ولزم بيته لا يأمر ولا ينهى.
لقد كان خطب الغاشية هينًا لو أخذها الآخذون بسلطان الولاية، ولكنها قد جرى الحساب فيها على سنة الخلافة في عهد لا هو بعهد خلافة ولا بعهد مملكة، تتقاصر فيه حقوق الخليفة ولما يتوطد فيه حق الملك، وهذه هي النكبة الكبرى في صميمها.
وفي أمثلة الشواجر التي أشرنا إليها في عهد عمر وعهد عثمان كذلك مجال للتفرقة بين طريقة الخلافة وطريقة الملك والإمارة في سياسة هذه الشئون، أو في سياسة جميع الشئون.
كان عمر أقوى من عثمان ولا مراء في ذلك، وتقدم أنه بدل ثلاثة من الولاة على الكوفة غير والٍ رابع كان يهم بإشخاصه إليها قبل مقتله، وشوهد مهمومًا مكروبًا على قدرته التي لا تضيق بأزمة من أزمات السلم والحرب واضطلاعه بأعظم الأعباء التي عرضت له أيام خلافته: مائة ألف لا يرضون عن والٍ ولا يرضى عنهم والٍ، وهذه معضلة ثقلت عليه؛ حتى أحس ثقلها كل من كان يعرفه ويلقاه في إبان شكاياتها ومنازعاتها.
فما بال أزمة كهذه تثقل على الرجل الذي نهض بأفدح الأعباء وصغرت في عينيه مخاوف الدنيا ومطامعها؟
أتراه خاف من ثورة أصحاب الشكاية؟
لو كان هذا ما يخشاه لما أعضله ولا أعياه أن يعد له عدته ويفرغ منه على النحو الذي يريده.
أم تراه خاف على سلطانه، أو خاف على حياته أو خاف على مصلحة من المصالح الكبرى أو الصغرى تعنيه غير مصلحة الإسلام والمسلمين؟
كلا، فما في شيء من ذلك ما يخيفه، وإنما أعضله من أمر تلك الشكاية مخافة أمر واحد: مخافة الظلم أن يقع منه على شاكٍ له حق في شكاة.
ذلك كل ما أعضل على عمر من شكايات أهل الكوفة، ولو لم يكن حساب نفسه على الظلم أعضل من كل معضلة؛ لما كان في شكايات القوم ما يكربه ويقلق نومه ويغيم على وجهه حتى يلمحه من ينظر إليه من عارفيه.
ولو أن عمر على يقين من افتراء الشاكين؛ لما أهمه أن يسخطهم ويخسر ثناءهم، ولا أعياه أن يؤدبهم ويردهم إلى طاعة وليهم، فإنما الشكاة بالحق هي التي تزعجه وتكربه ويشغله منها أن يبرأ من مظنتها غاية جهدهم، فإن عرف وجه الحق فما يبالي بعده من شكا أو ادعى، ولو زعم أنه يدعى باسم من شاء من الأكثرين أو الأقلين، وعلى هذا جرت سياسته وسياسة أبي بكر، وعلى هذا كان يقضي بين أبي بكر والشاكين منه حيثما سمعت الشكاية من الخليفة الأول، وبخاصة في مسائل الأعطية والأرزاق.
كان رزق أبي بكر الصديق حين استخلف خمسين ومائتي دينار في السنة، وشاة في كل يوم يؤخذ منها بطنها ورأسها وأكارعها؛ فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، فخرج إلى البقيع يتجر، وجاء عمر فإذا هو بنسوة جلوس فسألهن: ما شأنكن؟ قالت بعضهن: «نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا.» فانطلق يطلبه فوجده في السوق، فأخذ بيده وجذبه ليذهب به إلى حيث تنتظره النسوة. قال أبو بكر: «لا حاجة بي إلى إمارتكم. رزقتموني ما لا يكفيني وعيالي.» وسأله عمر عما يكفيه، فقدروه بثلاثمائة دينار في السنة وشاة كل يوم لا يؤخذ منها شيء، وجاء عليٌّ وهما على هذه الحالة، فلم ير ضيرًا في الزيادة ووافقه عمر بعد مراجعة. قال أبو بكر: «أنتما رجلان من المهاجرين لا أدري أيرضى بقية المهاجرين بما رضيتماه أم لا.» ثم صعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: «أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ منها بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعليًّا كملا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟»
فأجابه المهاجرون: «اللهم نعم، قد رضينا.» وصاح صائح من جانب المسجد؛ فإذا هو أعرابي يقول: «لا والله ما رضينا. فأين حق أهل البادية؟»
ولم يكن عسيرًا على عمر ولا على أبي بكر أن يعلما أنها صيحة لا يصغى إليها، فمن التنطع أن يمنع رزق الخليفة الذي أقره ذوو الرأي من المجاهدين في انتظار سؤال البادية من حضرهم منها ومن لم يحضر، وكان جماع قولهم أن المهاجرين إذا ارتضوا شيئًّا؛ فإنما الغائبون من أهل البادية تبع للحاضرين، ولا يشتكي من ذلك مشتكٍ بالحق كائنًا ما كان ادعاؤه وكائنًا من كان المدعون على غراره.
فلا حساب للخليفة إذا جاءته الشكاية غير حسابه لضميره وخشيته أن يكون قد ظلم أحدًا، أو قمع شاكيًا له مظنة صدق في شكايته، وغير ذلك حساب الملك والإمارة، فإنهما بين خوف الفتنة وخوف الضرر على سلطان صاحب سلطان، ويأتي الإنصاف في المرتبة بعد النظام والمصلحة إن كان له حساب.
ولقد شكا من الزكاة أيام الخليفة الأول أكثر أهل الجزيرة العربية، واستدعى قتالهم جهدًا أكبر من جهد القتال مع الأكاسرة والقياصرة، فما وقع اليقين في نفس الخليفة أنه على الحق وأن الشاكين على الباطل؛ حتى أقدم على مكاره الحرب الداخلية وأقدم معه سائر المهاجرين والأنصار، ولو تكرر هذا لتكرر علاجه بما يقتضيه في غير مبالاة بكثرة الشاكين وقلة المجاهدين.
المثل الآخر الذي تفترق فيه خطط الخلافة وخطط الملك من جانب الرعية، قبل جانب الرعاة، هو مثل الخلاف بين القائدين سلمان وحبيب في حروب أرمينية. فقد وجد النزاع على الرئاسة ووجد التنافس بين الأتباع، ولكنهما وجدا في موقف جهاد؛ فأوحى الموقف إلى المتنازعين والمتنافسين خير ما يصنعون بغير حاجة إلى مشورة الخليفة، وهذه حادثة من حوادث عهد عثمان الذي اشتبكت فيه معالم الخلافة ومعالم الملك، وغلبت فيه معالم الملك على مطالب المعيشة أيام السلم، بعيدًا من حمية الجهاد ومن خطر العدو المتحفز للانتقاض، وقريبًا من شهوات الدنيا وبطالة الفراغ.
وقضى للخليفة الثالث، باتساع دولته ودرء الأعداء عنها، أن يتولى أصعب خلافة في صدر الإسلام.
كانت ثورة الفرس والروم والخزر والترك أول صدمة تلقاها، وأكبِر بها من صدمة يتلقاها صاحب دولة في أول حكمه، ولكنه ظفر بها وجاوزها بالدولة سليمة منيعة؛ فأسلمه الظفر إلى الصدمة الكبرى، وهي صدمة الزلازل النفسية التي امتحن بها رعاياه في بحبوحة السلم والرخاء، وكانت كلها طورًا جديدًا في حياة أولئك الرعايا: فلا هم رعايا خلافة، ولا هم رعايا مملكة، متراوحين هنا تارة، وهناك تارة أخرى، بين بين، على غير نظام متبع في حالة واحدة أو في الحالتين.
وقد أتينا من قبل على فارق بين الخليفة والملك في محاسبة النفس على شئون الرعية، ونأتي الآن على الفارق الأصيل أو الفارق الشامل بين النظامين، وهو الفارق بين الثقة التي لا تحتاج إلى حماية وبين السلطة التي تحمي نفسها.
فالخليفة يعمل ما يشاء في ظل الثقة به والاطمئنان إليه، يعمل اليوم ما ينقضه غدًا ولا ملامة عليه، ما دام عمله اليوم والأمس لغيره لا لنفسه، وللمصلحة العظمى التي لا يناله منها نصيب غير نصيبه المقدور، وقد يرضى هو لنفسه بأقل من ذلك النصيب.
رعية تثق بخليفتها وخليفة يثق برعيته، ولكنه لا يبالي ألا يثقوا به إن كان على طمأنينة بينه وبين ضميره وبينه وبين الله على السنة الإلهية التي يعلمها من أحكام دينه.
أما الملك فالسلطة هي قوامه عند ذويه سواء نعموا بالثقة طواعية أم خذلتهم هذه الثقة عن إكراه وكراهية.
وقد وصلت الخلافة إلى عثمان وهو أحوج ما يكون إلى هذه الثقة، وهي أعصى ما تكون عليه.
سبقه بالحذر من علية الناس خليفتان بلغت ثقة العلية والدهماء بهما غاية مبلغها، فأبو بكر كان يحذر الدنيا على أولئك العلية، وعمر كان يسلمهم منها ما يأمن عاقبته عليهم، ولا يقدرون على مخالفته؛ لأنهم لا يشكون فيه ولا الشك فيه مقبول منهم إذا هم قبلوه.
أما هؤلاء العلية فهم في خلافة عثمان منافسون ونظراء، وخلافته بينهم على شرط معرض في كل لحظة للتأويل والحساب العسير.
وأما سواد الناس فقد شغلوا أولًا ثم فرغوا من الشغل للبطالة والملاحاة وكأنهم ورثوا من بيزنطية سلطانها ومعه محاك الجدل البيزنطي الذي تضرب به الأمثال، ولا يؤمن سواد الناس مع البطالة والفراغ للقيل والقال.
وقد كانت سياسة أبي بكر وعمر أن يستبقيا العلية عندهما، ويرسلا الجند والقادة على قدر إلى ميادين الجهاد، وكان عمر يقتضب الولاية على الولاة مخافة — كما قال — من أن يحمل فضل عقولهم على الناس.
أما سياسة عثمان فقد اختلفت باختلاف الأحوال: سياسة عثمان كانت ترمي إلى إطلاق العلية في الآفاق؛ إرضاء لهم وتوسلًا بمقامهم بين الدهماء في كل قطر إلى تسديد النصيحة وحسن القيادة واتقاء الفوضى، وهو اجتهاد منه، له ولا ريب جانبه من الصواب.
وعزت عليه الطمأنينة إلى الولاة مع الفراغ للدنيا بعد الجهاد، فاختار للولاية أناسًا من ذوي قرابته سبقت لهم ولاية في عهد الخليفتين السابقين؛ عسى أن يصدقوه العون بحكم القرابة إن لم يصدقوه العون خالصًا لوجه الله.
ولما اضطر إلى هذه الخطة حاسب ضميره فعمل على تدارك الضرر منها؛ فذلك حين وفد الوفود لكل مصر من الأمصار عليه والٍ من ولاته الأقربين، فهم يعيشون في أمصارهم ويحضر منهم من يشاء في موسم الحج ليرجع إليه بما يراه موضعًا للمراجعة من أحوال مصره، وهذه خطته التي آثرها للطمأنينة إلى ولاته والطمأنينة على رعاياه.
والذي شاع عن عثمان — وما أسهل الإشاعة — أنه كان يبالي ذوي الثراء ولا يبالي المقترين والضعفاء، والذي كان يحدث منه فعلًا أنه يغضب الطامعين ويحمي المطموع فيهم من أهل الذمة وأهل الحاجة والمتربة، فمن أجل إبل الصدقة غضب الغاضبون حين حمى لها المرعى، وزاد في مرعاها على حسب زيادتها، ومن أجل أهل الذمة غضب الشطار من قبيل حكيم بن جبلة؛ لأنه أدبهم وأمر بحبسهم ونهاهم عن أموال أهل الذمة وهم يحسبونها حلالًا مباحًا لمن يسطو عليها، وكان رهط المبعدين من الكوفة إلى الشام يحاور معاوية في هذه الأموال فينهاهم عنها ويكتب عنهم إلى عثمان أنهم «لا يتكلمون بحجة وإنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة.»
فأما الرزق الحلال فقد فرض لأصحابه ضعف ما كانوا يأخذونه من الأعطية يوم تولى الخلافة، ولم يفعلها سياسة بل فعلها إيمانًا بالصواب في هذه الزيادة، وقد كان هو في عهد الفاروق أول من قال بكثرة المال وأشار عليه برصد الأسماء وتوفية كل ذي حق حقه من العطاء خشية النسان والتكرار.
وقد تعود المؤرخون أن يقسموا عهد عثمان قسمين: قسم الصلاح والرضى، وقسم الخلل والشكاية، وهم على صواب في تقسيمهم هذا، وإن لم يُصِب منهم من قال إنهما قرينان لأيام الكهولة وأيام الشيخوخة في حياة عثمان.
فالواقع أن عثمان كان شيخًا جاوز السبعين على أرجح الأقوال في كلا القسمين، ولكن الفرق الصحيح بين السنوات الأولى والسنوات الأخيرة من عهده أن الناس كانوا في شاغل بدفع الأعداء في السنوات الأولى، وأنهم فرغوا للجدل والملاحاة في السنوات الأخيرة، وأن اتهام الولاة أيسر من اتهام القادة في إبان القتال، وقد صارت الرئاسة كلها إلى الولاة بعد المشاركة بينهم وبين قادة الحروب.
ولم يأت هذا التغيير في أطوار النفوس من جانب واحد ولا من الرعية وحدها دون راعيها؛ فحسب طالب الحقيقة أن يعلم أنه لم يأتِ كله من جانب عثمان، وأن الرعية تغيرت فلم تصبح رعية خليفة، وهي تحاسب ولي أمرها بميزان الخلافة.
أما أن عثمان لم يشترك في هذا التغيير بعمل من عنده؛ فذلك هو الطرف الآخر من طرفي الباطل والادعاء.
إنما آفة عثمان أنه لم يخل من الأموية ولم يكن أمويًّا «كفاية».
فمن خلاله الأموية حب القرابة فهو مبالغ في إيثاره لذوي قرباه.
ومن خلال الأموية تلك «الطبيعة العملية» التي لم يكن للأسرة فكاك منها.
لقد كان أبو سفيان يخلط بين النبوة والملك فيقول للعباس: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا.»
وكان ينظر إلى مال الفيء بين يدي رسول الله؛ فيقول للرسول عليه السلام: «لقد أصبحت أكثر قريش مالًا.»
وروي عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان رضي الله عنه حين صارت الخلافة إليه فقال: «قد صارت إليك بعد تيم وعديِّ، فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية؛ فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار»؛ فانتهره عثمان وأخرجه مطرودًا من عنده.
إن عثمان لأنزه نفسًا وأطهر عقيدة من مثل هذه النزعة الدنيوية، ولكنه سلم من شر ما في «الأموية» ولم يسلم من ميراثها بأجمعه؛ فكانت له نظرة إلى الإمامة قاربت أن تكون نظرة إلى الملك، وكان يقول لابن مسعود كلما ألح عليه في المحاسبة: «مالك ولبيت مالنا؟!» وقال في خطبته الكبرى يرد على من أخذوه بهباته الجزيلة في إيتاء ذي القربى على رواية الطبري: «فضل من مال، فلم لا أصنع في الفضل ما أريد، فلم كنت إمامًا؟!»
فقد كاد في هذا المقال أن يرفأ الخلافة برقعة من الملك، ومالت به طبيعة العصر كله إلى بقية من النزعة الأموية؛ فكاد الملك والخلافة لديه يلتقيان في حساب الأموال.
•••
على أنه مع هذا التوسع في فهم حقوق الإمامة لم يثبت أنه أنفق المال في غير مصالح الأمة كما يقدرها، ويوافقه على تقديرها الكثيرون من المحدثين الذين نشئوا في عصر الاقتصاد وتقسيم الموارد والمصروفات على حسب مرافق الدولة، وثبت على التحقيق أنه أنفق من ماله الخاص — قبل الخلافة وبعدها — لاستصلاح أمور عامة من خصائص بيت المال، وقد تحرج أشد التحرج من إنفاق المال على حرس يحميه في أسوأ أيام الفتنة، ولو أنه فعل لما خالف بذلك سنة الحكم في نظام من النظم الحكومية.
وكانت له «سياسة اقتصادية» يلاحظ فيها تدبير المرافق العامة وتيسير التجارة والعمارة، ومنها إصلاح ميناء جدة وتمهيد الطرق وإقامة الشرطة في المخافر وتنظيم الأسواق.
ومهما يقل القائمون عن ترخصه في العطاء وبذل الرواتب من بيت المال؛ فلا قول لأحد في حرمة الحياة عنده حتى فيما يخشى منه الجور على حياته، فما طاوعه ضميره قط على إيقاع حكم الموت بإنسان ممن استحقوا هذا الحكم بالشغب والعصيان، ومن لامه في هذا الباب فإنما يلومه؛ لأنه أفرط في الرحمة والأناة، ولا يلومه لأنه قسا فضلًا عن الإفراط في القسوة.
والمشقة التي يلقاها المؤرخون في هذا الصدد عظيمة متبعة؛ لأن الغالب في المؤرخين أنهم يستسهلون الرأي كلما كتبوا عن رجل اشتهر بصفة من الصفات، وهم على دأبهم هذا قد يستسهلون الرأي في تقدير سياسة عثمان بعد السنوات الأولى من خلافته على الخصوص، فما كان عملًا وتدبيرًا فليس أسهل من إسناده إلى أعوانه، وما كان توانيًا وتفريطًا؛ فليس أسهل من إسناده إليه، وإن أسندوه إليه ليقولوا: إنه غلب عليه.
وتحضرني في هذا المقام مساجلة بين بعض الصحاب سمعناها عن ضعف عثمان وتسيير الناصحين له من حزبه ومن غير حزبه، إحدى الدلالات على ذلك أنه تاب ثم عدل عن التوبة مرات في عامه الأخير.
والأمر الذي نسيه أصحاب هذه الدلالة أن التوبة شيء لم يطلب قط من أحد في تلك الآونة إلا استجاب إليه، وما قيل لأحد قط: تب إلى الله، فأجاب على ذلك بغير التوبة والاستغفار، فما كان منهم من أحد يرى أنه غني عن الاستغفار وتكفير الذنوب في وقت من الأوقات، أو كان يستعلي عن الوقوف أمام الله موقف التوبة والندامة، ما كانت توبات عثمان إلا من هذا القبيل كلما دعي إليها في أيامه الأخيرة، فإنما هي توبة لله وأمام الله، ولا عليه أن يعيدها في اليوم مرات بعد مرات.
فمن تيسير المؤرخ على نفسه أن يحيل عمل عثمان وتدبيره على الأعوان والنصحاء، وأن يحيل التواني والتفريط إليه أو إلى غلبة الأعوان عليه، ولا سيما المسئول الأكبر في رأي الأكثرين عن أخطاء عثمان ابن عمه مروان.
فما كان لمروان هذا من القوة ما أسبغه عليه المداحون بعد قيام الدولة الأموية، ولم تكن له هذه القوة حتى في مطامع الملك وهمم السيادة والرئاسة، فإنه كان يزاحم معاوية فلم يستطع أن يبلغ معه كثيرًا ولا قليلًا، وراح يحرض عمرو بن عثمان ليناوئ معاوية ويقول له: إنه لم يأخذ الخلافة إلا باسم أبيك، ثم ينزوي ولا يجسر على الظهور. ولم يفارقه هذا الخمول بعد موت معاوية وابنه يزيد؛ فكاد أن يبايع عبد الله بن الزبير بالخلافة لولا النزاع بين اليمانية والقيسية في الشام.
وقد أودى حمقه بحياته بعد أن صارت الخلافة إليه ذلك المصير الذي لا فضل له فيه، فقد خشي أن يكبر خالد بن يزيد بن معاوية فينازعه سريره؛ فلم تهده حيلته إلى عمل يحتاط به لهذه المنازعة غير أن يتزوج أمه ليصغره ويلحقه بأتباعه، وأمعن في هذه الحيلة لما كبر خالد فقال له على مسمع من أشراف القوم: مالك ولهذا يابن الرطبة. فكان فيها حتفه، وقيل: إن خالدًا أخبر أمه فقالت له: لا يعلمن أحد أنك أخبرتني، ثم وضعت على رأس مروان وسادة ولم ترفعها حتى مات.
فمروان هذا ليس بالعون الغالب الذي لا يخالف، وليس هو على الأقل بالذي ينسب إليه الرفق في تسيير الناس للقتال متطوعين، أو الرفق في محاسبة الخصوم والثائرين، أو بذل العطاء لمن ينافسهم وينافسونه من رؤساء بيت العاص أو بيت حرب في بني أمية، وغاية شأنه أنه المأمور الذي لا يستعاض عنه بمن هو أنصح منه وأقدر على الطاعة وأعرف بما كان وما هو كائن من أخبار العاصمة وأحوال الولايات لطول المراسلة والمعاشرة، ومن كان يحسب أن مشورته السيئة هي علة العلل في محنة عثمان، فعليه أن يلغي هذه المشورة ويفترض أنه لم يقل بها ولم تسمع منه، ثم لينظر ماذا يقدم هذا أو يؤخر من أزمة الحكم ومن فاجعة عثمان.
إنما المحنة كلها أنه زمن كان يحتاج حينًا إلى ثقة الخلافة فلا يجدها، ويحتاج حينًا آخر، أو في الحين نفسه، إلى سلطة الملك فلا يجدها، ولن يسلم حكم يحتاج إلى سند الثقة في موضعه أو إلى سند السلطة في موضعه؛ فلا يجد هذا ولا ذاك.