مصحف الإمام أو مصحف عثمان
ينفرد اليوم بين أعمال عثمان عمل جليل يوازنها جميعًا، يذكر باسمه حيث يذكر المصحف الشريف، ويعلمه من يعلم أن المصحف «العثماني» منسوب إليه.
فقليل من الناس يعلمون اليوم أنباء الفتوح التي فتحها عثمان، وأنباء الغارات التي ردها عثمان، ومنها ما تلتبس فيه أسانيد المؤرخين؛ فيختلط السند الواحد بين البلد والبلد وبين السنة والسنة، ولا يعرف القول الفصل في ذلك كله إلا بعد معارضة ومقابلة بين الأنباء والروايات لا يشتغل بها أحد غير المختصين.
أما عمل عثمان في المصحف فهو ماثل معلوم حيث يقرأ المصحف وحيث يقال: هذا مصحف عثمان وكل مصحف اليوم هو مصحف عثمان؛ فلم تكن كلمة «المصحف» نفسها معروفة علمًا على الكتاب الذي يجمع آي القرآن الكريم، فعرف المصحف تارة و«الإمام» تارة منذ سميا باسميهما في أوائل خلافة عثمان.
وليس من مباحث هذا الكتاب تاريخ جمع القرآن منذ جُمع لأول مرة في حياة النبي عليه السلام؛ وإنما نذكر منه ما يذكر في تاريخ عثمان رضوان الله عليه، وهو باتفاق الخالفين بعده ألزم ما كان لازمًا من أعمال العناية بحفظ القرآن الكريم.
جُمع القرآن الكريم في حياة النبي عليه السلام بعد أن كان مفرقًا في جريد النخل وصفائح الحجارة والعظام والجلود والرقاع، ولم يرتب يومئذ على حسب السور والموضوعات، وفي ذلك يقول الشيخ محمد العاقب الشنقيطي من أرجوزته المشهورة:
فلما كانت أيام أبي بكر؛ قال له عمر: إن أصحاب رسول الله ﷺ باليمامة يتهافتون تهافت الفراش، وإني أخشى ألا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك وهم حفظة القرآن. فهلا جمعته وكتبته؟ فنفر أبو بكر أن يفعل ما لم يفعل رسول الله، ثم أرسل أبو بكر إلى كاتب الوحي زيد بن ثابت فقال له مشيرًا إلى عمر: «إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما وإن توافقني لا أفعل.» وتراجعا في الأمر حتى قال عمر: «وما عليكما لو فعلتما ذلك؟» فنظرا مليًّا ثم قالا: «لا شيء!»
فجمعت الآيات وروجع الحفاظ في كل آية، ولم يشتغلوا يومئذ بنسخ ما جمعوه وإرسال النسخ إلى الأمصار؛ لأنهم تتبعوا الآيات لجمعها لا لمخافة الاختلاف في قراءتها.
ثم حدث هذا الاختلاف بعد تفرق المسلمين في الأمصار على أيام عثمان، وبلغ من ذلك أن المعلمين والصبية كانوا يقتتلون في المكاتب؛ لأن الصبية يرجعون إلى آبائهم فيسمعون منهم غير ما سمعوه من معلميهم، وعاد حذيفة بن اليمان من قتال أرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى الخليفة فقال له: «أدرك الناس يا أمير المؤمنين قبل أن يختلفوا في الكتاب»؛ فلم يتوان عثمان بقية يومه، وأرسل إلى السيدة حفصة يطلب النسخة التي أودعها أبوها عندها قبيل وفاته وقبل أن ينتخب الخليفة بعده، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها، ثم عارضها على ما يحفظه وهو يحفظ القرآن كله، وعارضها على ما يحفظ سائر الصحابة؛ فخلصت له النسخة المتفق على قراءتها وترتيب آياتها، فلم يحجم بعد ذلك عن أمر كان غيره خليقًا أن يهابه، مذ رأينا أن أبا بكر قد تردد قبل أن يجيب عمر إلى مشورته وليس فيها أكثر من مجرد التفكير في جمع الآيات المتفرقات.
أمر بعد حصول هذه النسخة لديه فأباد كل ما عداها إحراقًا ومحوًا، وأخذ «العسب واللخاف والجلود» التي لم تختلف ولم تجتمع على ترتيب فدفنها بين القبر والمنبر، وأرسل من «المصحف» كما جمعه نسخًا إلى الأمصار يعتمدونها ولا يقرءون في غيرها.
عمل من أخلق الأعمال أن يوصف بأنه «عمل عثماني» في الإقدام عليه وفي أثره.
فهذه الجرأة أحق شيء أن يلتفت إليه من كانوا يحسبون أن صفة الرحمة أو صفة الطيبة تحجب الشجاعة وتثني صاحبها عن تبعته إذا آمن بها.
وهذا العمل — في اختلاف تقديره وأثره — مثال من أعمال عثمان كافة، إذ كان معدودًا عليه من أكبر السيئات، ولم تبقَ لعثمان أعظم منه في تاريخ الإسلام.