أسباب ولا أسباب
على أن الأسباب التي ذكرت للحادثين جميعًا لا تزال في حاجة إلى إعادة نظر؛ لأنها إما أسباب مزعومة يراد بها غير ظاهرها، أو يجتهد بها المجتهدون بغير روية في مواردها ومصادرها، وإما أسباب صحيحة ولكنها لم تفعل فعلها إلا لاقترانها بأحوال تلك الفترة، ولو جاءت في فترة أخرى؛ لما كان لها ذلك الأثر.
خذ لذلك مثلًا أسباب الفتنة كما ذكرها معاوية لابن الحصين. سأله حين وفد عليه: «ما الذي شتت أمر المسلمين وخالف بينهم؟» قال ابن الحصين وكأنه أراد أن يوافق هواه: «قتل الناس عثمان!» قال معاوية: «ما صنعت شيئًا»، فعاد ابن الحصين يقول: «فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليٍّ إياهم». قال معاوية مرة أخرى: «ما صنعتَ شيئًا»، فقال الرجل: «ما عندي يا أمير المؤمنين». قال معاوية: «فأنا أخبرك أنه لم يُشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر؛ وذلك أن الله بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فعمل بما أمره الله به ثم قبضه الله إليه، وقدَّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم؛ إذ رضيه رسول الله ﷺ لأمر دينهم، فعمل بسنة الرسول وسار بسيرته حتى قبضه الله، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن منهم رجل إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومه … ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف.»
كذلك روى ابن الحصين عن معاوية، وجاء أناس من ذوي النظر في الحكمة والتاريخ فقالوا بما قال به معاوية، ومنهم محمد بن سليمان المتفلسف فيما رواه عنه ابن مكي الحاجب. قال ما فحواه: إن اختيار الستة من أهل الشورى ليكون الخليفة واحدًا منهم بعد مقتل الفاروق قد جعل كلا منهم يشرئب إليها ويعلم أنه أهل لها، وكان أشدهم عملًا لها وكيدًا لعثمان طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي الملقب بطلحة الجود، فهو من أبناء عمومة أبي بكر، محبوب لسخائه وشجاعته وسبقه إلى الإسلام، وكان ينافس عليها الفاروق فضلًا عمن جاء بعده، ويرى أن أبا بكر كان خليقًا أن يكلها إليه، وأنه إذا فضَّل عليه فليس بعد عمر من يفضله، وأعانه الزبير؛ لأن منافسة علي وعثمان إذا وليا الخلافة أشق عليه من منافسة طلحة إذا هي آلت إليه.
وكان أناس من المجتهدين يتابعون محمد بن سليمان المتفلسف على هذا الرأي، أو يتابعون معاوية بن أبي سفيان — أول من قال به وذهب إلى تخطئة عمر في ندبه لأهل الشورى — ولم تزل منهم بقية في عصرنا هذا ترى الحصافة والحكمة فيما قاله معاوية، منهم الأستاذ محمد أحمد جاد المولى الذي كان كبيرًا للمفتشين بوزارة المعارف، فهو ينقل كلام معاوية في كتابه «إنصاف عثمان» ثم يتبعه قائلًا: إنه رأي «الحصيف المجرب الذي حلب الدهر أشطره، وغلب برأيه ودهائه صاحب الحق على حقه، وأقام دولة الإسلام على تخوم دولة الروم موطدة الأكناف قوية الدعائم، وحاش لعمر أن يتهمه أحد فيما فعل؛ فإنه لم يرد إلا الخير للمسلمين جاهدًا، وكان أعظم ما يرجوه من ذلك ألا يكون خلاف وافتراق بين المسلمين … وأكبر الظن عندنا أن عمر لو كان في حال غير هذه؛ فربما فَضَّل أن يريح المسلمين من العناء والمناوشات الحزبية، ويعهد إلى من هو أهل للخلافة، فقد يجد الناس لهذا التعيين حرمة تسكت الألسنة والدولة لا تزال فتية، أعدى أعدائها الشقاق والانقسام.»
هذا سبب من أشهر الأسباب المذكورة، تواتر القول به من أيام الفتنة إلى العصر الحاضر، ولو كانت الأسباب التاريخية تُهمل على قدر وهنها وظهور الغرض فيها؛ لما ورد لهذا السبب ذكر على لسان بعد إفضاء معاوية به إلى أبي الحصين، إلا أن يكون ذِكْره لتوهينه والكشف عن غرضه، وهو مكشوف لا يجهد من يريد أن يلتفت إليه.
فمعاوية لم ينكر الشورى في اختيار الخليفة؛ إلا لأنه أجمع العزم على خطة ولاية العهد ورشح لها ابنه يزيد من بعده، وما كان في هذه الخطة حصافة ولا تجربة؛ لأنها لم تلبث أن أوقعت الخلاف في أقرب الأقربين إلى معاوية، وساقتهم إلى تولية العهد اثنين بدلًا من ولي عهد واحد، ولم تحسم الخلاف بين بني أمية فضلًا عن حسم الخلاف بين قريش وبين سائر المسلمين.
وقد قال الشعبي: إن عمر لم يمت حتى كانت قريش قد ملَّته؛ لقمعه رؤساءهم، وحبسه إياهم بالحجاز خوفًا من فتنتهم بالدنيا وفتنة الدنيا بهم، فإذا كانت هيبته في حياته قد سكنت بهم عن الخلاف؛ فهم مختلفون بعد موته لا محالة، ولو أنه اختار للخلافة أحدًا سماه لما اختار طلحة ولا الزبير؛ لأنه لم يذكرهما فيمن تمناه للخلافة من الموتى ولا من الأحياء، فقال: إنه كان يختار أبا عبيدة لو عاش؛ لأنه سمع الرسول الله يدعوه أمين الأمة، أو كان يختار سالمًا مولى أبي حذيفة لو عاش؛ لأنه رأى رسول الله يقدمه للصلاة بالمهاجرين. فلما سَمَّى من يحسبهم مرشحين للخلافة من الأحياء سَمَّى عليًّا وعثمان، ولم يجاوزهما إلى غيرهما من الستة أصحاب الشورى. فقال لعلي: «اتقِ الله يا علي إن صارت إليك، ولا تحمل بني هاشم على رءوس الناس» وقال لعثمان: «اتقِ الله يا عثمان إن صارت إليك، ولا تحمل بني مُعيْط على رءوس الناس»، وما نحسبه سكت عن طلحة إلا عامدًا وعلى عِلْم بأن اتفاق الستة لا يجمعون عليه، وتقيةً أن يظن ظان أنها وقف على بني تيم، ويقينًا منه أن اتفاق الستة على واحد أحرى أن يلزمهم الطاعة لمن يتفقون عليه.
وإذا كان في كلام معاوية لأبي الحصين حصافة ألمعية، فتلك هي إشارته المقصودة إلى التفرقة بين أمور الدين وأمور الدنيا، واعتباره أن تقديم النبي عليه السلام أبا بكر للصلاة بالناس بمثابة الرضى عنه لأمور دينهم، فأضاف الناس إليه الرضى عنه لأمور دنياهم، ويصح من ثم أن يكون المرضي عنه لهذه غير المرضي عنه لتلك، وهذا هو المدخل إلى ولاية الملك لأمثال يزيد عَقِبه مع وجود مَن هم أفضل منه دينًا من جلة الصحابة والتابعين.
•••
ونعدل عن الأسباب المزعومة أو الأسباب التي اجتهد بها المجتهدون إلى الأسباب الواقعة التي حدثت وكان لها أثر في إهاجة الخواطر وتسويغ الانقلاب: ومنها ما يتعلق بأمور الدين، ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا أو أمور الحكم والسياسة.
فمن الأمور التي تتعلق بالدين أن الخليفة الثالث زاد النداء في الأذان لصلاة الجمعة، وأنه أتم الصلاة في منى وعرفة، وكان النبي والخليفتان الأولان يقيمونها على القصر، وقد صلاها عثمان نفسه في أول خلافته ركعتين، ومنها أنه جمع القرآن الكريم في نسخة، وأمر بإحراق ما عداها في المدينة والأمصار.
ولم يكن عثمان رضي الله عنه في واحدة من هذه مستبيح حرام، بل كان متحرجًا غاية التحرج لدينه، فقد زاد في الأذان لكثرة عدد الناس واتساع المدينة، وصلى صلاة المقيم؛ لأنه اتخذ بمكة أهلًا فتحرج أن يصلى صلاة المسافر وهو صاحب أهل فيها، وقد كان جمعه القرآن الكريم حسنة من أجل الحسنات، سبقه أبو بكر وعمر إلى مثلها؛ فحمد المسلمون صنيعهما وأنكره من أنكره منهم أولًا، ثم عادوا إلى قبوله، بل ألِفوه وأثنوا عليه.
قال عمر: إن القتل قد اسْتَحرَّ بأهل اليمامة، وأخشى أن يستحر بقراء الكتاب في غيرها فيذهب ما حفظوه بذهابهم، إلا أن يجمعوه، وأشار على الخليفة الأول بجمعه، فكانت مفاجأة نَفَر منها أبو بكر، وجعل يقول: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟!» فقال عمر: «هو والله خير». قال أبو بكر: «نعم خير»، ولم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله لذلك صدره، ثم أخذوا يتتبعون آي القرآن ويجمعونها من الرقاع والعُسُب والأكتاف وصدور الرجال، حتى وجدوا من سورة التوبة آيتين عند خزيمة بن ثابت لم يجدوهما عند غيره؛ وتم جمع الكتاب في مصاحف عند طائفة من جلة الصحابة: كالإمام علي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وجاء عثمان فسدَّ ذرائع الخلاف ولم يأت بشيء من عنده غير تعميم المصحف في جمع البلدان ليقرأه المسلمون على نسخة واحدة.
ولئن كان في بعض هذه الأمور التي تتعلق بالدين مخالفة للمألوف؛ لقد خالف عمر المألوف في منع زواج المتعة، وفي نقص الأعطية للمؤلفة قلوبهم، وفي الإعفاء من حد السرقة في عام المجاعة، وفي تسوية الصفوف بالمسجد عند الصلاة، وفي مسائل أكبر مما أحصوه على عثمان؛ فلم يتحدث بها متحدث على سخط وتذمر فضلًا عن الثورة وحمل السلاح.
•••
ولا نطيل في سرد الأمور «الدنيوية» التي قيل: إنها هاجت الفتنة على عهد عثمان ومنها: غلبة قريش على الأمصار، وسيادة العرب على الأمم الأخرى، وإقامة بعض الولاة الذين اتهموا في تقواهم، وبذل الأموال لذوي القرابة والنصراء.
فقد ثار الثوار، فجاء الكوفيون يطلبون الزبير، وجاء البصريون يطلبون طلحة، وجاء المصريون يطلبون عليًّا وكلهم من صميم قريش، وقد أقام معاوية ملكه بقريش والعرب، وكان بذل الأموال لذوي القرابة والنصراء عماد دولته ووسيلته إلى تأسيس بيته وبسط سلطانه.
ومن الولاة الذين أنكر الثائرون ولايتهم لاتهامهم بشرب الخمر الوليد بن عقبة، وقد حدَّه عثمان بعد استماعه للشهادة عليه، ولم تكن ولايته على عهد عثمان، بل ولاه عمر على الجزيرة، واختاره عثمان لولاية الكوفة.
وسنرى بعد، أنه ما من عمل نُسِب إلى الخليفة الثالث إلا حدث مثله من قبله؛ فلم تنشب من أجله فتنة أو حدث مثله من بعده فلم تنشب من أجله فتنة، بل لعله كان من دعائم الدولة وأساس السلطان.
ولهذا قلنا: إنها أسباب ولا أسباب، وإنها بين أسباب مزعومة يراد بها غير ظاهرها، أو أسباب صحيحة ولكنها لم تفعل فعلها إلا لاقترانها بأحوال تلك الفترة، ولو جاءت في فترة أخرى لما كان لها ذلك الأثر، لِمَ؟!
نعم، لِمَ والأسباب واحدة تختلف عواقبها بين هذه الفترة وغيرها؟
ذلك أنها فترة جاءت بين الخلافة والمملكة، فلا تستقيم فيها وسائل الخلافة ولا تستقيم فيها وسائل المملكة. ومن هنا اضطرب الوزن، واضطراب السخط والرضى، وقياس الأمور في وقت واحد بمقياسين مختلفين أو متعارضين. ولعَمْر الحق ما من شيء يدل على أن الأحداث السياسية تبع للحالة النفسية ومقاييس الفكر والأخلاق كما يدل عليه تاريخ هذه الفترة في صدر الإسلام بين خلافة الراشدين ودولة بني أمية.
لقد كان الناس رعية «مملكة» يتصرفون في معايشهم ومطالبهم، كما يتصرف رعايا الممالك ويسومون ولي أمرهم أن يسوسهم سياسة الخلافة، وينتظرون من الخليفة الثالث ألا يجري في أمر من الأمور على نهج ينحرف قيد شعرة عن نهج الخليفتين الأول والثاني، وهم أنفسهم قد انحرفوا عن نهج رعايا الخليفتين أبعد انحراف.
ومما لا جدال فيه أنه عثمان لم يكن بقوة أبي بكر وعمر، ولكن عمر نفسه على قوته ومهابته قد أحس في أخريات أيامه وطأة الاختلاف بين العهود؛ فكان يقول في دعائه: «اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط …»
فتكليف عثمان أن يستبقي الزمن حيث لا يبقى ضرب من تكليف الأيام ضد طباعها كما قال الشاعر الحكيم، وقد أسلفنا الإشارة إلى ذلك، فقلنا في عبقرية الإمام إن عثمان «أحس بها فما فارق الدنيا حتى ترك الخلافة والملك عسكرين متناجزين لا يرجع أحدهما إلا بالغلبة على نده وضده.»
وقلنا قبل ذلك: «إنه لا بد من ملك أو خلافة، ولن يكون ملك بأدوات خليفة ولا خليفة بأدوات ملك، ولم يكن معاوية زاهدًا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر المُلك طلب المُلك والمُلك يطلبه …»
ثم قلنا: «كيف يكون المخرج بين سياسة الملك كما يطلبها العصر وسياسة الخلافة كما تطلبها البقية الباقية من آداب الفترة النبوية! … أيفرق الأموال على رءوس القوم وقادة الجند وطلاب الترف؟! أم يلزمها عيشة النسك والشظف والجهاد؟! وإذا حرمهم وتألبوا عليه مع خصمه أفهو الغالب إذن بمطالب العصر ومقتضياته ودواعيه أم هم الغالبون؟! وإذا أعطاهم ليبذخوا بذخ الملك الدنيوي وهو وحده بينهم الناسك المجتهد على سنة النبوة، أفيستقيم له هذا «الدور» العجيب وهو في جوهره متناقض لا يستقيم؟!»
تلك هي العقدة التي استحكمت في عهد عثمان ووجب أن تنقطع في عهد علي ومعاوية.
وإعادة النظر في جميع الأسباب والتبعات تعود بنا إلى نظرة فاصلة في هذه المشكلة التي زادها نفر من المؤرخين إشكالًا بما أضافوه إليها من الأسباب المختلفة والأسباب الصحيحة التي خرجوا بها على غير مخرجها.
فنحن أولًا في تاريخ الخليفة الثالث أمام حادثين لا تكفي أسباب أحدهما لتفسير الحادث الآخر.
ونحن في الحادثين جميعًا بعد هذا أمام أسباب لا تفعل فعلها لو جاءت في فترة أخرى، ولعلها تفعل نقيض فعلها فتؤيد ولي الأمر ولا تخذله كما تأيدت دولة بني أمية بالعطايا والعمائر، وكان فيها خذلان عثمان ومُشِيره مروان.
وما لم تنقطع غاشية هذا اللبس وهذا الإبهام من تاريخ هذه الفترة؛ فنحن نسلكها في ضباب لا تبدو فيه الأشباح والصور على حقيقتها؛ ومن ثم رجونا أن نبدأ السيرة وقد تبدد ما حولها من غواشي ذلك الضباب الكثيف، وسنبدؤها من حيث تبدأ في طريق لا يبهمه اختلاط الأسباب ولا التعويل عليها مبتورة منفصلة الرءوس والأذناب.