ثقافة عثمان
نُعْنى في تراجم عظماء الصدر الأول من الإسلام بالكلام على ثقافتهم، ومصادر هذه الثقافة من معلومات زمنهم، ونرى أنها من العناصر التي لا غنى عنها في التعريف بمنازلهم وكفاياتهم؛ لأن هذه الكفايات قسمة بين قوة النفس والخلق، وبين قوة الفهم والتفكير، ولا تخفى علاقة ثقافتهم بما يفهمون ويفكرون.
وبديه أن ثقافة الأقدمين غير ما نريده بكلمة الثقافة في العصر الحديث، ولكنه فرق يحسب للأقدمين، ويشهد باجتهادهم ودرايتهم بالاستفادة من القليل المبعثر حيث لا يستفاد اليوم من الكثير المجموع الميسر لطالبيه، ولو أننا جعلنا ودائع الورق مقياسًا للثقافة؛ لكانت أوراق تلميذ مبتدئ في عصرنا أضخم من أوراق نوابغ المثقفين في صدر الإسلام، ولكنهم كانوا بهذا المحصول القليل يعملون ما يعجز نوابغنا وأبطالنا، ويتكلمون في المعضلات فإذا بالكلمة الوجيزة فصل الخطاب.
ونخال أن الاختلاف بيننا وبينهم في ثقافتنا وثقافتهم يتلخص في فرق واحد يحصر جميع الفروق، وذاك أن الكلمة قد رخصت في زمن المطبعة وإباحة الكلام أو ابتذاله لمن لا يحسنه في قول ولا استماع.
كانت الكلمة تُسمع وتُحفظ، وتنقل من سلف على خلف، وتندمج في تجربة كل سامع كأنها زيادة عضوية تتوالد ولا تموت.
كانت بضعة من حياة.
كانت تصان كما تصان ذخائر الآباء والأجداد، ولو أنها صِينت هذه الصيانة لأول مرة في عصر التنزيل؛ لما استغرب أحد تقديسهم للكلمة التي يعلمون أنها مقدسة ويصونونها إيمانًا بالفريضة الإلهية، وما في ذلك غرابة عند الأقدمين أو المحدثين، ولكنهم فعلوا ذلك قبل عصور التنزيل، وتعودوا الحرص على ذخيرتها الإنسانية قبل أن يتعودوا الحرص عليها وهي ذخيرة سماوية يدخرونها لحياة أبقى من الحياة الدنيا، وهي حياة الخلود.
إليك مثلا علمهم الذي يسمونه علم الأنساب: ما مبلغه من العلم بالقياس إلى العلم الذي يقابله في زماننا، وهو علم التاريخ؟
أين ذلك مما يستوعبه اليوم من النقد والتحليل والشرح والتفصيل والتفريع والتأصيل؟
لكن علم الأنساب هنالك وشائج أعراق وأحساب وعروق في الأبدان والأنفس لا يدفنها التراب.
إذا عرف أحدهم نسبًا؛ فقد عرفه ليهتز بفخره، أو يهتاج بعداوته، أو يقرفه بفعال صاحبه، ويشهدها في ذريته وخلفائه.
وإذا عرف ذلك النسب فهو فلان هذا الذي أمامه، يساجله المودة أو البغضاء، ويذكر ما كان له ولآبائه من عزة ومضاء أو ذلة واستخذاء، ويضيف إلى كل نسب رواية عن ملحمة، أو طرفة من حكمة، أو مُلحة من فكاهة، ولا يجد بينها وبين أنباء نهاره فاصلًا بين قديم وجديد، أو بين مدثور مهجور وحاضر مسموع ومذكور.
وقُلْ مثل ذلك في: أمثال العرب، وشواهدها، ومعارض الاستشهاد بها في مواضعها.
وقُلْ مثل ذلك في: أشعارها، ومدائحها، وأهاجيها، وبلاغتها، ومحاسن ألفاظها، ومغازيها.
كل ممدوح كائن حي من مجد ومنعة وجود ومطاولة بالغلبة والعطاء، وكل مادح كائن حي بما استجاشه من طمع وما استقبله من أمل وما خلفه وراءه من عطف وحنين، وما أثار في كلامه من تنافس وتناظر، أو من سوابق بين عشائرهم تذكر، وتستعاد وتعود معها محاسن آباء وأجداد ومساوئ أضغان وأحقاد.
فإذا سطرت تلك الأمثال والقصائد كلامًا في الورق، فهي بضع صفحات مختزلات، وإذا تمثلتها خوالج بين الصدور فهي حيوات تُضاف إلى حياة.
لقد كانوا يعيشون عيشهم المحمل بتجاربه وعواقبه، كلما تكلموا أو استمعوا إلى متكلم من رواتهم وبلغائهم وثقافتهم؛ فلا جرم كانوا يفاخرون أمم العالم، بأنهم يتكلمون.
•••
وكان عثمان على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها: الأنساب، والأمثال، وأخبار الأيام. وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقوامًا غير العرب؛ فعرف من أطوارهم وأحوالهم ما ليس يعرفه كل عربي في بلاده، وجدد في رحلاته تجديد الخبرة والعمل معارف البادية عن الأنواء والرياح ومطالع النجوم ومقارنتها في منازل السماء، وهي معارف القوافل والأدلاء من أبناء الصحراء العربية، وأبناء كل صحراء.
وأسلم فكان من أفقه المسلمين في أحكام الدين وأحفظهم للقرآن والسنة، روى عن النبي عليه السلام قرابة مائة وخمسين حديثًا، وقال محمد بن سيرين وهو يتكلم عن الصحابة: «كان أعلمهم بالمناسك عثمان، وبعده ابن عمر.»
وكان أقرب الصحابة إلى مجرى الحوادث بين المسلمين والمشركين، فكان من سفراء الإسلام في غير موقف من مواقف الخلاف أو الوفاق، تارة بين المسلمين وأعدائهم وتارة بينهم وبين الأسرى منهم في أرض الأعداء.
وكان كاتبًا يجيد الكتابة، فاعتمد عليه النبي عليه السلام في تدوين الوحي، واعتمد عليه الصديق في كتابة الوثائق الهامة، ومنها الوثيقة التي عهد فيها بالأمر بعده لخليفته الفاروق.
وزودته معرفته بالأخبار والأنساب وسياحته في البلاد بزاد حسن من مادة الحديث مع ذوي الكمال من الرجال. قال عبد الرحمن بن حاطب: «ما رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ كان إذا حدَّث أتم حديثًا ولا أحسن من عثمان بن عفان، إلا أنه كان رجلًا يهاب الحديث.»
ولم يكن حديثه لغوًا ولا ثرثرة يزجى بها الفراغ بين أهل الفراغ، بل كان من تلك الأحاديث التي كان يتوق إليها النبي عليه السلام في بعض أوقاته فيتمناها، وتروي السيدة عائشة من ذلك أنها سمعت النبي ذات ليلة يقول: لو كان معنا مَنْ يحدثنا؟ قالت: يا رسول الله أفأبعث إلى أبي بكر؟ فسكت، ثم قالت: أفأبعث إلى عمر؟ فسكت، ثم دعا وصيفًا بين يديه، فساره فذهب فإذا عثمان يستأذن، فأذن له فدخل فناجاه عليه السلام طويلًا.
وينقل عنه الرواة كثيرًا من شواهد الأمثال والأشعار، وكأنه ينظم الشعر إن صح ما قيل: إنهم وجدوا في خزانته وصية مكتوبًا على ظهرها:
ولكن هذا الشعر وغيره مشكوك في نسبته إليه، إلا أنه كَتَبَ في خلافته رسائل من النمط الذي لا يَرتضي الظن نسبته إلى كاتبه مروان.
… استعينوا على الناس وكل ما ينوبهم بالصبر والصلاة، وأمر الله أقيموه ولا تداهنوا فيه، وإياكم والعجلة فيما سوى ذلك، وارضوا من الشر بأيسره، فإن قليل الشر كثير، واعلموا أن الذي ألف بين القلوب هو الذي يفرقها ويباعد بعضها عن بعض، سيروا سيرة قوم يريدون الله؛ لئلا تكون لهم على الله حجة.
إن الله ألف بين قلوب المسلمين على طاعته، وقال سبحانه: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (الأنفال: ٦٣)، وهو مفرقها على معصيته، ولا تعجلوا على أحد بحد قبل استيجابه؛ فإن الله تعالى قال: لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ* إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ومن كفر داويناه بدوائه، ومن تولى عن الجماعة أنصفناه وأعطيناه حتى يقطع حجته وعذره إن شاء الله.
أما بعد، فإن الله خلق الخلق بالحق، فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها؛ فتكونوا شركاء مَنْ بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصْمٌ لمن ظلمهم …
أما بعد فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا … لا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل؛ فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه …
وبعض هذه الكتب يبدؤه ويختمه بذكر آيات من القرآن، تتوالى في بيان ما يدعوهم إليه وينهاهم عنه، وليست هي مما يكتبه مروان؛ لأنه لم يكن يحفظ القرآن حفظ عثمان، وليس ما تقدم من الوصايا بالذي يكتبه مروان غير مملى عليه؛ لأنها هي الوصايا التي هي أحرى بحياء عثمان وألفته ووفائه ورحمته لليتيم وإيثاره الموادعة وكراهته اللجاجة في القصاص؛ لهذا نقول: إنها من أسلوبه الذي يوائمه رضي الله عنه، وأسلوبه ثمة هو ترجمان نفسه، فإن الرجل يكتب لغيره ليقنعهم بما يحس أنه مقنعه لو كُتِب إليه، وهذه كتابة عثمان لا كلفة فيها ولا محاولة ولا إطناب، إلا الدعوة القويمة في استقامة وسهولة وبساطة لا تقدر في الناس أنهم يخالفون ما وضح لهم واستقام بين أعينهم من الأمور، وكذلك كان عثمان يعقل ما يطيعه وما يطاع، وكذلك استجاب لدعوة أبي بكر حين دعاه إلى الإسلام، فما هو إلا أن اتجه ذهنه مستقيمًا إلى حقيقة الأصنام وحقيقة الإسلام حتى قال لصاحبه: نعم … هو ذاك.
•••
أما الخطابة فقد كانت على هذا النهج من الكتابة السهلة القويمة، وربما اُرتِج عليه فلا يبتئس لذلك ولا يزيد على أن يقول ما معناه: سيأتي القول حين الحاجة إلى القول.
إن الناس يبلغني عنهم هنات وهنات، وإني والله لا أكون أول من فتح بابها وأدار رحاها. ألا وإني زام نفسي بزمام وملجمها بلجام … ومناولكم طرف الحبل، فمن اتبعني حملته على الأمر الذي يعرف، ومن لم يتبعني ففي الله خلف منه وعزاء عنه. ألا وإن لكل نفس يوم القيامة سائقًا وشاهدًا: سائقًا يسوقها على أمر الله وشاهدًا عليها بعملها، فمن كان يريد الله بشيء فلييسر، ومن كان إنما يريد الدنيا فقد خسر …
… آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة، عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون، ويسترون عنكم ما تكرهون، ويقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم البعيد، لا يشربون إلا نعصًا، ولا يردون إلا عكرًا، لا يقوم لهم رائد … وقد أعيتهم الأمور …
ألا فقد والله عبتم عليَّ ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطَّنكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه؛ فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنتُ لكم وأوطأتكم كنفي، وكففت عنكم يدي ولساني؛ فاجترأتم عليَّ، أما والله لأنا أعز نفرًا وأقرب ناصرًا وأكثر عددًا، وأحرى إن قلت: هلم؛ أُتِي إليَّ، ولقد أعددت لكم أقرانًا، وأفضلت عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكُفُّوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم على ولاتكم، فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم رضيتم مني بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبلي، ولم تكونوا تختلفون عليه …
وهذه الخطبة هي التي قام مروان بعدها يهم بالكلام ويتكلم متوعدًا، فأسكته عثمان، ونرى أنها قيلت على الرويَّة؛ لأنه خرج من داره وهو يعلم باجتماع الوفود وحفزها، ولم يفاجأ منها بأمر لم يكن يعلمه وهو ينوي الخطابة فيها.
وهذه النماذج من كتبه وخطبه لا تورد في هذا المقام من ناحية البلاغة والبيان مستقلة عن مواضعها ودواعيها، ولكنها تورد قبل كل شيء؛ لأنها — مع ما تبديه من بيانه — تبدي لنا أسلوب الخليفة الثالث في علاقته برعاياه من خلال أسلوب الكتابة والخطابة. فقد كانت أوائل كتبه أشبه الكلام بما نسميه اليوم «الأسلوب الرسمي»، أو أسلوب التشريع والوثائق القانونية: تبليغ وتقرير بغير تنميق ولا محاولة تأثير، وهو كذلك أسلوب الخلافة التي تعلم أن التفاهم بينها وبين من تخاطبهم مفروغ منه متفق عليه مستغن عن الإقناع وعن المسحة الشخصية التي يصطبغ بها الكلام إذا وقع الاختلاف في النظر بين السامع والمتكلم، ثم يستطرد الموقف بالخليفة إلى ما رأيناه في خطابه الأخير، وأول ما يبدو منه أن الراعي والرعية لا يثوبون إلى قسطاس واحد، وتلك بوادر الملك تظهر في مضامين القول، كما ظهرت على ما نراه في الأعمال والنيات.