من إسلامه إلى خلافته
شئونه
مضى من إسلام عثمان إلى مبايعته بالخلافة نيف وثلاثون سنة، شهد فيها من الغِيَر في تاريخ الجزيرة العربية وفي تاريخ العالم من حولها ما لم يعهد العالم قط قبل البعثة المحمدية، وشهد فيها عهد الدعوة النبوية وعهد الخلافة في أوجها على أيام الصديق، ثم على أيام الفاروق.
وجمعت المصاهرة بين حياته الخاصة وحياة النبي عليه السلام في بيته مع اتصاله به في الدعوة الكبرى من سنتها الأولى؛ فلم يفته شيء من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي، ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية.
تزوج من السيدة رقية بنت النبي عليه السلام، وهاجر بها إلى الحبشة فكان أول المهاجرين إليها، ثم هاجر بها إلى المدينة فمرضت هناك بالحصبة، وأذن له النبي عليه السلام أن يتخلف عن وقعة بدر للعناية بها، فماتت يوم ورد البشير إلى المدينة بنصر المسلمين وهزيمة قريش في تلك الوقعة الحاسمة، وقيل: إن عثمان كان قد أصيب بالجدري قبل الخروج إلى بدر، فحال مرضه ومرض زوجته دون الخروج إليها مع جلَّة الصحابة.
وكانت غبطة عثمان بمصاهرة النبي عليه السلام عظيمة، وحزنه لانقطاع هذه الصلة أعظم؛ فلم يُرَ بعد ذلك إلا محزونًا مهمومًا لفقد زوجته وانقطاع صلته بنبيه وأكرم الناس عليه، ورآه النبي ﷺ على تلك الحال فسأله: «مالي أراك مهمومًا؟» قال فيما رواه سعيد بن المسيب: «وهل دخل على أحد ما دخل عليَّ يا رسول الله؟! ماتت ابنة رسول الله التي كانت عندي، وانقطع ظهري وانقطع الصهر بيني وبينك»؛ فطيب النبي ﷺ خاطره وزوجه أختها أم كلثوم، وبقيت معه إلى أن توفيت في السنة التاسعة للهجرة بعد بنائه بها بست سنوات.
وأشهر الروايات على أنه سُمِّي بذي النورين؛ لأنه تزوج من رقية وأم كلثوم بنتي النبي عليه السلام، «ولم يعلم أحد تزوج بنتي نبي غيره.»
ويقال: إنه سمي بذلك، لأن النبي عليه السلام قال: فيه نور أهل السماء ومصباح أهل الأرض، ويقال: إنه كان يختم القرآن كل ليلة في صلاته «فالقرآن نور وقيام الليل نور.»
ومما خرجه الحافظ السلفي في سياق هذه الكنية أن إسماعيل بن علين أتى يونس بن خباب ليسمع منه، فسأله يونس «من أين أنت؟» فقال: «من أهل البصرة.» قال يونس: «أنت من أهل المدينة الذين يحبون عثمان بن عفان، وقد قتل ابنتي رسول الله ﷺ …»، فقال إسماعيل ما فحواه: «أتراه قتل واحدة فزوجه الثانية من أجل ذلك؟!»
وجواب إسماعيل مفحم، وقصته مع يونس بن خباب عبرة من عبر الدعوة «السياسية» إذا لجت بالنفوس وغلبت على العقول، فما يُسمَّى عثمان من أجله بذي النورين يجري على لسان صاحب الهوى في النقد والمعابة؛ فينعاه عليه وينعاه على البلد الذي يحبه، ويحسبه قتلًا لبنتين من بنات النبي، ولا يدور بخلده جواب إسماعيل أن من قتل واحدة لا يعطي غيرها ليقتلها، ولا يرد على باله ما لا يغيب عن مثله من حديث ابن عباس، حيث يُروى عن النبي أنه قال لعثمان مواسيًا بعد موت رقية: «والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء …»
وحقيق بهذه القصة أن نحضرها أخلادنا ونحن مقبلون على العلل والتعلات في الدعوة لعثمان والدعوة عليه، فإننا لواردون على علل كثيرة وتعلات أكثر منها، تسبقها الرغبة في خلق المحاسن أو المآخذ فلا تعيا مرة بخلق ما تريد.
ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها، ولا يغني أحد فيها غناءه شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعًا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها ما رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين بغير حاجة إلى مفاضلة وترجيح.
فمن الصحابة من كان يبرح المدينة أو مكة في عمل من أعماله، ومن كان يحضر الغزوات ويغيب عما عداها في مصالحه ومصالح أهله، ما عدا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، فقد أصبح عملهم بعد إسلامهم مقترنًا بعمل النبي في مقامه وسفره، وقد يقترن به فيما عم أو خص من أمره صلوات الله عليه، وتلك وشيجة من وشائج الواقع غير مدبرة ولا مقدرة، تجمع بين النبوة والخلافة كما ينبغي أن تجتمعا بحكم القرابة اللدنية بين المهمتين المتلازمتين.
وترك عثمان تجارته الواسعة لمن يتولاها عنه من وكلائه وذوي قرباه، وجعل بيته بيتًا لمال المسلمين قبل أن يكون للدولة الإسلامية بيت مال، فلم يتطلب عمل الرسالة مددًا من زاد السلم أو الحرب إلا نهض به عثمان وحده، أو كان أول ناهض به مع القادرين على بذل المال في هذا السبيل.
شكا المهاجرون تغير الماء بالمدينة، ولم يجدوا فيها غير بئر واحدة يستسيغون ماءها، وكانت عند يهودي يغالي بثمنها؛ فاشترى منه نصفها وغلبه دهاء؛ لأنه قسم سقياها يومًا له ويومًا لصاحبها، وأباح السقيا منها بغير ثمن في يومه، فكان طلاب الماء يأخذون منه كفايتهم في ذلك اليوم … ونظر اليهودي فرأى أنه لا ينتفع من نصفه الباقي له بكثير أو قليل، فلما باعه بالقليل بعد المغالاة فيه وهبها عثمان لمن يستقي منها في جميع الأيام.
ولما ندب النبي ﷺ المسلمين لغزوة تبوك لم يكن عندهم من المال ما يقوم بنفقاتها؛ لبعد شقتها، واشتداد القيظ في وقت الخروج إليها، فتكفل عثمان وحده بثلث نفقاتها، وتبرع للمجاهدين بالمطايا والأطعمة، وجاء بألف دينار في كمه فنثرها في حجر الرسول ﷺ، وكرر ذلك غير مرة على ما جاء في جمهرة الأخبار.
واشترى أرضًا ليزيدها في بناء المسجد، بذل فيها عشرين ألف درهم أو خمسة وعشرين ألفًا، ولم يقصر عن معونة يستطيعها في عسرة أو مجاعة، مدعوًّا إلى ذلك أو ملبيًا من نفسه داعية النجدة والسماحة، فلم يضارعه في سخائه أحد من أقرانه، وكان بحق أسخى الأغنياء وأغنى الأسخياء.
وعهد إليه النبي ﷺ في السفارات التي يخشى خطرها، فلما كانت حملة الحديبية التي تأهب فيها النبي لدخول مكة دعا بعمر ليبعثه إلى رؤساء عشائرها، فقال عمر: «إن قريشًا تعرف عداوتي إياها وغلظتي عليها، وليس بين القوم أحد من بني عدي ينتصر لي، فلو بعثت يا رسول الله عثمان إليهم فهو بينهم أعز مني» وقد بعثه النبي فلم يسلم من سفاهة السفهاء، ولم يمنعهم أن يبطشوا به لولا أن تصدى لهم ابن عمه أبان بن سعيد بن العاص، وشاع يومئذ في معسكر المسلمين أن المشركين قتلوه، وكانوا قد احتبسوه ثلاثة أيام يتشاورون في أمره، فلما دعا النبي جنده إلى بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة، وضع يده اليمنى على يده اليسرى وهو يقول: هذه بيعة عثمان. «اللهم هذه عن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك.»
وسيأتي من أمر الدعوة على عثمان أنهم كانوا يحسبون عليه أنه لم يشهد بدرًا ولم يشهد يوم البيعة، ولا لوم عليه في المرتين ولا سيما التخلف عن بيعة الشجرة؛ إذ كان قد تخلف فيما هو أخطر وأعسر من حضور المبايعة كما حضرها سائر الصحابة، وهذه وما تقدمها من حديث يونس بن خباب بعض أفانين التهم التي تخلقها الفتنة، ويعلم بطلانها القائل قبل المستمع إليها.
•••
ومن المهام التي اختصه النبي بها أنه كان يكتب له الوحي عند نزوله، وكان عليه السلام يناديه متحبِّبًا، ويقول له وهو يملي عليه: «اكتب يا عثيم» واستخلفه على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، وأرسله إلى اليمن مستطلعًا حين كانت إمارتها إلى علي، وكاد أن يفرده بالعمل فيما نسميه اليوم أمانة السر أو الكتابة الخاصة، وهي أمانة يضطلع بها من يوثق بصدقه وكياسته ولطف أدائه لما يُؤتمن عليه من رسالة أو سفارة.
لا جرم يروي عنه أبو عبد الله الجبيري في رواية راجحة أنه كان موضع سر النبي في مرضه عليه السلام، وفي هذه الرواية ينقل عن السيدة حفصة أنها حادثت السيدة عائشة تذكرها بما كان من هذه المسارة فقالت: «إني كنت أنا وأنتِ عند رسول الله ﷺ فأغمي عليه، فقلت لك: أترينه قد قبض؟ فقلتِ: لا أدري، ثم أفاق فقال: افتحوا له الباب، فقلتُ لك: أبوك أو أبي؟ فقلتِ: لا أدري ففتحنا فإذا عثمان، فلما رآه النبي ﷺ قال: ادنه، فأكب عليه فسارَّه بشيء ما ندري ما هو، ثم رفع رأسه فقال أفهمتَ ما قلتُ لك؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، ثم أمره فانصرف.»
كان بين الصحابة منزلة من منازل الفخر، يعتدون بها ويتعارفون عليها، وهي منزلة الرضى من رسول الله إلى يوم وفاته، وكان من الكلمات الجارية على الألسنة في معرض الثناء أن يقال عن الرجل إنه توفي رسول الله وهو عنه راضٍ.
فهذه المنزلة كانت من مفاخر عثمان التي يذكرها ويذكرها له من يحمده، وكان في الطليعة ممن تحسب لهم هذه المفخرة بين الصحابة، وإنما كان شانئوه يتحدثون بتخلفه عن وقعة بدر وعن بيعة الرضوان؛ لينزلوا به شيئًا من منزلته تلك التي ليس عليها خلاف.
وصارت الخلافة إلى الصديق وهو الذي أسلم عثمان على يديه، وطالت الصحبة بينهما من قبل الإسلام، وألفت بينهما مشابه كثيرة في الطباع والأخلاق، وكان أبو بكر يعتقد في عثمان الحزم كما قال له يوم فاتحه في أمر إسلامه، وليست هي من كلمات المجاملة في مقام الترغيب والارتفاع، فما كان أبو بكر بالرجل الذي يرسل الكلمات جزافًا، ولا بالمتكلم الذي يعيبه أن يجامل أحدًا بالصدق الذي يرضيه.
ولم يكن مستغربًا بعد طول الصحبة أن يكون عثمان أقرب المقربين إلى الخليفة الجديد في أعمال سياسته وأواصر مودته، ولكننا هنا أمام عهد نادر من عهود الإنسانية تتقدم فيه النظرة إلى الدعوة القائمة على كل نظرة إلى ما عداها، وقد يحب الإنسان من يحب؛ لأنه أقرب إلى اعتقاده في نصرة الدعوة والأمانة لها والقدرة على خدمتها، وإن هذه الظاهرة العميقة الأغوار لمن أقوى ظواهر العهد وأحقها من المؤرخ بالانتباه إليها، وقد سبقت الإشارة إلى فعلها اللدني في الجمع بين النبوة والخلافة، وتخصيص الخلفاء الراشدين على غير تدبير، والتقديم بملازمة النبي في مقامه وسفره وغيابهم حين يغيبون بإذنه وفي رسالة من رسائل الدعوة النبوية، ثم ها هي تتكرر في التقريب بين الخليفة الأول وبين أوفق الصحاب لمعونته وملازمته والاطلاع على مقاصده ونياته، فلم يكن بين أبي بكر وعمر من الصحبة قبل الإسلام ولا من المشابهة في الخلق بعض ما كان بين أبي بكر وعثمان، ولكن أبا بكر وعمر كانا أوفق اثنين بين الصحابة للعمل معًا في مهام الخلافة الأولى؛ فتلازما وتشاورا وتقرب بينهما في الدعوة ما تباعد في الخلق والخليقة، حتى كان من يريد الوقيعة يسأل أبا بكر متجاهلًا: والله ما ندري أأنت الخليفة أم عمر؟ فيقول رضي الله عنه: هو لو كان شاء.
ويحق لنا أن نقول إن الأمر لم يكن باختيار أبي بكر ولا باختيار عمر، ولكنه كان باختيار المصلحة العليا التي غلبت على كل مصلحة في ذلك العهد النادر، وإنها لمن وحي الله.
في أيام أبي بكر لم يكن أحد بعد عمر أقرب إليه من عثمان، وكتب أبو بكر عهده الأخير وهو على سرير الموت وعثمان على جواره يملي عليه، فلما أفاق سأله: من كتبت؟
قال: عمر. كتبها وهو يعلم أنه لا يعدو بها نية الخليفة المحتضر، فإن أفاق أتم عهده كما أراد، وإن ذهب في تلك الغشية بطلت اللجاجة فيما أراد، وانسد باب الفتنة والخلاف.
قال أبو بكر وهو على سرير الموت مستريح إلى وفاء صاحبه، مطمئن إلى أمانة كاتبه: «بارك الله فيك! بأبي أنت وأمي، لو كتبت نفسك كنت لها أهلًا.»
هذا هو أسلوب الصديق فيما يرتضيه لمجاملته وصدقه: كلمة حق توافق السامع ولا تخالف الحقيقة في ضمير القائل، ومما لا شك فيه أن أبا بكر كان يرى في عثمان أنه أهل للخلافة، وإن رأى عمر أحق بها منه.
•••
ثم صارت الخلافة إلى عمر، ولم يكن عنده قريب أو بعيد غير من يقربه عمل أو يبعده عمل، ولم يكن للناس عنده أقدار غير أقدارهم عند الله وعند رسول الله، وكان يستمع إلى كلِّ ويعتمد على كلِّ، ويستبقي كبار الصحابة جميعًا عنده؛ ليستعين برأيهم ويجنبهم غواية الدنيا إذا انطلقوا إليها، أو كما قال: إنه كان يخشى عليهم مِن الدنيا ويخشى على الدنيا منهم، فبقي منهم مَن بقي على رضى وموافقة، وبقي الكثيرون منهم على تبرم وملل، فلم يرسل أحدًا منهم في البلاد إلا من أرسله في ولاية أو جهاد، ولم يكن يطيل الولاية لأحد منهم وإن أحسن وأفضل؛ مخافة على الناس أن يفتتنوا بإحسانه وأفضاله، إن لم يخف عليه أن يفتنه الناس.
وكان عثمان ممن بقي معه ولازمه غير مكره ولا راغب في الرحلة كما رغب فيها الذين لم يرتحلوا ارتحاله قبل الإسلام، ولم يشتغلوا بالدين اشتغاله بعد الإسلام، فركن إليه عمر في طلب المشورة، وعمل بمشورته في إحصاء الناس والأعطية، وفي بدء السنة بشهر المحرم، وعمل بها في خطته الكبرى وهي خطة العزل بين الإمامة والقيادة في ميادين القتال، فإن إصابة الإمام قد تطمع العدو وقد تيئس الصديق، وليست كذلك إصابة القائد الذي من ورائه إمام يوليه ويولي أنداده وأمثاله من بعده، وهي نصيحة من عثمان لعمر ما أدلها على سرائر المؤمنين في ذلك العهد الأمين: ينصح الناصح ولا يبتغي بنصيحته غير وجه الله، ويتقبلها السامع وهو لا يبتغي بقبولها غير وجه الله.
شيء واحد من أشياء كثيرة يكشف لنا عن أصالة المشكلات والنقائض في عهد عثمان.
فها هنا فترة من التربية السياسية مرت به ومر بها ولم تُهيأ لخليفة قبله ولا بعده، فهي أطول من فترة التربية السياسية التي تهيأت لأبي بكر مع النبي، وأطول من الفترة التي تهيأت لعمر مع النبي والخليفة الأول، ثم هي أطول من الفترات التي تهيأت للخليفة الرابع علي الذي جاء بعده؛ لأن عليًّا رضي الله عنه أسلم وهو صبي، ومضت عليه سنوات قبل مشاركته في أعمال الرأي أو أعمال الفعل والإنجاز، وقد كان إسلام عثمان وهو في نحو الثلاثين — مشهود له بالحزم والبصر، ومتأهب من اللحظة الأولى للمشاركة في كل خطة يتعاون عليها — أقرب المقربين من صاحب الدعوة، وبينه وبين صاحب الدعوة عليه السلام صهر ومودة وقرابة ليست بالبعيدة.
وفي هذه الفترة التي تمرس فيها بشئون الدعوة وشئون الخلافة عرضت كل مشكلة وارتسمت كل خطة في معاملة الصحابة وسائر المسلمين، وارتسمت كذلك كل خطة في معاملة المشركين والمنافقين من مسالمين أو محاربين ومن أناس على المواربة بين السلم والقتال، واتضحت على هذا النحو حدود الإمام وحدود أحوال الرعية ومواضع الترخص والتشدد في جميع هذه الحدود على اختلاف أحوال اليسر والعسر أو أحوال التبسط والحرج، وكان خليقًا به وهو مطلع على كل قدوة وكل سابقة أن يكون اطلاعه هذا عُدة جامعة يستعد بها لولاية الخلافة وتدبير الولايات من قبلها، وصراطًا يستقيم عليه فلا يعوزه الرأي الواضح ولا التصرف العاجل في أمر من الأمور.
وهذه هي المشكلة الكبرى.
بل هذه هي مشكلة المشاكل في عهد عثمان من قبل ابتدائه إلى ما بعد نهايته.
المشكلة الكبرى كما سوف تتراءى لنا أنه لم يعمل في خلافته عملًا قط على غير سابقة تشبهه في كل شيء إلا في ظروفه وملابساته؛ فقد تغيرت كل الظروف والملابسات وهي هي بيت القصيد في كل استعداد لها بالقدوة السابقة.
لقد كانت له سابقة في كل شأن من شئونه حتى في شئون زواجه ومصاهرته، وحتى في شئون تمييزه وتأليفه لذويه ولأعدائه، ولكن مع هذا الفارق الواحد الذي هو في الحقيقة جامع لكل فارق يخطر على البال، وهو فارق الظروف والملابسات.
كانت تربيته السياسية عدة له وأي عدة، وكانت مع هذا هي مشكلة المشكلات بين الاستعداد بها والتصرف فيها وفاقًا لما اختلف من ظروفها وملابساتها.
عدة ولا عدة.
وهذه هي إحدى النقائض الكبرى التي تأصلت في عهد هذا الخليفة الشهيد.
ونقيضة أخرى من نقائض عهده تعود إلى مزيته العظمى في إسلامه قبل عامة قومه.
فهذه المزية العظمى، ما معناها إذا نحن عبرنا عنها بعبارة أخرى لا تخرج عنها في لبابها وقشورها؟
معناها القريب البسيط أن قومه تأخروا في الإسلام، وأنه كان مسلمًا من صفوة المسلمين؛ إذ كان قومه عامة على لدد الكفر وإسرار العداوة بينهم وبين النبي وصحبه الأبرار، وكان منهم من يعوذون به وهم كافرون أو مرتدون؛ فيبدو ذلك نكيرًا منفردًا بين جلة الصحابة؛ لأنه كان وحده منفردًا بالمزية التي لم ينفردوا بها مثله، وهي سبقه إلى الإسلام بين أسرة مصرة على المكابرة والعداء.
ولقد كان العربي يلوذ بالعربي وهما في المعسكرين المتناجزين، وكان عثمان مسلمًا يوم أوفده النبي إلى مكة وتلقاه أهلها بالأذى فتصدى لنصرته بعض أبناء عمومته المشركين، ومضى ذلك في حينه ولم يلتفت إليه ملتفت في ذلك الحين؛ لأنه لم يكن بدعًا من عادات القوم قبل الإسلام ولا بعده، وكان مشركو مكة يهابون المساس بصاحب الدعوة نفسه؛ لعلمهم أن عشيرته تغضب له إذا جد الجد وأصابه المكروه في سبيل الدين.
فلما انتهى أمر الشرك، وانتهى عرفه وعاداته، وبقيت مفاخر الإسلام وسوابقه أصبحت المزية العظمى نقيضة من جانبها الآخر، وبغير هذا الجانب الآخر لم تكن مزية على الإطلاق.
يحضرنا في هذا الصدد مثل يستوحيه الذهن قسرًا في موقعه من هذه السيرة، وهو مثل الرؤيا التي فسرها المنجمون للملك تفسيرًا قضى عليهم بالعقاب، ثم فسرها له غيرهم تفسيرًا أغدق عليهم النعمة والثواب، ولا فرق بين التفسيرين في المدلول.
قال له المنجمون أولًا: إن الرؤيا مشئومة؛ لأنها تريهم أعزاءه يهلكون واحدًا بعد واحد، ثم لا يلبث الملك أن يهلك على آثارهم.
ثم قال له المنجمون آخرًا: إنها لرؤيا سعيدة تبشره بالعمر الطويل، وإنه لأطول عمرًا من قومه أجمعين.
والتفسيران واحد في المدلول، ولكن الأول يسخط ويسوء، والثاني يرضي ويسر، ولا فارق بينهما في غير التعبير.
وعثمان رضوان الله عليه كان أسبق قومه إلى الإسلام فهذه مزيته العظمى.
وكان كل أهله على الشرك ما عداه، وهنا تتغير الصفحة في النظر بعد ذهاب الشرك وأهله، وما بدا في الصفحة الأولى إلا الذي بدا في الصفحة التالية: قريب من قريب.
•••
ليس من المألوف في أيام عثمان أن يكون الزواج مسألة من مسائل المجتمع، فإنما كانت شئون الزواج تجري على وتيرة واحدة بحكم العادة، كأنها من شئون الزوج والزوجة التي لا تعني أحدًا غيرهما، ولكن زواج عثمان لم يجرِ على هذه الوتيرة سواء قبل الخلافة أو بعدها … فكان زواجه على التعاقب من بنتين للنبي عليه السلام تاريخًا في علاقات الزواج يكفي من ندرته أنه عرف في كنيته على قول من أشهر الأقوال.
ولم يختلف بعد وفاة السيدة أم كلثوم عن سنة أمثاله في الزواج من عقيلات البيوت على الأغلب إلى أن توفي عن زوجاته الثلاث: رملة وفاختة ونائلة، إلا أن زواجه من نائلة بنت الفرافصة كان من قبيل الزواج الذي يقال فيه: إنه مسألة من مسائل المجتمع في حينه؛ فقد كان زواج الصحابة من غير المسلمات خارج الحجاز أحد الطوارئ التي جدت في المجتمع الإسلامي بعد فتوح العراق والشام ومصر، وكان لها أثرها البعيد في تطور البيت العربي واختلاف أنماط المعيشة بين ذوي البيوتات من جلة الصحابة، وبعضها مما دخل على المعيشة العربية بعادات للأمم الغريبة لم يتعودها العرب قبل مخالطتهم تلك الأمم مخالطة الصهر والمعاشرة البيتية.
وتتعدد الروايات في الباعث إلى خطبة عثمان لنائلة بنت الفرافصة كما هو الغالب في أخبار العصر كله، وأشهرها أنه سمع بزواج سعيد بن العاص والي الكوفة من أختها هند، وتناقل ذوو قرباه الأحاديث عن كياستها وجمالها وحسن قيامها على أمور بيتها؛ فكتب إلى سعيد يخطب أختها ولا يعرفها، وكان ضب بن الفرافصة قد أسلم، فأمره أبوه أن يزوجه أختها نائلة، وكانت أديبة ذكية تنظم الشعر وتحسن القول، ولها في زواجها من عثمان أبيات مما تغنى به ابن عائشة في بعض ألحانه، ومنها قولها تخاطب أخاها:
ثم قولها تخاطب نفسها:
وغادرت قومها في بادية الشام وحواضرها على كره منها إلى مسكنها الغريب، وسألها عثمانُ حين رآها: «لعلك تكرهين ما ترين من شيبي؟» قالت: «والله يا أمير المؤمنين إني من نسوة أحب أزواجهن إليهن الكهول.» قال عثمان: «أنا قد جزت الكهول، وأنا شيخ، ولن تجدي عندنا إلا خيرًا.»
على هذه النفرة بعد هذه الغربة توثقت المحبة بين الزوجين؛ حتى كرهت الزوجة الفتية بعد مقتل عثمان أن تتزوج من أحد بعده كائنًا ما كان قدره ونسبه، وتكاثر خطابها فأحبت أن تصرفهم عنها وتصرف نفسها عنهم، فعمدت إلى حجر فهتمت به ثناياها، وردت معاوية بن أبي سفيان حين خطبها قائلة لرسوله: «ماذا يرجوه من امرأة جذماء؟»
ونائلة هي التي كتبت إلى معاوية تصف مقتل زوجها، وقالت من خطابها الذي تواترت نسبته إليها: «من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد … فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر ونصركم على العدو وأسبغ عليكم نِعمَه ظاهرة وباطنة، وأنشدُكم الله وأذكركم حقه وحقَّ خليفته أن تنصروه بعزم الله عليكم، فإنه قال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ (الحجرات: ٩) وإن أمير المؤمنين بُغِيَ عليه، ولو لم يكن لعثمان عليكم إلا حق الولاية لحق على كل مسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قدمه في الإسلام وحسن بلائه وأنه أجاب داعي الله وصدق كتابه واتبع رسوله؟! والله أعلم به إذ انتخبه فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة …»
ثم استطردت تقص خبر مقتله، وتتهم المقصرين عن نجدته. فما كان صوابها بأدل على الوله والحزن من خطئها فيما اتهمت، ومن تخبطها فيما زعمت، فإن خطبًا أهون من خطبها الذي شهدته بعيني رأسها ليذهل الحزين عن سداد رأيه كما قال حكيم المعرة فيما دون ذلك:
وقد كان لها عند عثمان مثل هذا الحب وهذه الحظوة، بل كان له من الثقة بنصحها ما لم يكن له في مروان بن الحكم أقرب المقربين … وكانا يتلاحيان كثيرًا في محضره، وعيَّرها مرة أباها «الذي لا يحسن الوضوء»، فقالت له تعرض بأبيه — وهو عم عثمان — «أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه لأخبرتك عنه ما لم أكن أكذب عليه»؛ وغضب عثمان فتوعد مروان لئن تعرض لها ليسودن وجهه، ثم قال له: «والله لهي أنصح لي منك …»
إن خلق الرجل لا يقاس بمقياس أصدق من المرأة وأسبر منها لأغوار طبعه، وقد يعز على هذا المقياس — مقياس المرأة — أن يسبر لنا أغوار عقله وأعماق بديهته، ولكنه لا يعز عليه أن يفرق بين الرجل الذي يحب ويطاع ويهاب، والرجل الذي تنزل به الألفة منزلة الوهن والعجز في نظر مَن يألفونه قبل من يعرفونه على البعد أو لا يعرفون منه إلا القليل.
وهذا مقياس صادق من هذا الزواج الغريب أو الطارئ على المجتمع الإسلامي بعد فتوح العراق والشام وسائر الفتوح الأسيوية والإفريقية، وهو مقياس قيس به رجال من النابهين على نحو واحد، فلم يكن بينهم من هو أرجح فيه من عثمان.
ولا سيما مقياس الشخصية الغالبة التي تؤثر فيمن يعاشرها، وتصبغه بصبغتها، كما تأثرت السيدة نائلة بإيمان عثمان وتقواه وكرم نفسه؛ فنسيت نفرتها واختلاف عقيدتها وبيئتها وتحنفت على سنة زوجها كما قال من وصفوها في حياته وبعد مقتله.
وفي ذلك العصر نفسه تزوج أناس من ولاة الدولة العربية بالعقائل والجواري في الحاضرة والبادية، فكان منهم من تعود عاداتهن من الشراب على الطعام، وسوغه لنفسه باختلاف المختلفين في الخمر وأنواعها، وكان أمر هؤلاء ومن شاكلهم يرفع إلى الفاروق قبل خلافة عثمان؛ فيحسمه على دأبه بتأديب من عصى والتنكيل بمن أصر على استباحته الشراب المحظور.
ومن لم يبلغ من ضعفه أن ينقاد هذا الانقياد لم يبلغ من شخصيته الغالبة على ذوي جواره وعشرته أن يصبغهم ويحولهم إلى معيشة كمعيشته، وهذه مَيْسُون بنت بَحْدل الكلبية من قبيلة نائلة بنت الفرافصة قد تزوجت بمعاوية، وداره إلى جانب دارها، ومقامه في دمشق أقرب على باديتها؛ فلم تلبث أن سئمت مقامها وعافت القصر الذي تسكنه زوجة لأمير المؤمنين وأمًّا للأمير بعده، ونظمت أبياتها التي جرت مجرى المثال على لسان كل زاهد في مقامه حنينًا إلى مآلف عيشه الأولى، وإن كانت دون ذلك المقام في الرغد والنعيم.
قالت ميسون تذكر القصر والبادية:
وقالت تشير إلى زوجها:
وذلك مع الفارق البعيد بين قصور الشام وبيوت الحجاز وبين سن معاوية وسن عثمان، وبين ما ترجوه زوجة الخليفة بعد موته، وما ترجوه زوجة معاوية وأم يزيد وأم شقيقته «أمة رب المشارق» وسيدة القصر تكاد أن تنفرد فيه وأن تغدو وتروح بين الحاضرة والبادية حين تشاء.
•••
هذه لمحة من ملامح «الشخصية العثمانية» لا تهمل في مكانها من سيرته الخاصة، ولعلها أهدى للمؤرخ من شيم كثيرة توضح له خلائقه التي يؤثر بها فيمن حوله، ولا شك أنها تزداد وضوحًا إذا اتضحت معها ملامح الشخصية التي تأثرت بهذا الأثر، وهي السيدة نائلة التي جاءته نافرة تنعي غربتها وزواجها من غير بني عمومتها ولم تلبث أن تحنفت وأخلصت لبعلها في وفائها واعتقاده.
فهذه شخصية قوية من بيئة عريقة في القوة والاعتزاز بالعرف والقوة، وقومها بنو كلب إحدى القبائل التي هجرت موطنها قديمًا في الجزيرة العربية وحافظت على أرومتها وعصبيتها وفصاحتها؛ فكانت إلى ما بعد الإسلام بعدة قرون مرجعًا لمن يتقصى أساليب الفصحى أو يريد أن ينشئ أبناءه على خشونة البادية وصحتها، ومهما نصعد مع أصولها في القدم نجد في أخبارها — بل في أسمائها — لونًا من ألوان هذه العصبية وهذه الخشونة وهذه العراقة البدوية التي لا يسهل على أبنائها وبناتها أن يتخلقوا بخلق غيرها.
وتُنسب هذه القبيلة على وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ويقول النسابون: «إن وبرة وُلِدَ له كلب وأسد ونمر وذئب وثعلب وفهد وضبع ودب وسيد وسرحان»، ثم يزيدون على ذلك بعد الإسلام: «إن من أشراف كلب الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، وهو الذي تزوج عثمان بن عفان ابنته نائلة بنت الفرافصة، ومنهم زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة، ومن أسلافهم في الإسلام دحية بن خليفة الكلبي وهو الذي كان جبريل عليه السلام ينزل في صورته، ومنهم حسان بن مالك بن جذيمة …»
ويؤخذ من بعض أخبار الكنيسة الشرقية أن رؤساءهم دانوا بالمسيحية؛ تلبية لدعوة الرسل الأولين في بادية الشام قبل أن تدين بها الدولة البيزنطية، خلافًا لما قد يُظن من أنهم دانوا مع الدولة القائمة في بلاد الروم.
وأيا كان مقطع القول في ذلك، فلا مراء في قوة هذه القبيلة وعراقتها واعتزازها بأصولها واعتدادها بأنفتها وخشونتها كأنها ضرب من الإيمان أو آصرة من أواصر الأنساب، وقد عجزت قصور الملك في دمشق أن تروض أم يزيد على البقاء مع بعلها في القصر المنيف؛ فلم يسع معاوية إلا أن يرسلها وابنها إلى باديتها؛ عسى أن يستفيد من تلك النشأة منعة في الخلق تواتيه يوم ينهض بأعباء الدولة التي أعدها له من صباه.
فإذا كانت خلائق عثمان هي التي حببت إلى زوجته من تلك العشيرة أن تفارق النشأة التي عزت مفارقتها على أترابها؛ فلن يرد على الخاطر أنها خلائق رجل إمعة أو رجل هزيل يذهب به من يذهب ويجيء به من يجيء، ولا بد لتردده وحيرته حين يقع منه التردد والحيرة أن يثاب بهما إلى باعث يعمل عمله في طبائع الأقوياء وغير المستضعفين، ولا ينحصر عمله في النفوس التي برئت من القوة وخلصت للضعف والهزال.
وقد ولدت له نائلة بنته مريم؛ فكان مما يخطر على البال أن هذه التسمية من إيحاء أمها ومن بقايا حنينها إلى عقيدتها الأولى، ولكن اسم مريم كان من الأسماء المحببة إلى عثمان، وقد سمى به بنته من أم عمرو بنت جندب، وهو أشبه أن يكون تحية للزوجة المخلصة من أي يكون متابعة لها فيما لا تعاب المتابعة فيه.
•••
تزوج عثمان على التعاقب تسعًا من النساء، ومات عن ثلاث منهن هن: نائلة وفاختة ورملة، إذا صح أنه طلق أم البنين وهو محصور.
وقد ولد له تسعة من الذكور وسبع من الإناث، ولم يولد له من بنتي رسول الله رقية وأم كلثوم غير عبد الله ابنه من رقية، عاش إلى السادسة ثم نقر عينه ديك فورم وجهه ومات، وسائر أبنائه من زوجاته الأخريات لم يؤثر عنهم أمر ذو خطر في التاريخ، وهي حالة من حالات السلالة الأموية لا نجزم بتعليلها على وجه واضح، فهم على خلاف بني هاشم الذين بقيت فيهم بقايا النجابة والعزيمة على استمرار القتل في أصولهم وفروعهم، وإنما كان بنو أمية في المشرق والمغرب يعقبون كأنما يأتي العقب منهم على قدر الضرورة، مع أنهم قد اتخذوا الجواري إلى جانب زوجاتهم، وتزوجوا من قريباتهم وغير قريباتهم، فإذا تسلسل النسب منهم جيلًا أو جيلين لم يمض على سوائه في الجيل الثالث، أو يرزقون الولد ولا يرزقون فيه النجابة والنبوغ؛ وربما كان للنسب الدخيل في أصولهم الجاهلية أثر في هذه الحالة المتلاحقة، وأقرب من ذلك إلى التعليل المقبول أن أولئك الأصول في الجاهلية لم يتصونوا في المخادنة والمعاشرة كما شاع عن بعضهم؛ فأصابهم من الآفات الجنسية ما كمن في أعقابهم وتداركوه بالتبني تارة والاستلحاق تارة والتماسك بين ذوي القربى حيث لا موضع للتبني والاستلحاق.
ونحن نومئ إلى هذه الملاحظة بسبيل الكلام على ذرية عثمان؛ لأنها ملاحظة شوهدت في تاريخ الأصول الأموية وشوهدت في نسله وعشيرته، وشوهدت في أعمال خلافته، فلها محل فيما خص أو عم من سيرته وتاريخه.
شئون المجتمع
منذ أسلم عثمان إلى أن تولى الخلافة تغير المجتمع العربي في نطاق واسع، وأصبحت الصبغة الإسلامية نوعًا من الصبغة العالمية يكاد أن يقرب بين أساليب المعيشة في جميع أمم الحضارة الشرقية والغربية.
أسلم عثمان والدعوة الإسلامية محصورة في آحاد معدودين يلتمسون النجاة بعقائدهم وأنفسهم وذويهم من مجتمع إلى مجتمع ومن بلد إلى بلد، وصاحب الإسلام في جهاده وفتوحه؛ حتى عم الجزيرة العربية قبيل وفاة النبي عليه السلام، وأصبح بذلك دينًا عربيًّا يجمع بين قبائل العرب على اختلاف الأنساب والطبقات.
ثم صاحب الإسلام في جهاده وفتوحه أيام حروب الردة وفتوح العراق وما جاوره من أرض فارس والروم، ثم صاحبه في جهاده وفتوحه؛ حتى أوشكت هذه الفتوح أن تحيط بالعالم المعمور يوم تسلم زمامه من سلفه العظيم عمر بن الخطاب.
ولم تمضِ سنوات من خلافة عثمان؛ حتى أحاط العالم الإسلامي بالعالم المعمور كله إلا ما كان منه في أقصى المشرق أو أقصى المغرب؛ فأصبحت الصبغة الإسلامية كما أسلفنا صبغة عالمية تشمل: العربي، والفارسي، والرومي، والمصري، والبربري، وتسلكهم كلهم في دولة واحدة لأول مرة في التاريخ.
وليس الذي طرأ على المجتمع العربي خاصة أنه عرف الترف ولم يكن يعرفه، أو عرف الثروة وكان محرومًا منها، فإن الترف والوفر قديمان في الجزيرة العربية، وزيادة المقدار لا تحسب من التغير الجوهري في المجتمع إن لم تكن مصحوبة بالتغير في نظرة الإنسان إلى الحياة، وهذا الذي غير المجتمع العربي، وغير المجتمع الإسلامي، بعد اتساعه وامتداده إلى أقصى مدى في خلافة عثمان.
إن الغني المترف من عرب الجاهلية لم يكن يخجل من ترفه، ولم يكن يحسب أنه يختلس به شيئًا ليس من حقه ويستمتع بشيء لا ينبغي لمروءته، بل كان يبذخ في ترفه ويفاخر نظراءه ببذخه، ومن لم يدرك من الترف والبذخ حظًّا كحظه فهو متطلع له، حاسد عليه، ناظر إليه كما ينظر إلى أمنية الحياة، إن فاتته فقد فاته من حياته خير ما يتمناه.
تغير هذا بعد الإسلام كل التغير، وأصبح الترف رذيلة مزدراة كائنًا ما كان نصيب المترف من الجاه والثراء، وأصبح الثراء نعمة دون النعمة الكبرى التي يتطلع إليها المسلم في حياته الجديدة، فهو وسيلة دون غاية ومتاع في حاجة إلى تسويغ، ثم لا مسوغ للترف فيه بأية حال.
وعلى هذا كبر مقدار الثروة التي ينعم بها أصحابها بعد أن تغير النظر إلى كثيرها وقليلها ومسوغاتها ومحظوراتها، فربما بلغت ثروة الرجل الواحد في خلافة عثمان ما يعدل ثروة السادة المترفين جميعًا على آخر عهد الجاهلية، وما يحسب حتى في زماننا هذا غنى مفرطًا عند أغنى الأغنياء.
قيل في مصادر متعددة: إن عبد الرحمن بن عوف خلَّف ذهبًا كان يقطع بالفئوس حتى تَمْجَل أيدي الرجال، وترك ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس، وقسم ميراثه على ستة عشر سهمًا فبلغ السهم ثمانين ألف درهم، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا ويتجر فيكسب من التجارة مئات الألوف.
وكان كلما اجتمع له من الربح مدخر كثير فرقه على الغزاة وتصدق به على الفقراء. قال ابن عباس: «مرض عبد الرحمن بن عوف فأوصى بثلث ماله، فصح فتصدق به، ثم قال: يا أصحاب رسول الله ﷺ كل من كان من أهل بدر له علىَّ أربعمائة دينار، فقام عثمان وذهب مع الناس، فقيل له: يا أبا عمر! ألست غنيًّا؟ قال: هذه وصلة من عبد الرحمن لا صدقة، وهو من مال حلال؛ فتصدق عليهم في ذلك اليوم بمائة وخمسين ألف دينار.»
وكان كلما اجتمع له عدد من العبيد أعتقهم ووصى لهم بما يكفيهم.
ولما مات الزبير بن العوام طلب أبناؤه ميراثه، فأبى عبد الله أن يقسم بينهم حتى ينادي بالموسم أربع سنين من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه؛ لأنه كان يؤتمن على الودائع ممن يترددون على الحجاز للتجارة، فلما انقضت أربع سنين قسم بينهم ما بقي من ماله خالصًا فإذا هو خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
وكان طلحة يُغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويُغل بالسراة عشرة آلاف دينار، وكان لا يدع أحدًا من بني تميم عائلًا إلا كفاه مئونة عياله، ويزوِّج أياماهم ويقضي دَيْن غارمهم، وأخرج صاحب الصفوة فيما أخرج من أخباره أنه باع عثمان أرضًا بسبعمائة ألف حملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلًا تبيت هذه عنده في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله … فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم.
وعن سعدى بنت عوف امرأته أنها دخلت عليه يومًا فرأته مغمومًا فسألته، ما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، قالت: وما عليك؟ اقسمه. فقسمه حتى ما بقي منه درهم، وقال خازنه: كان المال الذي فرقه يومئذ أربعمائة ألف.
ونحن لا نشك في عظم هذه الثروات التي توافرت لهؤلاء النخبة من أجلاء الصحابة شيئًا فشيئًا من أيام النبي عليه السلام إلى ما بعد قيام الدولة الأموية، ولا نجري على عادة المحدثين الذين يتلقون أخبار العصور الماضية جملة واحدة بالشك أو بالنفي من غير بينة؛ فإن الرفض المطلق كالتسليم المطلق كلاهما من الآليات التي تحكم حكمها بغير تصرف ولا انتقاد، ومن الجائز أن الناقلين لم يتحروا الدقة في حساب الأرقام بالملايين والألوف والمئات كما نحسبها اليوم، ولكن الذي نعتقده أن مقادير تلك الثروات أكبر وليست أقل مما توحيه تلك الأرقام؛ لأنها اجتمعت من أربح التجارات في جميع العصور، وهي التجارة المتبادلة بين الشرق والغرب من طريق العراق والشام والجزيرة العربية مجتمعات.
•••
لقد كان الملأ من قريش أغنياء مفرطين في الغنى أيام الجاهلية، وكان موردهم كله من مواصلات الحجاز بين اليمن والشام، ولم يكن لهم فوق ذلك سلطان على بقعة وراء الحجاز، بل كان سلطانهم في الحجاز نفسه عاجزًا عن تأمين قوافلهم بغير المساومة بينهم وبين قبائل الطريق.
فلما استقر الأمن في الجزيرة العربية وامتدت الفتوح إلى العراق والشام وفلسطين ومصر، واطمأنت القوافل على هذه الطرق شرقًا وغربًا وإلى الشمال والجنوب، واتسعت مواصلات التجارة العالمية في تلك البقاع لم يكن مورد في العالم قط أعظم ولا أربح من هذا المورد الذي تهيأ لبيوت التجارة العريقة في قريش، ويكفي أن يسلم هذا المورد سنة في كل سنتين أو ثلاث؛ ليغنم منه التاجر الكبير ألوف الألوف، ويأخذ من ربح سنة ما يعوض وقف التجارة سنوات.
ومن المعلوم في العصور الحديثة أن شركة الهند الشرقية جمعت الملايين من أرباح تجارة دون هذه التجارة في السعة والضمان؛ إذ كانت تؤدي الضرائب والإتاوات في البحر والبر. ولا تملك خطوطًا من المواصلات كتلك الخطوط التي تمهدت لأصحاب التجارات في الحجاز، أما أصحاب هذه التجارات فلم تكن عليهم ضريبة مفروضة غير الزكاة ونفقات الحراسة، وكانت أرباحهم معدنًا خالصًا أو عملة مقبولة في كل جهة من جهات العالم يومذاك، دون أن تتعرض لتقلب المضاربات في الأسواق بين أقصى المشرق في الهند وأقصى المغرب على الشواطئ الأطلسية.
فإذا قام على هذه التجارة العالمية عشرون بيتًا أو ثلاثون بيتًا من بيوت التجارة العريقة في مكة والمدينة؛ فليس من المبالغة أن يقال عنها: إنها كانت تملك الملايين وتعمل الفئوس في حطام الذهب والفضة، فربما كانت المبالغة هنا إلى القلة لا إلى التزيد في التقدير.
ويهمنا أن نلتفت إلى مصدر الثروات من التجارة تصحيحًا لوهم الواهمين أنها قد اجتمعت كلها من غنائم القتال؛ فإن عطاء المقاتلين لم يكن يتفاوت هذا التفاوت في الأنصبة بين أكبر عطاء وأصغر عطاء، ولم يكن في وسع طلحة ولا الزبير ولا عبد الرحمن بن عوف أن يجمعوا من أنفال القتال ثروة تزيد على نصيب الأجناد بمثل ذلك الفارق الكبير.
وليس هذا كل ما يهم من تحقيق مصدر الثروة أو من الرجوع بأكثره إلى التجارة دون غنائم القتال؛ إذ المهم في الواقع أن المجتمع الذي تدور ثروته على الأعمال التجارية غير المجتمع الذي تدور ثروته على أعطية الجند من غنائم القتال دون سواها، فهما مجتمعان متغايران في آداب المعاملة وفي موازين الأخلاق وفي النظر إلى متع الحياة، وإذا التقيا معًا في أقل من عمر الرجل الواحد فلا قرار ولا تفاهم بين موازين التجارة وموازين الجهاد إلى حين.
قال محمد بن سيرين: «كثر المال في زمن عثمان فبيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم.»
وهذا الذي كان يقال عنه في الزمن الماضي: إنه وفرة الخير ودرة الرزق. وهذا الذي نقول عنه اليوم: إنه آفة «التضخم» في النقد مع فارق بعيد بين أحوال عصرنا وأحوال العصور الماضية: ذلك هو الفارق بين عملة الورق وعملة الذهب والفضة، فإذا رخص الذهب والفضة كما حدث في ذلك العصر؛ فقد رخص المال في جوهره ولم تكن ثمة غرابة في كتل الذهب التي تقسمها فئوس العبيد، ولا حيلة في مثل تلك الحالة لمن يعيش على مورد محدود ولا يقتني من الذهب والفضة ما يكفيه من الكفاف، وليست كذلك أزمة التضخم من عملة الورق وما جرى مجراها؛ إذ يقل الشراء لقلة ما يشترى من المتاع المطلوب، وبعضها يطلب ولا يوجد عند طلبه في الأسواق.
هذه الأزمة بلغت غايتها في خلافة عثمان، ولكنها بدأت بعد الهجرة إلى المدينة واستئناف مسير القوافل إلى رحلتي الصيف والشتاء ببضع سنوات.
والإسلام لا يمنع التجارة ولا ينكر الثروة، ولكنه يمنع الترف وينكر كنز الذهب والفضة، ويأمر بإنفاق المال في المنافع والمرافق، كما جاء في القرآن الكريم كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ (الحشر: ٧) ويتقي أشد التقية أن يَتْرف أناس ويعدم أناس آخرون.
•••
ولم يصعب على المجتمع الإسلامي تدبير مشكلة الثروات الكبيرة في السنوات الأولى من الدعوة، أو على الأصح أن الثروات الكبيرة لم تكن مشكلة من مشكلات المجتمع في تلك السنوات، سواء من جانب الأغنياء أو جانب الفقراء، فإن أصحاب تلك الثروات كانوا يتعوذون منها ويشفقون من فتنتها، ويسارعون إلى تفريقها على مستحقيها من الغزاة والمجاهدين وعلى المحرومين والمعوزين، وكان تخصيص الغزاة بالصلات التي تأتيهم من فيض تلك الثروات تشريفًا لهم يتنافسون عليه ولا يأنفون منه، بل كان منهم من يأبى أن تفوته هبة يراد بها أهل بدر أو غيرهم من أصحاب المغازي والسرايا، كأنه يرى في ذلك إنكارًا لصفته وكرامته وسابقته في جهاده، وقد تقدم أن عثمان ذهب مع الناس إلى عبد الرحمن بن عوف ليأخذ حصته من العطاء الذي نذر تفريقه على البدريين، وموقف عثمان هنا خاصة — ونحن بصدد ترجمته — يصور لنا شعور الغني والفقير يومئذ بشرف العطاء الذي يُخَصُّ به البدريون ومن حذا حذوهم في غزوات الجهاد، فقد كان عثمان رضي الله عنه يفرق أضعاف ما أخذه من عبد الرحمن بن عوف، ولكنه أشفق أن يدخل البدريون في حساب ولا يكون هو مثلهم من الداخلين فيه، وبخاصة حين عيَّره بعضهم أنه تخلف عن غزوة بدر، ودفع عنه هذا التعبير بما اعتذر به من إذن النبي له بالتخلف ومن حسبان سهمه في الغنيمة وهو غائب، فمثل هذا الشعور الذي يشمل الواصل والموصول من الغزاة والمجاهدين لا يجعل الثروة الكبيرة مشكلة يضيق بها المجتمع بين أغنيائه وفقرائه؛ إذ هي ودائع عند الأغنياء يحرصون على تفريقها ولا يحرصون على اكتنازها واستبقائها، ثم هم لا حاجة لهم إلى اكتنازها واستبقائها؛ لأنهم كانوا يعافون الترف ويعرضون عنه إعراضهم عن وصمات الخلق التي لا تجمل بالرجل في دينه ولا في دنياه، وكان أحدهما يشكو الحكة فلا يسمح لنفسه بلبس الحرير وهو قادر عليه إلا أن يستأذن في ذلك رسول الله؛ فيأذن له على سبيل الفتيا لا على سبيل التسلط من الرسول في لباس المسلم وطعامه، فما كان هذا التسلط مما يفرض الرسول لنفسه أو يفرضه المسلمون للرسول في غير ما يتولاه من التبليغ والتشريع، وقد كان الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن أذن لهم الرسول بلبس قميص من الحرير في بعض الغزوات ضرورة لا ترفًا ولا سرفًا، والمقام غير مقام الترف والسرف في شكة الجهاد.
وابتدأت الخلافة الأولى على عهد الصديق ومشكلة الثروات الكبيرة مكبوحة الجماح مملوكة الزمام، ثم أحس الخليفة الأول بزمامها يضطرب في يديه بعد اتساع التجارة وامتداد الفتوح؛ فاتخذ الحيطة لفتنتها واستبقى عنده كبار الصحابة ليجمع بين معونتهم له في الرأي والعمل، وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: «ما لقيت منكم أيها المهاجرون أشد من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي — أي المنسوب إلى أذربيجان — كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»
ثم قال يعظه ويحذره: «والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه خير له من أن يخوض غمرات الدنيا، ثم أنتم غدًا أول ضال بالناس يمينًا وشمالًا. ولا تضيعوهم عن الطريق. يا هادي الطريق جرت!»
ولم يكن عمر بحاجة إلى التحذير من عواقب انطلاق الصحابة في الأقطار، بل ربما كان يحذرها حيث لم يحذرها صاحبه، ولكن الصديق رضوان الله عليه لم ينسَ تحذيره في موقف الأمانة، فقال له وهو يجود بنفسه: «واحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله ﷺ الذين انتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم، وأحب كل امرئ منهم لنفسه وإن منهم لحيرة عند زلة واحد منهم، فإياك أن تكونه، واعلم أنهم لن يزالوا منك خائفين ما خفت الله …»
كلمات لا ندري كيف نحيط بما فيها من فهم لكل شيء في إبانه وقبل موقعه: فهم لطبائع الناس، وفهم للخطر كيف يأتي، ومن أين يبدأ، زلة واحد تتبعها حيرة من الكثيرين، وماذا يصد ذلك الخطر من الزلة ومن الحيرة؟ تصده القدوة بولي الأمر، فلن يزالوا خائفين منه ما خاف الله.
وهكذا قد كان.
•••
على أن المشكلة ظلت في قبضته الزمان على عهد عمر، بين قوة الخليفة وتورع الأجلاء من الصحابة، وشواغل الجهاد والفتح قبل استفحال قضاياه ونقائضه، وما برح الصحابة الكبار يتورعون من الشغلان بالثروة إلى ما بعد أيامه؛ فكان أقدرهم على التجارة وتثمير المال عبد الرحمن بن عوف يخجل أن يراه أحد منصرفًا إلى شئون متاجره ومزارعه، وحدث ابنه إبراهيم عنه فقال: «إن رجلًا زار المدينة ليلقى أصحاب رسول الله فلقيهم جميعًا إلا عبد الرحمن بن عوف، وسأل عنه فقيل له إنه في أرضه بالجرف، فلما جاءه ألفاه واضعًا رداءه وبيده مسحاة يحول بها الماء؛ فاستحى عبد الرحمن وأخذ رداءه وألقى المسحاة.»
قال إبراهيم: «فسلم الرجل ثم قال: جئتك لأمر ثم رأيت أعجب منه … هل جاءكم إلا ما جاءنا وهل علمتم إلا ما علمنا؟ قال عبد الرحمن: ما جاءنا إلا ما جاءكم وما علمنا إلا ما علمتم، فقال الرجل: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها ونخف إلى الجهاد وتتثاقلون عنه، وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا ﷺ؟ فعاد عبد الرحمن يقول: إنه لم يأتنا إلا ما جاءكم ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.»
وقد دعا الأمر بعد قيام الفاروق بالخلافة إلى مضاعفة الحيطة في كل تدبير لجأ إليه الصديق على اتفاق مع صاحبه؛ لاتقاء الفتنة ومصاحبة التغير الطارئ بالسياسة التي تلائمه، وجعل يشتد في حيطته كلما تباعدت المسافة بين المجتمع الإسلامي في أوائل عهد الدعوة وبين هذا المجتمع بعد افتتاح العراق وأقاليم فارس الغربية والشام ومصر إلى حدود إفريقية الشمالية والسودان.
فمن سياسته في ذلك أنه ثابر على استبقاء كبار الصحابة إلى جواره في المدينة، وكان منهم من يسأله الخروج للغزو وللجهاد فيثنيه عن ذلك ويلقي في روعه معذرته المشهورة: «إن له في غزوه مع رسول الله ما يكفيه ويبلغه … وهو خير له من الغزو اليوم»، ثم يقول له: «خير لك ألا ترى الدنيا ولا تراك …»
وانتهج في محاسبة الولاة خطة حاسمة لا هوادة فيها مع أحد ممن أحسن أو أساء، فراقبهم جميعًا أشد مراقبة، واتخذ موسم الحج موعدًا لمراجعتهم وسماع أخبار الرعية عنهم، ومنهم من كان يعزله ويستدعيه إليه لغير جريرة يؤخذ بها إلا أنه لا يريد — كما قال غير مرة — أن يحمل فضل عقله على الناس، وأنه يخشى أن يفتتن الناس به إن لم يفتتن هو بالناس مع فتنة السلطان وفتنة النجاح.
بلغني أنك تأذن للناس جمًّا غفيرًا، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة.
ولكنه لما رأى الخدم وقوفًا لا يأكلون مع سادتهم في مكة؛ غضب وقال لسادتهم مؤنبًا: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا بالخدام فأكلوا مع السادة في جفان واحدة.
فالمساواة في أدب النفس لم تكن عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة؛ فكان يقول لهم في خطبه: «يا معشر الفقراء ارفعوا رءوسكم! فقد وضح الطريق فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالًا على المسلمين.» وكان يوصى الفقراء والأغنياء معًا أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء؛ فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغنى وتقسيمها في وجوه البر والصلاح … على أن عمر يصح أن يُسمَّى مؤسسًا لديوان الوقف الخيري على الوجه الذي نعهده الآن؛ فقد أنشأ بيت الدقيق لإغاثة الفقراء الذين لا يجدون الطعام، وأصاب قبل خلافته أرضًا بخيبر فاستشار النبي ﷺ فيها، فاستحسن له أن يحبس أصلها ويتصدق بريعها، فجعلها عمر لا تباع ولا توهب ولا تورث، وينفق منها على الفقراء والغزاة وغيرهم، ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف ويطعم صديقًا فقيرًا منها.
وكان عمر يستقصي عادات المسلمين في معيشتهم حيث تفرقوا من بقاع الدولة الإسلامية، فسأل مَن عنده مِن أجلاء الصحابة: أن الناس قد دنوا من الريف فما ترون في حد الخمر؟ وكان ممن سألهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: نرى أن نجعله كأخف الحدود؛ فجلد فيه ثمانين.
•••
ثم انتهت خلافة عمر والمجتمع الإسلامي مجتمعان: أحدهما ماض ولما يمضِ بأجمعه، والآخر مقبل ولما يقبل بأجمعه، وأوشك عمر على قوته أن يحار في تدبيره، وقال الشعبي كما تقدم: إنه قضى وقد أوشكت قريش أن تمله لشدته ووقوفه لها بحيث وقف حائلًا بينها وبين نزعاتها ومطامحها في دنياها الجديدة، بين ماض ينصرم، وحاضر يتقلب ويكاد أن ينهزم، ولكن الثقة به لم تضعف مع طوالع المجتمع الجديد؛ بل زادته هذه الطوالع المتقلبة تمكينًا على تمكين، وجعلت من يخالفه يخجل من مخالفته، لمكان تلك الثقة القوية ولاستطاعة النفوس أن تغلب محن الحوادث ولا تستسلم لغوايتها. ولعلنا لا نجد لهذه المغالبة مثلًا يبرزها كما يبرزها مثل عبد الرحمن بن عوف الذي بلغ غاية النجاح في المجتمع الجديد، وكان قطبًا من أعظم الأقطاب في مجتمع الدعوة والخلافة الأولى، فإنه شهد بدرًا والمشاهد كلها، وكتبت له حصة وافية من أنفال الغزوات وغنائمها، وفاضت ثروته من التجارة والزراعة حتى فرقها بعد مرة، وعاش إلى أيام عثمان وكان صاحب القول الفصل في اختياره للخلافة؛ لأنه ارتضى أن يخلع نفسه منها ليكون له الرأي فيمن يختار من المرشحين لها، فهو بحق مثل نادر للمغالبة النفسية بين ما استقبل واستدبر من حياته على عهد النبي صلوات الله عليه وعهد عمر وعهد عثمان، وقد كان — كما أخرجه البخاري — يقول كلما رأى وفرة المال عنده: «خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا.» وكان يصوم ثم يؤتى له بالطعام فيقول: «قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفن في بردة إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيت رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسِط وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا.»
فهذه المغالبة لمحنة المجتمع الجديد، وتلك الثقة بالفاروق، وتلك القوة فيه، قد حفظت زمام الدولة في قبضة وليها، ولم تذهب بالمخالفة له إلى مدى أبعد مما سماه الشعبي بالملل وأحسن في وصفه، فلو لم تكن هناك ثقة مكينة لجاوز الأمر الملل إلى السخط والتمرد، وأُلفي هنالك من يتمرد ليمضي مع الماضي ومن يتمرد ليقبل مع المستقبل، ولكنها حالة لم تدم طويلًا بعد خلافة الفاروق؛ إذ كان في الناس من يغضب باطلًا ولا يخجل من غضبه بالباطل، وكان منهم من يغضب حقًّا وليس هو على يقين أن ولاة الأمر أحق منه وأجدر بالفضل والطاعة، وكان منهم من يحار بين الفريقين ولا يدري كيف يهتدي في حيرته إلى الصواب.