شأن عكاظ في الجاهلية
(١) حرمة عكاظ
كانت سوق عكاظ تجتمع في الأشهر الحُرُم، فيفد الناس إليها آمنين، ثم يذهبون منها إلى سوق مَجنَّة، فسوق ذي المجاز، فموسم الحج الأكبر. وعكاظ في طريق أهل اليمن ونجد إلى مكة … وقد غلط من ظن أن سوق عكاظ كانت تقام في شهر شوال، فليس هذا الشهر من الأشهر الحُرُم.
وفي أخبار السُّلَيْكِ بن السُّلَكة أنه خرج في الشهر الحرام فأتى عكاظ. وسيذكر هذا من بعدُ.
فأتى آتٍ قريشًا، فقال: إن البرَّاض قد قتل عُروة وهم بالشهر الحرام بعكاظ.
فهذه الروايات شاهدة بأن عكاظ كانت تقام في الأشهر الحرم، لا في شوال كما يُذكَر في بعض الروايات.
ثم دليل آخر: أن الحروب التي وقعت في عكاظ عُدَّت في حروب الفجار لأنها محرَّمة. وليست عكاظ من أرض الحرم، فإنما كانت حرمتها لوقوعها في الأشهر الحُرُم.
(٢) التجارة
وكانت تجارة العرب تحمل من الأرجاء إلى عكاظ، فمن أراد الميرة ذهب إليها، ومن فقد شيئًا التمسه في عكاظ لعله يجده في سِلَعها.
(٣) الأدب
وكان لعكاظ شأن في الأدب تتفاخر فيه القبائل، فينشد شعراؤها ويخط خطباؤها، ويعرض فيه الشعراء أشعارهم في غير المفاخرة والمنافرة ليذهب الشعر في الناس.
روى صاحب الأغاني وغيره أن النابغة كانت تُضْرَب له قبة من أدَم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء، فينشدونه ويحتكمون إليه.
ومما روى في هذا أن حسان بن ثابت دخل على النابغة في عكاظ وعنده الأعشى والخنساء، وقد أنشده الأعشى، ثم أنشدته الخنساء، فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني قبلكِ لقلت إنك أشعر الناس، أنتِ أشعر من كل امرأة. قال: ومن كل رجل. قال حسان: أنا أشعر منكَ ومنها. قال النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:
فنقد النابغة شعره في قصة معروفة في كتب الأدب.
وقصة الأعشى والمحلق معروفة، وسأذكر خلاصتها من بعد هذا الفصل.
(٤) عكاظ مجمع عام
ولِصيت عكاظ وكثرة المجتمعين فيها وأمن الناس بها في الأشهر الحُرُم كان العرب يقصدون إليها لأمر يريدون إذاعته، من مأثرة في الخير، أو دعوة إلى صلح، أو تعاون على أمر جامع، أو استعانة على عمل جليل.
كما كانوا يقصدون إليها لمفاخرة أو منافرة أو لطلب ثأر، يعرفون طَلِبتهم في عكاظ ولا يتعرضون له حتى يمضي الموسم وتنتهي الأشهر الحُرُم، فيرصدون له ليثأروا منه. وغير هذه مما يُقْصَد في المجامع العامة الحافلة التي يفد إليها الناس من المواطن القريبة والبعيدة.
وفي أخبار السليك بن السلكة أحد الصعاليك العدَّائين أنه خرج في الشهر الحرام فأتى عكاظ، فلما اجتمع الناس أخذ يطوف بين الناس متنكِّرًا، ويقول: من يصف لي منازل قومه وأصف له منازل قومي … إلخ.
لما كانت وقعة بدر، قُتِل فيها عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، وبلغها تسويمُ الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وقد سوَّمت هودجها براية، وأنها تقول: أنا أعظم العرب مصيبة. وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك، فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة. وأمرت بهودجها فسُوِّم براية وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت سوقًا يجتمع فيها العرب، فقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء … إلخ.
وقصة الأعشى الشاعر مع المُحَلِّق الكلابي معروفة، خلاصتها أن المحلق كان مئناثًا مملقًا، فأشارت عليه امرأته أن يسبق الناس إلى الأعشى فيضيِّفه وهو ذاهب إلى عكاظ، وينحر له ناقة ويسقيه، ففعل، وأحاطت بنات المحلق بالأعشى يخدِمْنَه، فسأل: ما هذه الجواري؟ فعلم أنهن بنات المحلق وأنهن لم يتزوجن.
ووافى المحلق عكاظ، فإذا هو بسرجة قد اجتمع الناس إليها، وإذا الأعشى ينشد قصيدته التي يقول فيها:
ثم نادى الأعشى: يا معشر العرب، هل فيكم مذكار يزوِّج ابنه إلى الشريف الكريم؟ فسارع الناس إلى تزوج بنات المحلِّق.
وللقصة روايات أخر.
ولما هجا دريد بن الصمة عبد الله بن جُدعان التيمي القرشي، لقيه في سوق عكاظ فكلَّمه في هذا.
ورُوِي أن قس بن ساعدة الإيادي كان يأتي عكاظ فيخطب داعيًا إلى الدين الحق مبشِّرًا بالنبي، ورُوِي أن رسول الله صلوات الله عليه سمع خطبة من خطبه في عكاظ.
ورُوِي كذلك أن الرسول كان يقصد إلى عكاظ يدعو القبائل إلى الإسلام، ويعرض عليهم أن يحموه حتى يؤدي رسالته.
•••
وهكذا يجد الباحث كثيرًا من أخبار عكاظ الدالة على عظم شأنها عند العرب، وقصدهم إليها من كل فج للتجارة، والمفاخرة، وإنشاد الشعر، ونِشْدان الضالة، والدعوة إلى معروف أو صلح … إلخ.