موضع عكاظ
لسوق عكاظ ذكر رائع في تاريخ العرب قبل الإسلام، وله آثار في لغتهم وأدبهم، وفي تجارتهم، وأحوالهم الاجتماعية من حرب وسِلْم وتفاخُر وتكاثُر.
•••
وقد كثر الكلام في مكان هذه السوق، فقال قائلون: هو المكان الذي يسمى اليوم السيل الكبير، وهو ميقات الحاج القادمين من نجد والطائف، على الطريق بين مكة والطائف. وقال آخرون: هو حيث السيل الصغير، وهو موضع في الطريق بين السيل الكبير والطائف على عشرين كيلًا من الأول واثنين وثلاثين من الثاني. وقيل كان في موضع يسمى اليوم القانس بين مكة والسيل الكبير، وقيلت أقوال أخرى.
•••
وقد أخبرني منذ أشهر الصديق الأديب الشيخ أحمد الغزاوي شاعر جلالة الملك عبد العزيز أن سمو الأمير فيصل آل سعود أخبره أنه ذهب إلى موضع عكاظ، وليس هو بالسيل الكبير ولا السيل الصغير، وأنه اجتمعت أدلة كثيرة على أن في هذا الموضع لا غيره كانت سوق عكاظ.
وكان ذهاب سمو الأمير إليه في رجوعه من الصيد إلى الطائف، وكان معه الشيخ محمد بن بليهد، وهو عالم نجدي واسع المعرفة بأخبار العرب ماضيها وحاضرها، راوية لأشعارهم القديمة والحديثة، عارف بكثير من الأمكنة التي ذُكِرت في الأشعار والأخبار، ذهب إليها ورآها رأي العين.
وقد اجتمع لهذا الشيخ البحاثة نُقول وأدلة لا تدَع شكًّا في أن هذا الموضع كان هو مجتمع العرب في السوق التي ذاع ذكرها وطار صيتها، سوق عكاظ.
قلت للشاعر الغزاوي: لا بد لي أن أرى هذا المكان، وأجمع له ما أُثِر في كتب الأدب والتاريخ من أوصاف عكاظ، فأرى كيف تتفق عليه أو تختلف.
•••
ثم لقيت الأمير حفظه الله في جدة، فتحدثنا عن عكاظ، فوعد أن نذهب إليه معًا ونكمل النظر والبحث هناك.
وحالت أشغال وأسفار حتى ذهبت إلى الطائف يوم الجمعة سادس شوال سنة ١٣٦٩ﻫ، فلقيت الأمير هناك وأعدنا الحديث عن عكاظ، وكنت على أهبة السفر إلى الرياض لتوديع جلالة الملك عبد العزيز قبل سفري إلى مصر، فاتفقنا على أن أعود من الرياض إلى الطائف فأصحب سمُوَّ الأمير والشيخ ابن بليهد إلى عكاظ. وكان الأمير حفظه الله يريد أن نضرب خيامنا في عكاظ يومين أو ثلاثة نجول في أرجائه، ونوفي البحث والنظر حقهما هناك.
وعدت إلى الطائف صباح الأربعاء — وكان الأمير في جدة مع الأمير سعود — فجاء إلى المطار الشيخ ابن بليهد في جماعة من أتباع الأمير، فبشَّروني بأنهم أعدُّوا العدة للذهاب إلى عكاظ، وأنَّا ذاهبون إليه فورًا.
سرنا من مطار الحويَّة صوب الشرق نحو اثني عشر كيلًا، فإذا أرض واسعة مطمئنة أدركنا فرق ما بينها وبين الأرض التي سرنا عليها من الحوية، يدل منظرها على أنها مجتمع مياه.
قال الرفاق: هذه عكاظ … فتأهب الفكر للنظر والتأمل، واستنجد ما سمع عن عكاظ وما قرأ ليتبين أهذه عكاظ كما ذُكِرت في كتب الأدب والتقويم، وما أعظم سرور الباحث وزهوه حين يبلغ المكان التاريخي الذي اقترن بآداب الجاهلية وأخبارها!
معالم عكاظ
سرنا إلى الشرق نقصد حَرَّة كبيرة عالية مشرفة على سهل واسع، سرنا إليها بالسيارة نمُرُّ بأحجار كبيرة بيضاء من المرمر، قال الشيخ: انظر هذه العُبيلات.
فلما بلغنا الحَرَّة قيل: انظر إلى هذا القصر المشيد. فنظرت إلى الشرق والشمال، فإذا بناء منيف على ربوة، قال الرفاق: نذهب إليه ثم نعود إلى الحرة. فذهبنا فإذا بناء على ربوة، فصعدنا فرأينا بناء متينًا فيه بهو وحجرات وعقود محكمة، قال الشيخ ابن بليهد: هذا جاهلي. وقال بعض الرفاق: هو هلالي — وكل أثر قديم ضخم تنسبه البادية إلى بني هلال قوم أبي زيد الهلالي البطل المعروف في القصص — قلت: بناء حديث، أغلب الظن أنه من بناء عصورنا، لا يتقدم أيام العثمانيين … فصدقني بعض الرفاق وقال: يقال إنه من بناء أشراف مكة.
ورجعنا إلى الحَرَّة فصعدنا وأَجَلْنا البصر فيما حولنا، وكانت الساعة خمسًا من النهار، وقد اقترب الظهر، ولكن الهواء كان باردًا لا نبالي معه مَسَّ الشمس.
قلت: فَلْننظر تصديق هذا، هذه أرض مستوية، وهذه الحرة تطلع الشمس عليها، أعني أنها شرقي المكان. قال هو وبدوي كان معنا: وهذه الحرة تسمى الخَلَص. وقال: والعُبيلات البيض قد رأيناها في طريقنا متفرقة وسنراها. ونظرنا شطر الجنوب، فإذا جبل بعيد ينتهي إليه النظر. قال الشيخ: هذا الجبل يسميه البدو حلاة جلدن، والحلاة عندهم الهضب.
ونظرنا نحو أكمة تقع إلى الغرب والشمال من هذا الجبل البعيد، فقال: هذه الأكمة البيضاء هي العُبلا أو العُبيلا.
ونظرنا إلى الشمال والغرب من مقامنا فوق الحَرَّة، فإذا جبيل أدكن، قال: هذه العَرفا، ووراءها وادي قُرَّان.
وطمح بصرنا إلى جبال بعيدة كِدت لا أراها أشار إليها الرفاق قائلين: وهذه جبال عُشيرة.
قلت: فأين وادي شَرب الذي قال ياقوت إنه في عكاظ؛ فهو عندي من أوضح الأدلة، إذ كان لا يزال معروفًا باسمه في البادية وإن غُيِّر إلى شِرْب؟
قالوا: هذا وادي شرب يأتي من الجنوب والغرب إلى هذه الحرة، وتلتقي به أودية منها وادي الأخيضر يلاقيه في عكاظ.
قلت: هذا دليل واضح على أننا نشرف على سهل عكاظ الآن. قال الشيخ ابن بليهد: وهذه العبلا أو العُبيلا دليل آخر، فقد ذكر في أيام الفجار يوم العبيلاء، وقيل إن العبيلاء بجانب عكاظ، فهذه العبيلاء تراها على مدِّ البصر بجانب عكاظ.
فهذه الحجارة البيض التي رأينا في طريقنا إلى هذه الحرة، جديرة أن تسمى عبلاوات، فتوافق ما قال الأصبغ بن عرَّام.
وقيل العبلاء اسم علم لصخرة بيضاء إلى جنب عكاظ.
فإن قلنا العبلاء الصخرة البيضاء، فهذه الأكمة الكبيرة البيضاء، وهذه الحجارة الصغار التي مررنا بها كل واحدة منها تسمى عبلاء، وإن قلنا العبلاء صخرة بعينها إلى جنب عكاظ، فهذه الصخرة أمامنا بقي اسمها حتى يومنا هذا كما تقول أنت، ويشهد رفاقنا.
وأرجوزة أحمد الرداعي اليماني. قلت: نعم، هذه الأرجوزة في آخر كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني، وقد قرأتها فعرفت من نسق المواضع فيها أن عكاظ في طريق اليمن إلى مكة، قبل قرن المنازل أي قبل السيل الكبير الذي ظن بعض الناس أنه عكاظ.
أوقح: منهل على وادٍ عذب الماء. وقيل لعليل من أهل صنعاء وهو في منزله: ما تشتهي؟ قال: شربةً من ماء أوقح. وكلاخ: وادٍ ماؤه ثقيل ملح. وكل هذه البلاد من تبالة إلى نخلة ديار هوازن فيها من كل بطونها. ذو طُوى: وذو طُوى بمكة أيضًا.
وكلاخ إلى الجنوب من هذا الجبل الذي يسمى جلدان، وهو موضع فيه أبنية ونخل، وكان صاحب الأرجوزة ذاهبًا إلى الحج يعدِّد المواضع التي يمر بها، فذكر كلاخًا هذا.
قلت: وأضيفُ إلى هذا أن ياقوتًا قال في المعجم: وكلاخ موضع قرب عكاظ، ثم قال الراجز:
جلدان: موضع قاع واسع. خَبٌّ: ثقيل، يقال هو خَبٌّ ضَبٌّ.
وجلدان هو الجبل الذي نرى إلى الجنوب، ذكره الراجز بعد كلاخ.
ثم قال الراجز ذاكرًا ما بعد كلاخ وجلدان:
المظاظ: من المماظَّة وهي المغاشة والمشاقة. عكاظ: بمعكد هوازن وسوق العرب القديمة، وهي لبني هلال اليوم. والاندعاظ: الاندفاع. والمُجْمَر: الخف المستدير الصليب الجوانب.
فقد مرَّ بعكاظ بعد كلاخ وجلدان فذكرهما بعدهما، وهو سائر من الجنوب إلى الشمال، وترى جلدان وخلفه كلاخ وليس بعدهما إلا عكاظ، ثم ماذا بعد عكاظ؟
قال الراجز:
المفعم: الممتلئ. وقُرَّان وشَرِب: مكانان من أرض عكاظ، وقُرَّان هذا غير قرَّان اليمامة، وقرَّان الجَوف جوف أرحب، وهذه المواضع من الجرداء، ويضرب على مشرق جميع هذه المواضع جبل الحضَن من المحجة على يوم وكَسْر، ثم ضرب الناس من قُرَّان وشَرِب ذات اليسار فعلوا رأس السراة وهو المناقب خمس عقاب منها الغمضة وغيرها، فانحدروا فيها وسقطت بهم على قَرْن الحَرَض، وهو الذي وَقَّته النبي عليه السلام لأهل نجد ولأهل تهامة يلملم، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق.
فهذا قُرَّان الجبيل الذي ترى، وشَرِب ذكرناه آنفًا.
وأما المناقب فهي الريعان التي نهبط إليها في طريقنا إلى مكة، بعد أن نجاوز السيل الصغير.
قلت: أعرفها وأعرف مضايقها ومخاوفها، حين تدخل فيها السيارات فلا تزال أبواقها تدوِّي حتى تخرج منها.
مناقب: اسم جبل معترض، قالوا وسُمِّي بذلك لأن فيها ثنايا وطرقًا إلى اليمن، وإلى اليمامة، وإلى أعالي نجد، وإلى الطائف، ففيه ثلاث مناقب وهي عقاب … إلخ.
وهذا يصدق قولك في أن المناقب هي هذه الريعان التي نجوزها بعد أن نرتقي من السيل الكبير إلى جبال الطائف.
ويزيد هذا ثبوتًا أن صاحب الأرجوزة قال بعد ذكر مناقب:
بقرْن مسجد النبي ﷺ وبئره، وهو وادٍ ونخل وحصون، وهو على رأس البَوْبَاة.
فقد أقبل على الميقات ميقات الإحرام وهو قرن المنازل. ونحن نعلم أن الناس يحرمون اليوم عند السيل الكبير، وهو أول ما يلقى السائر حين يهبط من جبال الطائف في طريقه إلى مكة، فهذا يصدق القول بأن مناقب هي هذه الريعان.
وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنصر.
فالآن وضحت الأدلة؛ قد قرأنا وصف عكاظ، وقرأنا عن منازل قريبة منه، وعن أودية فيه أو بجانبه، وكانت كلها مبهمة في عقلي حتى بينتها في هذا المقام. بارك الله فيك.
•••
ثم قلت ونحن على الحرَّة: إن القبائل لا تجتمع على غير ماء، فأين الماء إن كان هذا موضع عكاظ؟ إن وادي شَرِب ووادي الأخيضر لا يدوم فيهما الماء، فكيف كان أهل عكاظ يشربون ويسقون أنعامهم إن لم يكن فيه ماء مَعِين؟ قال ضيف الله أحد رفاقنا، وهو من قبيلة عتيبة: انظر في مجرى الوادي — وأشار صوب المشرق — هذه الأحجار على فوهة بئر، وتلك الأحجار على بئر أخرى، وآبار كثيرة هنا طمَّها الوادي.
ونزلنا من الحرة فسرنا في سهل عكاظ، فرأينا آثار بناء آخر، وجُدُرًا من الأحجار مسوَّاة بالأرض، وسرنا إلى العبيلاوات البيض فرأينا بعضها، وكلها بيضاء من رخام أو مرمر.
•••
ثم أوينا إلى فسطاط كبير فُرِش بالبسط، ومدَّ لنا سماط كان في أدواته وألوان طعامه ما بعد بنا عن البادية وأخرجنا من عكاظ حينًا.
ولبثنا إلى ما بعد العصر، ثم ركبنا نضرب في السهل شطر الجنوب نريد العبلاء البيضاء التي رأيناها ونحن فوق الحرة، ونطمح إلى جلدان وما يليه، فانتهينا إلى أكمة بيضاء حجارتها كحجارة العبيلاوات التي رأيناها آنفًا، وصعدنا عليها فأَجَلْنا الطرف فيما حولنا نرى الحَرَّة من بعيد ونرى جلدان. وأُشِيرَ إلى نخل شطر الغرب والجنوب فقيل: وهذا الأخيضر، وهو للعداوين أي لقبيلة عَدوان، وعدوان في هذه المواضع منذ الجاهلية. وعبرنا وادي الأخيضر فارتفعنا عن سهل عكاظ نؤم الحويَّة فالطائف، وقد نزلنا في أحد بساتين سمو الأمير فيصل في الحوية، فاسترحنا وأكلنا عنبًا وجُلْنَا بين الأشجار والثمار قليلًا، ثم دخلنا الطائف بعد الغروب، وقد بلغت أربًا من عكاظ وأيقنت أنه هذا الموضع لا ريب، وأن قولنا فيه قول فصل، وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب.