للنهايات طابع شخصي
كانت باتي رينولدز قاب قوسين أو أدنى من الموت، لكنها عاشت وحكت لنا الحكاية. في عام ١٩٩١ كانت المغنية وكاتبة الأغاني الشابة تروِّج لأسطوانتها الموسيقية مع زوجها حين عجزت فجأة عن الكلام. أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي أنها تعاني تمددًا وعائيًّا في جذع المخ. كان دماغها ينزف فعليًّا، محوِّلًا إياها إلى قنبلة موقوتة.
في غضون أيامٍ برَّد جرَّاح شاب في أريزونا جسدها عند درجة ٦٠ فهرنهايت، ونزح الدم من رأسها مثلما يُنزح الزيت من حوض الزيت في محرِّك السيارة. كان هذا الإجراء الخطير — الذي يُطلق عليه «توقُّف القلب» — مقدمة لإيقاف التمدد الوعائي وإعادتها من حافة الهلاك. حينها قال الجرَّاح، واسمه روبرت سبتزلر، إن باتي كانت تمر بغيبوبة شديدة، وإنه بصعوبة يمكن اعتبارها على قيد الحياة. غُطِّيت عينا باتي أثناء العملية الجراحية بشريط لاصق، وسُدَّت أذناها بسماعات عازلة للصوت.
عندئذ — حسب تعبيرها — خرجت باتي من رأسها. كانت تحلق في أعلى الغرفة، ونظرت لأسفل فرأت ٢٠ شخصًا يحيطون بها حول طاولة العمليات. سمعت صوت مثقاب طبيب أسنان وحديث الجرَّاح وإحدى الممرضات. رأت نفقًا وضوءًا ساطعًا، وتحدَّثت إلى عمِّها وجدَّتها المتوفَّيَين. وبينما كان الأطباء «يعيدون تشغيل قلبها» قرع أذنيها عزف أغنية «فندق كاليفورنيا» لفريق إيجلز داخل مسرح العمليات، وسعدت كثيرًا بالمفارقة التي يحملها جزء الأغنية الذي يقول: «يمكنك أن تدفع الحساب في أي وقت تشاء، لكن لا يمكنك الرحيل أبدًا.»
ظنَّت باتي أنها كانت في حالة من الهذيان، لكن الشهود وسجلات المستشفى أكدوا صحة جميع التفاصيل فيما بعد. كيف تسنَّى لها أن ترى تلك الأشياء وهي ترقد على عربة المستشفى ذات العجلات وقد توقفت أجهزة جسدها عن العمل؟ أكد سبتزلر أنه ليس لديه أي تفسير علمي لما حدث. يرى المتشككون أن الوعي بتجربة الاقتراب من الموت والصور المرتبطة بها التي صارت من فرط تكرارها مبتذلة — الأنفاق والأضواء الساطعة — هي أعراض لتغيُّر وظائف المخ بسبب النقص الحاد في الأكسجين.
لكن الإفادات المتكررة عن تجربة الاقتراب من الموت تحوي أمثلة تتشكَّل فيها الذكريات الواعية على الرغم من انخفاض النشاط الكهربائي للمخ إلى مستوى لا يمكن رصده، وهو ما يثير هذا السؤال: حين يتوقف المخ عن العمل، أين يذهب العقل؟
***
(١) هذا كل ما في الأمر يا رفاق
(١-١) مواجهة المحتوم
في صباح بعض الأيام، أثناء تناولي للقهوة، يعكس قناع ذهبي معلق على حائط حجرة معيشتي نور الصباح الباكر. الوجه ساكنٌ والأنف مستقيمٌ أشم والعينان نصف مغمضتين. إنه أجاممنون، قائد الجيش اليوناني أثناء حرب طروادة. كان القناع الأصلي قد اكْتُشِفَ على يد هينريتش شليمان عام ١٨٧٦ في مقبرة بمدينة مايسيني، وهو الاكتشاف الذي ساعد في إقناع العلماء بأن القصص الملحمية التي رواها هوميروس منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام مثَّلت أحداثًا حقيقية وأشخاصًا حقيقيين.
بإنعام النظر في سكينة أجاممنون، تبدو حتمية الموت باعثة على السعادة. فيا لها من منزلة رفيعة أن يموت المرء ملكًا ومحاربًا! غير أن أجاممنون لم يكن خاليًا من العيوب، مثله مثل جميع أبطال الإغريق؛ فقد قدَّم ابنته إفيجينيا قربانًا للآلهة قبل أن يُبحر إلى طروادة، وكان يتشاجر مع أخيل باستمرار، لكنه في النهاية قاد اليونانيين إلى النصر، وقام بالعديد من الأعمال البطولية في ساحة القتال، وعاد إلى وطنه منتصرًا مع خليلته، كاساندرا، التي أُسرت في الحرب. في تلك الأثناء كانت زوجته كليتمنسترا قد اتخذت عشيقها الخاص، وقُتل أجاممنون غدرًا في مأدبة أقيمت على شرفه.
كي نبدأ هذا الاستكشاف للنهايات، لا بد لنا أن نقرَّ بعقبة زوالنا ونتجاوزها. يبدو الأمر جائرًا للغاية؛ فجميع أحلامنا وآمالنا قد تنتهي بسبب حافلة انحرفت عن طريقها ونحن في سن الأربعين، أو ربما بسبب ورم خبيث يداهمنا في سن الثمانين. أحيانًا يكون الإنجاز البشري بارزًا، لكن في النهاية لا طائل منه أمام نتيجة حتمية. والشيء الوحيد غير المؤكد، إلا في حالات الانتحار، هو الطريقة التي سنموت بها.
(١-٢) فن الموت
تسبَّب تفكير البشر فيما لا يمكن تصوره — ما أطلق عليه رابيليه اسم «نطاق الاحتمالية الشاسع» — في غياب النوم عن جفونهم لليالٍ عديدة، لكنه حفَّز بعضًا من أعظم إبداعاتهم. وقد استحوذ الموت على عقول الكتَّاب وخيالهم، بدءًا من رثاء الملك لير لابنته كورديليا، حتى تأملات توماس بينشون الملحمية في «جاذبية قوس قزح». أيضًا للموت حضورٌ طاغٍ في كثير من أفضل الأعمال النثرية والشعرية والمسرحية المؤلَّفة على امتداد القرن الماضي، فتارة يكون رمزيًّا واستعاريًّا، وأخرى يكون هادئًا وساخرًا، وتارة ثالثة يكون مثيرًا للمشاعر وتطهيريًّا.
كثيرًا ما يوظِّف الأدب الموت كوسيلة للتأمل في شئون الحياة وطبيعة الوجود ونقدها؛ فمسرحية «بلدتنا» لثورنتن وايلدر تستغل سرعة زوال الحياة في تذكيرنا تذكرة لطيفة بالعجائب اليومية التي تحيط بنا. أيضًا يأتي كتاب «والدن» لهنري ثورو برؤية مماثلة مستمدة من مناجاة الطبيعة. وكذلك واجه إيفان إيليش أحد أبطال الروائي ليو تولستوي داءً عضالًا واستطاع التأقلم مع محنته عن طريق طلب العون. وبالمثل، يكاد الاهتمام بفكرة الفَناء يستحوذ على أحداث روايات الكاتبين فرانز كافكا وديفيد هربرت لورنس ومسرحيات الكاتبين يوجين أونيل وتينيسي ويليامز. ويذهب الشعر إلى أبعد من ذلك متعمقًا في الموضوع حتى يصل إلى جوهره الأساسي. ولا شك أن إدراكنا لكتابات الشاعرتين سيلفيا بلاث وآن سيكستون قد ازداد عمقًا بمعرفتنا بأنهما قد انتحرتا.
إن الفناء حقيقةٌ بديهية وأمرٌ محظورٌ الحديث عنه في الوقت نفسه؛ فالدول الغربية تتبنى موقف إنكارٍ حذرٍ للموت الفعلي؛ مفضِّلة ضروب التجسيد التقليدية والمصطنعة في وسائل الإعلام. مع ذلك، على مدار الجزء الأكبر من التاريخ الإنساني، وفي الدول الفقيرة إلى اليوم الحالي، جرت العادة على النظر إلى الموت والحياة على أنهما عمليتان طبيعيتان، بل جزء من سلسلة متصلة. لم يكن الموت يُنَحَّى جانبًا، بل كان أمرًا حقيقيًّا ومهمًّا. وخشية أن ينساه أي شخص، كان هناك رسائل تذكير متواصلة؛ فكان القادة العسكريون المنتصرون في الإمبراطورية الرومانية يسيرون في مواكب انتصار رفقة عبيد يرددون «تذكروا، أنتم فانون». وفي العصور الوسطى كانت رسائل التذكير تلك مصطبغة بطابع أخلاقي مثلما في التماثيل العاجية التي كانت تجسِّد امرأة جميلة في جانب من التمثال وجثمان متعفن في الجانب الآخر.
في الفن، يتطلب التحديق في الموت عينًا ثاقبة شجاعة؛ لأن الشعور الناتج غالبًا يكون كئيبًا مبكيًا. لقد حلَّت الواقعية محل رقَّة الاستعارة التقليدية، وها هي الجمجمة المكسوة بقشور الماس للفنان داميان هيرست قد بيعت في مزاد مقابل مبلغ مذهل بلغ ١٠٠ مليون دولار، وأيضًا شاهد ٢٥ مليون شخص في جميع أنحاء العالم مجموعة جونتر فون هاجن المتنقلة من الجثث المتحللة. ولا يجب أن نندهش من بحث جريجور شنايدر عن متطوعين لديهم الاستعداد للموت في معرض للفنون.
عندما تزداد الأمور كآبة، يمكننا العودة إلى العبارات الساخرة والأقوال المأثورة كنكات وودي آلن، أو ذلك التعليق الذي أبداه آرت باكوالد وهو يعاني فشلًا كلويًّا مميتًا وقال فيه: «الموت سهلٌ، أما إيقاف السيارات في ساحة الانتظار فهو صعب.» وفي عالم الرسوم المتحركة ذي الشقوق المؤلمة والصخور القاسية، يعود ذئب القيوط وطائر عدَّاء الطريق إلى الحياة بصورة لا نهائية (مع أنه في كل مرة ربما يكون القيوط أو عدَّاء الطريق مختلفًا)، لكن قبل أن نغلق أعيننا يظهر الأرنب المشاغب ليخبرنا بألا نأخذ الأمر بجدية شديدة.
(١-٣) الحديث عن النهايات
هل هناك موت مثالي؟ قد يكون الموت في أفضل أشكاله مستحقًّا على نحو قاسٍ، كما هو الحال مع مفجري السيارات المفخخة من منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي، أو مفجري حزب الله الانتحاريين، أو قد يحمِل مصادفةً من الناحية العددية؛ كما حدث مع لاعب الشطرنج المحترف بوبي فيشر الذي مات في الرابعة والستين من عمره (وهو عدد مربعات رقعة الشطرنج)، أو قد يحمل لمسة تراجيدية كوميدية؛ كما حدث مع الممثل هارولد نورمان الذي لقي حتفه عام ١٩٤٧ أثناء مبارزة شديدة الحماسة بالسيوف في المشهد الأخير من مسرحية «ماكبث»، أو قد يحمل الموت ملاءمة شعرية؛ كما حدث مع أتيلا الهوني الذي مات ليلة زفافه جراء نزيف في الأنف، أو قد يأتي على عكس ما يتوقع المرء؛ كما في حالة كلٍّ من العدَّاء المحترف جيم فيكس، الذي مات وهو يتمشى، وإرفينج رودال، مؤسس حركة الأغذية العضوية الذي توفي إثر أزمة قلبية داهمته أثناء مقابلة تليفزيونية معه في برنامج «ذي ديك كافيت شو».
لا يلزم أن يكون تحقيق المثالية شيئًا بطوليًّا، وخير مثال على ذلك هو دون دوان الذي فارق الحياة في صالة بولينج بمدينة رافينا في ولاية ميشيجن عام ٢٠٠٨. كان دون عضوًا بإحدى فرق البولينج المحلية مدة ٤٥ عامًا، لكن في تلك الليلة من شهر أكتوبر وبعد أن سجَّل لعبته المثالية الأولى بنتيجة ثلاثمائة نقطة، صافح زملاءه في الفريق ثم فارق الحياة إثر أزمة قلبية شديدة.
قضى لارجو ١٠ سنوات في جمع الإحصائيات والقصص من أجل كتابه الجامع ذي الطابع الكئيب «مخارج أخيرة»، ومع ذلك فهو كتاب ممتع في قراءته، يشير فيه لارجو إلى أن موضوع الموت يزداد تشويقًا. ففي عام ١٧٠٠، كان هناك أقل من مائة سبب للموت مدرجًا في شهادات الوفاة، لكن في الوقت الحالي هناك أكثر من ثلاثة آلاف سبب، حتى الأنشطة الخطيرة والممتعة في العادة أوجدت أنواعًا جديدة من الموت؛ مثل لعبة القفز من الجبال بالمظلات، التي استطاعت أن تجمع بين أخطار التسلق والقفز بالمظلات.
يضمن لارجو أن قرَّاء كتابه سيحظون بعامين إضافيين من الحياة بحد أدنى، مع أن قدرًا قليلًا من التفكير يوضِّح أنه قد يكون من الصعب للغاية إثبات هذا الضمان. يستطيع لارجو أن يُطمئن قراءه — أو يروِّعهم — باحتمالات الموت في باب دوَّار أو على سرير مائي أو أثناء الصلاة أو بسبب الضحك أو الفواق. يقول: «إن الموت أمٌّ متقلبة المزاج.» وحين يضطر إلى تقديم مثال بعينه على غدر القدر، يذكر الرجل الذي نجا من انهيار برجَي مركز التجارة العالمي ثم مات بعد مرور ٣٠ شهرًا في تحطم عبَّارة جزيرة ستاتين الذي أودى بحياة ١٣ شخصًا.
وضع أفلاطون في كتابه «الجمهورية» وأرسطو في كتابه «أخلاق نيكوماكيان» المعيار التقليدي للشجاعة، وهو ملاقاة أحد النبلاء الموت وسط وطيس المعركة، لكن هذا المعيار ضيق للغاية؛ فثمة شجاعة وافرة تظهر في الطرق العديدة التي يلقى البشر بها حتفهم، ويكون الأمر مثيرًا للاهتمام أكثر حين يحدث موقف الموت دون عون من الإيمان الديني.
(٢) لكل شيء وقته
(٢-١) قليل من التأمل
لننظر إلى دوامة الحياة بقليل من التروي. يبلغ متوسط العمر المتوقع للإنسان عند الولادة في الدول الغربية المتقدمة نحو ٨٠ عامًا، أو ٢٫٥ مليار ثانية. تبدو تلك المدة طويلة للغاية لو نظرنا إليها في ضوء دقَّات الساعة أو الحركة الدائرية الثابتة لعقرب الثواني. فحياتنا تمتد بنسبة ١٪ من التاريخ المسجل، وأقل من ٠٫١٪ من تاريخ «الإنسان العاقل» الحديث حتى الآن. والنمو السكاني الحالي يسبب ضغطًا شديدًا على هذا التاريخ؛ إذ إن معظم الأشخاص الذين عاشوا في أي وقت هم الأحياء الآن.
ومع ذلك، فالبشر هم آخر الوافدين إلى كوكب عتيق؛ فقد زحفت الحيوانات الأولى خروجًا من البحار وبدأت في العيش على اليابسة منذ ٤٠٠ مليون عام. أما أصل الحياة نفسه فيرجع إلى وقت مبكر عن ذلك؛ منذ حوالي ٤ مليارات عام؛ في وقت خلا فيه الغلاف الجوي للأرض من الأكسجين، وكان الحطام المتخلف عن تشكُّل المجموعة الشمسية يضرب سطح الأرض بعنف. وكانت الأرض والمجموعة الشمسية وافدين جددًا على كون شاسع يُئوي مليارات التريليونات من النجوم والكواكب الملازمة لها. وتثبت عمليات رصد الموجات الميكرونية المتخلفة عن الانفجار العظيم المتوهج أن العمر الحالي للكون يبلغ ١٣٫٧ مليار عام.
لفهم هذا المسار الزمني الهائل، دعونا نقلِّص أو نسرِّع من تقدُّم عجلة تاريخ الكون وفق معامل قيمته ١٣٫٧ مليار عام. لنتخيل أن الساعة الآن تدق معلنة انتصاف الليل وبداية عام جديد، وأن الانفجار العظيم وقع في الوقت نفسه العام الماضي. وفق هذا المقياس يكون كوكب الأرض قد تكوَّن في منتصف شهر سبتمبر، وظهرت الخلايا ذات النوى لأول مرة في منتصف شهر نوفمبر، وبدأت الحيوانات في استعمار اليابسة في الحادي والعشرين من ديسمبر، وتطور أول أفراد النوع البشري قبل ساعة ونصف فقط من منتصف ليلة الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر، وظهر عصر النهضة بعظمته والثورتان الصناعية والزراعية وعصر الفضاء وتكنولوجيا الكمبيوتر جميعًا في الثانية الأخيرة من هذا العام الكوني.
وفق هذا المقياس لا تشغل حياة أي إنسان أكثر من عُشر ثانية واحدة، ولو كان الكون موجودًا لمدة عام، لما تجاوزت كل آمالنا الشخصية وأحلامنا وطموحاتنا طرفة عين. وكما يذكِّرنا فيلم «هذه هي فرقة سباينال تاب»، فمن المرجح أننا نعطي أنفسنا أهمية أكبر بكثير مما ينبغي.
(٢-٢) أقدم من التراب
ما أكبر الكائنات الحية سنًّا؟ يمكن للبكتيريا أن تعيش إلى الأبد، لكن كمستعمرة فقط، وتقع الخلايا الجذعية والأمشجة في الفئة نفسها. وتعد الأوليات من الحيوانات، لكنها تتكاثر عن طريق الانقسام من أب واحد. ومحل اهتمامنا هنا هو الأفراد الذين ينشئون عن التكاثر الجنسي، وسنبدي اهتمامًا أقل بمجموعات الكائنات الحية المتطابقة جينيًّا. ولأن التربة يمكن أن تتكون في زمن لا يتجاوز بضعة آلاف من السنوات، فبعض هذه الكائنات أكبر في الحقيقة من التراب سنًّا.
وسط الكائنات البحرية، إن أردت البحث عن أكبر الكائنات سنًّا، فعليك بذوات الدم البارد. أشارت التقديرات إلى أن عمر أحد حيوانات الإسفنج بطيئة النمو في القطب المتجمد الجنوبي بلغ ١٥٥٠ عامًا. وفي عام ٢٠٠٧، أُخرج بطلينوس عمره ٤٠٥ أعوام من المحيط المتجمد الشمالي، وقد قيس عمره باستخدام طبقات النمو الصدفية التي يطرحها في كل موسم دافئ والمشابِهة لحلقات النمو في الأشجار. كان البطلينوس صغيرًا حين كتب شكسبير تلك الكلمات في مسرحية «العاصفة»: «على عمق خمس قامات كاملة يقع والدي، ومن عظامه يُصنع المرجان، وتلك هي اللآلئ التي كانت عينيه؛ فلا شيء منه يذبل.» وقد فر البطلينوس من أسرِ النرويجيين المرتحلين إلى أمريكا، الذين سبقت مستوطناتهم وصول الحجاج إلى بلايموث. ولحسن الحظ قاوم الباحثون الذين عثروا عليه إغراء تحويله إلى حساء الشودر.
يمكن للأسماك أيضًا أن تعيش حتى سن كبيرة للغاية، لكنها تتحرك بحرية؛ لذا من الصعب تتبعها. ومع ذلك قضى هاناكو حياته حبيس بركة في مدينة ناجويا في اليابان، وكان من فصيلة أسماك الشبوط، ومات عام ١٩٧٧ عن عمر يبلع ٢٢٦ عامًا. كان رئيس كلية البنات التي عاش فيها هاناكو قد حكى عن الطريقة التي كان يستجيب بها عند سماع اسمه، أو الترحيب الذي كان يبديه عندما يربت أحدهم على رأسه، أو حتى تقبُّله أن يُسحب من الماء لاحتضانه. والسمك الصخري أكثر بعثًا على الحيرة — فعيناه المنتفختان وشفتاه الممتلئتان وفكَّاه يجعلونه غير محبوب من أي شخص — لكنه يمكن أيضًا أن يعيش لأكثر من ٢٠٠ عام. وحتى السمك الذهبي المتواضع يمكنه أن يعيش حتى سن الأربعين.
عادة ما تحمل السلاحف الرقم القياسي لأكبر الحيوانات الحية سنًّا. والسلحفاة الأشهر على الأرجح هي ذكر سلحفاة برية من جزر جالاباجوس قضى معظم حياته في حديقة حيوان أستراليا في مدينة برزبين، وكان اسمه هاري. كان عمر هاري خمسة أعوام وحجمه يماثل حجم طبق العشاء عندما أحضره تشارلز داروين إلى إنجلترا على متن سفينة بيجل. كان حال هاري مثيرًا للشفقة في المناخ الإنجليزي؛ إذ كان مجبرًا على البقاء في حالة بيات شتوي دائمة تقريبًا، ولهذا أُرسل إلى أستراليا. ولمدة قرن ظلت السلاحف الإناث تُودَع في حظيرته المسيَّجة لكن دون أي نتيجة؛ إذ إن أحدًا لم يتكبد مشقة (أو كان باستطاعته) قلب السلحفاة التي تزن ١٣٦ كيلوجرامًا والتحقق من نوعها. كان هاري أنثى، فسُمِّي هارييت. وقد توقفت هارييت عن التزاوج عند سن الخمسين بعد المائة، وظلت تستمتع بنظام غذائي من البقدونس والهندباء والقرع والملفوف الصيني والخبازيِّ، بالإضافة إلى حمام يومي لإزالة ما يتساقط عليها من روث الطيور، حتى وفاتها عام ٢٠٠٦ عن عمر يبلغ ١٧٦ عامًا.
ثمة سلحفاة من فصيلة السلاحف المشعة من مدغشقر عاشت فترة أطول امتدت منذ العام التالي لاستقلال أمريكا وحتى العام التالي لغزو فريق البيتلز لأمريكا. قُدِّمت هذه السلحفاة، التي يعني اسمها «الملك ماليلا» في لغة التونجا، هدية من القبطان جيمس كوك إلى العائلة الملكية في تونجا عام ١٧٧٧. انبهر سكان تونجا بهذه السلحفاة انبهارًا واضحًا؛ إذ كان قفصها هو أول مكان زارته الملكة إليزابيث الثانية أثناء زيارتها للجزيرة عام ١٩٥٣. وهناك سلحفاة أخرى امتلكها الجنرال روبرت كلايف من شركة الهند الشرقية، ربما عاشت مدة طويلة تصل إلى ٢٥٠ عامًا، لكن عمرها محل جدال. وما من أحد في عجلة من أمره لتحديده.
(٢-٣) الكبير حجمًا أطول عمرًا
الأمر للأسف أكثر تعقيدًا من هذا، فبعد استبعاد تأثير عامل حجم الجسم، ثمة ارتباط بين وزن المخ والحد الأقصى للعمر في الرئيسيات. لا يعني هذا أن أسباب الشيخوخة توجد في المخ؛ فالمخ الأكبر حجمًا قد يكون مفيدًا في مساعدة الحيوانات على الفرار من الحيوانات المفترسة. وفي أحد الأنواع، يمكن أن يسير الارتباط بين الحجم وطول العمر في الاتجاه المعاكس؛ فثمة دليل على أن الأشخاص قصار القامة يعيشون لفترة أطول من طوال القامة، ومربو الحيوانات يعلمون أن الكلاب صغيرة الحجم تعيش لفترات أطول في المتوسط من الكلاب كبيرة الحجم.
خضعت العديد من هذه العلاقات الدقيقة للدراسة والتوثيق من قبل جواو بيدرو دي ماجالهاييش، وهو باحث شاب يرأس جماعة تعتمد على الأساليب الجينية في دراسة الشيخوخة بجامعة ليفربول. وهو يطرح على المواقع الخاصة به على شبكة الإنترنت قواعد بيانات عن أعمار الحيوانات وتعميرها والجينات المرتبطة بالشيخوخة لدى الإنسان. يريد جواو هزيمة الشيخوخة، مُقِرًّا بخشيته من الموت دون تحفظ، قائلًا: «لأنها السبب الرئيسي الحالي، والمستقبلي، في معاناة ووفاة من أحبهم.» وهو يلجأ إلى تقديم عروض موسيقية وعروض مسرحية ارتجالية لكي يلطِّف ذلك الخوف من الموت. ويظهر الإجلال لمهمته الشاقة ناطقًا بإحدى مقولات تشرشل: «النجاح هو الانتقال من فشل إلى فشل دون فقد الحماسة.» ومقولة أخرى لكاتب الخيال العلمي روبرت هينلين: «استمع دومًا للخبراء؛ فسيخبرونك بما لا يمكن القيام به ولماذا. وبعد ذلك قم به.»
ماذا عن التمرينات الرياضية، التي تبدو أمرًا سيئًا لأنها تجعلنا نستنفد دقات القلب بسرعة أكبر؟ إن العملية الحسابية المتعلقة بها سهلة؛ فمعدل دقات القلب في أوقات الراحة لسيدة تبلغ من العمر ٤٠ عامًا وتحظى بدرجة متوسطة من الصحة تبلغ ٧٥ دقة في الدقيقة أو ٧٥٠ ألف دقة أسبوعيًّا. افترض أنها تمارس التمرينات الرياضية لمدة خمس ساعات أسبوعيًّا تزيد خلالها معدل دقات قلبها إلى ١٢٠ دقة. وأنها بقيامها بذلك تقلل معدل دقات قلبها أثناء وقت الراحة إلى ٦٥ دقة في الدقيقة، وهو المعدل النموذجي لأي شخص يتمتع بصحة بدنية جيدة. حرقت هذه السيدة ١٣٥٠٠ دقة «إضافية»، لكنها «وفَّرت» ١٠٠ ألف دقة. أضف إلى ذلك أن القلب صار أكثر قوة نتيجة لذلك. الفارق كبير للغاية بين الرقمين، فلا تتذرع بحجة معدل الأيض للتهرب من أداء تمريناتك الرياضية.
لكيلا نصير شديدي الهوس بدقات قلوبنا والمدى العمري، دعونا نفكر لحظة في ذبابة مايو المسكينة. تنتمي هذه الحشرات إلى مجموعة تحمل اسمًا مبهجًا، وهو الزوليات، الذي يعني الذباب قصير الأجل. تعيش أنثى أحد أنواع هذه الذبابة، التي تلعب دورًا محوريًّا في السلسلة الغذائية بجداول المياه والبحيرات، في حالة سُبات تحت الماء مدة عام في شكلها الانتقالي بين اليرقانة والحشرة، ثم تخرج للحياة لمدة خمس دقائق كحشرة طائرة كاملة النمو، وأثناء هذه الحياة القصيرة لا بد لها أن تجد زوجًا وتتزاوج وتضع بيضها مرة أخرى في الماء.
(٢-٤) أعظم القردة
القردة العليا هي فئة الرئيسيات التي تشمل الإنسان، ونادرًا ما يعيش «أبناء عمومتنا» من الناحية الجينية لأطول من ٣٠ أو ٤٠ عامًا في البرية، لكن يمكن أن يعيشوا فترات أطول في الأسر. وقد نفقت غوريلا سهلية تُدعى جيني في عام ٢٠٠٨؛ وذلك بعد مرور أربعة أشهر على إفراطها في تناول كعكة لذيذة مكونة من أربع طبقات معدة من الموز والفواكه المجمدة ومغطاة بأوراق الموز؛ احتفالًا بعيد ميلادها الخامس والخمسين.
الشمبانزي الأكبر سنًّا أيضًا هو الشمبانزي الأشهر، وهو شيتا. فقد انضم شيتا، ببلوغه ٧٦ عامًا، في عام ٢٠٠٨ إلى «موسوعة جينيس للأرقام القياسية» كأكبر الحيوانات غير البشرية سنًّا من الرئيسيات. ظهر شيتا في ١٢ فيلمًا من أفلام طرزان مع جوني فايسمولر وليكس باركر منذ عام ١٩٣٤ حتى ١٩٤٩، وجسَّد دور رامونا في فيلم «بيلا لوجوزي يقابل غوريلا بروكلين». وكان دوره الأخير هو تشي-تشي الذي أدَّاه مع الممثل ريكس هاريسون في فيلم «دكتور دوليتل». ومنذ ذلك الحين خلا إلى نفسه في مدينة بالم سبرينجز، حيث يرسم ويتصفح كتبه ويلعب البيانو ويشاهد الأفلام القديمة مع حفيده. جمعت مبيعات أعماله الفنية عشرة آلاف دولار للمؤسسات الخيرية ومحمية «جين جودال» في جومبي. وفي عام ٢٠٠٨ نُشرت سيرته الذاتية التي عُهد بكتابتها إلى أحد الكتَّاب، والتي حملت عنوان «أنا شيتا». وعلى الرغم من شهرة شيتا، فقد عانى خزي خسارته أمام الجنية تنكربيل في الحصول على نجمة توضع له في ممر الشهرة في هوليوود.
وخلافًا للحكايات التي تروى عن القوقازيين الواهني الصحة الذين يبلغون من العمر ١٥٠ عامًا، والذين يجتازون ليالي الشتاء القارسة ويعيشون على الجبن المعد من اللبن الرائب ودم الماعز، فإن أكبر الأشخاص سنًّا على الإطلاق هي جان لويز كالمان. وُلدت جان في مدينة آرل عام ١٨٧٥، وتوفيت عام ١٩٩٧ عن عمر يناهز ١٢٢ عامًا. في سن الثالثة عشرة، قابلت جان الرسام فينسنت فان جوخ ووصفته بأنه «شخص متسخ وكريه، يرتدي ملابس رديئة». شرعت جان في تعلُّم المبارزة وهي في سن ٨٥ عامًا، وركبت الدراجة حتى سن ١٠٠ عام. وهي في التسعين من عمرها، باعت شقتها لأحد المحامين بموجب اتفاق يُعرف باسم الرهن العقاري العكسي، وفيه وافق المحامي على أن يدفع لها مبلغًا ثابتًا من المال حتى وفاتها؛ فدفع لها أكثر من ضعف قيمة الشقة. كانت سيدة بارعة من نواحٍ شتى؛ قالت ذات مرة: «ليس لدي سوى تجعيدة واحدة وأنا أكافحها.»
قد نتأمل بصورة طبيعية المعاني الخفية في قصة جان لويز كي نرى ما يميزها. بخلاف طول العمر المميز لأفراد عائلتها المقربين، تمتزج العوامل بعضها ببعض، فمما لا شك فيه أن زواجها من صاحب متجر ثري، وتمتُّعها بحياة تتميز بالرفاهية، قد شكلا عونًا لها. (لم يكن زوجها حسن الحظ للغاية؛ إذ مات قبلها بخمس وخمسين عامًا بعد تناوله لكرز فاسد في الحلوى.) كانت تضع زيت الزيتون على جميع طعامها، وتدعك به بشرتها، وتشرب خمر البورت، وتأكل حوالي كيلوجرام من الشيكولاتة أسبوعيًّا. كانت أيضًا تدخِّن السجائر حتى سن ١١٧ عامًا، ولم تتوقف إلا حين صار نظرها ضعيفًا للغاية لدرجة عجزت معها عن إشعال السجائر.
في النهاية خذلها «جسدها» كما ستخذلنا أجسادنا جميعًا في يوم من الأيام. وأقل ما يمكن أن يقال عن أن ثراء الحياة لا بد أن يتبعه العدم على نحو حتمي، هو أنها فكرة مربكة. لقد انتشرت ذرات جان لويز لتتخذ أشكالًا جديدة، وستبقى ذكرياتها فترة من الوقت في أذهان من يعرفونها. وسيخلد الدليل على وجودها فترة أطول في شكل كلمات مطبوعة في هذا الكتاب وغيره من الكتب، ومع ذلك، فالكلمات ما هي إلا ظلال باهتة لإنسانة كانت تدعى جان لويز. لننقب إذن — بنشاط لكن بقدر من الخوف — عن الحقيقة المطلقة للموت.
(٣) نهاية المسار
(٣-١) قضية فلسفية معقدة
لآلاف السنوات اعتنقت الثقافات الإنسانية فكرة الحياة بعد الموت، التي يظل فيها جوهر الفرد باقيًا بعد الموت؛ ربما ليبقى في عالم الروح، وربما لكي يولد من جديد في وعاء مادي آخر. تتباين طبيعة هذه الحالة المستمرة؛ فقد نظر إليها اليونانيون القدامى على أنها العالم الكئيب للإله هيدز. وتشترك الأديان التوحيدية في اعتقادها بتدرج مستويات هذه الحياة من الجنة إلى الجحيم. وفي بعض الأديان الشرقية يمكن للروح أن تتناسخ في صورة حيوانات ونباتات وحتى صخور.
للحياة بعد الموت ركيزة أخلاقية في معظم الأديان، وهي أنها تعويض (أو عقاب) مؤجل يلقاه المرء عن سلوكه في حياته البيولوجية، وترتكز احتمالية الحياة بعد الموت على قضية معقدة واحدة ألا وهي: مشكلة الهوية.
كتب بلوتارك عن سفينة كانت ملك الأمير ثيسيوس عُرضت في اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد بعد انقضاء فترة طويلة على حكمه، وبكلماته يقول: «للسفينة التي عاد فيها ثيسيوس وشباب أثينا ثلاثون مجدافًا، وحافظ عليها أهل أثينا إلى زمان ديميتريوس فاليروس، وذلك بأن أزالوا الألواح القديمة المتهالكة ووضعوا بدلًا منها خشبًا جديدًا أكثر متانة. صارت هذه السفينة مثالًا باقيًا بين الفلاسفة على القضية المنطقية الخاصة بالأشياء التي تنمو؛ إذ بقي أحد جانبي السفينة كما هو في حين يشهد الجانب الآخر بأنها ليست كما هي.»
لقد استبدل أهل أثينا كل لوح في السفينة الأصلية للأمير ثيسيوس مع تهالكه أو قِدمه، وأبقوا عليها بحالة جيدة، لكن بعد انقضاء العديد من السنوات، هل ظلت لديهم السفينة نفسها التي كانت ملكًا لثيسيوس؟ ثمة قصة مماثلة رُويت عن بلطة جورج واشنطن التي يُدَّعى حتى الآن أنها أثر باقٍ من أول رئيس على الرغم من استبدال الرأس والمقبض عدة مرات، ثم هناك فرقة مينودو الغنائية الشابة من بورتوريكو، التي ظلت تؤلف مقطوعات موسيقية متشابهة طيلة ٣٠ عامًا على الرغم من التغيير المستمر في أعضاء الفرقة.
لا ينطبق التغيير والاستمرارية فقط على السفن، بل على الأوعية الدموية البشرية أيضًا؛ فأنت لست الشخص نفسه الذي كنت عليه منذ ١٠ سنوات؛ فهذا هو متوسط عمر خلاياك. ويتوقف صمود الخلايا على دورها في ساحة معركة الجسم؛ فخلايا المَعِدة تدوم مدة خمسة أيام فقط، في حين تبلى خلايا الدم الحمراء بعد ثلاثة أشهر والسفر مسافة ألف ميل، فيما تدوم خلايا الكبد أقل من عام، بل حتى الهيكل العظمي يتجدد كل عقد عن طريق جيش من الخلايا المحلِّلة للعظام والأخرى البانية لها. ليس هناك من خلايا خاملة تشارك المرء في عمره سوى خلايا عدسة العين والخلايا العصبية للقشرة المخية.
دعنا الآن نطالع صورتين متباينتين لقصة سفينة ثيسيوس من شأنهما توضيح مشكلة الهوية، وهنا أتوجه بالشكر إلى مارك كوهين الأستاذ بجامعة واشنطن. أولًا، افترض أن ثيسيوس قد أبحر وبرفقته جميع قطع الغيار. وبينما كان في البحر استبدل الأجزاء الجديدة بالقديمة. هل السفينة التي عاد فيها هي تلك التي غادر فيها؟ وإن لم تكن كذلك، فكم عدد الأجزاء الأصلية التي قد يحتاج لأن تكون باقية فيها لكي تكون هي نفسها؟
في الصورة الثانية، افترض أن ثيسيوس كان متبوعًا بسفينة تجمع الأجزاء بعد تخلُّص ثيسيوس منها، ثم تعيد بناء سفينته الأصلية من جديد، ثم تتجه السفينتان إلى الرصيف جنبًا إلى جنب. أيٌّ منهما تعد سفينة ثيسيوس في تلك الحالة؟ إن ذهبنا إلى أن سفينته هي تلك التي أُعيد تجميعها من الأجزاء التي جرى التخلص منها، فهي إذن ليست السفينة نفسها التي غادر عليها، وبذلك يكون قد «غيَّر السفن» بطريقة أو بأخرى. لكن إن ذهبنا إلى أن سفينته هي تلك التي أنهى رحلته عليها، فسنجد أنها لا تجمع في أجزائها أيَّ شيء مشترك مع السفينة التي غادر عليها، في حين ستحمل السفينة التي تستقر إلى جواره بعد وصوله إلى رصيف الميناء جميع أجزاء السفينة التي غادر عليها، مع ذلك فهي سفينة مختلفة!
يمكننا أن نتخيل الفلاسفة وهم يمضون الساعات السعيدة يتفكرون في هذه الأشياء، لكن ما علاقة هذا ﺑ «الآخرة العظيمة»؟ إن كان الموت حقًّا هو النهاية — باب ينغلق على جميع الذكريات والتجارب والهوية الشخصية — فليس هناك ما يمكننا مناقشته، لكن إن كان الباب نحو سمو الكائن الحي ذي الخصائص البيولوجية مفتوحًا، فمن الإنصاف أن نسأل عن الشكل الذي قد يكون عليه.
(٣-٢) معضلة الثنائية
من المحتمل ألا يكون الأمر على هذا النحو: في فيلم «الشبح» الذي عُرض عام ١٩٩٠ جسَّد باتريك سوايزي وديمي مور دور زوجين سعيدين انهار عالمهما حين قُتل سوايزي في إحدى الليالي على يد أحد اللصوص. يصير سوايزي شبحًا محاصَرًا بين عالمين، ويدرك أن زوجته تتعرض للتهديد من زميل عمل سابق، لكنه عاجز عن التدخل، إلى أن استعان بمحتالة ووسيطة روحانية جسَّدت ووبي جولدبرج شخصيتها. في الفيلم ينهض الموتى من جثامينهم، ويتخذون ظهورًا شفافًا، ويمرون عبر الأشخاص والجدران والأجسام الصلبة الأخرى. هم يبدون كبشر، لكنهم ليسوا مرئيين إلا لعدد قليل من الأشخاص المميزين.
النظرة الثنائية «تبدو» مقبولة؛ لأن الحالات الذهنية تبدو مختلفة للغاية عن الحالات المادية؛ فهناك شجرة موجودة في الفناء الخلفي لمنزلي يستطيع أي شخص رؤيتها، ومع أنه ما من أحد منا يمكنه ملاحظة أحد الإلكترونات مباشرة، فيمكن لأي شخص أن يتحقق منه مستخدمًا الأدوات المناسبة. على الجانب الآخر فحالاتي الذهنية مميزة؛ إذ لا يستطيع أي شخص مشاركتي إياها. ولهذا السبب قد يساورني الشك حيال ما يدور في عقول الآخرين وليس ما يدور في عقلي. من السهل وصف الحالات البدنية التي ترتبط باحتراق أحد الأصابع أو السماء الزرقاء أو أحد الأصوات الموسيقية، ولكن من الصعب للغاية وصف تجربة الألم أو رؤية السماء الزرقاء أو سماع الموسيقى. ويجادل مؤيدو نظرية الثنائية بأن الجوانب الذاتية للأحداث الذهنية — التي يُطلق عليها اسم التجربة الذاتية — لا يمكن اختزالها إلى أي شيء مادي.
لا يرى مؤيدو النظرة الثنائية أن المرء يساوي جسده أو مخه وحسب؛ لذا يظل المجال مفتوحًا للاعتقاد في الحياة بعد الموت. وفي العالم غير المادي الخارق للطبيعة الذي يؤيدونه يكون أي شيء ممكنًا؛ ففي قصة ثيسيوس يبدو وكأن هناك «إبحارًا» جوهريًّا غير مرتبط بالأخشاب. ليس بوسعنا نبذ فكرة الوجود المحرَّر من الجسد على أساس منطقي، لكن ليس لدينا فكرة كيف يمكننا أن نصف ما سيكون عليه، وعلى الأرجح لن يكون كما جاء بالفيلم.
(٣-٣) مأزق المادية
يعد البعث الجسدي الصورة المعتادة للحياة بعد الموت في الأديان التوحيدية الكبرى: اليهودية والمسيحية والإسلام. فهل البعث الجسدي ممكن في ضوء النظرة المادية؟ نظرًا لأن ذرات أي كائن حي في تغير مستمر يشكل البعث تحديًا هائلًا. فكيف يمكن سد الفجوة في الزمان والمكان بين الجسد الفاني والجسد المبعوث، بحيث يكون الشخص المبعوث مطابقًا لذلك الذي مات؟
لا بد من سد الفجوة؛ لأنه من صلب العقيدة المسيحية الإيمان بأن يسوع الناصري المصلوب قد نهض من قبره، بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن بعثه جرى بالوسيلة ذاتها التي سيجري بها بعث الموتى بصورة عامة. لا يقتصر الأمر على ذلك وحسب، بل ذهبت تلك العقيدة إلى أن البعث ليس مجرد استعادة لحالة الشخص قبل موته — كما في قصة لعازر — وإنما هو بوابة إلى نوع جديد من الحياة. فبعد البعث، لا يزال يسوع كائنًا حيًّا، ولا يزال له جسد مكون من كواركات علوية وأخرى سفلية وإلكترونات، لكن أعيد تنظيمها في الشكل الجسدي المثالي الأداء الذي قصده مصممه المثالي.
افترض أن الله يريد أن يرفع سقراط من قبره. كيف سيفعل ذلك؟ من وجهة نظر مؤيدي النظرة الثنائية، ليست هناك مشكلة في إعادة سقراط ثانية؛ لأنه، بشكل ما، لم يرحل قط. كل ما هو مطلوب هو جسد حي يحوي روحه. ومع ذلك، يعلم مؤيدو المادية أن فترة ألفيتين كافية لنشر ذرات سقراط في المحيط الحيوي. وبهذا ستصير مهمة إعادة التجميع صعبة، حتى في ظل التمتع بالقدرة الكلية. وإن كان الله يمكنه إعادة تجميع الذرات التي شكَّلت جسد سقراط في لحظة وفاته عام ٣٩٩ قبل الميلاد، فيمكنه أيضًا تجميع الذرات التي شكَّلت جسده حين كان أصغر سنًّا بكثير في عام ٤٤٠ قبل الميلاد. وفي الحقيقة، نظرًا لأنه ما من تداخل بين مجموعتي الذرات فيمكنه تجميع ذرات كلا الجسدين جنبًا إلى جنب. لكن ليس سقراط أيًّا منهما أو كليهما، ولأنه ليس كليهما فهو ليس أيًّا منهما. وها نحن نعود إلى قضية ثيسيوس وسفينتيه.
كان بيتر فان إنواجن، الفيلسوف والباحث المسيحي بجامعة نوتردام، قد تعمق في هذه القضية، وذهب إلى أن الله يستطيع أن ينقل الجثمان في لحظة الوفاة ويستبدل به نسخة أو صورة مطابقة، وهي التي تحترق أو تتعفن، أو ربما ينقل الله من الجثمان جزءًا حيويًّا من جوهر الشخص. وهكذا يُحَافَظ على الاستمرارية، وحين يحين وقت البعث يعيد الله الحياة إلى الجسد قيد النقاش. قد لا يكون البعث المادي المحافظ على الهوية أمرًا مستحيلًا، لكن من اللازم توافر براعة شديدة لتحقيقه.
ثمة مأزق مختلف يواجه الأديان غير التوحيدية التي تؤكد على وجود حياة بعد الموت. فالبوذية واليانية وبعض الطوائف الهندوسية يعتقدون أن تناسخ الأرواح يقع تحت هيمنة الكارما؛ الأعمال الجيدة أو السيئة للمرء في هذه الحياة أو حيواته السابقة، لكن ذلك يُوجِد مشكلة «إدارة» الكارما؛ لأن جيناتك والبيئة الأسرية التي تجد نفسك فيها لا بد أن تقابل القيمة الأخلاقية لأعمالك السابقة. إن قوانين الطبيعة معقدة وماكرة، لكنها أيضًا موضوعية، والمواقف المادية لا تنتبه إلى الاعتبارات الأخلاقية. لذا لا بد أن يكون القانون الأخلاقي للكارما في التقاليد الهندية مختلفًا بصورة جذرية عن القانون الذي يحكم العالم المادي. ومع ذلك، من المفترض أن يكون الاثنان مرتبطين على نحو وثيق.
(٣-٤) ما وراء الجسد
في ظل الاصطدام بالحد الفاصل بين الإيمان والعقل، يكون ملاذنا الوحيد هو الحد الفاصل بين الحياة والموت كي نسأل عما يحدث فعلًا. وهذا يعيدنا إلى الحكاية الافتتاحية لهذا الفصل وباتي رينولدز التي كانت ترقد في عربة المستشفى بجسد بارد للغاية ووظائف مخية شبه معطلة. تعد قصتها أحد الأدلة — القائمة إلى حدٍّ بعيد على الروايات الشخصية — على تجارب الاقتراب من الموت التي يدَّعي ثمانية مليون أمريكي أنهم مروا بها طبقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة جالوب عام ١٩٨٢.
لقد أفسد مذهب الروحانية وجلسات استحضار الأرواح اللذان داما طيلة قرن أو أكثر الدراسة العلمية لما يحدث بعد الموت. لقد خُدع العلماء، وكان الكاشفون عن زيف الوسطاء الروحانيين أمثال هاري هوديني هم الأقلية. كانت إليزابيث كوبلر روس طبيبة نفسية شهيرة، وادَّعت أنه لا وجود للموت. وقد روَّجت لفكرة الربط بين تجارب الخروج من الجسد ولحظة الاحتضار، إلا أن مصداقيتها ذهبت أدراج الرياح حين كُشف عن قيامها بالاستعانة بشاب يرتدي عمامة لمعاشرة الأرامل الحزينات تحت ستار استدعاء أرواح أزواجهن الموتى.
قد يكون «المعيار الذهبي» في هذا المجال هو وجود دليل على أن شخصًا ما رأى أو عرف شيئًا ما كان له أن يتمكن من رؤيته أو معرفته من منظور جسده المتجمد في مكانه. تعلِّق طبيبة وطبيب جامعيان — جان هولدن في جامعة نورث تكساس وبروس جريسون في جامعة فيرجينيا — جهازَي كمبيوتر محمولَين من سقفَي غرفتَي عملياتهما بحيث لا يمكن للمرضى رؤية شاشتَيهما. تُعرَض الصور بترتيب عشوائي. والمرضى الذين يدَّعون أنهم هاموا فوق أجسادهم يمكنهم أن يحكوا عما رأوه، وحتى الآن لم يسمع أيٌّ من الطبيبين أي شيء مثير للاهتمام. وثمة دراسة مدتها ثلاثة أعوام جارٍ إجراؤها في ٢٥ مستشفى في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أجل إجراء تجربة مشابهة مع عدد كبير يصل إلى ١٥٠٠ شخص من الناجين من الأزمات القلبية، وقد تُوفِّر أول دليل مقنع على أن المعلومات يمكن أن تمر عبر «الباب المغلق».
