شيخوخة مجرة درب التبانة
لمجرة درب التبانة مليارات من الحكايات، وليس منها ما هو قليل الشأن كي يُغفل. فكِّر في التالي: حكاية ذرة كربون؛ فبين مليارات النجوم والكواكب المصاحبة لها في المجرة، تعد ذرات الكربون فريدة تمامًا.
حين تشكلت المجرة من سُحب الغاز المنتشر الدوارة، وبردت مع اتساع الفضاء منذ الانفجار العظيم، لم يكن لذرتنا مكان وقتها. من النادر ملاحظة الكربون في كون تملؤه المادة البدائية، ومع ذلك فقد تشكلت ذرتنا في فترة شباب مجرة درب التبانة، حين اضطلع نجم ضخم بسلسلة من عمليات الاندماج النووي، محولًا ثلاث نوى من الهيليوم الخامل إلى نواة كربون واحدة مليئة بالوعود.
ذلك النجم ضخم، ويلتهم المادة على نحو مفرط. تتسبب الحركة التي تموج بها أحشاؤه في إرسال ذرتنا إلى طبقاته الخارجية الأكثر برودة، ثم يطرح النجم في وقت لاحق من حياته أغلفة وخيوطًا من الغاز في فراغ الفضاء النجمي. تمر مليارات السنوات، وتشعر الذرة بشدة بطيئة — لكن قوية — نحو منطقة قريبة من الفضاء يجمع فيها سديم نجمي أولي شتات نفسه. يتشكل نجم صغير أصفر اللون منتفخ؛ تشاهد ذرتنا المشهد من مسافة آمنة. إنها مجرد سخام. وفي رقصة رقيقة للجاذبية تندمج الذرة في تكوين صخري يبعد عن النجم بمسافة ١٠٠ مليون ميل.
بعد مليارات الأعوام من الحركة المتواصلة داخل المركز النشط للكوكب يحدث شيء غريب للغاية؛ لفترة قصيرة للغاية — لا تزيد عن ومضة عين في دهور الكون — تصبح ذرتنا جزءًا من التفاعلات المعقدة للغلاف الحيوي. هذه الذرة هي نحن.
تنقضي اللحظة، وتُدفَن ذرة الكربون مجددًا في صخرة وتُنقل عبر أحزمة الصهارة في بطء عبر طبقات الكوكب، بعد ذلك تتحرر الذرة حين يقذف بها بعنف في الهواء من خلال أحد البراكين، وبعد فترة أطول بكثير تصل ذرتنا إلى الغلاف الجوي وتتحد مع ذرتي أكسجين، وتتسرب إلى الفضاء العميق، وتتحرر أكثر.
يفقد الزمن معناه مع انجراف ذرة الكربون بين النجوم، لكنها في النهاية تشعر بشدة قوية مألوفة، وتدخل للمرة الثانية في عالم النجوم. هذا النجم أصغر بكثير من ذلك الذي بث فيها الحياة، وتكون الذرة بمعزل عن التفاعلات التي تستهلك الجسيمات القريبة، وفي النهاية لا يكون لدى النجم الكثير لإعطائه، ويستقر في صورته المضغوطة، وتقع ذرتنا الكربونية الجريئة حبيسة المركز المنهار على ذاته.
تدخل ذرتنا في حالة من الراحة، لكن دون الشعور بأي راحة؛ إذ إنها تومض بالحركة في الشبكية البلورية لقزم أبيض. لن تلين الجاذبية؛ فهذا هو المأوى النهائي لكل ذرة تجد نفسها في قلب نجم ميت. ستطلق الذرة محتواها الأخير من الحرارة في الفضاء حتى لا يتبقى لديها شيء تعطيه سوى الظلام؛ هكذا انتقلت من السخام، إلى ذرة نابضة بالحياة، إلى ماسة سوداء خالدة.
***
(١) التلاشي حتى الظلام
(١-١) انحسار الضوء
التقدم في العمر أمر مؤسف. نحن نتحدث عنه على نحو طيب، لكن لا يمكن لأحد أن يسعد مع ذبول الجسد وضعفه وفقدان المخ لقدراته. ماذا عن مجرتنا؟ هل تمضي مجرة درب التبانة في هدوء إلى الظلام، أم هل «تهتاج وتهتاج ضد وفاة الضوء» مثلما حض ديلان توماس والده الواهن؟ أحيانًا تتبع المجرة النهج الأخير، لكنها على وجه العموم تتبع النهج الأول. تجد مجرة درب التبانة في عقدها السادس من المنظور الشكسبيري «عالمًا واسعًا للغاية للجسد النحيل الذابل» وتخبو مثلما «يتحول صوت المرء الذكوري القوي ثانية إلى الصوت الطفولي عالي الطبقة».
نحن بحاجة إلى تقديم منظور جديد للزمن ونحن نتحدث عن مصير المجرة. تبلغ المجرة من العمر الآن حوالي ١٢ مليار عام، وقد تتبَّعنا حالها في المستقبل خلال ٤ مليارات عام قادمة تمر فيها بعملية الاندماج مع مجرة المرأة المسلسلة وصولًا إلى مرحلة النجم الزائف العرضية. ما يحدث بعدها سيمتد على مدار ١٠ تريليونات عام. وإن شُبِّهَ هذا النطاق الزمني بفترة تمتد عامًا واحدًا، فسيكون قد انقضى من عمر الكون حتى هذه النقطة ١٠ ساعات فحسب. إننا في سبيلنا لدخول عالم الزمن العميق.
كانت النجوم تخلِّق عناصر الحياة الأساسية — الكربون والنيتروجين والأكسجين — وتقذف بها بقوة في الفضاء دون أنانية منها لكي تصبح جزءًا من أجيال متتالية من النجوم والكواكب. إنها فكرة جذابة: وفاة النجم تصنع حياة جديدة. ومع مرور الزمن تصير مجرتنا وكل المجرات الأخرى أكثر حيوية، ونأمل أن تصير أكثر ذكاءً.
للأسف تعترض الطبيعة على ذلك، فمع تقدم مجرة درب التبانة في العمر، سيوضع حد لدورة حياة النجوم ووفاتها على نحو يتعذر تغييره، فالنجوم تتكون من الغاز الوفير الذي احتوى الكون عليه حين كان صغير السن. والآن، بعد حوالي ١٤ مليار عام من الانفجار العظيم، تجمع معظم الغاز المنتشر بالفعل. تلفظ النجوم المسنة جزءًا من غازها، وتثري عملية إعادة الاستخدام تلك ذلك الغاز بالعناصر الثقيلة، لكن مع مرور الدهور يبطئ تدفق الغاز المعاد استخدامه إلى حد هزيل، وعند نقطة ما سيتوقف تمامًا.
شكَّلت المجرات البيضاوية النجوم بفعالية شديدة في وقت مبكر من أعمارها، لذا نفد غازها منذ وقت طويل؛ من ثم تتقدم في العمر وتصير أكثر احمرارًا على نحو ثابت، أما في المجرات الحلزونية كمجرة درب التبانة فيعني الانخفاض النهائي في تشكُّل النجوم أنه لم يتبقَّ نجوم أخرى ضخمة بما يكفي كي تموت كمستعرات عظمى، وهو ما يخلف النجوم النيوترونية المظلمة والثقوب السوداء فحسب. لم تعد التغيرات النجمية العنيفة تغذي الفضاء بالمادة اللازمة لتكوين نجوم جديدة. الأقزام الحمراء هي آخر ما يتبقى من النجوم. وطيلة تريليونات الأعوام تكد هذه النجوم من أجل بث الضوء من تفاعلات نووية ضعيفة (بالنسبة للنجم تعد صفة ضعيف صفة نسبية؛ فدرجة حرارة سطح النجم القزم الأحمر تبلغ مئات الدرجات، في حين تبلغ درجة حرارة جزئه الداخلي ملايين الدرجات). وحتى النيران المتقدة للأقزام الحمراء ستخمد في جميع أنحاء المجرة في غضون ١٠ تريليونات عام.
يُعفى الثقب الأسود المركزي الهائل جزئيًّا من هذا الجمود النجمي، فمع استنفاد الغاز لا يمكن للثقب أن يتغذى على الطعام الذي يجعله يضيء بسطوع. لقد انتهت مرحلة النجم الزائف، لكن لا يزال بمقدور هذا المصدر الهائل للجاذبية أن يجذب النجوم التي تحملها مداراتها لمسافة قريبة منه (لن يكون أحفادنا في خطر؛ فالثقب الأسود الموجود في مركز المجرة بعيد للغاية بما يمنعه من التأثير على المجموعة الشمسية). يواصل الثقب الأسود التغذي على النجوم في صورة وجبات خفيفة، وفي كل مرة يدخل فيها نجم إلى أفق الحدث يرى الراصد من بعد وميضًا من الضوء.
هذه هي نهاية عصر النجوم. الأمر يبدو كما لو أن مجرة درب التبانة مثبت بها مفتاح إعتام كبير، والطبيعة تقلل طاقتها ببطء شديد. ولأن مجرتنا ليست مميزة، فالشيء نفسه سوف يحدث في كل مجرة من المجرات الأخرى في الكون البالغ عددها ٥٠ مليار مجرة. والاستثناءات الوحيدة لقاعدة الضوء المتناقص ستكون المجرات الموجودة في عناقيد غنية، حيث يمكن لعمليات الاندماج وحركة الجاذبية أن يبقيا على عملية تشكل النجوم مستمرة فترة أطول قليلًا. وفي النهاية، حتى العناقيد المجرية ستتحول إلى مجرات فائقة شاسعة تحوي نجومًا ميتة وأخرى تحتضر.
(١-٢) جثث متنوعة
حتى مع تقدم النجوم في العمر وتناقص ضوئها تظل الجاذبية هي محرك نشاطها. حين كانت النجوم صغيرة كانت الجاذبية أشبه بالكيميائي المتحمس المنهمك في تشكيل العناصر وملء بيانات الجدول الدوري والعمل على توهج السماء بالنفايات المعقدة، أما حين تتقدم النجوم في العمر فالجاذبية تتحول إلى ملزمة تضغط الغاز برفق، وتحتال على العيش بقذف الطاقة في الفضاء. لا تزال مجرة درب التبانة خشبة مسرح مهيبة، لكن لم تعد تشهد مولد النجوم، والنجوم الباقية ضعيفة خاملة.
(١-٣) التحلل والموت
للانتقال إلى ما وراء العصور المظلمة، سيرشدنا في هذه الجولة فريد آدامز؛ أستاذ الفيزياء بجامعة ميشيجن ذو الحضور الدافئ الودود والشعر الطويل. يوضح آدامز أن مجرة درب التبانة لن تصبح أبدًا معتمة تمامًا لأن الجاذبية لا تزال تقوم بعملها. كتب آدامز عدة مقالات فنية عن تشكل النجوم وعلم الكونيات. وبمشاركة زميله جريج لافلين، ألف كتابًا شهيرًا بعنوان «العصور الخمسة للكون» عن فيزياء الخلود.
لحسن الحظ لا تكون مجرة درب التبانة مظلمةً تمامًا، حتى في عهد الجثث النجمية. لا خلاف على أن النجوم الميتة ميتة بالفعل، لكننا أغفلنا حقيقة أن نصف النجوم تقع في نظم ثنائية. لو كانت في مدارات محكمة، يمكن أن تنتقل الكتلة من نجم لآخر، وتتسبب في اكتساب القزم البني لوزن يكفيه أن يدمج الهيدروجين. والمعادلة الحسابية هي: ميت + ميت = نابض بالحياة. وبهذا يوفر انتقال الكتلة والتصادمات العرضية بين الأقزام البنية طريقةً تمكِّن المجرة من الحفاظ على استمرار عملية تشكُّل النجوم مدة ١٠٠ تريليون عام من وقتنا الحالي. ستكون مجرة درب التبانة المستقبلية أقل حجمًا بكثير؛ فجيشها من النجوم المتوهجة البالغ عددها ٤٠٠ مليار نجم سيحل محله أقل من مائة نجم قزم يشتعل بدرجة حرارة أعلى من حد الهيدروجين مباشرةً.
إن الطبيعة شديدة البخل، وتحب الحفاظ على الطاقة. هذا يؤدي إلى تأثيرين في معظم نظم الجاذبية. من ناحية، تميل المادة إلى التركز نحو المركز. وتسعى الجاذبية دومًا إلى إحداث انهيار، لكن للحفاظ على الزخم الزاوي تنطلق بعض العناصر بعيدًا عن المركز والبعض يغادر النظام تمامًا. هذا يفسر ما حدث مع المجموعة الشمسية؛ حين انهارت سحابة غاز على نفسها وتركزت معظم الكتلة في جسم مركزي — الشمس — في حين تحول جزء صغير من الكتلة إلى مجموعة من الأجسام التي تقع عند الحد الخارجي؛ أي الكواكب.
تحدث العمليات نفسها على مستوى المجرات. لقد رأينا بالفعل كيف ستندمج مجرتا درب التبانة والمرأة المسلسلة لتشكلا مجرة بيضاوية، ذلك التشكيل الجديد للنجوم يتصف بأنه ذو كثافة مركزية أكبر؛ إذ تزيد كثافات النجوم في مركز مجرة بيضاوية عنها في المركز الحالي للمجرة. يتصف هذا التشكيل أيضًا بأنه أكثر انتشارًا؛ إذ تتصف المجرات البيضاوية بأنها أكبر من المجرات الحلزونية. الآن تخيل أن هناك نجمين بالقرب من حافة إحدى المجرات، وهما مرتبطان معًا دون إحكام، حتى إنهما يملكان الطاقة الكافية تقريبًا لمغادرة المجرة. إن مر أحدهما بالقرب من الآخر فسيتبادلان طاقة الجاذبية. في المتوسط، سيفقد أحدهما الطاقة ويكتسبها الآخر. وسيتحرك النجم الفاقد للطاقة نحو المركز وسيُقذف بالنجم المكتسب للطاقة بعيدًا. يمكن بالفعل للمجرات أن تتبخر.
(١-٤) التبخر والتموجات
لا تزال الجاذبية تملك سلاحًا سريًّا. إن منزلة الإشعاع التجاذبي للجاذبية هي منزلة الضوء للكهرومغناطيسية. حين تزداد سرعة جسيم مشحون فإنه يبعث إشعاعًا، يكون على صورة ضوء غالبًا. وحين تزداد سرعة أي جسم ضخم فإنه يبعث إشعاعًا تجاذبيًّا يطلق عليه غالبًا اسم موجات الجاذبية. لكن الجاذبية ضعيفة للغاية، حتى إن هذا الإشعاع يستحيل إدراكه في الحياة اليومية للنجوم والمجرات، إلا أنه يصير مهمًّا مع الجاذبية الشديدة للأجسام المنهارة، أو لو طال انتظارنا حتى نشهد التبخر.
نظرًا لأن انبعاث موجات الجاذبية يسبب فقد النظام الثنائي للطاقة، تتسبب هذه العملية في اقتراب النجوم الموجودة في مدار ثابت بعضها من بعض على نحو تدريجي، ثم اندماجها. موجات الجاذبية هي السبب وراء استمرار الأقزام البنية في النظم الثنائية في تزويد المجرة بعملية تشكل ضئيلة للنجوم بعد فترة طويلة من انتهاء عمليات الاندماج النووي في النجوم الفردية تمامًا. لم تُرصد موجات الجاذبية بصورة مباشرة بعد، لكن حين قاس راسل هالس وجوزيف تايلور من جامعة برنستون المدار المنهار لنجم نابض في نظام ثنائي توافقت نتائجهما تمامًا مع التنبؤ بموجات الجاذبية حسبما جاء في نظرية النسبية العامة لأينشتاين، وقد فاز هالس وتايلور بجائزة نوبل للفيزياء عام ١٩٩٣ عن عملهما. وسوف يتسبب التأثير نفسه أيضًا في التفاف النجوم في مجرة درب التبانة حلزونيًّا وببطء حول الثقب الأسود الضخم الموجود في المركز.
قد يربك استيعاب كل هذه الآليات المعقدة معظم علماء الفيزياء، لكن فريد آدامز يتصف برباطة الجأش. إنه ذو طابع حياة مخالف للمألوف، كالمتزلج على الأمواج، ويبدو وكأنه يتعامل مع مسألة الكون الجادة بهدوء بالغ، وهو يعرف كيف يقيِّم كل حيل الجاذبية، وإليك ما توصل إليه بشأن المصير طويل الأجل لمجرة درب التبانة.
سوف يسبب انبعاث موجات الجاذبية التفاف حوالي ١٠٪ من الجثث النجمية حلزونيًّا في مركز المجرة (وبالمثل، سيتسبب تسرب موجات الجاذبية في اندماج النظم الثنائية وسقوط الكواكب نحو نجومها الأصلية الميتة). سينمو الثقب الأسود المركزي — الذي لا يعادل حاليًّا في قوته سوى ٤ ملايين كتلة شمسية — ليصير وحشًا ضخمًا يعادل في قوته ١٠ مليارات كتلة شمسية. ستتفادى نسبة ٩٠٪ من النجوم البائدة براثن هذا الوحش لأنها ستُطرح بعيدًا عن المجرة. ستحاول المادة المظلمة أن تتشبث بتلك النجوم، لكن يمكنها فقط أن تبطئ من عملية التبخر، لا أن توقفها.
لا يحتوي الكون المستقبلي على شيء يماثل المجرة التي نراها كنظام من النجوم. ستتناثر النجوم في الامتداد الفسيح للفضاء، الذي يجري تنظيفه بين الفينة والفينة بواسطة ثقوب سوداء عملاقة شرهة. سيكون الليل مظلمًا على نحو شديد، ولا كلمة تعلو على كلمة الجاذبية.
ستحدث هاتان العمليتان المتلازمتان لنمو الثقب الأسود وتبخر النجوم وفق أكبر المقاييس الكونية. ومثلما اندمجت مجرتا درب التبانة والمرأة المسلسلة والتهمتا عددًا قليلًا من المجرات الأصغر حجمًا في المجموعة المحلية؛ ستندمج الثقوب السوداء المركزية للمجموعات والعناقيد المجرية، بل ستندمج العناقيد المجرية الفائقة في النهاية ليشكل كل هذا ثقوبًا سوداء تصل في كتلتها إلى تريليون كتلة الشمس، ويسيطر كل منها على مسافة تقدر بملايين السنوات الضوئية. يتسبب التجميع الهرمي في تراكم البنى على مقاييس أكبر. ولو عكسنا الترتيب الذي اقترحه جوناثان سويفت للبراغيث (التي يقطن على ظهر كل برغوث منها برغوث آخر أصغر)، فإن الثقوب السوداء دائمًا ما ستقع ضحية لثقوب سوداء أكبر تلتهمها.
هكذا تتلاشى مجرة درب التبانة من المشهد لتلاقي مصيرًا أفضل من النسيان، لكنها ستتجرد من حليها الساطعة؛ «ستتجرد من أسنانها، من عيونها، من حاسة التذوق لديها، ستتجرد من كل شيء».
(٢) نهاية الطفولة
(٢-١) التنبؤ بالمستقبل
«إياك أن تحاول التنبؤ، خصوصًا بالمستقبل.» هكذا قال رسام الكاريكاتير الدنماركي ستورم بيترسن، وهي مقولة تُنسب كثيرًا إلى يوجي بيرا أو نيلز بور. رأينا كيف أن السفر في الفضاء لا يزال في سنواته الأولى، وأن القيام بشيء بسيط مثل بناء قاعدة على كوكب المريخ قد يستهلك جزءًا كبيرًا من مواردنا العالمية. قد تكون تلك أول خطوة لنا كجنس يرتحل في الفضاء الخارجي. ما الذي قد يحمله المستقبل لحضارة «تصل إلى سن الرشد» في مجرة درب التبانة؟
قد نعلم في يوم من الأيام أن الحيتان القاتلة والدلافين تتصف بالذكاء مثلنا، وأن لها حياةً داخليةً عاطفيةً زاخرة، ولديها ثقافة منقولة ووعي بفنائها، لكن النتيجة الطبيعية لتكيفها الرائع مع البيئة البحرية هي استقرار تطورها تمامًا. في تلك الأثناء حوَّلت القردة مهارات التحكم لديها وبقاءها المتقلقل إلى مجموعة متصاعدة من صور البراعة الثقافية والتكنولوجية؛ النار والصخر والحديد والبرونز والمحاصيل والآلات وأجهزة الكمبيوتر الموجودة الآن. وكما هو معلوم للجميع، فمن الصعب التنبؤ بمسار أي ابتكار حديث.
الآن لِنُدِر الساعة للأمام. نتصور أنه بعد عشر سنوات من الآن ستتطور الهندسة الوراثية إلى حد العلاج الجيني والسيطرة على الأمراض التي اعتادت القضاء على القسم الأعظم من الأرواح. بعد مائة عام من الآن قد نملك أجهزة كمبيوتر كمومية تتيح للأفراد أن يصلوا على الفور إلى أي معارف عن طريق شبكة إنترنت محيطة مدمجة فينا أو في كيانات هجينة من البشر والآليين. وبعد ألف عام من الآن ليس من المستبعد تصور سفرنا بين النجوم.
لكن ماذا بعد ذلك؟ هذا أمر من الصعب للغاية تقديره. إن عاش البشر ١٠ آلاف أو ١٠٠ ألف عام أخرى فمن المستحيل تقريبًا أن نخمن القدرات التي سنحظى بها. إن متوسط طول عمر إحدى سلالات الثدييات هو مليون عام؛ فهل سنكون قد أعفينا أنفسنا عندئذ من الانتخاب الطبيعي؟ نظريًّا، كان هناك نسخ مطابقة من الأرض في وقت مبكر للغاية في الكون، ومن الممكن أنه كانت هناك كائنات مماثلة للبشر لكنها سابقة علينا بنحو ١٠ مليارات عام. هل سيكون لديهم قدرات استثنائية أم سيصلون إلى ذروة التطور ويصلون إلى درجة الاستقرار، أم سيدمرون أنفسهم قبل ذلك؟
(٢-٢) البحث عن أماكن آمنة وإقامة المستعمرات
يندرج السفر بين النجوم ضمن رؤيتنا طويلة الأجل بشأن مصيرنا في الفضاء. والمجموعة الشمسية مجرد مكان للاختبار؛ فبمجرد أن تصير سياحة الفضاء في المدار القريب من الأرض أمرًا روتينيًّا، وأن نقيم مستعمرات على سطح القمر والمريخ، ستتحول أعيننا تلقائيًّا إلى أفق أبعد.
في ضوء هذا العدد الوفير من الكواكب، يمكن العثور على كواكب أخرى مثل الأرض، بل ربما كواكب تماثل الجنان. كتب روبرت جودارد، رائد الصواريخ، اقتراحًا فنيًّا كاملًا لبناء سفينة نوح نجمية منذ قرن مضى، لكنه أبقى عليه حبيس أحد الأدراج لتجنب سخرية أقرانه. سرعان ما صارت مستعمرات الفضاء والسفن التي تنقل البشر بين النجوم مادة خصبة للخيال العلمي، وكثير من الأشخاص صاروا يألفون صور العيش في عوالم على شكل أسطوانات أو عجلات يوفر دورانها جاذبية اصطناعية. وقد زادت احتمالية بناء تلك العوالم في ضوء تقنيات الدفع الجديدة وتوافر المواد خفيفة الوزن، مما يؤدي إلى قدر من التفاؤل الواضح.
إليك ما قاله مايكل جريفين، المدير السابق لوكالة ناسا، عام ٢٠٠٥ عن البشر الذين سيعيشون خارج الأرض: «ليس الهدف هو مجرد الاستكشاف العلمي، فالأمر يتعلق أيضًا بتوسيع نطاق الموطن البشري من الأرض إلى المجموعة الشمسية مع تقدمنا في الزمن … لا أعلم متى يأتي هذا اليوم، لكن سيكون عدد البشر الذين يعيشون خارج الأرض أكبر ممن يعيشون على سطحها. قد يعيش أناس على القمر، وقد يعيش أناس على سطح أقمار المشتري والكواكب الأخرى. وقد يتخذ أناس من الكويكبات موطنًا. أعلم أن البشر سوف يستعمرون المجموعة الشمسية، وفي يوم من الأيام سيذهبون إلى ما وراءها.»
قد يكون تأثير الأشعة الكونية ذات الطاقة العالية للغاية على النسيج البشري عميقًا، فكر في كرة بيسبول سريعة تضربك، لكن لا تنتقل كل طاقتها إلى مضربك أو حتى مرفقك، وإنما إلى جزء صغير داخل عضو حيوي. على الأرض، نحن نحظى بحماية مضاعفة، فالكثير من هذه الأشعة يُحجب حين يقابل الغلاف الشمسي، وتتشكل فقاعة بالفضاء حين تصطدم الرياح الشمسية والمجال المغناطيسي بالغاز المنتشر في الفضاء النجمي. ويعترض المجال المغناطيسي للأرض الكثير من هذه الأشعة ويعيد توجيهها. وأخيرًا، يمنع الغلاف الجوي بقيتها من المرور لسطح الأرض. عند هذه الطاقات العالية، يمر شعاع كوني واحد عبر أي متر مربع من الفضاء كل عام، وهذا يتسبب في قدر كبير من الاصطدامات في رحلة طويلة بين النجوم. وستزيد سرعة مركبة المستعمرين الفضائية من الضرر.
ثمة مسألة فنية أخرى يجب التغلب عليها؛ الحياة المعلقة. فأقرب النجوم تبعد بمسافة تقدر بسنوات ضوئية، ولأن السفر بأي سرعة تزيد عن نسبة مئوية قليلة من سرعة الضوء هو أمر غير مرجح، فإن أي رحلة ذهاب فقط إلى أي مكان ممتع قد تستغرق عقودًا أو قرونًا. يستخدم القائمون على تجميد الجثث محلولًا مقاومًا للتجمد ويعملون على التبريد بواسطة النيتروجين السائل، لكن معدل البقاء غير معروف حاليًّا. استخدم الأطباء الجسورون انخفاض درجة حرارة الجسم والمحلول الملحي لإيداع الكلاب والخنازير في حالة أيضية تماثل الحياة المعلقة ثم إنعاشها بعد ساعات قليلة، وبلغ معدل النجاح ٩٠٪. وثمة طريقة أخرى أثبتت فعاليتها مع الفئران، وفيها يستبدل كبريتيد الهيدروجين بالأكسجين، ولا تتطلب التجميد. لكن العمل مع الحيوانات وتحقيق نجاح محدود بعد ساعات قليلة هو خطوة أولى مقارنة بتعليق حياة البشر ثم إعادتهم للحياة على نحو فعال موثوق به بعد مرور العديد من السنوات.
الأمر صعب ومكلف. تبلغ «محطة الفضاء الدولية» من العمر ١٠ سنوات، ولم يكتمل منها سوى ثلاثة أرباعها، وستصل تكلفتها النهائية إلى ١٠٠ مليار دولار. وبإمكانها أن تحمل طاقمًا مكونًا من ستة أفراد، لكنها تحتاج لأن يعاد تزويدها بالطاقة باستمرار، فهي تماثل حجرة فندق مكتظة لا يتوافر فيها أي خدمة للغرف. وهي تدور في مدار منخفض حول الأرض؛ أي إنها لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن الأرض.
(٢-٣) إرسال الآليين
إن كانت حماية الضعف البدني والنفسي للأشخاص مهمةً صعبةً، فربما تملك الآلات مفتاح سيادتنا اللانهائية على المجرة، فبمساعدة الآلات يمكننا ركوب موجة التصغير التي تحشد قدرًا أكبر وأكبر من التعقيد في حزمة صغيرة كل عام. ليس تماديًا منا تمامًا أن نتخيل وجود حزمة في حجم كرة البيسبول تضم نظامًا للدفع وجهاز كمبيوتر قويًّا وكاميرا ذات خاصية استشعار عن بعد ونظام اتصال. قد تقل متطلباتها من الطاقة ١٠ آلاف مرة عن تلك التي يتطلبها تابوت الفضاء الذي ذكرناه للتو.
في ظل اقتصاديات الإنتاج الوفير، ربما نستطيع أن نتحمل تكلفة إرسال مئات الآلات التي تنتشر عبر المجرة بسرعة تبلغ عُشر سرعة الضوء، وتعيد إلينا وإلى سلالاتنا بياناتها من المجموعات الشمسية البعيدة. يمكننا أن نتغلب على الأوقات الطويلة المستغرقة في السفر بالأعداد الوفيرة، بحيث يمكن لمسبار فضائي واحد في المتوسط أن يمدنا برؤية لعوالم جديدة كل شهر. قد يكون ذلك العرض الأخير للواقع.
تصير الفكرة مقنعة أكثر لو استطاعت المسبارات الفضائية أن تجد كويكبات أو أقمارًا صغيرة ومواد تعدينيةً وتصنع نسخًا مطابقة من ذاتها. بعد ذلك لو أرسلنا اثني عشر مسبارًا، فكل واحد من هذا العدد سينشئ عددًا مماثلًا أكبر، وسيزداد أسطول المستكشفين بصورة أسية. بسرعة قدرها ١٠٪ من سرعة الضوء قد لا يستغرق استكشاف المجرة بأكملها سوى ملايين قليلة من السنوات. لقد «اختزلت» المشكلة إلى حد بناء مسبار فضائي لديه القدرة على استنساخ نفسه.
ليس ذلك بالأمر اليسير على الإطلاق. لقد بدأنا للتو في تطوير طابعات يمكنها أن تعد عددًا لا نهاية له من النسخ ثلاثية الأبعاد من الأجسام الصلبة المصنوعة من البلاستيك أو المعدن. وفي عام ٢٠٠٨ برمج آدريان باوير، مؤسس مشروع «ريبراب»، آلة لتنتج مجموعة كاملة من أجزاء آلة مطابقة لها، لكنها توقفت عند ذلك الحد؛ فلم تستطع تجميع تلك الآلة الثانية. يطلق إريك دريكسلر، المعني باستشراف المستقبل، على مثل تلك الآلات اسم «الآلات الناسخة الرنانة». وكتب عن أقصى درجات الحجم في الصغر؛ وهي تكنولوجيا النانو، أنه يعتقد أنها ستستخدم قريبًا لتكوين آلات صغيرة بوضع الذرات المنفردة جنبًا إلى جنب. يا له من مسار طويل من مشروع «ريبراب» وصولًا إلى آلة يمكنها أن تنقب عن المواد الخام وتكررها ثم تستخدم تلك المواد في تشكيل مكونات ثم تعمل على تجميع تلك المكونات في صورة أجهزة استشعار أو أجهزة كمبيوتر أو نظم دفع أو كاميرات عاملة.
يا لها من فكرة مروعة أن يكون هناك مسبارات ضئيلة الحجم تلاحظنا على نحو مستتر وترسل المعلومات مرة أخرى إلى الكوكب الأم، لكنها فكرة حميدة، ومع ذلك، يمكن بسهولة برمجة المسبارات ذاتية النسخ بحيث تزداد في الحجم والإمكانيات حتى تكون مهيمنة ومدمرة. كل ما سيتطلبه ذلك هو حدوث خطأ برمجي أو وجود نية شريرة. قد يكون الخطأ خطؤنا ويتعطل أحد الروبوتات المصممة لإعادة تأهيل المريخ ثم يتكاثر ويصطبغ بطابع تدميري، فحين تتجاوز الآلات حدود النسخ لتمتد إلى التطور ستكتسب صفات الحياة، وهذا التصور مألوف لكل من شاهد سلسلة أفلام «المدمر». لقد أعد فريد سابرهاجين أوبرا فضائية قائمة على فكرة «المحاربين الجامحين»، وهم روبوتات غريبة عازمة على السعي وراء كل أشكال الحياة العضوية وتدميرها. ربما من الأفضل أن نكون بمفردنا في الكون.
(٢-٤) الصمت العظيم
في عام ١٩٥٠، كان إنريكو فيرمي يتناول غداءه مع اثنين من زملائه بجامعة شيكاجو. فاز فيرمي لاحقًا بجائزة نوبل في الفيزياء عن عمله المرتبط بالانشطار، وقد عُرف باسم «البابا» كإشارة إلى عدم وقوعه في أي خطأ فيما يتعلق بأي شيء علمي. كان الثلاثة يمزحون بشأن تقارير الصحف عما شاهده سكان المنطقة من أجسام طائرة غير معروفة حين استغرق فيرمي في التفكير وقال: «أين هي؟»
كيف ينبغي علينا أن نقطع الصمت العظيم؟ ثمة العديد من الإجابات المحتملة لهذا السؤال، وأيضًا إجابات عديدة متاحة للسؤال الذي طرحه فيرمي. من المحتمل أن يكون هناك ١٠٠ مليون عالَم أرضي صالح للحياة في مجرة درب التبانة، وهي أكبر عمرًا من الأرض بما يساوي ١٫٥ مليار عام في المتوسط. هناك الكثير من الوقت والأراضي المتاحة لتطوير حياة معقدة وذكية. وربما بدأت أولى التجارب البيولوجية في مجرتنا منذ ١٠ إلى ١١ مليار عام. لذا يعد عدم قدرتنا على ملاحظة أي أثر للحياة الذكية لغزًا يحتاج إلى حل.
إن معدلنا الأسي في التقدم التكنولوجي يعني أننا يجب أن نأخذ سؤال فيرمي على محمل الجد، وحتى لو كان مستوى تكنولوجيا المسبارات ذاتية النسخ إلى تكنولوجيتنا الحالية يماثل مستوى تكنولوجيتنا إلى تكنولوجيا مجتمعات الصيد والالتقاط البدائية، فسيتحقق هذا في المستقبل القريب الذي قد لا يبعد أكثر من عشرات الآلاف من الأعوام. إن التقدم التكنولوجي سريع للغاية مقارنة بالتقدم البيولوجي. ومسبارات كتلك يمكنها أن تنثر بذور الحياة على الكواكب الملائمة، في نسخة ميكانيكية من فكرة التبذر الشامل، ويمكنها أن تعمل كحراس لتراقب نشوء الحياة الذكية، ويمكنها أن تنفذ مهام الاستكشاف بصورة أكثر فاعلية وأمانًا من الكائنات الذكية.
كثيرًا ما تُحرف تفسيرات الصمت العظيم، فالكائنات والأجسام الغريبة ذات الحياة فائقة الذكاء خارج الأرض موجودة لكنها تتخذ خيارًا ثقافيًّا بعدم إجراء مهام الاستكشاف أو الاتصال. قد تكون موجودة لكنها تراقبنا ولا تكشف عن هويتها؛ فرضية «حديقة الحيوان». أو أنها تنتظر حتى ننضج بحيث إما أن تحيينا أو تدمرنا؛ فرضية «المحاربين الجامحين». أو أنها متقدمة للغاية حتى إننا لا نعلم كيف نتعرف عليها؛ فرضية «المبتدئين».
إن حقيقة أننا أول نوع يصل إلى الفضاء الخارجي في المجرة تتوافق مع كل شيء نعلمه. قد نكون النوع الأول والأخير والوحيد. ومعرفة أننا وحيدون قد يكون أمرًا مثيرًا ومروعًا في الوقت نفسه. ونأمل أن ذلك قد يشجعنا على اجتياز مرحلة طفولتنا بنجاح حتى يمكننا أن نستمتع بالفضاء وسخاء الكون فيما وراء موطننا.