ما بعد النهايات
يرسل نيك بوستروم رسالةً مختلطةً مضبوطة بدقة. إن الاحترام الذي يحظى به كفيلسوف تحليلي لا غبار عليه؛ لذا يأخذ جمهوره ما يقوله بجدية شديدة. يصغي إليه الباحثون الكبار بانتباه في حين يسجل الصغار ملاحظات كثيرة، لكن الوميض المتلألئ بعينيه والبريق الذي يعلو ابتسامته المازحة أحيانًا يوضحان أنه يدرك سخافة موضوعه.
يقدم بوستروم ما يراه على أنه النتيجة المنطقية لاحتمالية احتواء الكون على العديد من الكائنات التي تفوقنا بقدر هائل من حيث الذكاء والتقنية. وفي ظل القوة الحاسوبية الضخمة المتاحة لهذه الثقافات يمكنها بسهولة محاكاة التاريخ الكامل لعمليات التفكير لدى الجنس البشري، وذلك يعني — ثم يتوقف بوستروم لحظة كي يضمن استحواذه على الانتباه الكامل لجمهوره — أننا نعيش بالتأكيد في محاكاة حاسوبية.
بوستروم هو واحد من جيل جديد للفلاسفة المنشغلين بشدة بالمعلومات المذهلة لعلم الفلك الحديث. مع ازدياد احتمالية أن تكون الحياة البيولوجية منتشرة في أرجاء الكون، وأن يشتمل الكون على تريليونات الأماكن المحتملة للحياة، هم يسألون عما قد تفعله الكائنات الواعية المتقدمة حقًّا. وفي ضوء نشأة الكون من حساء رغوي للزمكان، هم يذهبون إلى التخمين بوجود أكوان افتراضية وموازية. ولكونهم فلاسفة، فهم يطرحون أسئلة متعمقة عن معنى الأمر برمته، وإلى أي مدى يتصف ما نسميه بالواقع بأنه حقيقي.
منذ خمسة وعشرين قرنًا شبَّه أفلاطون البشر بساكني الكهوف الذين يتوقون لفهم الطبيعة، لكنهم محكومون فقط بما يرونه من انعكاسات للظلال على جدار الكهف. يحب العلماء أن يعتقدوا أنهم يتعاملون مع الحقيقة، لكن هل من الممكن أن يكونوا مطاردين للظلال لا أكثر؟
مع أن بوستروم اكتسب شهرة سيئة وجذب الاهتمام الإعلامي بسبب فرضية المحاكاة التي قدمها، فمن بين أفضل أعماله وأكثرها تفصيلًا المبدأ «الإنساني». لاحظ العلماء أن عددًا من الخصائص الطبيعية للكون — بدءًا من شدة القوى الأساسية وحتى معدل التمدد نفسه — مضبوطة تمامًا بحيث تسمح بوجود الكربون والماء والنجوم والحياة، ولو أن هذه الخصائص مختلفة بقدر طفيف، فربما ظل الكون موجودًا لكنه لن يكون حيًّا.
هل أُعِدَّ الكون من أجل الحياة؟ بدلًا من أن يقفز بوستروم إلى تلك النتيجة المذهلة أخضع أفكاره الإنسانية للصرامة المنطقية والرسمية المميزة له. توصل بوستروم إلى أننا واقعون تحت تأثير مبدأ الاختيار الذاتي؛ لذا لا بد أن نكون حذرين من نسب أهمية خاصة لسمات الكون الضرورية لوجودنا، ولو أمكن للكون أن يتحدث فقد يخاطب البشر قائلًا: لا تمنحوا أنفسكم مثل هذه الأهمية.
***
(١) العيش في الكون المتعدد
(١-١) الضبط الدقيق
يهرع إليك عالم فيزياء بحماسة شديدة، بعدها يتوقف ليلتقط أنفاسه ثم ينطق بكلمات مبعثرة؛ يقول إنه من المذهل لو أن القوة الشديدة التي تمسك بأنوية الذرات كانت أقوى قليلًا؛ فستحول النجوم آنذاك كل الهيدروجين الموجود بداخلها بسرعة إلى هيليوم وصولًا إلى الحديد، ولو كانت أضعف قليلًا فلن تتشكل أي نوى معقدة أو كربون، ولو كانت القوة النووية الضعيفة أقوى قليلًا فقد تتحلل النيوترونات بسرعة شديدة بما يمنع النجوم من تكوين العناصر الثقيلة، أما لو كانت أضعف قليلًا فقد يجري استهلاك كل الهيدروجين.
يتوقف عالم الفيزياء برهة كي يلتقط أنفاسه فحسب وأنت تحاول أن تبتعد عنه تدريجيًّا بلطف، لكنه لم يفرغ من حديثه بعد. لو كانت القوة الكهرومغناطيسية مختلفة قليلًا في شدتها فلن تتشكل الجزيئات؛ من ثم ستكون العمليات والظواهر الكيميائية أمرًا مستحيلًا. ويواصل حديثه وهو يطلب منك أن تفكر بشأن الجاذبية. إن كانت أكثر قوة قد تعيش النجوم حيوات سريعة مستغرقةً ملايين الأعوام، لا مليارات، وإن كانت أضعف فلن تشكل النجوم العناصر الثقيلة. ثم يمسك عالم الفيزياء ذراعك بقوة ويقول لك بإلحاح: في جميع هذه الأحوال سيكون هناك كون له قوانين فيزيائية معقولة، لكن لن تكون الحياة ممكنة. ويقف العالم واضعًا يديه في وسطه منتظرًا أن تبدي رد فعلك.
يبدو الأمر مدهشًا. ليست هذه الأكوان «المخالفة للحقائق» مثارًا للسخرية؛ بل هي معقولة من الناحية الفيزيائية. إن مخالفة الحقائق البيولوجية عن طريق تخيل خنازير يمكنها الطيران ليس بالأمر المفيد فكريًّا، لأننا ينبغي أن نفكر بطريقة ملتوية من منظور كل من التطور والبيئة كي نرى كيف يمكن للخنازير أن تطور الأجنحة والقدرة على الطيران. إنه ليس أمرًا مستحيلًا لكنه ليس ممتعًا للغاية أيضًا. وفي الموقف المتعلق بدراسة الكون، نحن لم نتخلص من أفكار الفيزياء الجوهرية مثل السببية أو تحويل المادة إلى طاقة؛ كل ما هناك أننا عدلنا القوى قليلًا ووجدنا أننا حصلنا على أكوان يستحيل فيها بصورة أساسية وجود الحياة كما نعرفها.
لكن لكي يكون الضبط الدقيق مدهشًا سيكون علينا أن نوضح أن وقوع قيم الثوابت الفيزيائية ضمن نطاق صغير من قيمها الفعلية هو حدث غير محتمل. ثمة افتراض بأن الكميات الفيزيائية يمكنها أن تشغل نطاقًا ضخمًا من القيم الافتراضية، وأن احتمالية أي قيمة متساوية تقريبًا على مدار ذلك النطاق. لكن هذا الافتراض نابع من العدم.
ليس الأمر مماثلًا تمامًا للضبط الدقيق، لكن مكاننا في الكون لا يدعم مبدأ كوبرنيكوس أو مبدأ عدم التميز أيضًا، فنحن ندور حول نجم عادي في مجرة عادية لكن موقفنا يبدو خاصًّا بطرق أخرى. إن معظم كيانات الكون هي فوتونات أو جسيمات مادة مظلمة، لكننا نتكون من بروتونات ونيوترونات. ومعظم الكون هو فضاء تام تقريبًا لكننا نعيش في مجرة، ومعظم كتلة المجموعة الشمسية موجودة في نجم لكننا نعيش على كوكب صخري. وأخيرًا يتميز عمر الكون بأنه هائل، لكننا نعيش بعد مرور دهور قليلة على الانفجار العظيم. هل هذا مفاجئ أيضًا؟
(١-٢) المبدأ الإنساني
أثناء مؤتمر عقد عام ١٩٧٣ للاحتفال بمرور ٥٠٠ عام على ميلاد نيكولاس كوبرنيكوس، صاغ عالم الفيزياء الفلكية براندون كارتر مصطلح «المبدأ الإنساني» للإشارة إلى الوضع المخالف لمبدأ كوبرنيكوس الذي يقضي بأننا نعيش بالفعل في موقف متميز من ناحيتَي الزمان والمكان. صاغ براندون نموذجًا قويًّا وآخر ضعيفًا للمبدأ. ترتبط الفكرة بمبدأ الضبط الدقيق لكنها أكثر إثارة للجدل، ويرجع ذلك في جزء منه إلى أنها تمد المراقبين الأذكياء بدور رئيسي في الكون وفي جزء آخر إلى وجود كم كبير للغاية من التعريفات في المؤلفات البحثية.
يذهب المبدأ الإنساني الضعيف إلى أننا لا نرصد سوى كون له خصائص تدل على وجود مراقبين أذكياء. هنا يميل الأشخاص إلى الصمت وإبداء الاندهاش حين يسمعون هذا؛ إذ إنه يبدو مثل حقيقة بديهية أو تكرار للمعنى. ويذهب النموذج القوي من المبدأ إلى أنه لا بد أن يكون للكون (والمعاملات الفيزيائية التي يعتمد عليها) قيم تسمح بتكوين المراقبين الأذكياء ووجودهم.
حين يكبر بالون إحدى الأفكار ويتمدد ليصير رقيقًا للغاية، يحلو للبعض ثقبه. والنموذج القوي للمبدأ الإنساني هو الأكثر إغراءً لدحضه؛ لأنه يحمل نكهة الغائية؛ وهي فكرة أن للكون غرضًا. حظي المبدأ الإنساني القوي بدعم مؤيدي مذهب الخلقوية والتصميم الذكي مستعينين بحجج لا تختلف كثيرًا عن تلك التي صاغها عالم الرياضيات والفيلسوف جوتفريد ليبنتز منذ ٣٠٠ عام: «بما أنه يوجد عدد لا متناهٍ من الأكوان الممكنة في أفكار الإله، وبما أنه لا يمكن إلا لواحد منها فقط أن يوجد، فلا بد أن هناك سببًا كافيًا يقف خلف اختيار الإله، سببًا يوجهه نحو أحدها وليس نحو سواه.»
يأتي نقد آخر من عالم المنطق، فمثلما لا يجب أن نندهش إزاء اشتمال الكون على ظروف تتوافق مع وجودنا، لا يجب أن نندهش إزاء عدم اشتماله على ظروف قد لا تتوافق مع وجودنا، مع أن تلك الظروف قد لا تنتهك نظريات فيزيائية معينة. يبدو أن المبدأ الإنساني يعكس مبدأ السبب والنتيجة. ذات مرة قارن عالم الحفريات بجامعة هارفارد ستيفن جاي جولد الادعاء أن الكون خضع للضبط الدقيق كي يناسب حياتنا بقوله إن النقانق طويلة ورفيعة حتى تتوافق مع الشطائر، أو أن السفن قد اخترعت لكي تأوي محار البرنقيل الذي يعلق بها.
بعد ذلك يأتي الدور الرئيسي الممنوح للمراقبين الأذكياء. ما الشيء المميز للغاية بشأن المراقبين الأذكياء، ولماذا يجب أن يكونوا على صورتنا؟ لا وجود لنظرية معممة عن الحياة البيولوجية تتطلب دورًا جوهريًّا للكربون أو النجوم المعمرة، وبالقطع لا وجود لنظرية عن المسارات التي تفضي إلى الذكاء. فإن كانت الحياة موجودةً في نطاق من المعاملات الفيزيائية أوسع مما نتخيله من مثالنا الوحيد، فقد لا يكون الضبط الدقيق مهمًّا كما نعتقد.
(١-٣) مرحبًا بك إلى عالم الكون المتعدد
(٢) من النهايات إلى المعنى
(٢-١) شفق لا نهاية له
ترك المبدأ الإنساني الباب مفتوحًا جزئيًّا أمام الفكرة المثيرة التي تقضي بأن الكون تشكَّل حتى يستضيف الحياة. في سياق نظرية الأوتار والكون المتعدد ثمة مساحات كبيرة على نحو لا يمكن تخيله من الزمكان والتنوع الفيزيائي، ونحن نشغل واحدًا من الأكوان النادرة «المثيرة للاهتمام» لأن التعقيد أدى إلى الحياة البيولوجية والوعي.
ما يجعل هذا الكون جديرًا بالانتباه هو حقيقة أنه أوجد نوعًا واحدًا (على الأقل) من الكائنات يستطيع أن يفكر في وجوده ضمن تركيبة الكون. لدى الأكوان العديدة الأخرى قصص تحكيها، لكن ربما ليس هناك من يحكيها، وهي محل اهتمامنا من منظور أكاديمي بحت، شأنها شأن الصخور المحفوظة في متحف للمعادن.
في ضوء تلك الاستراتيجية، أوضح دايسون أن الطاقة المكافئة لثماني ساعات من ضوء الشمس فقط يمكنها أن تبقي على حضارة إنسانية إلى الأبد. وهو يعتقد أن الحياة المستقبلية لن تكون حياة بيولوجية «رطبة» بل ستكون سحبًا غازية ما بين النجوم. كان هذا هو التشبيه الغريب الذي استخدمه سير فريد هويل في رواية الخيال العلمي التي كتبها بعنوان «السحابة السوداء»، لكن دايسون أخذها على محمل الجد الشديد قائلًا: «شبكة دائمة التوسع من جسيمات الغبار المشحونة تتواصل فيما بينها عن طريق القوى الكهرومغناطيسية، ولها جميع خصائص التعقيد المطلوبة للتفكير في عدد لانهائي من الأفكار الجديدة.»
ما الذي ستفعله هذه الكيانات الغريبة بلحظات يقظتها النادرة على نحو متزايد؟ يعد الترفيه أمرًا صعبًا وتافهًا في مثل هذا الكون البارد والمظلم. ربما يكون الجنس أمرًا مستحيلًا لسحابة غازية. ذلك لا يدع مجالًا إلا للتفكير الخالص. يمكنها أن تفكر بعمق بشأن كل التحركات الممكنة في لعبة الشطرنج التي تستغرق كل حركة منها تريليون عام، ثم يظل لديها وقت متبقٍّ. إن عقول القردة المتململة التي نتصف بها تجعل الصبر فضيلة نادرة، لكنه سيكون ضرورة في المستقبل البعيد.
لفترة زمنية قصيرة كان هذا السيناريو المتفائل إلى حدٍّ ما محل شك، وقد خاض دايسون جدالًا فنيًّا ومتخصصًا مع اثنين من علماء الفيزياء اللذين ادعيا أن وصفته للحياة غير المتناهية ليست مجدية. رحب دايسون بالتحدي قائلًا: «أن يعارض الآخرون صحة ما تقوله أمر أكثر إمتاعًا بكثير من أن يتجاهلوه.» ذهبت حجتهما إلى أن أي نظام مادي يخزن المعلومات يتمتع بحد أدنى ثابت من الطاقة وتفصل فجوة بينه وبين حد حالة الطاقة التالية. وبمجرد أن تصير درجة الحرارة منخفضة للغاية لا يمكن للنظام أن يمتص الطاقة ويبعثها؛ لذا لا يمكنه تخزين المعلومات. قَبِل دايسون هذه الحجة لكنه قال إنها لا تنطبق إلا على الحياة الرقمية. إن كانت الحياة تناظرية، كما في سحابته السوداء الأثيرة أو كما في الحياة البيولوجية المألوفة، يمكنها أن تستمر عن طريق ازدياد حجمها.
يبدو مصير رقعتنا من الزمكان واضحًا إن ظلت الطاقة المظلمة تملي أوامرها بشأن التمدد، لكن ماذا عن البناء الأكبر؟ يوفر التضخم إطار عمل لفرضية الكون المتعدد، لكن ما من تنبؤات يمكنها اختبار الفكرة. تشمل جوانب التضخم الضبط الدقيق، وتظل قوة الطاقة المظلمة أحد ألغاز النموذج. ولهذا يواصل المنظِّرون البحث عن طريقة أنيقة لتفسير الكون.
يستخدم شتاينهارت وتوروك نموذجًا من نظرية الأوتار يحمل اسم «النظرية إم» يكون فيها الكون غشاء ثلاثي الأبعاد يوجد ويتحرك مع الأغشية الأخرى في فضاء ذي أبعاد أعلى. حين تتصادم الأغشية يحدث انفجار من الطاقة نستشعره على هيئة الانفجار العظيم وكون متمدد. بعد التبدد والانقباض يتصل الغشاءان في النهاية مرة أخرى ليولدا انفجارًا عظيمًا جديدًا ودورة تمدد جديدة. ولأن علم الكونيات علم ناضج، لا بد لنظرية الكون الدورية أن تفسر عددًا كبيرًا من الملاحظات كي تؤخذ على محمل الجد. وحقل التجارب الحاسم سيكون موجات الجاذبية. يتنبأ نموذج الانفجار العظيم القياسي بأن التضخم غمر الفضاء بموجات الجاذبية ولا ينتج تصادم الأغشية موجات جاذبية. وسترد الملاحظات الحاسمة من القمر الصناعي «بلانك» وتجارب موجات الجاذبية القادمة.
(٢-٢) مساحة بالأسفل
من الصعب أن نتخيل ما يمكن للأنواع الذكية الموجودة بعيدًا عنا أن تفعله بإمكانياتها سواء أكان ذلك في حيز المكان أم حيز الزمان. في النهاية، نحن نتصف بصغر السن والافتقار إلى النضج. وفي إطار النقاش عن المستقبل، نحن بعيدون تمامًا حتى عن بلوغ مرتبة الحضارة من النوع الأول (١)؛ لأننا لا نستخدم سوى واحد على مليون من الطاقة التي تتساقط على كوكبنا. يمكنك أن تطلق علينا النوع صفر (٠)؛ إذ إننا موجودون بالكاد على شاشة رادار التعقيد. أما الوثبة التالية فتتمثل في معامل قيمته مليار، وبها يجري استغلال كل طاقة أحد النجوم، وهذه هي الحضارة من النوع الثاني (٢). فيما وراء ذلك، يمكن للحضارة من النوع الثالث (٣) أن تستغل طاقة مجرة كاملة. لا شك أن مثل تلك الأنواع ستتعامل مع حيز الزمكان على أنه ملعب ضخم، وأن تنهمك في استكشاف الثقوب الدودية وتشكيل أكوان جديدة بالطريقة التي نقود بها السيارات ونبني بها المنازل.
إن بدا ذلك خياليًّا للغاية، ففكر في هذا التشبيه: نحن لم نتطور من كائنات أحادية الخلايا إلا منذ مليار عام، أما صور الحياة المعقدة في الأجزاء الأخرى من الكون، فيمكن أن تكون قد سبقتنا بنحو ١٠ مليارات عام. إن مكانتها بالنسبة لنا قد تكون مماثلة لمكانتنا بالنسبة للبكتيريا اللاهوائية؛ مضروبة في عشرة.
مع كل المسارات المحتملة للحياة في الكون، يستحق الأمر أن ننظر فيما وراء الاستراتيجية «الكبيرة والبطيئة» التي أوضحها دايسون. يتصف أي تشبيه للمكونات البيولوجية بأجهزة الكمبيوتر بأنه معيب، لكن هذه التشبيهات تجعلنا قادرين على تفهم هل توجد «مساحة بالأسفل» أم لا فيما يتعلق بصور الحياة الصغيرة السريعة التي تتلاءم على نحو أفضل داخل الزمن الكوني المتاح.
لقد اختزلنا الحياة ضمنيًّا في عالم الحوسبة. والحد الأساسي للحوسبة تقرره سرعة تغيرات الطاقة في ميكانيكا الكم. ولو انتقلنا لما وراء المادة العادية، فإن أفضل شكل لتخزين المعلومات يحدث داخل الثقب الأسود، الذي يطلق عليه اسم حد كثافة المعلومات، فالثقب الأسود الذي له الكتلة نفسها التي للحاسوب المحمول النهائي السابق الذكر سيعمل بسرعة أكبر بمقدار ١٠ مليارات مرة. هذا كله يبدو كخيال علمي مجنون حتى تدرك أننا سنصل إلى هذا في غضون ٢٠٠ عام أخرى وفق قانون مور.
هل هذا هو الحل النهائي؟ منذ وقت طويل وهناك شك في أن الثقوب السوداء تفضي إلى الخلود؛ لأنه عند النظر من بعيد يبطئ مسار الوقت دون أي قيد مع الاقتراب من أفق الحدث. ستحتاج إلى البحث عن ثقب أسود كتلته أكبر من كتلة الشمس بمليون مرة على الأقل؛ لأن أي قوى مدية أصغر قد تمزقك إربًا عند سقوطك فيها. ومن منظور من يشاهدون الثقب، ستنخفض سرعتك مع اقترابك من الأفق إلى أن تصل إلى لحظة متجمدة، وهكذا تظل شابًّا إلى الأبد. إنه نصر ذو ثمن باهظ؛ لأنك ستسقط في الثقب الأسود نحو مستقبل غير مؤكد. ليس معروفًا هل ستخضع للتفكيك ثم يقذف بك في إشعاع هوكينج، ثم يلفظك ثقب أبيض في جزء آخر من هذا الكون أو في كون آخر؛ أم تفنى داخل نقطة التفرد. فكر في الثقب الأسود كملاذ أخير.
(٢-٣) تعرف على عمليات المحاكاة
قبل أن نتطرق للنتائج الفلكية وغير المحتملة، تناولنا احتمالات الموت إثر عوامل دنيوية لكنها محتملة، كالمرض أو الحوادث. وضع بعض العلماء احتمالات عالية بالمثل على الفرضية التي تذهب إلى أننا نعيش داخل محاكاة حاسوبية.
يطلق على هذه الفكرة اسم محاكاة الأسلاف، وليس القيام بها على قدر شديد من الصعوبة. سنتمكن من إجراء هذه المحاكاة خلال ٥٠ عامًا أخرى من قانون مور، ويمكن للحاسوب المحمول النهائي الذي وصفه سيث لويد أن ينتج كل ثانية ١٠٠ ألف حضارة جرت محاكاتها. وما لم نكن أول حضارة تقترب من هذا المستوى من التعقيد التكنولوجي وتصل إليه، فإن حضارات أخرى قد أوجدت بالفعل مخلوقات جرت محاكاتها تشبهنا (أو لا تشبهنا). ولأن الأمر لا يستهلك سوى جزء يسير من مواردها لإجراء أعداد هائلة من عمليات المحاكاة، فينبغي أن تصل حضارات قليلة إلى تلك النقطة قبل أن يزيد عدد الأسلاف الذين جرت محاكاتهم بصورة هائلة عن الأسلاف الحقيقيين. ووفقًا لمبدأ كوبرنيكوس، من المحتمل للغاية أننا مجرد محاكاة.
مرحبًا بك في عالم المصفوفة (ذي ماتريكس)، لكن دون ذلك الجزء الذي يجري فيه وضع أجساد بشر حقيقيين في حضانات لاستخدامها كبطاريات. في فرضية المحاكاة، لن يكون لك جسد؛ فالجسد والمخ هما وليدا برنامج كمبيوتر خاص بشخص آخر. وهنا يحدث رفض مفاجئ لا إرادي للفكرة. لا شك أنني إنسان حقيقي! من الطبيعي أن يفكر الناس جميعًا بتلك الطريقة، لكنهم جميعًا مخطئون. قد لا يكون هناك سوى «عيوب بسيطة» في المحاكاة أو لمحات من الحقيقة لو كان ذلك هو ما تريده أجهزة المحاكاة.
العيش داخل عملية محاكاة يحل بعض القضايا الراسخة، فليس الشر صنيعة يد خالق تشوبه بعض النقائص على نحو يثير التناقض، بل أضافته أجهزة المحاكاة لإضفاء الحيوية على اللعبة. والحياة بعد الموت وتجارب الظواهر الخارقة للطبيعة هي «سمات»، ولا ضرورة لتفسيرها على يد علماء متشككين. والإرادة الحرة هي وهم مريح ومقنع، والخوف من الموت يُبقي على الأشخاص منهمكين في المحاكاة. وحتى لو كنت مقتنعًا بأنه جرت محاكاتك، فإن دقة التركيب الإجمالي الذي توجد فيه تعني أنه ليس لديك سبب قوي يدفعك لتغيير سلوكك أو نظرتك المستقبلية. وإن كان قد جرى محاكاتك، فليس من المستبعد أن يكون خالقوك قد جرت محاكاتهم أيضًا، وأن يكون خالقوهم قد جرت محاكاتهم أيضًا وهكذا. لا أحد يعلم عدد مستويات «الواقع» الذي قد يكون موجودًا.
(٢-٤) مقطوعة الوحدة الذاتية
في ظل فرضية المحاكاة، نحن في خطر الوقوع في هوة «الوحدة الذاتية»، فلو لم يكن أي شيء حقيقيًّا، أو إن كانت أفكارنا فقط هي الحقيقية، فنحن منعزلون إذن عن الكون. سيكون في هذا خسارة عظيمة؛ لأن الإلمام بالكون الذي نشكل جزءًا صغيرًا منه يعد أحد أعظم انتصاراتنا.
كعالم فلك، أرصد بصورة روتينية أشياء تجعلني أشعر بالضآلة سواء على مستوى الزمان أو المكان، لكنني في النهاية لم أكن أطيل التفكير كثيرًا في الكون، فعلى أي حال، لا يطيل من يسيرون على أحبال مشدودة التفكير في ضعفهم أمام الجاذبية. وفي لحظة غير معتادة الحدوث مرت بي منذ عدة سنوات، صرت مدركًا لحجم الكون وما أتصف به من ضآلة على مستوَيَي الزمان والمكان؛ كنت في عطلة على شاطئ الكاريبي، مستلقيًا على ظهري في المياه الضحلة، وقد شعرت أخيرًا بالاسترخاء في اليوم الثالث من عطلة ستدوم أسبوعين. كانت الشمس تغرب خلف رأسي والمياه من حولي دافئة والأمواج الصغيرة تلطمني في رفق.
بينما انزلقت الشمس خلف الأفق كعملة معدنية تنسلُّ في جيب خلفي، أدركت أن دوران الأرض يوجهني نحو النجوم الناشئة وظلام الفضاء، وبينما كان جسدي ممددًا ويداي منبسطتين وقدماي متباعدتين، شعرت بأن الكوكب ينحني مبتعدًا عني في كل اتجاه. كان ذلك صادمًا. فبينما كنت عاريًا تقريبًا وسط مياه تشبه مياه الرحم، دُفع بي في الكون ومررت سريعًا بالحدود المألوفة للمجموعة الشمسية، وخرجت وسط المجالات المغناطيسية للنجوم وسحب الغاز المتوهجة للمجرة، ثم صرت في الفضاء العميق ومررت بمجرات دولاب النار ودقائق النسيج الكوني إلى أن وصلتُ للحدود القصوى لرؤيتي، حينئذ شلَّني إحساس قوي بالمهابة، لكن اللحظة انقضت على الفور، ورجعت إلى بيئتي المألوفة، واستكان الكون في رأسي، ثم بزغ البدر من بين قدمَيَّ كقطرة من اللبن.
سينتهي لقاؤنا الشخصي بالكون، لكن لنقل إننا مقتنعون بالحجة التي تذهب إلى أن الوعي ليس صفةً فريدةً في نوعها لهذا الكوكب. لنتخيل أن البشر لديهم أكثر من اهتمام أكاديمي بشأن تقدم الوعي ومصيره في كل مكان آخر، وأن ثمة صلة تربط هذا بذلك الصخب الذي نسميه الحياة.
افترض أننا سنضع نهاية للتسليح النووي، وسنتحاشى مشكلتَي جرين جو وجراي جو، وسنعمل على تغيير مسار المذنبات والنيازك. افترض أننا لن نعمل على حل مشكلة الشيخوخة لكن سيبقى نوعنا حتى سن جليلة، وسنرسل البذور والبراعم إلى النجوم القريبة. وفي مكان آخر يعمل «أقاربنا» من الناحية البيولوجية وغيرها ببطء على التسلل إلى هذه المجرة ومليارات غيرها، وستؤدي المقابلات النادرة في الغالب إلى حالة من عدم الفهم المطبق الذي تلطفه نوبات من الإدراك المفاجئ، فبعض صور الحياة تتسم بالفضول والولع بالاستحواذ، والبعض الآخر يتسم بالاستبطان والانطواء، والبعض يتسم بالرقة، والبعض الآخر يتسم بالهلاك.
تقضي نهاية الضوء على كل صور الحياة، ما عدا أكثرها مثابرة وبراعة. ومع تراجع الكون عن نطاق الرؤية، يتخلى المهتمون بالثقوب السوداء عن فكرتهم القائلة إن «الثقوب الدودية لا تفضي إلى شيء»، ويحتشد الناجون بالقرب من الوهج المتلاشي الضعيف للثقب الأسود المركزي في مجرة ميلكوميدا وهم يقصون قصصًا خالدة عن الزمن. لقد مرت تريليونات عديدة من السنوات منذ الانفجار العظيم. ويتفق الجميع على أن الحياة قضت وقتًا طيبًا في هذا الكون.
أين يتركنا ذلك، أنحن نوع معيب لكن شديد الحيوية يتعلم كيف يحقق أقصى إمكانياته؟ إن الوعي نعمة ونقمة في الوقت ذاته. ربما نحن لسنا أكثر من طحالب تطفو على بركة مرت بوقت طيب ليلة الجمعة واستيقظت صبيحة السبت وهي تظن أنها اكتسبت وعيًا بالكون وقلقًا حيال الوجود. هل من الأفضل أن نتصف بالكد كالنمل أم أن نتصف بسرعة الزوال كذبابة مايو، أم أن نتصف بالقدرة على استخدام عقولنا في التعامل مع عالم محدود يماثل رحم الأم، كما يفعل الأخطبوط أو الحوت؟ لنا الحق في أن نندهش لكوننا أكثر من مادة تفتقر إلى الذكاء. وفي هذا العالم المليء باللحظات السحرية، لا يهم ما يحدث في النهاية.