مستقبل البشرية
قيل له إنهم ماتوا وهم يضحكون. وضع فينسنت زيجاس هذه الحقيقة المستبعدة في اعتباره وهو يكتب في دفتر يومياته تحت ضوء المصباح المتقطع ويبقي نظره بحذر على الحشرات الكبيرة التي كانت تزحف في خيمته. «هل تسبب بخار عفن خفي في قتل هؤلاء الأشخاص؟ هل انتشر وباء مجهول ذو طبيعة جوية أو كونية أو أرضية في كل الأرجاء بلا رحمة وتسلل إليهم وتسبب في تسممهم وقتلهم؟»
ذلك العام كان عام ١٩٥٠، وكان زيجاس طبيبًا أستراليًّا يعمل في مناطق نائية من بابوا غينيا الجديدة. ضم المشهد الطبيعي الجبلي ما يزيد عن ٧٠٠ قبيلة لكل واحدة منها لغتها، والعديد منها لم يكن يعلم بوجود الأخرى. ومع بزوغ فجر عصر الفضاء، كانت هناك ثقافات تنتمي إلى العصر الحجري تكدح للعيش في غابة مطيرة تغطيها السحب. وفي إحدى القرى صادف زيجاس أفرادًا من قبيلة «فور» يمرون بمراحل متنوعة من سقم شديد. البعض عانى صعوبة في النطق بكلام واضح والسير بغير ثبات والارتجاف المستمر، والبعض الآخر لم يعد باستطاعته السير؛ إذ يستلقون على الأسرَّة ويهزون أطرافهم هزًّا عنيفًا، ويظهرون تغيرًا حادًّا في المزاج ونوبات من الضحك العشوائي. كان ثمة مجموعة أخيرة عاجزة عن ضبط النفس وتغطيها القُرح. استغرق التدرج خلال مراحل المرض عامًا. كانوا يطلقون عليه كلمة «كورو» التي يستخدمها أفراد قبيلة فور للإشارة إلى الارتجاف. جميع الضحايا تقريبًا كانوا من الإناث. وحسب علم زيجاس، كان هذا المرض مهلكًا على الدوام.
لم يستطع زيجاس الربط بين المعاناة التي رآها وطقوس الدفن التي شهدها، والتي كان يقوم فيها أحد أقرباء القروي المتوفى حديثًا من ناحية الأم بتمزيق الجثة، وإزالة اللحم، ونزع المخ والأعضاء الداخلية. لم يربط ذلك بحقيقة أن السيدات يطعمن الأطفال والكهلة وجبات معدة من تلك الأعضاء الداخلية، أو يقدمن إليهم حساءً ذا لون رمادي باهت معدًّا من المخ.
جاء الربط بين تلك الأمور في وقت لاحق على يد كارلتون جايدوسك، الذي فاز في وقت لاحق بجائزة نوبل عن عمله. لقد استنتج جايدوسك أن مرض كورو لم يكن مرضًا وراثيًّا ولا فيروسيًّا، بل كان مرتبطًا بمرض يصيب الغنم كان معروفًا لمئات السنوات، يسمى بمرض الراعوش، وهو التهاب يصيب الدماغ. لم يُعزل العامل المعدي نفسه حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين على يد ستانلي بروزينر الذي فاز هو أيضًا بجائزة نوبل على اكتشافه. كانت أمخاخ مَن ماتوا على هذا النحو مليئة بالثقوب كالجبن السويسري. ولم يمت أي من أفراد قبيلة فور بسبب مرض كورو بعد أن توقفوا عن أكل لحم البشر.
إن السبب في إصابة البشر بمرض كورو والغنم بالراعوش، والمرض القريب له وهو «مرض جنون البقر» هو بريون؛ والبريون كائن صغير للغاية مسبب للمرض، ولأنه يبدو غير مهم بدرجة كبيرة من المروع أنه يستطيع أن يتسبب في مرض بشري مهلك لا سبيل إلى علاجه. البريون هو بروتين مشوَّه. وقد فوجئ علماء الأحياء حين علموا أن بروتينًا يمكن أن يكون عاملًا معديًا؛ لأن «المذهب الرئيسي» لعلم الأحياء يذهب إلى أن الأحماض النووية، كالحمض الريبي النووي (الرنا) والحمض النووي (الدنا)، مطلوبة لنقل المعلومات الوراثية. تخيل أن جوربًا واحدًا غير مطوي على نحو سليم في أحد الأدراج يمكن أن يتسبب في وفاة كل سكان أحد المنازل.
***
(١) مصير الأنواع
(١-١) الوردة هي الوردة
أفضل سبيل للتعمق في فكرة النوع هو البدء بالحديث عن شيء مألوف؛ شيء له رائحة طيبة أيًّا كان اسمه. تستوطن الورود نصف الكرة الشمالي؛ إذ ترجع حفرياتها إلى العصر الأوليجوسيني منذ ٣٥ مليون عام. زينت الورود كوكبنا لوقت طويل قبل أن يتطور البشر ويعجبوا بها. وقد عُثر على أكاليل الورود في قبور المصريين القدماء، وظهرت في اللوحات الجصية في كريت التي تعود لعام ١٧٠٠ قبل الميلاد، في ذروة الثقافة المينوية، وفي ألواح الكتابة المسمارية من بلاد الرافدين، واستخدم الإغريق والرومان الورود في مهرجاناتهم الدينية والدنيوية على حد سواء.
تخيل أنني أعطيتك وردتين، وأنهما تختلفان في اللون والرائحة وحجم وشكل البتلات وطبيعة الأوراق والأشواك. هل هما نوعان مختلفان؟ قد يكون اتخاذ القرار بشأن ذلك صعبًا؛ لأن علماء النبات يخبروننا بأن هناك أكثر من ١٠٠ نوع من الورود، وقد يتباين بعض أفراد النوع نفسه بقدر يزيد عن التباين بين الأنواع المنفصلة المتعارف عليها. ومع الدراسة المفصلة للأمر، تصير مسألة تحديد النوع مسألة شائكة بدرجة أكبر. في أواخر القرن الثامن عشر حدث أول تهجين بين الورود المعمرة شديدة الاحتمال التي زرعها الصينيون لآلاف الأعوام والورود الأوروبية التي لا تزهر إلا مرة واحدة في الموسم، وعملت التجارب التالية النشطة على توجيه الطبيعة لإنتاج ما يزيد عن ٢٠ ألف «تنويعة من الورود»، التي، على تباينها، ما هي إلا أشكال مهجنة من مجرد حفنة من الأنواع الأصلية.
مع ذلك، تتصف استثناءات القاعدة التي تقول: «إذا كان الطير يبدو كبطة ويسبح كبطة ويصدر صوت البطة، فهو إذن بطة» بأنها متباينة ومحيرة؛ فقد توصل علماء الأحياء إلى عدة أمثلة لأفراد من كائنات موجودة داخل عشيرتين ويصعب للغاية التمييز بينها، لكن مع ذلك لا يتزاوج بعضها من بعض، وهو ما يشير إلى أنها تنتمي لأنواع مختلفة. مثال طيب على ذلك هو نوعان من ضفادع الشجر رمادية اللون تعيش في وسط وشرق الولايات المتحدة، يبدو النوعان متماثلين، ويعيشان في مواطن الغابات نفسها، ويأكلان النوع نفسه من الفرائس، ومع ذلك يُصدر كل منهما أصواتًا متباينة أثناء موسم التزاوج لا تجذب إلا أفراد النوع نفسه. وقد أثبت اختلاف عدد الكروموسومات الموجودة بهما حقيقة أنهما نوعان مختلفان.
يمكن أن تكون البيئة العامة مسئولة عن الاختلافات التي قد تجعل الملاحظ غير المتخصص يعتقد أنه ينظر إلى أنواع مختلفة؛ فأحد أنواع النباتات السهمية له أوراق مميزة سهمية الشكل حين ينمو على اليابسة، لكنه يتخذ أوراقًا طويلةً ورفيعةً حين ينمو في الماء. ولنباتات كوب الماء أزهار، أو بالأحرى أوراق معدلة، يمكنها أن تتغير من اللون الأزرق إلى الأحمر وفقًا لعامل حموضة التربة وكمية الألومنيوم التي يمتصها النبات.
(١-٢) النوع والجنس
إن كانت المظاهر خادعةً، فما البديل؟ منذ أربعينيات القرن العشرين كان التعريف البيولوجي للنوع هو أكثر المعايير قَبولًا: مجموعة من الكائنات تتزاوج، أو تستطيع التزاوج فيما بينها، فأحد أفراد النوع يمكنه أن يتناسل مع فرد آخر من النوع نفسه، لكن ليس مع فرد من نوع آخر. والمفهوم المماثل على المستوى الوراثي هو تجميعة جينات وهي: كل الجينات الموجودة في مجتمع يتزاوج أفراده فيما بينهم، فكل الأفراد المنتمين للنوع نفسه يتبادلون الجينات مع تلك التجميعة، وهو ما يفسر التنوع الجيني لأحد الأنواع. يبدو الأمر بسيطًا، لكن تظهر الصعوبة مجددًا في التفاصيل والاستثناءات.
لا يمكن تطبيق التعريف البيولوجي القياسي على أي كائن حي يعتمد كل الوقت أو معظمه على التكاثر اللاجنسي، فبين الحيوانات مجتمعات معينة من السحالي والسلمندر تتكون جميعها من الإناث. هي تضع بيضًا لم يُخصب قط ويفقس إناثًا من أجل استكمال دورة الحياة. بل إن التكاثر اللاجنسي أكثر شيوعًا في النباتات، ومن الأمثلة المألوفة على ذلك الهندباء البرية والفراولة والشجر الأحمر. ثمة عملية يتكاثر بها نصف أنواع النبات البالغ عدده تقريبًا ٢٥٠ ألف نوع، وأيضًا الغالبية العظمى من النباتات المزهرة والسراخس، وتُعرف هذه العملية باسم تعدد الكروموسومات، وفيها تتشكل مجموعات عديدة من الكروموسومات. إننا نرث مجموعة واحدة من الكروموسومات من كل والد، لكن يمكن للنباتات أن تملك ثلاث مجموعات (الموز والتفاح والزنجبيل)، أو أربع مجموعات (البطاطس والقطن والكراث)، أو ست مجموعات (القمح والشوفان والكيوي)، أو حتى ثماني مجموعات (الفراولة وزهرة الثالوث).
عادةً ما يفشل التزاوج بين نوعين مختلفين من الثدييات يبدوان متشابهين بدرجة كبيرة؛ لأن النتيجة تكون كائنًا عقيمًا، والبغال مثال جيد على هذا. لكن ثمة سلالات مهجنة من الثدييات أنتجت في الأسر كالأسود الببرية (هجين الأسد-النمر)، والأحصنة الوحشية (هجين الحمار الوحشي-الحصان)، والدلافين الأحوات (هجين الحوت-الدولفين)، ونمور اليغور (هجين النمر-اليغور)، وجِمال الكاماس (هجين الجمل-اللاما)، والبيفالو (هجين ثور البيسون-البقرة). يمكن أن يحدث ذلك في البرية أيضًا في مواقف نادرة مثلما في حالة البلينكس (هجين الببكت-الوشق)، والبيزلي (هجين الدب القطبي-الدب الأشيب)، وهجين الذئب الرمادي والقيوط التي أدت إلى ظهور الذئب الأحمر منذ آلاف الأعوام.
إن تحديد إمكانية نجاح التناسل بين نوعين أمر بسيط إلى حد ما، لكن تطبيق التعريف البيولوجي بصورة عامة يؤدي إلى مواقف افتراضية. لن نعرف أبدًا هل أمكن التكاثر بين كائنَين منقرضَين عثرنا على حفرياتهما في وقتنا المعاصر. وثمة أنواع لها ذرية طويلة في سجل الحفريات: هل كان بإمكان كائن ثلاثي الفصوص وجد منذ ٣٤٠ مليون عام التناسل مع آخر وجد منذ ٣١٠ مليون عام؟ ماذا عن العبارة المعقدة «التزاوج المحتمل بين الأنواع»؟ افترض أنه جرى الفصل بين مجموعتين من الحلزونات بطريق مرور سريع. يعد عبور هذا الحاجز أمرًا مهلكًا. نحن نعرف أن المجموعتين «لا» تتزاوجان فيما بينهما، لكن ذلك قد لا يكون كافيًا للإعلان عن أنهما نوعان منفصلان؛ لأننا لا نعلم هل «بإمكانهما» عبور الحاجز أم لا.
(١-٣) محرك التطور
إن أردنا مناقشة مسألة نهاية البشرية، فعلينا أن نعرف من أين أتينا نحن وملايين الأنواع الأخرى. من السمات الجلية للتطور تكوُّن أنواع جديدة، ومن المذهل — حتى لعلماء الأحياء الذين يفكرون في الأمر طوال الوقت — أن يؤدي سلف ميكروبي مشترك إلى كائنات شديدة التنوع كالفطريات والطحالب والفراشات والأفيال وأفراس البحر. ومع ذلك يمكن للتقنيات المرتبطة بتطور السلالات أن تتبع الشكل الواسع لهذا التطور على مدار ٤ مليارات عام عن طريق استخدام الانحراف التدريجي لسلاسل الدنا والرنا. وفي عالم الميكروبات، ما النباتات والحيوانات إلا أغصان صغيرة على شجرة الحياة. ومن منظور ذلك السُّلم المزدوج المتشابك الذي يحمل برنامج عمل الحياة بأسرها، جميع الكائنات شيء واحد.
إن كل كائن حي هو تجسيد مادي لمعلومات موروثة مشفرة داخليًّا، وفي علم الأحياء يكون النمط الجيني هو «برنامج العمل» أو مجموعة التعليمات التي تنظم عملية تكوين وتشغيل أحد الكائنات، وهي مكتوبة بأبجدية رباعية الأحرف مزدوجة القواعد من الدنا، ويكون النمط الظاهري هو النتيجة؛ أي التجسيد المادي للكائن. يذهب علماء الأحياء إلى أن النمط الجيني يضم شفرات النمط الظاهري. والجين هو وحدة المعلومات التي تعمل على تشفير سمة معينة، ويطلق على إجمالي كل الجينات في أحد المجتمعات اسم تجميعة الجينات. تؤدي الطفرة إلى تباين طفيف في الشكل الجزيئي للجين، ويطلق عليه اسم الأليل. بعد ذلك يعمل التكاثر على إيجاد تجميعات جديدة من الأليلات يحملها الكائن الوليد؛ مما يؤدي إلى تباين في النمط الظاهري.
أدرك علماء الأحياء المعاصرون أن «حجم» الحمض النووي وتباينه المجهري لا يفسران ثراء عملية التطور، وقد اعتنقوا مبدأ جديدًا يعرف باسم علم الأحياء الإنمائي التطوري. يقر هذا المبدأ بأن النباتات والحيوانات مكونة من وحدات؛ بمعنى أنها كثيرًا ما تنشأ من أجزاء متكررة كالضلوع أو أجزاء الجسم. هو يقر أيضًا بأن التحكم في الجينات أمر معقد؛ فالجينات لا يمكن تشغيلها وإيقاف تشغيلها فحسب، بل يمكن أيضًا تنظيمها عن طريق البيئة، والجينات نفسها يمكن أن تستخدمها كائنات مختلفة بصور مختلفة. وأخيرًا، إن قدرة النمط الجيني على تغيير نمطه الظاهري استجابة للبيئة تعني أن التغير الجيني يمكن أن يتبع عملية تطور السمات الجديدة لا أن يتسبب فيها؛ فليس كل تطور موروثًا.
كل هذا الخلط والتباين الجيني يكشف عن احتمالات، لا عن مقصد بعينه، فليس لكل شيء معنى. والطبيعة شديدة البخل، لكنها أحيانًا تكون كسولة؛ فللرجال حلمة ثدي لأن للنساء مثلها، ووجود هذه الحلمة لا يتكلف الكثير. وبعض السمات ما هي إلا بقايا لا لزوم لها ولا ضرر منها؛ كالزائدة الدودية وضروس العقل، لذا لم تحاول الطبيعة التخلص منها. وتشكيل المجتمعات على يد البيئة المتغيرة هو العامل الأقوى في التطور، وهو يخلق عددًا من الخاسرين أكبر من الفائزين.
(١-٤) تطورنا نحن البشر
في ضوء ما تقدم، كيف يمكن للأنواع الجديدة أن تتطور؟ إننا نسعى إلى ربط التطور صغير النطاق — التغيرات التي تطرأ على التركيب الجيني لأحد المجتمعات مع تعاقب كل جيل — بالتطور شامل النطاق؛ أي ظهور شكل جديد متمايز من الناحية المادية من أشكال الحياة. يروق لعلماء الأحياء الجدال كثيرًا بشأن معدل التطور، لكنه لا بد أن يكون تدريجيًّا؛ فالطيور لا تبدأ فجأة في الطيران، والرئيسيات لا تنمي مهاراتها الحسابية على نحو مفاجئ. وفي إطار نطاق ممتد للتطور يكون من الصعب تحديد متى ينشأ نوع جديد، وهذا هو سبب استخدام التعريف البيولوجي العملي متى أمكن.
يخضع تكوين الأنواع الجديدة لعمليات تدفع في اتجاهات متعارضة، فالتدفق الجيني الناتج عن التكاثر يميل إلى الإبقاء على تشابه المجتمعات بعضها مع بعض؛ مما يثبط نشأة أنواع جديدة. تسجل المجتمعات انحرافًا وراثيًّا بسبب الانتخاب الطبيعي وبسبب التباينات العشوائية في معدل تكرار الأليلات، وخصوصًا في المجتمعات الصغيرة، وتلك عملية تُعرف بالجنوح الجيني. وآخر آليتين تجعلان من تشكُّل أنواع جديدة أمرًا محتملًا. وإن اعترض شيء ما التدفق الجيني لأي سبب من الأسباب فإن الجنوح الجيني يضمن نشأة أنواع جديدة.
العزل الجغرافي هو أوضح الطرق التي تعيق المجتمعات عن تبادل الجينات. لا يتطلب العزل وجود محيط أو سلاسل من الجبال الفاصلة؛ فقد يكون على صورة تباين في الموطن في منطقة مجاورة. حتى ١٥٠ عامًا مضت عاشت الأسود في الأرض العشبية المفتوحة في الهند وعاشت النمور في الغابات، لم يحدث تهجين بين النوعين في البرية. وحتى حين عاش النوعان في المكان نفسه بالضبط حالت أسباب أخرى دون حدوث التزاوج بينها. فكِّر فحسب في مشكلات الجنس؛ فالأزواج المحتملون ربما يتناسلون في أوقات مختلقة، أو ربما يلتقون لكن يستطيعون تبين آليات هذا الأمر، أو ربما يعجزون عن نقل الحيوان المنوي، أو يعجزون عن تخصيب البويضة. وحتى إن خصبت البويضة فقد يموت الجنين، أو يتمتع هجين الجيل الأول بكفاءة أقل، أو قد يكون عقيمًا. إن التفكير في ذلك الأمر مجهد، وهو ما قد يعد سببًا آخر وراء فشل الاتصال الجنسي.
انفصلت سعادين العالم القديم عن القردة منذ حوالي ٢٥ مليون عام، لكن النوعين تعايشا جنبًا إلى جنب في بيئات الغابات الأفريقية نفسها. وفي خضم التنافس على الموارد عانت القردة ضعفًا في التنوع؛ إذ لم يكن باستطاعتها مواكبة السعادين ذات الضروس الحادة والقنوات الهضمية المتخصصة التي منحتها نطاقًا أوسع من النظام الغذائي، ففي المناخ البارد المتغير الذي ميَّز حقبة الميوسين من منتصفها وحتى آخرها؛ منذ حوالي ١٠ إلى ١٥ مليون عام، كانت القدرة على استغلال موارد غذائية جديدة ميزة قاطعة.
عاش الشمبانزي على الفاكهة في الغابات المدارية لملايين الأعوام، وتطور إلى عدد من الأنواع كالغوريلا التي تتغذى على النباتات وأشباه الإنسان التي تحركت في الغابات الأكثر جفافًا والسهول التي امتدت بين الغابات. واصل البشر والشمبانزي الانحراف بعضهم عن بعض انطلاقًا من نقطة التفرع التي وقعت منذ ٥ ملايين عام أو نحو ذلك. وبين حشائش السافانا المتناثرة طَوَّرَ البشر الحركة على طرفين لقطع مسافات أكبر، وهذا منحهم فرصة الوصول إلى أنواع أكثر من الغذاء، وسرعان ما انتشر البشر عبر قطاعات كبيرة من جنوب القارة الأفريقية.
وفي إطار الصورة الكبيرة طغى التواضع على التغيرات الوراثية الجينية على مدار المائة والخمسين ألف عام الماضية. ولو جلبنا شخصًا من ذلك الوقت ثم أخذ حمامًا وحلق ذقنه وارتدى ملابسه ثم دُفع به إلى منزلك أو مكان عملك، فلن يبدو شكله مستغربًا. فقط لا تدخل معه في عراك على ركوب إحدى سيارات الأجرة.
(١-٥) نهاية الخط
إن قيس النجاح في ضوء طول عمر الأنواع وتنوعها فالأبطال الحاليون هم النمل؛ إذ عاش النمل طيلة ١٠٠ مليون عام، ويمثله ٢٠ ألف نوع. وتاريخيًّا، نرفع القبعات إعجابًا لثلاثيات الفصوص التي ضمت ١٧ ألف نوع وتباينت في حجمها من المجهري إلى ما يزيد طوله عن قدم واحدة، وناضلت طيلة ٢٥٠ مليون عام من انفجار الكمبري إلى انقراض العصر البرمي. بل إن الأمونيتات، التي ضمت ١٠ آلاف نوع وتراوحت في حجمها من ملليمترات قليلة إلى ثلاثة أمتار أدت أداءً أفضل؛ إذ بقيت منذ ٤٠٠ مليون عام مضت حتى انقراض العصر الطباشيري الثلاثي. أما البشر فهم حديثو المولد؛ إذ لم يمر على وجودهم سوى مليون عام فقط.
في المتوسط، تبقى أنواع الكائنات والنباتات وحيدة الخلية من ١٠ إلى ٣٠ مليون عام، في حين تبقى أنواع الحشرات عدة ملايين من الأعوام. أما أنواع الثدييات فمتوسط مدة بقائها هو مليون عام. تزايد التنوع الحيوي على نحو كبير منذ «الحدث» الذي شهده العصر البرمي منذ ٢٥٠ مليون عام، وهو ما يعني أن أنواعًا جديدة تظهر أكثر من تلك التي تختفي. إن مهد التنوع الحيوي الحالي هو المناطق المدارية، والسبب في ذلك هو انخفاض معدل تبدل الكائنات في المناطق القريبة من خط الاستواء؛ فالأنواع تظهر بمعدل أقل في المناخ الدافئ، لكنها تختفي أيضًا بمعدل أقل، وهو ما يعني وجود عدد كبير منها في أي وقت بعينه. اكتشف الباحثون حديثًا أن كمية الطاقة المطلوبة لخلق نوع جديد كمية ثابتة.
وفقًا لكل الأدلة نحن نمر حاليًّا بانقراض جماعي سادس أو «موت عظيم»؛ ففي سجل الحفريات وصلت الخسارة السابقة للأنواع إلى حوالي ٣٠ نوعًا سنويًّا، أما طبقًا لتقييم الألفية للنظم البيئية الذي أجرته الأمم المتحدة فقد زاد المعدل الحالي للانقراض بمقدار ١٠٠٠ مرة ليبلغ ٣٠ ألف نوع سنويًّا. لا يزال المعدل المستقبلي المتوقع وفق ما يسير عليه تدمير المواطن الطبيعية والاحترار العالمي أعلى بعشر مرات، وفي ضوء بعض التقديرات قد تكون نسبة ٣٠٪ من النباتات والحيوانات في جميع أنحاء العالم في طريقها للانقراض في غضون مائة عام، لكن على النقيض من كل أحداث الانقراض السابقة، هذا الانقراض يحمل بصماتنا في جميع جوانبه، وهو ما يثير التساؤل: إن تسببنا في كارثة بيئية، فهل سنبقى على قيد الحياة؟
(٢) أسوأ أعداء أنفسنا
(٢-١) التعامل مع مخلفاتنا
تخيل الأرض وهي معلقة في الفضاء، تتدلى كلؤلؤة باهتة في ظلمة الليل، ولا يزيد غلافها الجوي الرفيع في سمكه عن قشرة ثمرة التفاح. الآن ركز انتباهك على الكوكب واستمع إليه وهو يدور وضوء الفجر يمرق عبر سطحه. من شأن شروق الشمس عادةً أن يستحثَّ مجموعة من الأصوات وتطير العصافير عبر الضوء المنتشر بسرعة مئات الأميال في الساعة، لكن في هذا اليوم خيَّم الصمت فحسب على كل شيء.
إنها الصورة الذهنية التي استحضرها كتاب بارز من تأليف راشيل كارسون صدر عام ١٩٦٢ تحت عنوان «الربيع الصامت»، وقد ساعد هذا الكتاب في انطلاق الحركة البيئية. مسَّت دعوتها المدوية ضد الاستخدام غير المقيد للمبيدات وترًا حساسًا، لكنها أوجدت أيضًا رد فعل معاديًا مزعجًا؛ فقد حشدت شركات صناعة المواد الكيميائية جهودها للسخرية منها وتكذيبها، وشرع روبرت وايت ستيفنز، المتحدث الرسمي لتلك الشركات، في التحدث بالنبرة نفسها قائلًا: «إن اتبع البشر تعاليم الآنسة كارسون فسنعود إلى «العصور المظلمة»، وسترث «الحشرات» و«الأمراض» و«الهوام» الأرض مجددًا.» لكن ثبتت صحة ادعاءاتها بالكامل على يد إحدى اللجان الاستشارية الرئاسية، وسرعان ما تبعها إقرار تشريع يشدد من الرقابة على المبيدات الكيميائية. وقد ترسَّخ إحساسنا بالأرض كنظام بيئي هش عام ١٩٦٨ حين أرسلت مركبة الفضاء «أبولو ٨» أول صورة لكوكبنا من بعد ٤٠٠ ألف كيلومتر.
حين كنا مجرد صيادين جامعين للطعام، وعددنا لا يتجاوز ١٠ ملايين شخص، كانت لنا بصمة خفيفة على الكوكب. لم نستهلك إلا ما كنا نحتاجه، ولم نخلِّف سوى مخلفات عضوية قابلة للتحلل، ولم نتسبب في تسريب سوى قدر ضئيل من الحرارة وثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي؛ اعتمدت حياتنا على قدرتنا على سماع نبضات الكوكب والانتباه إليها.
عندما نتخلص من نفاياتنا فإنها لا تتبدد تمامًا، ففي مدفن النفايات تجد بعض السموم طريقها إلى المياه الجوفية، وفي موقد إحراق القمامة تفر بعض السموم إلى الهواء. ومع أن وكالة حماية البيئة الأمريكية تتابع ١٣٠٠ موقع من أسوأ مواقع تجميع المخلفات السامة، فإن التمويل الضخم المخصص لعمليات التنظيف نفد منذ سنوات على الرغم من أن التشريع الأصلي يقضي بأن يتحمل الملوِّث النفقات. وفي مواقع المخلفات النووية البالغ عددها ١٢٠ موقعًا والممتدة في أنحاء البلاد، تُعد مشكلة احتواء التلوث مشكلة ضخمة؛ فهناك ٢٤٥ مليون طن متري من نفايات المناجم المتخلفة عن استخلاص اليورانيوم، و٤٥ ألف طن متري من الوقود المستهلك عالي الإشعاعية الصادر من المفاعلات القائمة لخدمة أغراض دفاعية وتجارية، وأكثر من ٣٤٠ مليون لتر من النفايات عالية المستوى التي تخلفها معالجة البلوتونيوم. لم يكن جبل يوكا في نيفادا مستعدًّا قط للتعامل مع هذه الكمية من المخلفات.
ديفرا ديفيز عالمة متخصصة في الأوبئة، وقد عملت مستشارة لمنظمة الصحة العالمية ونصحت كل الرؤساء الأمريكيين منذ جيمي كارتر بشأن سياسة الصحة العامة، وقد لاقت نقدًا من ذوي المصالح الشخصية مثلما كان الحال مع راشيل كارسون من قبل، وذلك عندما أوضحت الطرق العديدة التي يتفوق بها دافع الربح على المصلحة العامة متى تعلق الأمر بمخاطر من الممكن تجنبها. كانت طفلة رضيعة حين تسللت سحب الضباب والدخان السام الصادر عن أحد مصانع صهر الزنك المحلية إلى بلدة دونورا في بنسلفانيا، لتسفر عن مقتل ٢٠ شخصًا وإصابة نصف سكان البلدة تقريبًا بالأمراض. حفز هذا الحادث على صدور قانون الهواء النظيف لعام ١٩٧٠.
توضح ديفرا ديفيز أننا نتجاهل عن طيب خاطر أو نستسلم لتطمينات زائفة بشأن الخصائص المسرطنة للمكونات التي تدخل في تصنيع المشروبات الغازية ومستحضرات التجميل والعقاقير التي تُصرف دون وصفة طبية. في الولايات المتحدة يتعرض رجل واحد من بين رجلين وسيدة واحدة من بين ثلاث سيدات للإصابة بالسرطان، وبهذا لا يعد السرطان قاتلًا فرديًّا وإنما قاتلًا جماعيًّا. وسيعتمد طول العمر، خصوصًا في الدول النامية، بصورة متزايدة على التمتع بالذكاء فيما يتعلق بالمخلفات. كل ما عليك هو أن تسأل رائدًا بإحدى مركبات الفضاء أبولو عما يحدث حين تتلوث بذلة الفضاء.
(٢-٢) عناق دافئ
يحتل التغير المناخي صدارة المشكلات التي نواجهها، فعلى مدار العقد الماضي صار جليًّا بما لا يدع مجالًا للشك أن النشاط البشري يتسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب، والأسباب الرئيسية هي الإفراط في استخدام الوقود الحفري والتنمية الاقتصادية التي تؤدي إلى إزالة الغابات. حاز تقرير اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ الصادر عام ٢٠٠٧ تصديق ٣٠ جمعية من الجمعيات العلمية المرموقة، والقلة القليلة الباقية التي ترفض ذلك تعجز عن الصمود في وجه الأدلة القوية والإجماع العلمي غير المسبوق.
قياسًا بحرب نووية، أو حتى الشتاء النووي الناجم عنها، يعد الاحترار العالمي مشكلةً خطيرةً، بيد أنه ليس أزمة حقيقية للأنواع. تسرد مجموعة العمل القائمة على إعداد التقرير الدولي المعني بتغير المناخ قائمة بالتأثيرات: ستزداد المناطق الرطبة رطوبة، وستزداد المناطق الجافة جفافًا، وسيزداد الطقس تطرفًا في كل مكان. سيصير الجفاف والفيضانات أكثر شيوعًا، وستتمدد العديد من النظم البيئية وصولًا إلى نقطة الانفجار. ومن المتوقع أن تسجل عملية إزالة الكربون من قبل النظم الحية أعلى معدلاتها في منتصف القرن ثم تنخفض؛ الأمر الذي سيزيد من التغير المناخي.
مبدئيًّا سيكون هناك فائزون وخاسرون. إن كنت تعيش في مدينة بانجور أو مينسك فلن تشكو حين يزداد الشتاء دفئًا بمقدار درجات قليلة، لكن من بين أوائل الخاسرين جراء الجفاف وفقد المحاصيل التقليدية تلك البلدان الفقيرة في أفريقيا وآسيا التي تعجز عن مجابهة معيقات النمو هذه. وبحلول عام ٢٠٥٠ يُتوقع أن تتعرض كل البلدان تقريبًا للآثار الضارة للاحترار العالمي.
لست أسعى هنا إلى أن أبدو محدود الأفق أو إلى التقليل من شأن تأثيرات الاحترار العالمي، لكن إليك بتأثيره على الأشياء التي ربما تكون قريبة ومحببة إلى قلبك. استعد لأن تفطم نفسك عن تناول سرطان البحر والسلمون؛ إذ ستصبح نادرة في المحيطات الدافئة. لن تشرب النبيذ الفرنسي أو النبيذ الأحمر مع تلك الوجبات؛ إذ ستنتقل ثمار العنب إلى مكان آخر، ستصير مضارب البيسبول التقليدية نادرة الوجود، وسيكون الحال كذلك مع أشجار الكريسماس، ستفقد جداول السمك الطائر ومنتجعات التزلق سبب جذبها للزبائن. المكان الوحيد الذي سترى فيه الدببة القطبية وثعالب القطب الشمالي وحيوانات الكوالا هو حدائق الحيوانات.
على الجانب الآخر سيزيد الاحترار من قوة أشياء قد تضر بنا؛ فالهندباء البرية المزهرة ستدمر مروجك وتتسبب في التهاب شديد بالجلد، وستصاحبها زيادة في حشرات القرادة التي تتسبب في داء لايم وستفسد تنقلك في الغابات، ستغزو قناديل البحر بلسعاتها المؤلمة المزيد من الشواطئ، سيزداد العفن وعشب الرجيد في ظل توافر ذلك الكم الإضافي من ثاني أكسيد الكربون، وبالمثل سيزيد مرض الربو وأنواع الحساسية التي تثيرها البيئة. وقد رأينا بالفعل الكوليرا وهي تداهم أمريكا الجنوبية، والملاريا وهي تهاجم موسكو، وفيروس غرب النيل وهو يودي بحياة أشخاص في كندا. سيتواصل ظهور المرض وانتشاره مع اتساع نطاق حركة البعوض والفئران والقراد والجرذان وغيرها من النواقل.
(٢-٣) حريق في السماء
يتميز وجه تلك الساعة بالبساطة والنمطية، ولست بحاجة للنظر إلا إلى ربعها فقط؛ لأنه خلال الستين عامًا الماضية ظل العقربان أسيري هذه المنطقة. إنها «ساعة يوم القيامة» التي ظهرت في مجلة باسم «نشرة علماء الذرَّة»، وهي الصورة الرمزية للعصر النووي.
حين استنتج أينشتاين منذ قرن مضى معادلته التي تضاهيه شهرة — الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء — أدرك أنها أطلقت العنان لاحتمالات مروعة، وأيضًا لفرص مذهلة، فالأسلحة النووية تطلق الطاقة بقوة تزيد بملايين المرات عن الطاقة الكيميائية المسببة لكل أنواع الانفجارات الأخرى. وفي خضم الحرب الباردة، وبعد تصاعد جهود الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة لتطوير الأسلحة بدءًا من القنبلة الذرية الانشطارية إلى القنبلة الهيدروجينة الاندماجية، تحرك عقرب ساعة يوم القيامة للأمام ليسجل الساعة الثانية عشرة إلا دقيقتين؛ أي قيد شعرة من المحرقة النووية. هدأت أجواء التوتر بتوقيع معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية عام ١٩٦٣، ومعاهدة الحد من الصواريخ الباليستية عام ١٩٧٢، لكن بحلول عام ١٩٨٤ توقف الزمن عند الثانية عشرة إلا ثلاث دقائق، فقد توقف الحوار بين القوتين العظميين وكدست الاثنتان عددًا مذهلًا من الأسلحة النووية بلغ ٧٠ ألف سلاح.
منذ نهاية الحرب الباردة كان تهديد الدمار النووي العالمي بعيدًا عن أذهان الناس. عادت عقارب ساعة يوم القيامة إلى الوراء لتسجل الثانية عشرة إلا ١٧ دقيقة عام ١٩٩١ مع سقوط سور برلين والتقليص الشديد لترسانات الأسلحة الاستراتيجية لكلا الخصمين الأيديولوجيين، لكن عقرب الساعة اقترب أكثر من منتصف الليل في العقد الماضي مجددًا، وفي عام ٢٠٠٧ تحرك عقرب الساعة حتى بات على بعد خمس دقائق من منتصف الليل الرمزي المجازي. لماذا؟
تحريك ساعة يوم القيامة لا يحدث بسهولة؛ إذ يتشاور مجلس إدارة مجلة «نشرة علماء الذرَّة» مع مجموعة استشارية تضم مجموعة من صناع السياسات البارزين و١٨ من الفائزين بجائزة نوبل. تحدث ستيفن هوكينج، أحد رعاة مجلس الإدارة، في بيان صحفي نشر عام ٢٠٠٧ قائلًا: «كمواطنين في هذا العالم، علينا واجب تنبيه العامة للمخاطر غير الضرورية التي نعيش معها كل يوم، والأخطار التي نتنبأ بوقوعها إن لم تتخذ الحكومات والمجتمعات الآن التدابير الهادفة للخلاص من الأسلحة النووية.» ومع أن المخزون الاحتياطي الأمريكي قلَّ عن أعلى مستوى تاريخي وصل إليه مقدار عشر مرات، فإنه لا يزال يعادل ١٤٠ ألف قنبلة هيروشيما، أو ١٫٨ تريليون كيلوجرام من مادة التي إن تي.
من الصعب قياس خسائر الأرواح التي ستنجم عن حرب نووية واسعة النطاق، لكنها ستكون عشرات أو ربما مئات الملايين من البشر. قد تستطيع الإنسانية البقاء على قيد الحياة بعد القنابل والإشعاع الذي تخلفه، لكن الفوضى وانعدام الاستقرار الناتجَين عنها قد يدفعان الحضارة إلى النهاية. وحتى لو رأينا أن وقوع حرب نووية واسعة أمر غير محتمل بقوة فقد يكون للعدد المتزايد من الصراعات الإقليمية المحدودة، والمحتمل وقوعها على نحو كبير، آثار مدمرة بسبب الظاهرة المسماة بالشتاء النووي.
كانت الأبحاث الأولى المتعلقة بالشتاء النووي مثيرة للجدل، وفي بعض الجوانب كانت التأثيرات المتوقعة مبالغًا فيها بسبب قصور المحاكاة الحاسوبية في تلك الأيام، أما الأبحاث التي جرت حديثًا فتعيد تمثيل التهديد بطريقة متزنة؛ فقد توصلت إحدى الدراسات التي قُدمت في الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي عام ٢٠٠٦ إلى أن نزاعًا نوويًّا إقليميًّا صغيرًا يمكن أن يسفر عن عدد من القتلى يساوي ضحايا الحرب العالمية الثانية، وإطلاق قدر من السخام في الغلاف الجوي يكفي لخفض الحرارة بمناطق زراعة الحبوب في العالم بمقدار عدة درجات؛ بما يخلِّف أثرًا «مدمرًا» على الإنتاج الغذائي. وعام ٢٠٠٨ نشرت مجلة «بروسيدنجز أوف ذي ناشيونال أكاديمي أوف ساينسز» دراسةً أخرى قدمت سيناريو مماثلًا، وتوصلت إلى أثر إضافي تمثَّل في فقد نسبة ٥٠٪ من غطاء الأوزون في المناطق الشمالية.
افترضت كلتا الدراستين أن البلدين المتناحرين هما من بلدان الجنوب، ويملك الواحد منهما ٥٠ رأسًا نوويًّا. لم يُشِر إلى البلدين بالاسم، لكن تشير التقديرات إلى امتلاك كل من الهند وباكستان ما يقدَّر بنحو ٧٠ إلى ٨٠ رأسًا نوويًّا، وقد دخلت الدولتان في ثلاثة نزاعات كبرى على مدار الأعوام الستين الماضية. بالنظر إلى الصورة الأكبر يمكننا أن نأمل في أن يخرج الجنس البشري من مرحلة المراهقة المحفوفة بالمشكلات التي قد نندفع فيها إلى تدمير أنفسنا، وأن ندرك المخاطر المحيقة بنا، وتحديدًا الخطر النووي.
(٢-٤) إرهاب بيولوجي
يرجع الإرهاب البيولوجي إلى العصر الروماني، حين كانت الحيوانات الميتة أو المتعفنة تُلقى في الآبار لتسميم إمدادات المياه. وفي العصور الوسطى، وصل الأمر ببعض الجيوش إلى حد استخدام وباء الطاعون الدبلي لمحاصرة المدن، لكن كثيرًا ما كان المعتدون يفقدون السيطرة على أسلحتهم. وقد استُخدم غاز الخردل من الجانبين في الحرب العالمية الأولى، وحفز الغضب من استخدامه صدور بروتوكول جنيف لعام ١٩٢٥. وقع عدد كبير من البلدان وصل إلى ١٨٥ دولة اتفاقية تالية باسم «اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية»، لكن قد يتخوف البعض من البلدان التي لم توقع عليها مثل أنجولا ومصر والعراق وكوريا الشمالية والصومال وسوريا. استخدم الأسلحة البيولوجية عدد هائل من البلدان أثناء الحروب وضد مواطنيها أحيانًا. ويُخزن حوالي ٤٠ ألف طن متري من الأسلحة الكيميائية في مئات المواقع الآمنة، وشبه الآمنة، في العالم.
في نظر العامة، يرتبط الإرهاب البيولوجي بالحادثتين الوحيدتين اللتين مات فيهما مدنيون على أيدي مدنيين. ففي عام ١٩٩٥، أطلقت جماعة إرهابية يطلق عليها اسم أوم شنريكيو غاز السارين السام في محطة قطارات طوكيو للأنفاق؛ مما أدى إلى وفاة ١٢ شخصًا وإصابة أكثر من ٥ آلاف شخص. وفي عام ٢٠٠١، أُرسلت خطابات تحتوي على جراثيم الجمرة الخبيثة إلى أماكن مستهدفة في واشنطن العاصمة لتؤدي إلى مقتل ٥ أشخاص وإصابة ١٧ شخصًا آخر. هذه الخطابات المحتوية على الجمرة الخبيثة كانت مرسلة على ما يبدو من عالم متخصص في الأبحاث الحكومية في مجال الدفاع ضد الأسلحة البيولوجية يدعى بروس إيفنز، الذي انتحر على خلفية هذا الاتهام.
الأسلحة البيولوجية لها ثلاث فئات: غازات الأعصاب، كغاز السارين، وهي تركيبات صناعية تهاجم الجهاز العصبي عن طريق إعاقة آلية تكسير النواقل العصبية التي تسبب استرخاء العضلات. يمكن أن تسبب غازات الأعصاب تلفًا للجهاز العصبي والوفاة، لكنها ليست معدية. تشمل العناصر البيولوجية أشياء متنوعة كالبريونات والفطريات والطفيليات لكن النوعين الشائعين هما الفيروسات؛ كالمسببة للحمى الصفراء وحمى الضنك وحمى إيبولا والجدري، والبكتيريا؛ كالمسببة لمرض الجمرة الخبيثة والطاعون والكوليرا والتسمم الغذائي. ويُحكَم على فعالية السلاح البيولوجي من قوة فتكه وطريقة انتقاله، وتعد العناصر التي يمكن أن تنتشر عن طريق الملامسة أو عن طريق الهواء الأكثر إثارة للقلق؛ خصوصًا إن كان لها فترة كمون تمتد لأيام، وفي هذه الحالة سينتقل المرض لآخرين قبل أن يمكن التعرف عليه.
وسائل الدفاع التي نمتلكها تجاه هذه الكائنات المسببة للمرض قليلة. فمسببات الحمى النزفية الفيروسية كالإيبولا وماربورج مهلكة بنسبة تتراوح من ٣٠ إلى ٨٠٪، وما من علاج فعال لها. هناك لقاحات معدة من أجل الجمرة الخبيثة والتسمم الغذائي والطاعون والعوامل البكتيرية الأخرى، لكنها ليست متاحة للعامة، ولا يمكن إرسالها بكميات كافية للمكان الذي تمت مهاجمته. إن شبح الإرهاب البيولوجي يرتكز على العوامل المعدلة وراثيًّا، التي لا تتوافر لقاحات لعلاجها.
لإدراك حجم المشكلة، دعنا نلقِ نظرة سريعة على برنامج الأسلحة البيولوجية السوفييتي. استخدم السوفييت عاملًا بكتيريًّا يسمى التولارمية أثناء معركة ستالينجراد التي شنوها عام ١٩٤٤ ضد القوات الألمانية؛ مما أسفر عن إصابة أكثر من ١٠٠ ألف شخص. واصل السوفييت تطوير الأسلحة البيولوجية وإنتاجها على نطاق واسع حتى بعد توقيع اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية عام ١٩٧٢. أيضًا تسربت جراثيم الجمرة الخبيثة بالخطأ قرب مدينة سفيردلوفسك عام ١٩٧٩؛ فأسفرت عن مقتل ١٠٠ شخص على الأقل، لكن لا يعلم أحد الحصيلة النهائية الدقيقة للموتى؛ لأن المخابرات السوفييتية دمرت جميع الأدلة والسجلات. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين أنشأ السوفييت وكالة «بيوبارات» التي ضمت شبكة واسعة من المختبرات السرية بلغ عددها ٢٠ مختبرًا، ركز كل واحد منها على عامل قتل مختلف؛ يعمل بها ٣٠ ألف موظف من بينهم آلاف العلماء الحاصلين على الدكتوراه. تضاءل الاهتمام مع سقوط الاتحاد السوفييتي، لكنه لا يزال جوهريًّا. والحكومات الغربية ليس لديها أي فكرة عما يدور في تلك المختبرات التي لا تزال سرية.
ما لدينا من معلومات قليلة مقلق بما يكفي، فطيلة ٢٠ عامًا كان سيرجي بوبوف واحدًا من كبار العلماء في إحدى المنشآت البحثية في سيبيريا، التي عملت على الكائنات الممرضة المعدلة جينيًّا. وفي مختبر بروجيكت بونفاير ساعد بوبوف في تخليق بكتيريا طاعونية مقاومِة لعدد من المضادات الحيوية المختلفة بلغ عددها ١٠ مضادات، وعدَّل من خصائص الجمرة الخبيثة لكي تقاوم «جميع» اللقاحات. وفي برنامج هانتر المفزع للغاية جرى جمع الجينومات الكاملة للفيروسات من أجل إنتاج فيروسات مهجنة غير قابلة للعلاج. وحين أُجريت مقابلة مع سيرجي بوبوف في حلقة خاصة من البرنامج التليفزيوني «نوفا» عام ٢٠٠١ قال: «تخيل عاملًا بكتيريًّا يكمن فيروس داخل خلاياه. يبقى الفيروس ساكنًا حتى تُعالج الخلايا البكتيرية. ومن ثم، إن جرى التعرف على المرض البكتيري وعولج بأحد المضادات الحيوية يتحرر الفيروس. عندئذ، وبعد علاج المرض البكتيري الأوَّلي تمامًا، قد يحدث تفشي لمرض فيروسي. قد يكون التهاب المخ والنخاع أو الجدري أو الإيبولا. كانت تلك الفيروسات مدرجة في قائمة العوامل المحتملة.»
حتى إن كنا لا نثق في نوايا الروس، تبدو احتمالية أن تكون الإنسانية في خطر مستبعدة، لكن التطورات التي شهدتها الهندسة الوراثية جذابة؛ فما أُنجز في الماضي على يد الروس بجهد كبير وتكلفة هائلة يمكن الآن تحقيقه بواسطة آلة تسلسل جيني تُشترى مستعملة من موقع إيباي مع الاستعانة بمادة بيولوجية غير خاضعة لأي ضوابط تصل في طرد مرسل عبر شركة فيديكس.
حتى لو وضعنا نهاية للتهديدات التي من صنع الإنسان، فالتطور لا يقف ساكنًا، وقد نتعثر في طريقنا بسبب شيء لا نوليه اهتمامنا. في افتتاحية هذا الفصل قابلنا بروتينًا صغيرًا مشوهًا يظهر بصورة طبيعية ولديه القدرة على إحداث التآكل في نسيج المخ وإقحام الضحية في حالة متدهورة من الارتجاف والجنون. يحقق هذا البروتين ذلك عن طريق حث البروتينات الطبيعية في الكائن المضيف على اتخاذ وضع الخلل الوظيفي. ويجب أن نكون شاكرين لانحصار احتمالات الإصابة بهذا المرض في شخص واحد من بين كل مليون شخص؛ لأن استراتيجية البريون فعالة ونمط انتشارها مهلك، فنحن نقاتل شيئًا لا يتصف حتى بأنه حي طبقًا لتعريف علم الأحياء؛ فجزيئات البريون لن يكون لها وجود لو حدث أن قتلت كل مضيفيها، لكنها ببساطة لا تأبه بهذا.
لقد أوجد الإرهاب البيولوجي والمحرقة النووية أنماطًا فرعية من فكر النهاية المشئومة. وإن كنت تبحث عن تعويض يخفف عليك وطأة ما سبق، فتدبر جميع سيناريوهات «نهاية العالم» التي تملأ وسائل الإعلام الجماهيرية طوال الوقت. أحدث هذه السيناريوهات يلمح إلى أن الأرض ستشوى بفعل الانفجارات الشمسية، أو سيصطدم بها كوكب يدعى نيبيرو عام ٢٠١٢. ما من مصداقية علمية لهذا التهديد، القائم على القراءة الخاطئة لأساطير شعب المايا. وبدءًا من الخوف من عودة مذنب هالي عام ١٩١٠ وحتى تحريف كلمات نوستراداموس في مشكلة عام ٢٠٠٠، اشتركت هذه الادعاءات في شيء واحد: أنها خاطئة تمامًا. لذا، أقدِّم هذا العرض علنًا لأي شخص أو مجموعة تزعم معرفتها بنهاية العالم: إنني أراهن بكل ما أملك مقابل كل ما يملك على أنه مخطئ. إنه رهان مثالي؛ فإن لم تأتِ نهاية العالم سأكون أكثر ثراءً، وإن أتت فلن يهم من الفائز.