الأخطار التي تهدد المحيط الحيوي
كوكب الأرض كوكب غريب غير مألوف. منطقة الأركان الأربعة بولاية نيومكسيكو مثلًا هي مستنقع يقع على حافة بحر ضحل يمتد جنوبًا عبر ولاية تكساس، وشرقًا إلى ولاية ميسوري. يعج البحر بالحياة: بطاريق ارتفاعها ١٠ أقدام، والأسموصوريات طولها ٤٠ قدمًا، وأسماك قرش. أما اليابسة فهي استوائية خضراء يكسوها شجر الخشب الأحمر والصفصاف والمجنوليا والورود. تتبوأ العظايا الضخمة قمة السلسلة الغذائية، حيث التيرانوصورات هي المفترس المهيمن. ولأول مرة في التاريخ يشيع وجود الطيور، كما الثدييات، التي تظل صغيرة وبدائية. ليس هناك قلنسوات جليدية قطبية، ودرجة حرارة أمريكا الشمالية تزيد ١٥ درجة عنها اليوم.
بمحض الصدفة، يتقاطع مدار الأرض مع مسار كتلة صخرية تماثل المدينة في حجمها، تتحرك بسرعة ٤٠ ألف ميل في الساعة. وفي يوم من الأيام منذ ٦٥ مليون عام حلت كارثة من سماء لا غيم فيها. وبضربة واحدة تفنى معظم الزواحف الكبيرة بفعل قوة الاصطدام أو بفعل الزلازل والأمواج العارمة التي أطلقتها. تموت حياة البحار مع امتلاء الغلاف الجوي بغبار يحجب الشمس، وهو ما يدمر قاعدة السلسلة الغذائية الميكروبية. والمستفيد الرئيسي من المشهد البيئي الذي جرى إخلاؤه حديثًا هو الثدييات الصغيرة.
في عالم تزداد برودته تدريجيًّا وتندر فيه الزواحف، تتنوع الثدييات وتنتشر في جميع أنحاء القارات. من بين ١٠ عائلات من الثدييات كانت موجودة قبل الاصطدام تنقرض ٥ عائلات، لكن تلك الباقية تزداد لتصبح ٨٠ عائلة تقريبًا في غضون ١٥ مليون عام. هذه الثدييات الجديدة مبهرة كالزواحف التي حلت محلها؛ إذ تضم آكلي النبات الذين يصل ارتفاعهم إلى ٢٠ قدمًا، والقطط سيفية الأسنان التي تماثل الأفيال المعاصرة حجمًا. ومنذ ٦ ملايين عام تظهر قردة الأشجار في أرجاء ثلاث قارات. لم تشهد أي سلالة حيوانية أخرى مثل تلك الزيادة الكبيرة في حجم المخ التي أدت إلى وجود البشر منذ مليون عام. يهيمن القرد عديم الشعر، المسمى بالإنسان العاقل، على الكوكب لفترة قصيرة لا تتجاوز آلاف عدة من السنوات، وهو نوع يبدو قادرًا على أن يحمي نفسه من قوة الانتخاب الطبيعي.
لكن ماذا لو أن مرور نجم قريب غيَّر من البيئة الجذبوية للمجموعة الشمسية بدرجة تسمح بأن تُبحر الصخرة الهائلة بعيدًا في سلام منذ ٦٥ مليون عام؟ نتصور أن يمضي الأمر على النحو الآتي: تستمر هيمنة الديناصورات المتنوعة لأكثر من ١٥٠ مليون عام. تواصل الثدييات الاختباء كفئران الذباب في عالم تحكمه الزواحف، أما القردة والرئيسيات والبشر فلن يتطوروا أبدًا، ويسير التطور صعودًا وهبوطًا دون حدث مميز.
ماذا لو أننا لا نعيد كتابة التاريخ، وماذا لو علمنا أن كويكبًا سيضرب الأرض بعد سنوات قليلة؟ قد يكون حدثًا قاسيًا غير متوقع إن عجزت التكنولوجيا الناشئة التي نتسلح بها عن درء هذه الكارثة، في الوقت الذي تسمح فيه لنا برؤية نهاية أنواعنا دون أن نكون قادرين على الحيلولة دونها. حين يأتي الموت من السماء الصافية ليبدأ فصل جديد في التاريخ ستفنى أنواع عدة، لكن نوعًا واحدًا فقط هو الذي سيستشعر الخسارة على نحو قاسٍ.
***
(١) مطر صلب
(١-١) الحطام الفضائي
تخيل أنك موجود في الفضاء في منتصف المسافة بين الأرض والقمر. حين تطل بناظريك في الاتجاه الذي أتيت منه سترى كوكبك الأم؛ تلك النقطة الزرقاء الباهتة. إن جماله الرقيق وسط ظلمة الفضاء يمنحك مشهدًا لا يُنسى. ستعيش أيضًا حالة من السكون التام؛ إذ تكاد المجموعة الشمسية أن تكون خالية تمامًا.
لكن بالنظر تجاه القمر ستلاحظ سطحه الذي تكسوه علامات تماثل آثار مرض الجدري؛ ففوهات البراكين، الكبيرة منها والصغيرة، تغطي سطحه، وهي عديدة للغاية، حتى إن هناك فوهات داخل فوهات. يبدو القمر كالمرآة، ونحن قريبون منه للغاية، حتى إن رحلته في أرجاء المجموعة الشمسية تماثل رحلتنا. إذا كان القمر قد تعرَّض لكمية من الحطام كافية لأن تملأه بفوهات البراكين، فمن المؤكد أننا مررنا بهذا الموقف أيضًا. يمثل القمر سجلًّا رائعًا للماضي؛ لأنه لا يملك غلافًا جويًّا، علاوة على أنه صغير للغاية بما لا يسمح له بأن يتمتع بحالة جيولوجية نشطة. لقد تسبب التآكل والتجوية وتكتونيات الصفائح في نسيان هذا التاريخ العنيف الذي مر به كوكبنا.
ترد معظم المخلفات الفضائية من حزام الكويكبات، وهو طوق الحطام الصخري الواقع بين مدارَي كوكبَي المريخ والمشتري، ويمثل كوكبًا لم ينجح في الاكتمال. قد تنهار الكويكبات أو تصطدم أو يتفاعل بعضها مع بعض بفعل الجاذبية، وأي من هذه العمليات ترسل حطامًا صغيرًا إلى المسارات الداخلية التي قد تتقاطع مع مدار الأرض. يتكون جزء قليل من المخلفات الفضائية التي تصطدم بالأرض من المذنبات أو حطامها، وعادة ما تكون الارتطامات التي تحدثها المذنبات مدمرة للغاية؛ لأنها تتحرك بسرعة تصل إلى ٥٠ كيلومترًا في الثانية (١٠٠ ألف ميل في الساعة) مقارنة بسرعة الكويكبات التي تتراوح من ١٠ إلى ٢٠ كيلومترًا في الثانية (٢٠ إلى ٤٠ ألف ميل في الساعة).
إليك معلومات إضافية عن المصطلحات الفنية المستخدمة في هذا الصدد. إن كان قُطر الحطام الفضائي أصغر من قُطر خصلة الشعر فهو غبار كوكبي، وإن كان أكبر من خصلة الشعر لكنه أصغر من الحافلة في الحجم، يسمى بالنيزك. إن كان أكبر من الحافلة، يُعرف بالكويكب (ما لم يكن مذنَّبًا). يُطلق على المسار المرئي للنيزك الذي يدخل الغلاف الجوي للأرض اسم الشهاب الساقط، وتُعرف النيازك التي تصطدم بسطح الأرض باسم الأحجار النيزكية. والعدد المتدفق من النيازك يُطلق عليه اسم وابل النيازك. الكرة النارية هي نيزك أكثر سطوعًا من المتوسط، كما يرصدها عالم الفلك، لكن إن رصدها عالم الجيولوجيا تُعرف باسم الشهاب المتفجر. ترد المادة النيزكية الأكثر بدائية من الكواكب المصغرة، ويُطلق على الأحجار النيزكية التي تحتوي على كرات صخرية متناهية الصغر اسم الأحجار الكروية (وهي أربعة أنواع، لا تسألني عنها)، أما الأحجار النيزكية التي لا تحتوي على تلك الكرات فتُعرف باسم الأحجار اللاكروية. هناك أيضًا أحجار نيزكية حديدية — يُطلق عليها اسم الأحجار الحديدية — بالإضافة إلى أكثر من عشرين حجرًا نيزكيًّا واردًا من القمر أو المريخ. وجدير بالذكر أن علماء الفلك شديدو العناية بكل هذه الفروق، سيكون هناك امتحان فيما بعد.
يبدو مفهوم الحطام الفضائي مجردًا للغاية ومقصورًا فهمه على فئة بعينها، بيد أنه حقيقي تمامًا. حوالي مائة طن من الأمطار تنهمر على الأرض يوميًّا، ولحسن الحظ أن معظم الحطام الفضائي صغير للغاية. يمكنك أن تشارك في متعة جمعه؛ كل ما تحتاج إليه هو دلو ومغناطيس ومجهر؛ فالأحجار النيزكية الصغيرة تتساقط على منازلنا (وعلينا) طوال الوقت. ضع الدلو أسفل مزراب للمطر وانتظر إلى أن تنجرف الأتربة الفضائية من فوق سطح منزلك بفعل المطر. أَزِل كل الأغصان الصغيرة وأوراق الأشجار، ثم افرد باقي المحتويات على لوح بلاستيكي شفاف. عن طريق تمرير مغناطيس نيوديميوم قوي فوق البلاستيك، سوف تجتذب الجسيمات المغناطيسية إلى المغناطيس. انظر إليها مستعينًا بمجهر، ستجد أن الأحجار النيزكية الصغيرة ضئيلة الحجم ومستديرة وذات تجويفات متناهية الصغر؛ دليل على رحلتها العنيفة خلال الغلاف الجوي.
(١-٢) أسماك المنوة والحيتان
لنبدأ بالحد الأدنى كثير التكرار لكن الضعيف على نحو مطمئن. كل ساعة تقريبًا، تصل صخرة قطرها متر واحد إلى أعلى الغلاف الجوي في مكان ما فوق كوكب الأرض. تتبخر كل هذه الأجسام تقريبًا في الطبقة السفلية من الغلاف الجوي، وإن كنت تعيش قرب سماء مظلمة فربما شاهدت عددًا قليلًا من هذه الأجسام كشهب. أيضًا تصل صخور قطرها خمسة أمتار حوالي مرة كل شهر وتطلق طاقة مساوية للقنبلة الذرية التي ألقيت على ناجازاكي، وذلك حين تنفجر في الطبقة العلوية من الغلاف الجوي. ليست العامة على علم بهذه الانفجارات، لكن كانت القوات الجوية الأمريكية تتبعها بالأقمار الصناعية التي جرى نشرها لرصد انتهاكات الحظر المفروض على تجارب الأسلحة النووية. وتكشف الوثائق التي تجاوزت فترة سريتها عن وقوع ١٣٦ انفجارًا جويًّا بين عامي ١٩٧٥ و١٩٩٢، وهو ما يتوافق مع التوقعات الفلكية. وقبل أن يعلم الجيش أن هذه الأحداث كونية كان هناك خطر أن يلقوا بمسئوليتها على الروس؛ الأمر الذي كان سيعود بعواقب كارثية.
في ٣٠ يونيو عام ١٩٠٨ دُمرت منطقة نائية في سيبيريا إثر انفجار هائل وصل ارتفاعه إلى ثمانية كيلومترات فوق سطح الأرض. أمسكت ألسنة اللهب بالغابة المجاورة، وسوت ٨٠ مليون شجرة تمتد على مساحة أكثر من ٢٦٠٠ كيلومتر مربع بالأرض، وسجلت مقاييس الزلازل الحدث في لندن. كان هذا انفجار تونجوسكا؛ المساوي في قوته لأكبر اختبار نووي أُجري على الإطلاق؛ القنبلة كاسل برافو. بلغت قوة الانفجار تسعة ملايين طن متري من مادة تي إن تي العتيقة. وصل قطر الجسم الذي ضرب الأرض حوالي ٣٠ مترًا، ومثل هذه الأجسام نادرة فهي لا تصطدم بالأرض إلا مرة واحدة كل قرن فحسب. لقد حالفنا الحظ من الناحيتين: الزمان والمكان؛ إذ إنه لو وقع هذا الحدث في مكان آخر فلربما تسبب في قتل الكثيرين، وإن وقع في المكان نفسه بعد مرور ٥٠ عامًا في أوج الحرب الباردة … حسنًا، يمكنك أن تتخيل الباقي.
تبلغ فوهة بارينجر الواقعة في شمال أريزونا من العمر ٥٠ ألف عام، لكن يحميها على نحو طيب مناخ الصحراء الجاف. كان الحجر النيزكي الذي خلَّفها مصنوعًا من النيكل والحديد، وضرب الأرض بسرعة ١٣ كيلومتر في الثانية (٣٠ ألف ميل في الساعة)؛ مما منحه قوة تدميرية هائلة. خلَّفت تلك القذيفة التي يبلغ قطرها ٥٠ مترًا فوهةً قطرها ميل واحد. والأجسام بهذه الشاكلة تصطدم بالأرض مرة كل ألف عام، وهو ما يعني أنها خلَّفت ندوبًا في التاريخ البشري. تبعد فوهة بارينجر عن مكان إقامتي بمسافة أقطعها في خمس ساعات من القيادة، ولقد ذهبت إلى هذه الفوهة ووقفت عند مركزها، مندهشًا من كم الصخور الصلبة الهائل الذي اقتلعته القذيفة من مكانه.
كان فريق متعدد المجالات — سُمي باسم مجموعة عمل ارتطامات الهولوسين — قد جمع الأدلة على اصطدام كويكب أو مذنب كبير الحجم بالأرض منذ ٤٥٠٠ إلى ٥٠٠٠ عام في المحيط شرقي مدغشقر. وتشير جميع التشكيلات الرسوبية الوتدية الشكل إلى فوهة يبلغ قطرها ٣٠ كيلومترًا في المحيط الهندي. كان من شأن هذا الارتطام الناجم أن يخلِّف أمواج تسونامي عاتية يصل ارتفاعها إلى ٢٠٠ متر، وتوضح حلقات الأشجار الباقية منذ ذلك الوقت مناخًا باردًا سببه حُجب الأتربة والغبار التي أثارها أحد الارتطامات. إن أعمال التقصي من هذا النوع تثير الجدل بسبب تجزؤ الأدلة وصعوبة استبعاد التفسيرات الأخرى.
بالانتقال إلى الخطر الأكبر يزداد المشهد سرعة ورهبةً؛ إذ تضرب الأرضَ صخرةٌ ضخمة يبلغ قطرها ٢٠٠ متر مرة كل ١٠٠ ألف عام، مُطلِقة طاقة تعادل ٦ آلاف ميجاطن من مادة تي إن تي، وهو مقدار يزيد عن إجمالي حجم الترسانة النووية على مستوى العالم. يبلغ قطر الفوهة المتخلفة عن هذا الارتطام ثمانية كيلومترات، أما الزلزال الذي يحدثه فسيسجل ٧٫١ درجة على مقياس ريختر. سيصل ضرر موجة الانفجار وأجزاء الحطام إلى مسافة ١٦٠ كيلومترًا، وسيكون اصطدامها المباشر بإحدى المدن كافيًا لقتل ملايين الأشخاص. تذكَّر أن كويكبًا يبلغ قطره ٢٠٠ متر هو كويكب معتدل الحجم؛ أما الكويكب الذي يبلغ قطره كيلومترًا واحدًا فيعد الحد الذي يخلف بعده الارتطام آثارًا تطال العالم أجمع.
(١-٣) حين تصير العروض الضوئية مهلكة
يعد تغيُّر وابل الشهب من عام لآخر إشارةً على التوزيع غير المتساوي للحطام بطول مسار المذنَّب. تتكسَّر قطع الحطام مبتعدة عن المذنَّب بفعل تأثير الشمس، وبعضها قد يكون كبيرًا بدرجة كافية لأن يتسبب في وقوع ضرر. في العام العادي، يسجِّل وابل شهب الأسد معدل ذروة معتدلًا يبلغ حوالي ١٠ ومضات ضوئية في الساعة، لكن عام ١٨٣٣ وصف شهود العيان في مدينة بوسطن عاصفة من الشهب الساقطة ذات معدل مشابه لتساقط الكتل الثلجية في عاصفة ثلجية، وفي عام ١٩٦٦ حصر شهود العيان المحليون معدلات تساقط بلغت ١٥٠ ألف ومضة ضوئية في الساعة على مدار فترة دامت ٢٠ دقيقة، وكانت السماء ساطعة بالضوء، حتى إن الناس استيقظوا لظنِّهم أن الشمس قد أشرقت.
لشهب الثور دور خاص في الوعي والثقافة الإنسانية. تَنتُج هذه الشهب — التي كثيرًا ما يطلق عليها اسم كرات الهالوين النارية لحدوثها في أواخر شهر أكتوبر — عن حطام وارد من المذنب «إنكي». هذا المذنب فريد في نوعه؛ لتمتعه بفترة مدارية تبلغ ٤٠ شهرًا فقط. وتشير العمليات الحسابية إلى أنه دخل الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية لأول مرة منذ حوالي ٢٠ ألف عام، ومنذ ذلك الوقت تفكَّك إلى عدة قطع تماثل الكويكبات حجمًا، بالإضافة إلى كم هائل من الحطام كبير الحجم. والمذنَّب «إنكي» أحد بقايا جسم أولي أكبر حجمًا بكثير. ولوابل شهب الثور دورة نشاط تبلغ ذروتها كل ٣ آلاف عام حين يمر كوكب الأرض بالقرب من مركزه.
كثيرًا ما يصعب للغاية إثبات أوجه الارتباط ما بين الظواهر الكونية والأحداث التاريخية، لكن ارتبطت شهب الثور بعدد من الأحداث المحورية في التاريخ الإنساني، آخرها ارتطام تونجوسكا. وقد وصلت ذروتها في زمن المسيح وحين جرى البدء في تشييد ستونهنج. ويعتقد بعض الباحثين أن انقسام المذنَّب الأصلي كبير الحجم أثناء العصر البرونزي تسبب في دمار للهلال الخصيب، وهو ما دعمه دليل عُثر عليه في العراق لفوهة نيزك كبيرة ترجع إلى ذلك الوقت. وربما وجد الحدث سبيله إلى أسطورة جلجامش حين تحدثت آنذاك عن الحكام السبعة للجحيم الذين «رفعوا مصابيحهم وأضاءوا الأرض ببريقها»، وعن عاصفة مخيفة «حوَّلت النهار إلى ليل وهشَّمت الأرض كالكوب.»
لا ندري هل يثير وابل الشهب الخوف والتعجب والتفكير الكارثي أكثر من الوقود أم لا. من السهل تصور أن الظهور المتكرر لوابل الشهب كان أحد العلامات المميزة للحضارة البشرية؛ أي إنه واحد من أولى «ذكرياتنا الشعبية». لكن قد تتعرض الأرض لخطر شديد مع حركتها المدارية المنتظمة إذا مرت بوابل كبير، وربما في عام ما يصير العرض الضوئي مهلكًا.
(٢) إنقاذ الكوكب
(٢-١) النجاة بأعجوبة
شهدت دراسة الحطام الفضائي تقدمًا كبيرًا منذ أبدى توماس جيفرسون رأيه إزاء تقرير أفاد بسقوط صخور من السماء قائلًا: «أسهل عليَّ أن أصدق أن أستاذين جامعيين من الشمال يكذبان عن أن أصدق أن الصخور تتساقط من السماء.» ولكي نوفيه حقه، فقد اقتنع في وقت لاحق بصحة الدليل على ذلك، واستخدم مثال الحجر النيزكي لتأييد قوة المنهج العلمي. إن عدم وجود أسطح لم تشهد أي تغيير يعني أن فوهات البراكين نادرة على سطح كوكب الأرض، بل إنه حتى خمسينيات القرن العشرين ظلت معالم على غرار فوهة بارينجر في شمال أريزونا والعلامات المستديرة على القمر تُعزى إلى النشاط البركاني.
بخلاف الأحداث سيئة السمعة التي دخلت إلى الثقافة الشعبية — مثل جرح فخذ آن هودجز وهي مستلقية على الأريكة في حجرة نومها، وتعرض سيارة ميشيل ناب من طراز شيفروليه ماليبو لاصطدام على بعد بوصات قليلة من خزان الوقود، والادعاء بمقتل كلب مصري بسبب صخرة آتية من المريخ — فهناك مرات نجونا فيها بأعجوبة من الهلاك بالفعل؛ ففي شهر أغسطس عام ١٩٧٢ شاهد الكثير من الأشخاص في جبال روكي الشمالية كرة نارية تتحرك خلال النهار، أطلقها جسم يماثل المنزل في حجمه، طفت على الطبقة العلوية من الغلاف الجوي وانطلقت في الفضاء كصخرة تنطلق من سطح مائي. وفي شهر مايو عام ١٩٩٦ اكْتُشِفَ كويكب قطره ٥٠٠ متر، وبعد أيام قليلة مر هذا الكويكب بكوكب الأرض على مسافة بلغت ٤٥٠ ألف كيلومتر؛ أي حوالي ضعف المسافة بين الأرض والقمر. وفي شهر مارس عام ٢٠٠٤ مر كويكب أصغر حجمًا قطره ٣٠ مترًا على بعد ٤٠ ألف كيلومتر فقط من كوكب الأرض.
يكفي ما بعثته داخلك من شعور بالذعر. أنا لست ميالًا للتفكير الوسواسي، لكن ثمة صورة ذهنية تتسلل إلى عقلي بين الحين والآخر، ومن الصعب عليَّ التخلص منها. بطل رواية «قوس قزح الجاذبية» الشهيرة للكاتب توماس بينشون، عامل خدمة أمريكي يعيش في لندن أثناء الحرب العالمية الثانية، في وقت تتساقط فيه قنابل «ﭬﻲ ٢» الألمانية عشوائيًّا على المدينة. تسيطر على هذا البطل فكرة أن إحدى هذه القنابل، التي تسقط بسرعة تفوق سرعة الصوت، ربما تسقط مباشرةً على رأسه أثناء سيره في الطريق. تلك هي الطريقة التي قد يسقط بها أحد النيازك.
ما الذي ينبغي على الشخص الحريص أن يفعله؟ أولًا، تجنُّب الأماكن المفتوحة. ثمة استراتيجية أخرى جيدة، وهي العمل والعيش في الطوابق السفلية من الأبنية المرتفعة، لكي يواجه قاطنو الطوابق العلوية وحدهم الارتطامات. ليس السفر جوًّا بفكرة طيبة؛ لأنك بذلك ستعلو بكثير عن الغطاء الواقي لكوكب الأرض. لا تخرج من منزلك بعد منتصف الليل حين تجتمع الحركة المدارية للأرض مع دورانها ويزيدان من احتمالات تمكُّن إحدى القذائف من الوصول إلى سطح الأرض. نَمْ وأنت واقف، كأن تضع نفسك في حقيبة معلقة بإحدى خزانات الملابس؛ فهكذا ستكون مساحة المقطع العرضي لك أصغر بكثير. لقد أخطأتْ آن هودجز حين استلقت على الأريكة. وأخيرًا، تخلَّص من هذه الوساوس قبل أن يبدأ أصدقاؤك في القلق بشأنك، فقد توصل عالم الفلك آلان هاريس حسابيًّا إلى أن احتمال الوفاة على إثر أحد الاصطدامات على مدار الحياة يصل إلى شخص واحد من بين ٧٠٠ ألف شخص. من المرجح أكثر أن تموت في هجوم إرهابي، لكنك لا تقلق بشأن ذلك، أليس كذلك؟ حسنًا، هذا مثال سيئ.
كن مطمئنًّا إلى أن علماء الفلك منتبهون للخطر، مع أنهم لن يفيدوك متى تعلق الأمر بالتحديد الدقيق للقذائف الصغيرة. تعمل وكالة ناسا على تمويل عدة فرق عمل لفحص السماوات بتليسكوبات صغيرة، وهدفهم هو تحديد مدارات ٩٠٪ من الأجسام التي يصل قطرها لكيلومتر واحد أو أكبر ولها مدارات قد تتقاطع مع مدار كوكب الأرض. قد يجعلك هذا قلقًا بشأن احتمالية أن تفلت نسبة العشرة بالمائة المتبقية من نطاق ملاحظتهم، أو أن يعجزوا عن العثور على الأجسام التي يصل حجمها لمئات عديدة من الأمتار، لكن الموقع الإلكتروني لوكالة ناسا يبعث الإحساس بالطمأنينة. نظام «سنتري»، بمعنى الحارس، هو النظام الأوتوماتيكي المعني بمراقبة الاصطدامات، وفي ديسمبر عام ٢٠٠٨ بلغت أعلى احتمالية لوقوع الاصطدامات في القائمة الواردة على الموقع ١ إلى ٣٠٠٠ لجسم يبلغ قطره ١٣٠ مترًا. علاوة على ذلك، لا يوجد في هذه اللحظة ما يشكل تهديدًا متوسطًا (باللون الأصفر)، أو أسوأ، على تدريج مقياس «تورينو» الدولي الذي تبناه الباحثون عام ١٩٩٩.
حين اصطدم المذنَّب «شوميكر-ليفي ٩» بكوكب المشتري عام ١٩٩٤، كنا نشاهد الأحداث عن قرب ونحن ممسكون بأكياس الفشار ونشاهد صورًا ملونة لهذا الاصطدام. كان المذنَّب قد تفتت بالفعل بسبب جاذبية كوكب المشتري حين اصطدم بالطبقة العلوية من الغلاف الجوي للكوكب الغازي العملاق. شوهد واحد وعشرون اصطدامًا على مدار ستة أيام، أكبرها سببته قطعة قطرها كيلومتران خلَّفت أثرًا أكبر حجمًا من كوكب الأرض، وأطلقت قدرًا من الطاقة أكبر ﺑ ٦٠٠ ضعف من الترسانات النووية الموجودة في العالم أجمع. وقد غرس هذا الحدث احتمالية وقوع الاصطدامات في الوعي العام.
كانت تسمية المذنب على اسم يوجين شوميكر مستحقة؛ فشهادة الدكتوراه التي حصل عليها عام ١٩٦٠ أظهرت على نحو مقنع حقيقة أن فوهة بارينجر كانت ارتطامًا، وواصل بعدها جهوده لتأسيس علم الجيولوجيا الفلكية. كان شوميكر يأمل في السير على القمر، لكن مرض أديسون الذي ألمَّ به أدى إلى استبعاده من إحدى مهام المركبة «أبولو»؛ لذا اكتفى بتدريب رواد الفضاء. ومن المفارقات القاسية أن الرجل الذي اهتم بالتصادمات طيلة حياته توفي في حادث تصادم سيارتين شمال مدينة أليس سبرنجز في أستراليا. وقد أخذ المسبار الفضائي «لونار بروسبكتر» بعضًا من رماده إلى القمر في إحدى مهامه الفضائية؛ وبهذا يكون هو الشخص الوحيد الذي حظي بشرف الدفن على جرم فلكي آخر.
(٢-٢) الكارثة الكبرى
تُقدم هوليوود فيلمًا جديدًا عن كوارث الفضاء كل عشر سنوات، لكنها عادة لا تكون أروع أفلام هوليوود. في فيلم «حين تصطدم العوالم» الذي عُرض عام ١٩٥١، تعرَّض كوكب الأرض للتهديد من كوكب ونجم، وجسَّد فيلم «النيزك» الذي عرض عام ١٩٧٩ تعاون الروس والأمريكيين في تدمير كويكب قطره خمسة كيلومترات كان متجهًا نحو الأرض. وفي عام ١٩٩٨ لم تكن كوارث الارتطامات موضوع فيلم واحد، وإنما موضوع فيلمين متوسطي الجودة هما: «الارتطام العميق» و«أرماجدون». الفيلم الأول له بعض المزايا، لكن التمثيل الرديء فاق التناول العلمي المتدني في كلا الفيلمين.
لنفترض أن الجرم السماوي يتجه إلى لوس أنجلوس. لا أحمل ضغينة ضد «مدينة الملائكة»، لكن سعيًا وراء التأثير الدرامي، سنشبهها بقرية عمورة في وقتنا المعاصر. افترض أنك تقف فوق أحد التلال في مدينة دالي جنوب سان فرانسيسكو، ناظرًا جهة لوس أنجلوس على بعد ٥٦٣ كيلومترًا. ها هو الشهاب المتفجر الذي يصل قطره إلى ١٠ كيلومترات يندفع عبر السماء بسرعة ٣٠ ميلًا في الثانية. يطلق اصطدامه بالأرض العنان لطاقة مذهلة تعادل ٤٫٥ تريليونات طن متري من مادة تي إن تي. تسوِّي هذه القذيفة مدينة لوس أنجلوس بالأرض على الفور. تتبخر ثلاثة آلاف ميل مكعب من الصخور وتندفع بقوة في الهواء. تبدو الكرة النارية الظاهرة فوق المدينة التي زالت من الوجود أكبر ١٠٠ مرة من حجم الشمس وأكثر سطوعًا ١٠٠٠ مرة من سطوعها. ستمتد الفوهة من أوكسنارد إلى ريفرسايد، وستغطى صهارة الصخور واديا سان برناردينو وسان فيرناندو بعمق يصل إلى ١٦٠٠ متر.
أنت بحاجة إلى أن تكون في غرفة محصنة تحت الأرض في مدينة دالي كي تصمد أمام ما سيحدث بعد ذلك. بعد خمس ثوانٍ على وقوع الاصطدام يصل الإشعاع الحراري، مشعلًا العشب والأشجار ومذيبًا لحوم البشر والطلاء. وبعد دقيقتين يصل الزلزال إلى سان فرانسيسكو بقوة ١٠٫٤ ريختر، وهو بهذا أكبر من أي زلزال مسجل في التاريخ. وحتى على بعد خمس أو ست ساعات بالسيارة، ستعاني العديد من الأبنية أضرارًا تتفاوت من المعتدلة إلى الشديدة.
بعد مرور ست دقائق على وقوع الاصطدام، تصل أجزاء الحطام التي يصل حجمها إلى سنتيمتر واحد بسرعة عالية. وبوصولها جميعًا، سيُغطَّى شمال كاليفورنيا بغطاء من الصخور والرماد يصل سمكه إلى خمسة أمتار. بعد نصف ساعة، تأتي الضربة القاضية على صورة موجة انفجارية. تنتقل الموجة بسرعة مئات الكيلومترات في الثانية، وهي أعلى في صوتها من الصوت المسموع بالصف الأول في إحدى حفلات الروك الموسيقية. تسوي هذه الموجة معظم الأبنية بالأرض، وكذلك الحال مع نسبة ٩٠٪ من جميع الأشجار، وتُحطم الجسور وتلقي بالسيارات والشاحنات في الهواء، كما تتقاذف الريح القش. هل تستمتع بالأمر حتى الآن؟
هذا ارتطام استثنائي غير عادي، لكنه أكبر قليلًا فحسب من ذلك الذي قتل الديناصورات. يحتفظ جاي ميلوش، «مراقب الارتطامات المتشائم»، لزائر موقعه الإلكتروني بالتفاصيل المصورة الأكثر توضيحًا. وعن ذلك يقول بلطف: «كان بإمكاننا رسم صورة أسوأ من هذه، لكن الأمر بدأ يصير مروِّعًا.»
(٢-٣) وما الذي يجب علينا فعله حيال هذا؟
وقع اصطدام مماثل لهذا الذي وصفناه للتو سبع أو ثماني مرات على مدار تاريخ كوكب الأرض. فالكويكبات أو المذنَّبات المهلكة سوف تأتي؛ هذا مؤكد، كل ما نفتقر إلى اليقين بشأنه هو التوقيت، وحتى إن كانت احتمالات قدومها ضعيفة للغاية على مدار الحياة البشرية، فالأمر يستحق وضع خطة على سبيل الاستعداد.
أول خطوة هي الحذر والاكتشاف. ثمة شبكة دولية من التليسكوبات الصغيرة تفحص السماوات كل ليلة بحثًا عن أجرام تتحرك بنمط ثابت بين النجوم. ويكفي إجراء نحو عشر عمليات رصد لتحديد المدار الأوَّلي للجرم ومعرفة هل يتقاطع مع مدار كوكب الأرض أم لا. اكْتُشِفَ أكثر من ٩٠٪ من الكويكبات القريبة من الأرض منذ عام ١٩٩٠، وعُثر على حوالي ٨٠٠ كويكب يزيد في قطره عن الكيلومتر، ويزداد ذلك العدد على نحو بطيء بسبب العثور بالفعل على معظم الكويكبات الكبيرة. يزيد العدد الإجمالي للكويكبات عن ٥ آلاف كويكب، لكن العدد يزداد بسرعة لوجود عدد هائل من الكويكبات الصغيرة. وهذا العمل لا يتطلب سوى تمويل بسيط؛ لأنه لا يستلزم سوى تليسكوبات صغيرة.
من أسباب قلقنا حاجتنا إلى استكشاف المذنبات ذات الفترة المدارية القصيرة في الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية. إن كانت المذنبات متقدمة في العمر فستكون قشورها الثلجية قد انصهرت، ومن ثم لن تسطع كالمذنبات العادية حين تكون قريبة من الشمس. ستمضي في مدارها عبر منطقة كروية الشكل، وهو ما يعني أنه يمكن العثور عليها في أي مكان بالسماء، وذلك على النقيض من الكويكبات التي تكون دومًا قريبة من مستوى مدار الشمس، وهذا يجعل العثور على المذنبات أصعب.
قطعت جهود تصنيف هذا الخطر خطى كبيرة للأمام عام ٢٠٠٨، مع تدشين كلٍّ من «نظام الاستجابة السريعة» و«تليسكوب المسح البانورامي» في هاواي. كل تليسكوب من هذه التليسكوبات الأربعة يحتوي على كاميرا ذات نقاط ضوئية (بكسلات) تزيد بمقدار ٢٠٠ مرة عن الموجودة في الكاميرا الرقمية النموذجية، وهو ما يجعلها قادرة على فحص سماء الليل بأكملها كل أسبوع. وهدف المشروع هو استكمال الإحصاء الرسمي للأجرام القريبة من الأرض التي يزيد قطرها عن كيلومتر واحد، وتصنيف أكبر عدد ممكن من الأجرام التي يزيد قطرها عن ٣٠٠ متر.
الخطوة الثانية هي إجراء العمليات الحسابية. لقد سهَّلت أجهزة الكمبيوتر سريعة الأداء وزهيدة الثمن من أمر إعداد نماذج للمدارات وتقديم التنبؤات المستقبلية بشأنها. يحسب برنامج «سنتري» الذي تستخدمه وكالة ناسا احتمالات وقوع الارتطامات في الأعوام المائة التالية. بعيدًا عن ذلك، تفتقر المدارات إلى اليقين التام بما لا يتيح تنبؤات يمكن الاعتماد عليها. أصيب الكثير من الأشخاص بذعر شديد عام ٢٠٠٤ حين قرءوا أن احتمالية أن نصطدم بالكويكب الضخم «٩٩٩٤٢ أبوفيس» الذي يبلغ قطره ٣٠٠ متر في ١٣ أبريل عام ٢٠٢٩ هي ١ إلى ٣٧. أظهرت عمليات الرصد التالية أنه سيمر بجوار كوكب الأرض في عام ٢٠٢٩ على مسافة عدد قليل من الكيلومترات يبلغ ٢٦ ألف كيلومتر، وذلك ضمن نطاق أقمار الاتصالات الصناعية، وأن احتمالية وقوع الاصطدام في القرن الحادي والعشرين هي ١ إلى ٤٥ ألف.
كثيرًا ما يتراجع مستوى خطورة وقوع الاصطدام بعد جمع قدر أكبر من البيانات. هل هذا إنذار كاذب تصدره وكالة ناسا؟ كلا. تتصف المدارات الأولى بأنها غير مؤكدة المعالم؛ لذا هي «تسمح» بكم أكبر من النتائج من بينها احتمال وقوع اصطدام في المستقبل. ومع وجود كم أكبر من البيانات تصير التنبؤات أكثر دقة، ويكون من المحتمل بدرجة أكبر أن يتبع الكويكب أحد المسارات العديدة التي لا تؤدي إلى تصادم في مقابل اتباعه لمسار واحد من المسارات ضئيلة العدد التي تؤدي إلى التصادم. فيما يتعلق بأي كويكب جرت دراسته بعناية لا تنبع قيود التنبؤ من المدار الذي تم قياسه، بل من الخصائص التي تؤثر على المدار ولا يمكن قياسها بسهولة؛ كالدوران والانعكاسية والأجرام التي ربما تتفاعل معه في المستقبل.
إن ظَلَّ أحد الأجسام في قائمة الخطر مع ازدياد عدد عمليات الرصد، يكون الوقت قد حان للنهوض من مقاعدنا والبدء في فعل شيء ما. هنا ترسم هوليوود صورة مغلوطة عن الأمر تمامًا. بالطبع يبدو ضرب الجرم الفضائي بالأسلحة النووية أمرًا رائعًا، لكن الحطام سيواصل التحرك في المسار نفسه، ويمكن أن يتسبب في ضرر أكبر من الجرم الأصلي.
بعيدًا عن أسلوب رعاة البقر، ثمة العديد من الاستراتيجيات، وبعضها بارع إلى حد ما. في مؤتمر «الدفاع عن الكوكب» الذي أقيم عام ٢٠٠٤، درس أفراد من وكالة ناسا وبعض العاملين بمجال الفضاء البدائل المتاحة. ترأس راستي شويكارت إحدى الجلسات، وهو رائد فضاء سابق تهدف مؤسسة «بي ٦١٢» التي شارك في تأسيسها لاختبار تكنولوجيا إخراج الكويكبات عن مسارها بحلول عام ٢٠١٥. يضم الموقع الإلكتروني لهذه المؤسسة ملخصًا شديد التفصيل لأخطار الارتطامات وسبل تفاديها. يجدر بالموقع أن يضع الشعار «نحن مهتمون، لذا لست بحاجة للقلق». يتطرق شويكارت للارتطامات المدمرة في حديثه قائلًا: «إن لم نَحُل دون وقوع مثل هذا الحدث فمتى يكون لدينا القدرة على ذلك، قد تكون تلك أكبر جريمة في تاريخ البشرية.»
(٣) للحياة خصائص فيروسية
(٣-١) محو الحياة تمامًا من العالم
رأينا أن المحيط الحيوي واسع الانتشار وقوي وقادر على التحمل، فالحياة على كوكب الأرض بدأت في وقت مبكر للغاية، وتشعبت إلى كل مكمن بيئي يمكن تصوره. تمتد آثار الحياة البيولوجية إلى الماضي على نحو متصل لنحو ٤ مليارات عام. وعند التفكير في نهاية المحيط الحيوي يكون السؤال الصحيح هو: ما الذي يتطلبه محو الحياة تمامًا من العالم؟
عانت الحياة البيولوجية صعابًا أخرى خلاف ارتطامات الكويكبات والمذنبات؛ فليس من بين الانقراضات الجماعية سوى انقراض واحد فقط رُبِط على نحو صريح بفوهة بركان ذات عمر وحجم مناسبين. أما عن الانقراضات الجماعية الأخرى فربما نتجت عن حقب زمنية شهدت نشاطًا بركانيًّا كثيفًا. إن انقراض العصر البرمي منذ ٢٥٠ مليون عام — الذي أُطلق عليه اسم «الموت العظيم» لأنه أدى إلى اختفاء ٩٥٪ من الأنواع — حدث على الأرجح بسبب النشاط البركاني المرتبط بانقسام القارة العظمى الأولية، بانجيا. وفي غمضة عين جيولوجية، تغطت منطقة تماثل الولايات المتحدة في مساحتها بطبقة سمكها مئات الأمتار من الحمم، وتبخرت كمية كبيرة من الأكسجين من المحيطات. وكادت التغييرات المزدوجة في النشاط البركاني والخصائص الفيزيائية للغلاف الجوي أن تتسبب مرتين على الأقل في تجمد المحيطات في الكرة الأرضية الثلجية.
قد يسبب ارتطام كويكب في نصف حجم الكويكب السابق — أي يبلغ قطره ٢٠٠ كيلومتر — تبخر المحيطات وإيجاد كميات هائلة من الصخور المنصهرة، لكن آثاره السلبية قد تدوم مدة ٣٠٠ عام فقط. أما عند ارتطام كويكب يبلغ قطره ١٠٠ كيلومتر بالأرض فقد تظل هناك جيوب محيطية عميقة لا تتبخر، ومن ثم يعد هذا الحد الفاصل للبقاء. وربما حدثت ارتطامات بهذا الحجم أثناء حقبة القصف الشديد منذ فترة تتراوح من ٤٫١ إلى ٣٫٨ مليارات عام مضت، لكن لا يوجد دليل على أن كويكبًا أو مذنبًا ذا قطر أكبر من ٣٠ كيلومترًا قد اصطدم بكوكب الأرض منذ ذلك الوقت.
ماذا عن المستقبل؟ لو افترضنا أن الحجم الأدنى لقطر الكويكب المهلك للحياة على الأرض هو ١٠٠ كيلومتر فإن متوسط الوقت بين مثل هذه الارتطامات هو حوالي ٢٠ مليار عام. لذا ليس من المحتمل أن يحدث ارتطام كهذا لمليارات الأعوام القادمة، مع أن الطبيعة العشوائية للتوقيت تعني أن ثمة احتمال ضئيل بوقوع مثل هذا الارتطام في وقت مبكر للغاية عن ذلك. ومع ذلك، فمن السهل متابعة الكويكبات التي يبلغ قطرها ١٠٠ كيلومتر، وبذا قد نأخذ حذرنا قبل وصوله إلى الأرض بوقت كافٍ.
(٣-٢) الاستيلاء على العالم
يمتد نطاق التنوع الحيوي من البكتيريا إلى الحيتان الزرقاء، ومن الصعب تخيل الحياة دون وفرة في الأنواع، لكن ماذا لو كان قدر المحيط الحيوي هو أن يرتد إلى شيء واحد فحسب وهو: الميكروبات؟ تذكر أن الميكروبات ظلت تهيمن وحدها على العالم حتى انفجار العصر الكمبري. تحوي الحيوانات من الميكروبات عشرة أضعاف ما تملك من الخلايا؛ لذا تملك الميكروبات العالم بالفعل، وتستخدم أجسامنا كفنادق تقيم بها. والاعتماد المتبادل المميز لنسيج الحياة يبدو أمرًا مطمئنًا؛ إذ لا تستطيع الفيروسات أن تعيش دون الخلايا، وتشغل البكتيريا مواضع تطورية يحددها وجود الحيوانات والنباتات متعددة الخلايا.
إليك رأي علماء الكيمياء الأرضية فيما حدث. كانت شرارة هذا الحدث هي انفجار بركاني ذو حجم غير مسبوق تسبب في تكوُّن صخور البازلت البركانية في سيبيريا. أدت الزيادة السريعة في مستوى ثاني أكسيد الكربون إلى ارتفاع درجة حرارة العالم بحيث صار فارق درجة الحرارة بين القطبين وخط الاستواء طفيفًا؛ الأمر الذي سبب إخماد التيارات الهوائية وتيارات المحيطات التي تُبقي على تشبع المحيطات بالأكسجين. نتيجة لذلك، هيمنت أنواع البكتيريا الخضراء والأرجوانية التي تستمد طاقتها من التمثيل الضوئي باستخدام كبريتيد الهيدروجين. تشبعت المحيطات بغاز كبريتيد الهيدروجين السام؛ مما أدى إلى هلاك معظم الكائنات الحية الأخرى. بعد ذلك تسلل هذا الغاز الذي تشبه رائحته رائحة «البيض الفاسد» إلى الغلاف الجوي، ليتسبب في هلاك كل الحيوانات والنباتات تقريبًا، إضافة إلى تآكل طبقة الأوزون التي تحمي الأرض من الأشعة فوق البنفسجية الضارة. لقد سممت البكتيريا الكوكب.
بعدئذ واصلت البكتيريا استيلاءها على الكوكب، فالصخور التي تعود إلى أواخر العصر البرمي وبداية العصر الترياسي توضح انحسار حفريات الشُّعب المرجانية المتنوعة لمصلحة رواسب أبسط الحصائر البكتيرية. صار قاع البحر مكسوًّا بالميكروبات، واستغرقت الكائنات الحية متعددة الخلايا ملايين عديدة من السنوات كي تشق طريق عودتها إلى النظام البيئي.
ما دام ذلك الانقراض وقع ذات مرة، فيمكن أن يحدث مجددًا. لا ينبغي لنا أن نفترض أن الكائنات كبيرة الحجم أمثالنا هي نهاية التطور أو النتيجة الحتمية له؛ فتنوع الميكروبات وقابليتها للتكيف سيمدانها بميزة تنافسية حين تتغير الأحوال بصورة جذرية. إن حدث الانقراض في سياق الانتخاب الطبيعي فسيكون الوقت متاحًا لنا للاستجابة له، وربما مواجهة المشكلة أو البحث — في أسوأ السيناريوهات — عن ملاذ آمن بعيدًا عن الأرض أو تحت سطح الأرض. لكن ثمة سيناريو آخر مقلق يمكن وفقه أن نتسبب في حدوث النتيجة نفسها دون قصد.
يُعرف هذا السيناريو بمشكلة «جرين جو». إن «جراي جو» حبكة درامية معتادة في روايات الخيال العلمي؛ إذ تنتشر الروبوتات المعتمدة على تكنولوجيا النانو والمتسلحة بخاصية النسخ الذاتي على نحو غير قابل للسيطرة عليه وتستولي على العالم. أما مشكلة «جرين جو» فهي أحد أشكال هذا السيناريو الذي تتحد فيه الهندسة الوراثية وتكنولوجيا النانو معًا كي تخلِّق ميكروبًا «مثاليًّا» يتفوق على الميكروبات الموجودة بالفعل ويستولي على المحيط الحيوي. وهذه الكائنات التي تجمع بين المادة الحية وغير الحية من المرجح أن تتصرف على نحو يستحيل التنبؤ به، بل قد يستحيل السيطرة عليه. وجدير بالذكر أن «بيوت الخبرة» قدمت تقارير عن مشكلة «جرين جو»، وأُخْضِعت مخاطرها للتقييم على يد مؤسسة «سويس ري» الحصيفة التي تؤمِّن على شركات التأمين. لذا، على أقل تقدير، من الواجب علينا توخي الحذر ونحن نطور مستقبلنا القائم على التكنولوجيا الحيوية.
(٣-٣) الأغلفة الحيوية الأبدية
كوكب الأرض صخرة حية تندفع في الفضاء. تحظى الكائنات في المحيط الحيوي لسطح الأرض بالحماية من قسوة البيئة الخارجية من خلال الغلاف الجوي الذي ينظم درجة الحرارة ويحجب الأشعة فوق البنفسجية الضارة والأشعة الكونية. وإن أمكن للحياة أن تنتقل في الفضاء على ظهر صخرة كبيرة، فهل يمكنها الانتقال على صخرة صغيرة؟ وماذا لو أن الحياة تتسم بخصائص فيروسية وأنها «أصابت» العوالم الأخرى بالعدوى؟
تذهب فكرة «التبذر الشامل» إلى أن «بذور» الحياة موجودة في أماكن أخرى بالكون، وأن الحياة على سطح الأرض والكواكب الأخرى ربما بدأت من هذه البذور. ثمة مصطلح آخر يطلق على هذه الفكرة؛ وهو «المنشأ الخارجي». في القرن التاسع عشر تدبر اللورد كلفن تداعيات أعمال كل من باستير وداروين. لقد أوضح باستير أن الحياة تأتي من الحياة ولا تنشأ تلقائيًّا، أما داروين فقد أوضح أن شكلًا واحدًا من الحياة يمكن أن يتطور إلى شكل آخر، لكنه قاوم التفكير في أصلها. ولتجنب مشكلة أصل الكائنات، ذهب كلفن إلى أنه بمقدور الكائنات أن تنتقل على الصخور التي تعبر الفضاء بين الكواكب والنجوم.
خضعت الفكرة لمزيد من التطوير على يد سفانت أرهنيوس، مؤسس علم الكيمياء الفيزيائية وصاحب نظرية الاحتباس الحراري. آمن أرهنيوس بأن الميكروبات يمكنها أن تنتقل كجراثيم خاملة عبر الفضاء مدفوعة بالضغط الإشعاعي للشمس. وفي سبعينيات القرن العشرين بث كلٌّ من فريد هويل وتلميذه ومعاونه شاندرا ويكراماسينغ الحياة من جديد في فكرة التبذر الشامل عن طريق القول إن الغبار النجمي ينهمر على الأرض والكواكب الأخرى لبدء الحياة عليها. فشلت مزاعمهما في إقناع معظم الباحثين. فعلى الرغم من زعمهما أن أنوية المذنبات والغبار النجمي تحوي فيروسات، فإن علماء الفلك القدماء لا يرون أي دليل على وجود ما هو أكثر من الوحدات البنائية الأساسية للحياة في الفضاء. وزعما أن أنماط أوبئة الأنفلونزا، بل تفشي مرض سارس، متسقة مع فرضية منشأ الفيروسات خارج الأرض، وهو ما يراه مجتمع علم الأوبئة أمرًا مستبعدًا بدرجة كبيرة.
إن فكرة التبذر الشامل لا تحل مشكلة أصل الحياة؛ بل هي تلقي بمسئولية الأمر برمته خارج كوكب الأرض، لكن هذه الفكرة تخفف من متطلبات التكوين بطريقتين؛ أولًا: تسمح بتعدد الأماكن وتعدد صور التكوين في نطاق واسع من البيئات فيما وراء الأرض. ثانيًا: تعمل على توسيع النطاق الزمني لبدء الحياة من ٣٠٠ مليون عام، بين نهاية حقبة القصف الشديد وأول دليل قوي على وجود الميكروبات، إلى ٩ مليارات عام بين أول ظهور للكربون وكواكب مجرة درب التبانة، وأول ظهور للميكروبات على الأرض. وقدرة التحمل غير العادية التي تتميز بها كائنات البيئات القاسية تجعل هي الأخرى فرضية التبذر الشامل مقنعة.
ثمة شكلان لفكرة التبذر الشامل: يتضمن الشكل الأول نقل الكائنات الحية داخل المجموعة الشمسية. فالارتطامات التي تقع على سطح أحد الكواكب أو الأقمار يمكن أن تقذف بصخور صغيرة في الفضاء. فكر فيما سيحدث لصخرة موضوعة على منصة البهلوان إن قفزت فوق هذه المنصة. مع حركة المجموعة الشمسية يصير هذا الأسلوب غير فعال، وإن كنا نعلم يقينًا أن المادة يمكن أن تنتقل من المريخ إلى الأرض في ضوء العثور على العديد من الأحجار النيزكية القادمة من المريخ، بالإضافة إلى أن التقديرات تشير إلى أن صخرة واحدة من صخور المريخ تسقط على الأرض كل شهر. الانتقال من المريخ إلى الأرض ممكن؛ لأن جاذبية المريخ ضعيفة وغلافه الجوي رفيع، وهو الكوكب الأقرب إلى الأرض، علاوة على أن الأدلة المبنية على الطاقة ترجح الحركة تجاه الشمس.
أظهرت الاختبارات التي أجريت على مدافع الفضاء في مختبرات الأسلحة الأمريكية أن البكتيريا يمكنها تحمل ضغط يساوي آلاف أضعاف قوة الجاذبية عندما تنطلق إحدى الصخور من سطح أحد الكواكب وتظل حية. إن سنتيمترات قليلة من الصخور تكفي لوقاية الحياة من الأشعة الكونية الضارة والأشعة فوق البنفسجية في فراغ الفضاء. ذلك يترك عقبة واحدة فحسب وهي: الدخول العنيف إلى الغلاف الجوي.
أما الشكل الثاني من التبذر الشامل فهو نقل الكائنات الحية بين المجموعات النجمية. إن النجوم القريبة من الأرض تبعد مسافة أكبر ملايين المرات من تلك التي يبعدها المريخ عن الأرض، لذا سيكون على الصخرة أن تقطع رحلة أطول وأكثر عزلة بكثير. كان جاي ميلوش، الذي قابلناه من قبل وبثت تنبؤاته الرعب في القلوب، قد حسب المدارات والاحتمالات، فمع أن مليارات الصخور انطلقت من الكواكب الأرضية على مدار ٤ مليارات عام، فكوكب المشتري لا يُمَكِّنها من ترك المجموعة الشمسية، وهو ما يعني أن معظم الصخور لا تغادر المجموعة الشمسية. وبعد أن تقطع الصخور مسافات شاسعة بين النجوم، لا يصل منها إلى أي نجم آخر سوى عدد قليل للغاية، وبهذا لن يرتطم أي من تلك الصخور بكوكب صخري بعيد مطلقًا.
أيًّا كان مصير محيطنا الحيوي، فليس هناك طريقة طبيعية يمكن من خلالها أن تنتشر الحياة في المجرة. تشترك صور الحياة على كوكب الأرض في المادة الوراثية نفسها: فجميعها شيء واحد. والحياة في مجرة درب التبانة ستكون متنوعة ومتمايزة بنفس قدر التنوع والتمايز الذي تتسم به البيئات التي تتيح لها الوجود.