العيش في مجموعة شمسية
ليس في هذه الصخرة ما يغري بالنظر إليها؛ فهي تكوين رسوبي حُبيبي الملمس ذو لون رمادي باهت، ولا تزيد في حجمها عن ثمرة البطاطس. هي واحدة من آلاف الصخور التي تتحرر من نطاق الجاذبية الضعيف لكوكب المريخ حين يصطدم أحد الأحجار النيزكية بالبحر المالح لسهل مريدياني بلانوم. تحتوي هذه الصخرة على عينات من الحصائر الميكروبية الكثيفة التي تغطي سطح البحر الضحل، شأنها في ذلك شأن العديد من الصخور التي قذف بها الاصطدام. سرعان ما يتناثر الحطام في الفضاء بين الكواكب بعد تشكل المجموعة الشمسية وتصير الاصطدامات شائعة.
يمر الوقت، وتنطلق معظم الصخور التي قذفها المريخ في الفضاء العميق بلا حدود. هذه الصخرة مميزة؛ لأن مسارها تقاطع في الزمان والمكان المناسبين مع كوكب الأرض بعد أن دار في مداره مليون مرة. تسقط الصخرة من سماء زرقاء على كوكب مجدب. لقد عمَّ الدمار كوكب الأرض بفعل سلسلة الارتطامات الهائلة التي أدت إلى تبخر المحيطات وذوبان السطح الصخري؛ مما أدى إلى فناء الميكروبات البدائية التي تشكلت في دهر الهاديان الذي مر به الكوكب.
ترتفع حرارة الصخرة مع دخولها الغلاف الجوي السميك، لكن مركزها يظل باردًا. بعد مرور سنوات على هبوطها، يؤدي تعرضها للتجمد وذوبان الجليد على نحو متناوب إلى تفتتها، ويذيب المطر بعض مكوناتها الداخلية ويرسب مادتها في بركة ضحلة، حينئذ تزوَّد الميكروبات بالمياه، وتعود إلى الحياة مرة أخرى. ومع أن المواد الكيميائية للموطن الجديد المحيط تشكل بيئة مثيرة للتحدي لتلك الميكروبات، فبعد آلاف الأجيال من التكيف تزدهر هذه الميكروبات وتنتشر في العديد من المكامن البيئية الجديدة.
يتباين مسارا الكوكب الأم والكوكب المتبني للصخرة، فكوكب المريخ ليس ذا جاذبية كافية تتيح له الاحتفاظ بغلاف جوي سميك أو تحريك التكتونيات؛ لذا يتعرض الكوكب للجفاف ويصير صحراء قارصة البرودة. أما كوكب الأرض فله غلاف جوي سميك يموج بنتاج عملية التمثيل الضوئي، ومع الوقت، تبزغ شجرة الحياة ذات التنوع البيولوجي شديد التعقيد.
بعد أن تجتاز الأرض مدارها مرات ومرات عديدة، تنطلق أربعة من الكائنات الحية كبيرة الحجم لكوكب الأرض في الفضاء. هي لا تنتقل في صخرة، بل في حاوية معدنية تحوي عالمًا مصغرًا يماثل الغلاف الجوي للكوكب. وفي حين تطل هذه الكائنات بناظريها بشغف عبر نافذة صغيرة، يلوح المريخ في الأفق. وفيما بعد، وعلى سطح المريخ، تعمل هذه الكائنات متسلحة بهدف، وتتحرك بيسر في الجاذبية الرقيقة. إنها بعيدة للغاية عن الوطن، لكنها عادت إلى الوطن أيضًا.
***
(١) نقاط زرقاء باهتة
(١-١) كوكب الأرض النادر
تطرقنا حتى الآن للنهايات في إطار سياق ثلاثة عوالم مألوفة ومتداخلة: الكائن البشري، والأنواع البشرية، والمحيط الحيوي الذي يضم كل البشر. الآن نخطو خارج عالم المألوف لننتقل إلى العالم الكوني غير المألوف.
ثمة سبب يدفعنا لتدبر الكيفية التي ستنتهي عليها حياتنا، وهي وفاة مليارات الأشخاص على مر التاريخ، وعلى نحو مماثل ثمة سبب يدفعنا لتدبر الكيفية التي سينتهي عليها نوعنا؛ أن كل الأنواع قد تعرضت لآلية الانتخاب الطبيعي. لكن في حالة المحيط الحيوي وكوكب الأرض نحن نواجه مشكلة تتمثل في وجود مثال واحد فقط يمكننا دراسته والتعلم منه. وللاهتداء إلى الكيفية التي سينتهي بها العالم، نحتاج إلى إيجاد أمثلة أخرى لكواكب حية تماثل كوكب الأرض. ودون توافر معلومات إضافية، ثمة طريقتان مختلفتان لتفسير حقيقة أننا كائنات ذكية تعيش على كوكب معمر يستضيف حياة وافرة.
ربما يكون كوكب الأرض حالة نادرة. أثار بيتر وارد ودون براونلي، من جامعة واشنطن، بكتابهما الشهير الذي طُرح عام ٢٠٠٠ بعنوان «الأرض النادرة» مناقشات حامية في الدوائر الأكاديمية وما وراءها. يتفق المؤلفان مع معظم العلماء على أن نطاق كائنات البيئات القاسية على كوكب الأرض يشير ضمنيًّا إلى أن الحياة الميكروبية قد تكون شائعةً إلى حدٍّ ما على الكواكب الأرضية خارج المجموعة الشمسية، لكنهما يميزان بشدة بين الحياة من أي نوع والحياة «المعقدة»؛ التي يمكن تعريفها على أنها مخلوقات كبيرة تتمتع بالذكاء. ليس من الضروري أن تتسلح هذه الكائنات بالتكنولوجيا، وليس من الضروري أن تكون بشرًا أو رئيسيات، لكنها مخلوقات كبيرة معقدة متعددة الخلايا تحوي عقولًا أو شيئًا مماثلًا.
يرى وارد وبراونلي أن تطور الحياة المعقدة يحتاج إلى بيئة مستقرة معمرة ومجموعة من الظروف الخاصة إلى حد ما. هذه الظروف تشمل وجود مدار مستدير تقريبًا حول نجم معمر كالشمس، وبيئة «هادئة» مواتية في مجرة درب التبانة، وكوكب عملاق كالمشتري لتوفير الحماية ضد الارتطامات، وقمر كبير لتحقيق استقرار المدار، وقدر كافٍ من الماء، وتكتونيات الصفائح. من العسير للغاية تحقيق كل هذه الشروط، وترتكز حجة «الأرض النادرة» على افتراض أن هذه العوامل تتسم بصفتين متناقضتين؛ أنها غير محتملة الوجود، وأنها ضرورية لتطور حياة معقدة.
خلال العقد الماضي تبين لنا أن الكثير من هذه الشروط ليس ضروريًّا. على سبيل المثال، تُظهر عمليات المحاكاة أن توافر الماء ووجود تكتونيات الصفائح سيكونان من السمات الطبيعية للكواكب الصخرية التي تبعد عن نجومها مسافات تماثل المسافة بين الأرض والشمس. أيضًا تُظهر هذه العمليات أن وجود كوكب ضخم كالمشتري يمكن أن يتسبب في عدد كبير من الارتطامات الهائلة بقدر ما يحول دونها. والأهم من ذلك أنه لم يثبت بعد — وربما من المستحيل أن يثبت — أن أيًّا من هذه السمات «ضروري» لتطور حياة معقدة. لقد رأينا بالفعل أن الحياة والبيئة يوجدان على نحو تكافلي؛ لذا سيكون استخدام صفات البيئة المادية للزعم بعدم احتمالية نتيجة معينة منطقًا مغلوطًا. كل ذلك يوجهنا إلى الاتجاه المعاكس.
فكر في الكواكب على أنها حبيبات من الرمل. في رقعة من الشاطئ تبلغ مساحتها مترًا مربعًا، وبافتراض أن الرمل يمتد فيها بعمق متر واحد، يصل عدد حبيبات الرمل إلى حوالي ١٠ مليار حبة رمل. لو تجاهلنا الكواكب العملاقة الغازية وأقمارها، يكون ذلك التقييم مقبولًا ظاهريًّا لعدد الكواكب الأرضية في مجرة درب التبانة. الآن لنتخيل أننا سنفحص كل حبة رمل في ذلك المتر المكعب. في ضوء سيناريو كوكب الأرض النادر، قد يكون من غير المرجح للغاية أن تقابل أي حبة رمل يمكن العيش عليها كما هو ممكن على حبة رملنا. لكن إذا لم يكن هناك شيء مميز بشأننا، فقد تحتوي المساحة البالغة مترًا مكعبًا على آلاف أو حتى ملايين الكواكب المماثلة لكوكب الأرض.
يرى ريتشارد جوت، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة برنستون، أن حجة مبدأ كوبرنيكوس يمكن تطبيقها على المواقف التي لا يتاح لديك فيها سوى عينة واحدة، ما دام ليس هناك أي سبب للاعتقاد بأنك ترصد الموقف في وقت خاص. والمنطق هنا شديد البساطة، لدرجة قد تستعصي على التصديق؛ فاحتمالية رصد الشيء في منتصف فترة وجوده أكبر من احتمالية رصده عند بدايته أو نهايته. ونسبة احتمالية رصد الشيء في منتصف فترة وجوده تبلغ ٥٠٪ في حين تبلغ احتمالية رصده في الفترة الممتدة ما بين انقضاء ٢٫٥٪ من عمره وقبل ٢٫٥٪ من نهايته ٩٥٪، وهذا ينطبق على أي موقف رصد.
يمكن تطبيق مبدأ كوبرنيكوس من أجل تحديد وقت النشوء بدلًا من طول البقاء. افترض أن ثمة حياة معقدة موجودة في مكان آخر في الكون، وأن الوقت الذي استغرقته الحياة للنشوء على كوكب الأرض ليس مميزًا بأي شكل، بل هو نموذج للتوزيع الإجمالي. لقد استغرق تطور الحياة المعقدة على الأرض ٤ مليارات عام. لذا بوسعنا أن نقول في ثقة تبلغ نسبتها ٩٥٪ إن تطور الحياة المعقدة في أي مكان آخر يجب أن يستغرق ما بين ١٠٠ مليون عام و٨٠٠ مليار عام. هذا نطاق شاسع للغاية، لكنه يعلمنا بالكثير، فعند النهاية العظمى، لا يمكن إلا للنجوم الأقل كتلة أن تستضيف الحياة، وستكون المناطق الصالحة لاستضافة الحياة حولها قليلة للغاية. أما عند النهاية الصغرى، يسلم بيتر وارد بأن تطور الحياة المعقدة لن يستغرق سوى ١٠٠ مليون عام، وهذا سيفسح المجال لمشاركة النجوم عالية الكتلة ذات الأعمار الأقصر بكثير من الشمس.
(١-٢) العثور على البلية المثالية
حين كنتَ طفلًا أعطاك أحدهم بلية. كان ذلك منذ وقت طويل للغاية حتى إنك لا تتذكر تمامًا من أعطاك إياها أو متى كان ذلك. هذه البلية جميلة الشكل، بها خطوط من اللون الأزرق والأخضر على خلفية بيضاء. صرت تحملها معك في كل مكان وترتبط بها إلى حد بعيد. هذه البلية هي ملكية أثيرة لديك.
لنقل إن هذه البلية هي كوكب أرضي يحوي حياةً معقدةً؛ عالم مثل كوكب الأرض. إن كانت هذه البلية هي الوحيدة التي رأيناها أو عرفناها على الإطلاق، ما الذي ستنبئنا به هذه البلية بشأن خصائص كرات البلي الأخرى أو الكواكب الأخرى؟ ربما ليس قدرًا كبيرًا، وقد لا تنبئنا بشيء على الإطلاق. ومع ذلك يحاول العلماء، سواء المتقبلون تمامًا لفرضية كوكب الأرض النادر أو الرافضون لها، أن يثبتوا أن هذه البلية إما استثنائية أو شائعة الوجود!
إننا عالقون في شباك مشكلة مرتبطة بالاستقراء؛ أي الوصول إلى أحكام عامة من عينة واحدة. ذلك الأمر محفوف بالمخاطر من الناحية المنطقية، وقد نتوصل إلى استنتاج خاطئ إن لم تتوافر «نظرية عامة للبلي». افترض أن هناك كيسًا كبيرًا مخمليًّا أسود اللون يحوي عددًا من كرات البلي التي تمثل كل الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية. يُسمح لنا بأخذ بلية واحدة من الكيس، وحين نفعل، نجد بين يدينا بلية جميلة؛ بلية بيضاء تتخللها دوائر خضراء وزرقاء اللون. بم سينبئنا هذا بشأن كرات البلي الأخرى الموجودة في الكيس؟ قد نخمن أن جميعها تماثل الأولى، أو أن هذا هو الحال مع بعضها أو عدد قليل للغاية منها، لكن في الحقيقة لا يمكننا سوى أن نقول إن الكيس به بلية واحدة بيضاء ذات دوائر زرقاء وخضراء على الأقل، وأننا كنا محظوظين في اختيارنا الأول.
الآن افترض أن الكيس يحمل ثلاثة أنواع من كرات البلي. ثمة كرات بلي كبيرة سوداء تمثل كواكب كالمشتري، وهي الكواكب العملاقة الغازية التي لا تحمل أي حياة على سطحها. ثمة كرات بلي بيضاء صغيرة تمثل الكواكب الأرضية كالأرض، وهي تحمل اللون الأبيض الذي يشير إلى وجود حياة ميكروبية. أيضًا ثمة كرات بلي بيضاء تحوي ألوانًا إضافية كالبلية الأولى التي حظينا بها، وهي تمثل الكواكب الأرضية المماثلة لكوكب الأرض التي طورت حياة معقدة على سطحها. على هذا النحو، افترضنا أن جميع الكواكب الأرضية الشبيهة بالأرض تحوي حياةً من نوع ما، لكننا لم نذكر شيئًا عن أعدادها النسبية. وقد يكون كل نوع من أنواع البلي شائعًا أو نادرًا.
إن أخذنا بلية واحدة من الكيس؛ من النوع الأبيض الذي يحوي اللونين الأزرق والأخضر، فلن ينبئنا هذا بشيء إضافي. لكن لو كانت كرات البلي الثلاث الأولى التي التقطناها متماثلة، فقد نبدأ في الشك بأن هذا النوع شائع، وإن كانت كرات البلي العشر الأولى متماثلة فستزداد ثقتنا بشأن هذا الأمر. على الجانب الآخر، إن كانت بلية واحدة من كرات البلي العشر الأولى بيضاء وتحوي اللونين الأزرق والأخضر في حين هناك ثماني كرات تحمل لونًا أبيض خالصًا وواحدة أخرى كبيرة وسوداء، فقد نستنتج على نحو مبدئي أن الكواكب الأرضية شائعة، لكن الحياة المعقدة نادرة إلى حد ما.
(١-٣) تميزنا
عند مناقشة فرضية «كوكب الأرض النادر» من الشائع أن تندمج فكرتا الندرة والتميز، لذا فلنحاول الفصل بينهما، فالكواكب المماثلة للأرض قد تكون نادرةً وقد لا تكون كذلك، وهو ما يمكن لعمليات الرصد أن تحدده في الوقت المناسب.
أما التساؤل عما إذا كانت الكواكب المماثلة للأرض هي الكواكب الوحيدة التي يمكن أن تشهد تطور الحياة المعقدة فهو أمر مختلف تمامًا. إن كانت أفكارنا عن الحياة المعقدة وكيفية تطورها شديدة التمركز حول كوكب الأرض فربما يكون كل ما فعلناه هو نسج قصة تفسر السبب وراء ضرورة أن يكون العالم من حولنا على النحو الذي هو عليه كي يوجد البشر. إننا لا نزال في مرحلة الصراع من أجل اكتشاف كواكب مماثلة للأرض، أما تحديد خصائص الكواكب بما يكفي لأن نحدد إذا كانت صالحةً للحياة أو هي مأهولة بالفعل فهو أمر يبعد عنا بعدد قليل من الأعوام، أما التحقق فعليًّا من علامات وجود حياة على كواكب الأرض البعيدة فربما يبعد عنا بعدد من الأعوام يتراوح من ١٠ إلى ٢٠ عامًا.
قد لا يكون مفهوم «التميز» مفيدًا، فنحن لا نعرف سوى أحد المسارات التي تطورت من خلالها الحياة لتصير ذكية. ربما يكون المسار الوحيد، لكن لا يوجد ما يدعونا للاعتقاد بذلك. الأرجح أن تفكيرنا أو تطورنا مقيد بالبيئة التي نعيش فيها وأنه يفتقر إلى الخيال. لقد ألف جاك كوهين وإيان ستيوارت كتابًا عنوانه «كيف يبدو المريخيون؟» هدف في جزء منه إلى دحض مفهوم كوكب الأرض النادر.
مثلما تصمد كائنات البيئات القاسية في ظروف مادية متنوعة — تعد طبيعيةً وغير استثنائية بالنسبة لها، لكنها شديدة الصعوبة لنا — من الممكن أن يكون باستطاعة أكثر صور الحياة تطورًا أو تعقيدًا أن تصمد في ظروف غير مألوفة. ومع ذلك، فقد يكون قضاء يوم على الشاطئ أمرًا مروعًا لمثل تلك الكائنات، أو حسبما وصفه كوهين وستيوارت: «يتدفق في جميع أرجاء المكان إشعاع كهرومغناطيسي منهمر كالأمطار، وغلاف جوي متآكل من الأكسجين، وتلك المادة المذيبة الشديدة المسماة بأول أكسيد الهيدروجين.»
(٢) الحياة فيما وراء الأرض
(٢-١) الزهرة والمريخ ملائمان
يقابل المسافرون مجموعة شمسية بها ثلاثة كواكب أرضية، أحد هذه الكواكب بمنزلة توأم مماثل لكوكب الأرض، لكن غلافه الجوي يحتوي على النيتروجين، ويخلو من الأكسجين، وبه قدر قليل من ثاني أكسيد الكربون، وقارته العظمى الوحيدة محاطة ببحر مالح غني بالمعادن. أما الكوكب الثاني فله غلاف جوي سميك كثيف به ثاني أكسيد الكربون، ويحوي براكين نشطة وعددًا هائلًا من ينابيع المياه الحارة التي تتفجر إلى أنهار دافئة في المرتفعات. الكوكب الثالث هو الأصغر، وله غلاف جوي رقيق، ويحوي بحيرات ضحلة تظهر كالنقاط على سطحه. ويسبب ذوبان القلنسوات الجليدية القطبية شبكة متفرعة من المجاري المائية. وثمة حياة ميكروبية وفيرة على سطح كل كوكب من هذه الكواكب.
تشير الأدلة الحديثة إلى أن الزهرة اتسم بكونه ملائمًا للحياة أكثر من المريخ في بعض النقاط من تاريخه. إن المريخ الآن كوكب جاف وبارد، وقد دحضت المركبة «مارس ريكونيسانس أوربيتر» الأدلة المثيرة التي أشارت إلى حدوث جريان سطحي حديث وقيعان بحر ضحلة رسوبية. على الجانب الآخر تشير نماذج لكوكب الزهرة إلى أنه احتفظ بمحيطات من الماء السائل مدة مليار عام بعد تشكله، وهو ما يوفر قدرًا هائلًا من الوقت كي تتشكل الحياة بعد نهاية حقبة القصف الشديد. إن ديفيد جرينسبون متحمس للغاية حيال إرسال مركبة تهبط على سطح كوكب الزهرة للبحث عن آثار للحياة السابقة في الأجزاء الصغيرة من سطحه التي لم يُعِد النشاط البركاني تشكيلها. لكن قد تكون المهمة صعبة للغاية في ضوء الظروف الطبيعية الوعرة. ويصل الأمر به إلى حد اعتقاد أن الحياة ربما انتقلت إلى مكمن بيئي في الطبقات الكثيفة للسحب بعد تبخر المحيطات. وهو يشير إلى إمكانية وجود سكان لكوكب الزهرة مثلما يُعتقد بوجود سكان لكوكب المريخ.
إن صلاحية الكوكب للحياة تتطور مع تطور الكوكب نفسه. ليس مصير الكواكب محددًا على نحو قاطع، بل يتغير تبعًا للظروف. والعمليات الجيولوجية والكيميائية تعمل على تآكل الكواكب كافة، عدا متناهية الصغر. وبصرف النظر عن النجم الذي يدور حوله الكوكب كبير الحجم، فإن كل كوكب كبير الحجم يحتفظ بمصدر طاقة في الانحلال الإشعاعي للعناصر الثقيلة التي تكمن بعمق في مركزه. وبفضل دفعة الطاقة هذه تحتفظ الكواكب ﺑ «حيوات» خاصة بها. إن بدأت الحياة البيولوجية على سطح الكوكب فإنها تبدأ على الفور في تغيير بيئته. لقد بدأت مجموعتنا الشمسية بثلاثة كواكب أرضية صالحة للحياة، اثنان منها عانيا من تغيرات مناخية خاطفة تركتهما قاحلين، أما الثالث فقد أعاد تشكيل ذاته لكي يظل صالحًا للحياة.
(٢-٢) الحياة على الأقمار
من الطبيعي أن تثير الكواكب الأرضية الاهتمام عند البحث عن عوالم حية أخرى، لكن أقمار الكواكب العملاقة الغازية كشفت عن إشارات طفيفة لصلاحيتها للحياة منذ أن مسحتها مسبارات المركبة «فوياجر»، فعلى الرغم من أن الكواكب العملاقة الغازية تقع خارج النطاق الذي يمكن أن يوجد به الماء في حالته السائلة على سطح أحد الأقمار، فثمة مصادر محلية للطاقة؛ كالحرارة الناتجة عن الإشعاع المنبعث من الصخور الداخلية والمد الحراري الوارد من الكوكب الغازي العملاق.
القمر تيتان هو ثاني قمر مثير للاهتمام في النطاق الخارجي للمجموعة الشمسية. وقد كشفت المركبة «كاسيني» والمسبار «هويجنز» عن مشهد مألوف لبحار ودلتا أنهار وأطواف جليدية وسحب، لكن على نحو مختلف. يعتمد الطقس النشط للقمر تيتان على الإيثان والميثان والأمونيا والأسيتيلين. تقذف البراكين بمزيج من الأمونيا والماء، كما تُرى بحيرات الهيدروكربونات عند دوائر العرض الشمالية. والغلاف الجوي للقمر تيتان أكثر سمكًا من نظيره في كوكب الأرض، ويكاد يتشكل كلية من النيتروجين. يعد قمر تيتان مختبرًا مبشرًا على نحو مذهل لكيمياء الحياة البدائية، وربما يكون المكان الذي سنجد فيه حياة مختلفة إلى حدٍّ كبير عن أشكال الحياة المألوفة على الأرض.
تمخض البحث عن الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية عن عدد كبير من الكواكب المماثلة للمشتري وأخرى أكبر منه حجمًا، بالإضافة إلى عدد أصغر من الكواكب المماثلة لكوكبي أورانوس ونبتون في الحجم. إن العملية التي تشكلت الأقمار وفقها حول كواكبنا العملاقة الغازية من المفترض أن تجري في المجموعات الشمسية البعيدة؛ لذا يعمل علماء الفلك على تقدير عدد الكواكب البعيدة التي قد تستضيف أقمارًا صالحة للحياة. هناك عدة متطلبات لهذا الأمر؛ إذ يجب أن تساوي كتلة القمر نسبة ٧٪ أو أكبر من كتلة الأرض حتى يكون له غلاف جوي. وإن كانت كتلة القمر أقل من ٢٥٪ من كتلة الأرض فسيحتاج إلى مد حراري كي يكون نشطًا من الناحية الجيولوجية. يجب ألا تشتمل الأقمار على مدارات شديدة الانحراف عن المسارات الدائرية، أو ألا تشهد «فترات نهار» طويلة للغاية تتسبب في وجود درجات حرارة متطرفة. وثمة العديد من البيئات تفي بهذه المعايير.
على الرغم من أن العثور على كواكب تماثل الأرض أمر يصعب على عمليات مسح الكواكب كبيرة الحجم تحقيقه، فثمة احتمال أن تكون هذه العمليات قادرة على التحقق من وجود أقمار حول الكواكب الغازية العملاقة تماثل كوكب الأرض في حجمها. إن حوالي نسبة ١٠٪ من الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية التي عثر عليها حتى الآن تدور في نطاق المنطقة الصالحة للحياة في النجم المستضيف لها. ومع العثور على المزيد من تلك الكواكب يزيد احتمال عبور بعضها من أمام النجم على نحو يمكننا من رؤيته. إن التذبذب في حركة الكوكب الناتج عن وجود قمر كبير الحجم يجعل الكوكب يتباين في موقعه وسرعته، وتلك علامة مميزة تظهر في وقت الكسوف. ثمة حافز كبير وراء عمليات الرصد الصعبة هذه لأن الأقمار يمكن أن تكون أكثر ملاءمة للحياة من الكواكب الموجودة في المكان نفسه.
(٢-٣) حساب عدد العوالم الصالحة للحياة
أولًا؛ ثمة تحذير: تعد عملية حساب عدد العوالم الصالحة للحياة بمنزلة إساءة استخدام للاستقراء، فنحن لم نجمع بعد معلومات كافية لتحديد هل الكواكب الأرضية والأقمار العملاقة في مجموعتنا الشمسية صالحةً للحياة أم لا. والتقدير الاستقرائي بناءً على المعلومات المجزأة المتاحة عن الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية وعبر المجرة الشاسعة هو فعل جريء ومتهور. والآن فلنبدأ.
ذهب بعض الباحثين إلى وجود منطقة صالحة للحياة في المجرة بالإضافة إلى المنطقة الصالحة للحياة حول النجوم. يقوم افتراضهم على أن المناطق شديدة القرب من مركز المجرة تعاني تهديدات أكبر بسبب التفاعلات النجمية أو انفجارات المستعرات العظمى (السوبرنوفا) في حين تفتقر المناطق الموجودة عند الحد الخارجي بشدة إلى العناصر الثقيلة اللازمة لتشكل الكواكب. لكن اتضح أن النجوم تتنقل فعليًّا داخل المجرة، وذلك على مدار مليارات الأعوام؛ لذا يمكن ألا تكون المنطقة الصالحة للحياة في المجرة قيدًا ثابتًا.
تستبعد الحسابات التقليدية نسبة ٥٠٪ من جميع النجوم الموجودة في النظم الثنائية، لكن عمليات المحاكاة توضح أن معظم هذه النظم شديدة الاتساع بما لا يسبب الاضطراب للكواكب الأرضية. بعد ذلك هناك الكواكب الأرضية التي لم يُحصَ عددها الموجودة في النظم النجمية البعيدة. إننا مضطرون للاعتماد على عمليات المحاكاة الحاسوبية لمعرفة كيفية تشكل هذه النظم، وفي كل من هذه العمليات نرى عددًا من الكواكب يتراوح من اثنين إلى أربعة كواكب، في إطار معامل قدره ٢ من كتلة الأرض، ومعظم هذه الكواكب بها كمية كبيرة من المياه؛ تزيد بما يتراوح من ١ / ١٠ و١٠٠ مرة عن محتويات محيطاتنا. ولكي نضيف مزيدًا من الأقمار الصالحة للحياة، علينا أن نستخدم المجموعة الشمسية كدليل. وهنا يكون نطاق الأقمار الصالحة للحياة يتراوح من قمرين إلى أربعة أقمار؛ إذ يمثل الرقم الأقل كل من يوروبا وتيتان فحسب، في حين يضيف الرقم الأعلى القمرين اللذين اكتشفهما جاليليو؛ كاليستو وجانيميد.
ما الإحصاء الإجمالي للمناطق الصالحة للحياة؟ في ضوء وجهات النظر التقليدية بشأن المناطق الصالحة للحياة رأينا من قبل تقديرًا يشير إلى وجود ١٠٠ مليون عالم صالح للحياة. إن سلمنا بأمر معظم الأقزام الحمراء والنجوم الثنائية، وقبلنا معامل انخفاض قيمته ١٠ من أجل المنطقة الصالحة للحياة في المجرة، يكون العدد الأولي هو ٢٠ مليار نجم يعيش كل منها مدة مليارَيْ عام أو أطول، وهو قدر كبير من الوقت يتيح نشأة الحياة. وفي ظل وجود ٦ عوالم تقريبًا صالحة للحياة في كل مجموعة شمسية، يصل عدد العوالم المحتملة الصالحة للحياة في المجرة إلى رقم مذهل قدره ١٠٠ مليار عالَم.
(٣) تهديدات من خارج المجموعة الشمسية
(٣-١) مشكلة في الجوار
تدور الأرض حول الشمس في مدار يشبه حلبة إطلاق النار. وكما رأينا تنطلق الكويكبات والمذنبات في عشوائية نحونا من حين لآخر. ومعظم الاصطدامات الكبرى ترد من الكويكبات؛ إذ يرتطم كويكب يبلغ قطره كيلومترًا واحدًا بالأرض مرة كل نصف مليون عام تقريبًا، في حين لا يصطدم مذنب موجود منذ فترة طويلة وذو حجم مماثل بالأرض إلا مرة كل ٣٠ مليون عام. المذنبات مهلكة؛ لأنها تنتقل بسرعة أكبر بكثير من الكويكبات، وبهذا تحشد قوة أكبر. أيضًا هي تصل من أي اتجاه؛ لذا هي أصعب في تحديد مواضعها مقارنة بالكويكبات التي يُعثر عليها بالقرب من مستوى مدار الأرض حول الشمس. وأخيرًا، هناك مستودع هائل من المذنبات التي من المحتمل أن تزور الأرض.
يعتقد ريتش مولر، الفيزيائي بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، أن الشمس ضحية لقوة جامحة لأخ أصغر. ففي أوائل ثمانينيات القرن العشرين، لاحظ ريتش أن الانقراضات الجماعية التي وقعت في الخمسمائة مليون عام الأخيرة جرت على نحو دوري. عادة ما يكون للانقراضات العشوائية عدة أسباب ممكنة، لكن الانقراضات التي تحدث على نحو منتظم يكون لها تفسير فلكي. افترض مولر أن ثمة نجمًا قزمًا يرافق الشمس ويتحرك في مدار بطيء لكنه يقترب على نحو كافٍ كل ٢٦ مليون عام بحيث يسبب اضطراب حركة المذنبات عند حافة المجموعة الشمسية، ومن ثم يرسل بعض المذنبات المتعاقبة نحونا. أطلق ريتش على هذا النجم اسم نيميسيس.
يقول ريتش: «أعطوني مليون دولار وسأجده.» لم يقبل أحد هذا العرض، لكن على الرغم من أنه متقاعد الآن فهو يقضي أغلب وقت فراغه في البحث عن النجم الأحمر الباهت الذي يظن أنه الرفيق المفقود للشمس. لاقى النجم نيميسيس هجومًا لأنه «حل فجائي وغير متوقع لمشكلة غير قابلة للحل»، وقد ظهر في كتاب عنوانه «تسع أفكار مجنونة في العلم: قد يكون بعضها صحيحًّا» للمؤلف روبرت إيرليتش، إلى جوار أفكار مثل «توزيع البنادق يحد من الجريمة» و«التعرض للإشعاع أمر مفيد لك». أهم المشكلات التي واجهت الفكرة هي عدم وجود اتفاق على أن الانقراضات دورية، وحقيقة أن الانقراض الوحيد المؤكد ارتباطه بمصدر من خارج الأرض هو انقراض العصر الطباشيري الثلاثي. وحتى لو كان نيميسيس غير موجود، فهناك جيران آخرون يمكنهم إحداث متاعب.
سحابة أورت سحابة حساسة وغير مستقرة، وفي أي وقت تتأثر فيه بجاذبية أي جرم قريب تهتز بعنف، ومن المحتمل أن ترسل المذنبات إلى مدارات تتقاطع مع الأرض. هذا لا يحدث على حين غرة؛ إذ يحدث بعد ٢ إلى ٣ ملايين عام من وقوع الحدث المحفز. وقد استخدم الباحثون المسارات التي حددها القمر الصناعي «هيباركوس» لحركة النجوم القريبة كي يتنبئوا بمدى «ملامسة» النجوم لسحابة أورت، وقد توصلوا إلى مرور أربع نجوم في المتوسط عبر مساحة قدرها ثلاث سنوات ضوئية، وذلك كل مليون عام. والتأثير الذي يخلفه ذلك على سحابة المذنبات يتوقف على السرعة وكذلك المسافة، وكثيرًا ما ينسب التأثير الأكبر للنجم المتطفل الأسرع وليس الأقرب.
«جلييزا ٧١٠» هو نجم قزم أحمر في كوكبة الحواء، وهو باهت للغاية، حتى إنك قد تحتاج إلى منظار مكبر لتحديد موضعه، لكن البيانات التي جاء بها القمر الصناعي «هيباركوس» تُظهر أنه يتجه مباشرةً نحونا بسرعة ٢٥ كيلومترًا في الثانية (٥٥ ألف ميل في الساعة) وأنه سيصل بعد ١٫٥ مليون عام، حينئذٍ سيتوهج في السماء ليماثل في سطوعه حزام الجبار في كوكبة الجبار. من المتوقع أن يمر على بعد سنة ضوئية واحدة فحسب من الشمس، ويلامس برفق عدة ملايين من المذنبات في مدارات ستتقاطع مع مدارات الأرض. يبدو ذلك هائلًا، لكنه لا يمثل سوى زيادة قدرها ٥٠٪ عن العدد الطبيعي. وعلى مدار الامتداد الزمني نفسه ستصير ثمانية نجوم أكثر قربًا لنا من جارنا الأقرب حاليًّا؛ بروكسيما سنتوري. وسيقرع النجم برنارد الباب في غضون ١٠ آلاف عام فحسب.
(٣-٢) عندما تموت النجوم الضخمة
المجموعة الشمسية جزء من بيئة مَجَرِّيَّة أكبر، فنحن نقع على بعد ٢٦ ألف سنة ضوئية من مركز مجرة درب التبانة، ونتحرك على سطح القرص المجري في مدار متمهل يكتمل كل ٢٢٠ مليون عام. ومع أن الشمس وجيرانها يتشاركون في مدارات دائرية فإن النجوم القريبة تقترب منا وتتراجع، ونمر خلال سحب جزيئية تتشكل فيها نجوم جديدة، وندخل إلى الأذرع اللولبية لدرب التبانة ونخرج منها. ونقطع سطح المجرة كل ٣٠ مليون عام، وهو مقياس زمني يتصادف تقاربه مع المقياس الزمني المزعوم للانقراضات الدورية.
بعد اللقاءات النجمية يأتي أكبر تهديد للحياة على سطح الأرض حين يموت نجم ضخم على نحو عنيف كمستعر أعظم. المستعرات العظمى تجلب الحياة، لكن لو كنت على مقربة شديدة منها فستجلب لك الموت. بفضل العناصر الثقيلة التي تقذف بها المستعرات العظمى إلى البيئة النجمية المحيطة بها، تحوي النجوم الجديدة ما يكفي من السليكون والألومنيوم والحديد كي تشكل الكواكب وما يكفي من الكربون والنيتروجين والأكسجين كي تشكل الحياة. وفي الواقع، ربما نتج السديم الشمسي الذي أتى بنا إلى الوجود عن انهيار نجم قريب.
ينفجر مستعر أعظم في مكان ما في درب التبانة كل ٥٠ عامًا، لكن المجرة مكان كبير؛ لذا تكون احتمالية أن يقع أحد هذه الانفجارات في مكان ما بالقرب منا منخفضة للغاية. هل يمكن أن تكون المستعرات العظمى القديمة هي التي تسببت في الانقراضات؟ تنبأ علماء الفلك بأن البصمة التي يخلفها مثل هذا الحدث ستكون على صورة ترسيب للنظائر المشعة التي لا تأتي إلا من نجم هالك فقط. وللأسف، من العسير العثور على مستعر أعظم انفجر حديثًا. فبعد آلاف السنوات يتلاشى الغاز الساطع الذي يخلفه المستعر الأعظم، ويتلقى النجم النابض الذي يتخلف عنه ضربة قوية تبعده مسافة كبيرة عن موقع الانفجار الأصلي.
كان ذلك في الماضي، لكن ماذا عن المستقبل؟ يحاول الكثيرون من الأشخاص إخافتنا (ومن بينهم أنا)، لذا من الطيب أن نستبعد واحدًا من مؤرقاتنا الكثيرة. في عام ٢٠٠٣ أظهرت الحسابات المنقحة لتأثير أشعة جاما على طبقة الأوزون لكوكب الأرض أن انفجار المستعر الأعظم لا بد أن يقع في نطاق ٢٥ سنة ضوئية كي يزعزع استقرار غلافنا الحيوي، وأن ذلك يجعل معدل حدوثه مرة واحدة كل ٧٠٠ مليون عام. ونظرًا لأن لدينا إحصاء جيدًا للنجوم في حدود تلك المسافة، ولأنه لا يوجد نجم ضخم بدرجة كافية لأن يموت كمستعر أعظم، يمكننا أن نتنفس الصعداء ونستبعد هذا الخطر.
ونحن نتناول موضوع مسببات الخوف الشديد، تثير الثقوب السوداء عصبية العديد من الأشخاص. يغذي كتاب عنوانه «الموت على يد ثقب أسود» للمؤلف نيل تايسون شعور القلق هذا، على الرغم من أنه لم تتطرق سوى مقالة واحدة فقط من مقالاته إلى الثقوب السوداء. حين يموت نجم ضخم كمستعر أعظم يخلف وراءه مركزًا منهارًا لا يمكن أن يفر منه أي شيء. هل ينبغي للظلام اللانهائي للثقب الأسود أن يطير النوم من جفوننا لليالٍ لا نهاية لها؟
على الأرجح لا، فعلى عكس المفهوم الشائع، ليست الثقوب السوداء مكانس كهربائية كونية تمتص كل شيء في طريقها وتشفط من يمرون بجوارها. لا يتعرض الزمان والمكان لتشويه إلا في المنطقة المجاورة لأفق الحدث مباشرة. وباستثناء مسافة عشرات الآلاف من الأميال حول الثقب مباشرة، لن تختلف الجاذبية عما هي عليه حول أي نجم يملك الكتلة نفسها. في ضوء اتساع الفضاء لن تكون عرضة للخطر، إلا إن جازفت بالاقتراب متعمدًا ذلك. على سبيل المثال، قد تموت بسبب السقوط في راقود للحديد المصهور، لكن لن يحدث ذلك إلا إذا حددت مكان مصنع صهر المعادن في منطقتك، وقدت سيارتك إلى هناك، واجتزت كل الموانع الأمنية، وتسلقت سياج الممر الضيق فوق الراقود، بعد أن تكون قد أفرطت كثيرًا في شرب الكحوليات.
ينبغي على المسافرين عبر الفضاء في المستقبل أن يتجنبوها أيضًا. إنها نادرة؛ لأن نسبة بسيطة فقط من النجوم تموت كمستعرات عظمى. سيتطلب الأمر قطع مليارات الرحلات المباشرة عبر مجرة درب التبانة كي تحظى بفرصة مصادفة أحد الثقوب السوداء. إن حدث ذلك، فقد لا تكون النتيجة جيدةً؛ فقوى المد القوية قد تفقدك السيطرة. وقبل أن تصل إلى أفق الحدث بوقت طويل سينضغط جسدك كمعجون الأسنان المنبثق من أنبوبه وسيستطيل جسدك كالشريط المطاطي. ستكون رحلة إلى الجحيم.
(٣-٣) الطامة الكبرى
أحيانًا يكون الكون مذهلًا للغاية، حتى إنه يصعب على العلماء الماهرين أن يتخيلوا كيف يمكن للطبيعة أن تُوجد الظاهرة التي يرصدونها. تدبر هذا: نجم محتضر يطلق من الطاقة ما تطلقه ألف شمس عبر حياتها بأسرها. وعلى مدار ثوانٍ قليلة يغمر الكون بأشعة جاما، ويطلق موجة انفجارية شديدة السطوع، حتى إنه من الممكن رؤية هذه النجوم المنفردة على بعد ١٣ مليار سنة ضوئية، في زمان لا يبعد كثيرًا عن الانفجار العظيم وفي مكان بعيد يمتد إلى أبعد المجرات. ذلك هو مفجر أشعة جاما.
ينطلق انفجار لأشعة جاما في مكان ما في الكون حوالي مرة واحدة يوميًّا، وتستطيع الأقمار الصناعية الحديثة أن ترصد أشعة جاما في ثوانٍ قليلة، وتوجه التليسكوبات الأرضية لإجراء متابعة سريعة قبل أن تختفي الكرة النارية. ثمة نوعان من أشعة جاما: يُعتقد أن تلك التي تبقى أقل من ثانيتين تنتج عن تصادم اثنين من النجوم النيوترونية، أما تلك التي تدوم فترة أطول فيعتقد أنها نماذج لمستعرات عظمى شديدة العنف تسمى المستعرات العظمى الفائقة (هايبرنوفا)، وهي صرخة تعبر عن نجم يلفظ آخر أنفاسه، وثقب أسود يولد.
عندما يموت نجم يدور على نحو سريع وتزداد كتلته عن كتلة الشمس بعشرين ضِعفًا، ينهار مركزه ويصير مستعرًا أعظم، ويخلف وراءه ثقبًا أسود ذا سحر إضافي. تتسبب الكتلة ودرجة الحرارة العاليتين مقارنة بالمستعر الأعظم العادي في تدفق أشعة جاما مع الموجة الانفجارية الناتجة، ويتسبب الدوران السريع للنجم في اندفاع الإشعاع والغاز الساخن على طول محور دوران الثقب الأسود، ليشقا طريقهما في الطبقات العليا من النجم المحتضر ويطلقان انفجارين نفاثين في أرجاء الكون بسرعة تصل إلى ٩٩٫٩٩٥٪ من سرعة الضوء، ولا نرى انفجارات أشعة جاما إلا عندما يشير أحد الانفجارين إلينا، وهو ما يعني أن ما لا نراه يزيد عما نراه بمئات الأضعاف.
يبلغ معدل انفجارات أشعة جاما انفجارًا واحدًا بالمجرة كل ١٠٠ ألف عام، لذا هي أقل تكرارًا من المستعرات العظمى بما يعادل آلاف المرات، لكن الطاقة، ومن ثم الخطر المحتمل، يكونان أعظم على نحو متماثل. ماذا سيحدث إن وجدنا أنفسنا في طريق حزمة أشعة انطلقت من مسافة ألف سنة ضوئية؟ فلنُحكِم ربط أحزمة المقعد.
ستضيء الكرة النارية على نحو مماثل لسطوع الشمس في السماء، بعد لحظات سيصطدم فيضان من الإشعاع عالي الطاقة بالغلاف الجوي مشعلًا فيه النيران. ستحترق الغابات وتغلي البحيرات والأنهار ويصير جانب الأرض المواجه للانفجار مجدبًا. سترسل موجة الاصطدام جدارًا من ألسنة اللهب حول الكوكب ارتفاعه ميل، وبهذا قد تنجو بعض كائنات المحيطات على الجانب البعيد. ستدمر أشعة جاما الكثيفة والأشعة فوق البنفسجية طبقة الأوزون في جميع أنحاء العالم. من غير المحتمل أن ينجو شيء من هذا الهجوم الضار.
حين أعدت مجلة «ديسكفر» قائمة تضم أبرز ٢٠ تهديدًا للحياة على كوكب الأرض جاءت انفجارات أشعة جاما في المرتبة الثانية، مباشرة بعد الكويكبات. وقدم فيل بلايت — الذي اشتهر بفضل مدونته عن «الأحداث الفلكية المشئومة» — خدمة للبشرية حين قدم قائمة مرتبة بالتهديدات في كتابه الذي صدر حديثًا بعنوان «الموت من السماوات: هذه هي الطرق التي سينتهي بها العالم». وقد ذكر أن احتمالية هلاك المرء على مدار حياته إثر التعرض لانفجار أشعة جاما هي ١ إلى ١٤ مليون؛ هذا المعدل يقل ٢٠ مرة عنه بالنسبة لاصطدام الكويكبات.
لننظر إلى مستوى هذا الخطر؛ إن النجوم الضخمة بما يكفي كي تنفجر كمستعرات عظمى فائقة نادرة للغاية، لكننا بحاجة إلى إحصاء كامل للنجوم حتى مسافة ألف سنة ضوئية، علاوة على أن معرفتنا بمجرة درب التبانة ليست مفصلة بدرجة كافية لأن نكون متيقنين من انعدام وجودها على هذه المسافة. يأتي النجم «إيتا كارينا» على قائمة الأخطار. هو مرئي للعين المجردة، ويبعد عن الأرض بمسافة ٨ آلاف سنة ضوئية، وهو أيضًا النجم الأسطع في المجرة؛ إذ يطلق من الطاقة في غضون خمس ثوانٍ قدرًا هائلًا يماثل ما تطلقه الشمس في عام كامل. وقد رأينا سطوعه يتضاعف منذ ١٠ سنوات فحسب؛ لذا هو ليس مستقرًّا، علاوةً على أن كتلته تزيد ١٠٠ مرة عن كتلة الشمس؛ فمن المحتمل أن يفجر أشعة جاما عند موته. ولحسن الحظ، لا يبدو أن محور دورانه يشير نحونا.
أقوى النهايات هي تلك التي تأتي على نحو سريع وبلا ألم وبصورة درامية. وإن فني البشر بفعل انفجار لأشعة جاما، فسيكون ذلك أكبر حفل وداع تقيمه الطبيعة لنا؛ إذ سيكون مرئيًّا على مستوى الكون. ليس في يدنا ما نفعله إن وقعنا على مسار مثل هذه الظاهرة العنيفة، فالأمر يماثل إلى حدٍّ بعيد موقف الأرض في مسلسل الخيال العلمي الكوميدي «دليل المسافر إلى المجرة» للمؤلف دوجلاس آدامز حين وجدت نفسها على مسار أحد مشروعات البناء في المجرة.