موطننا المجرِّي
مجرة درب التبانة قصة عاطفية بشرية مخطوطة على نطاق واسع في السماء. وحسبما حكاها الإغريق القدماء، كان لإله الشمس هليوس ابنٌ متهور يدعى فيتون، كان متيقنًا من أنه قوي بدرجة كافية لقيادة مركبة الشمس عبر السماء. حاول هليوس أن يقنعه بخلاف ذلك، لكن فيتون أمسك بعنان الخيول واستحوذ على المركبة المتقدة وخيولها الأربعة. شعرت الخيول أن يدًا مترددة توجهها؛ لذا تمايلت وجمحت عبر السماوات، تاركة الأرض في حالة متناوبة ما بين التجمد واللفح الشديد وهي تغير اتجاهها لأعلى ولأسفل.
لفحت الشمس أجساد البشر في الهند وأفريقيا بشدة، حتى إن بشرتهم ظلت سمراء. تدارك زيوس الضرر بأن قذف صاعقة على الفتى فسقط إلى الأرض كمذنَّب واستقر في نهر الفرات. رثت الآلهة موته بأن وضعت النهر أعلى في السماء حيث صار كوكبة النهر. أما الندبة المحترقة غير المنتظمة التي سببتها المركبة في السماء، فصارت مجرة درب التبانة.
تربط أساطير أخرى شريط الضوء السماوي المتناثر بآلام الغيرة، فإحدى أولى القصص الإغريقية تدور عن كرونوس، وهو والد زيوس. ولأن كرونوس لم يُرد أن يفقد مكانته كإله السماء فقد ابتلع أبناءه. لم تحتمل ريا، الأرض، فقدان طفل آخر بسبب غيرة زوجها؛ لذا لفت صخرة في قماط الطفل وأعطتها إلى كرونوس كي يبلعها. ولما كان متشككًا طلب منها أن تُرضع الطفل مرة أخرى قبل أن يلتهمه. ضغطت ريا بالصخرة الصلبة على حلمة ثديها وأصبح اللبن المتدفق مجرة درب التبانة.
ثمة رواية أخرى لهذه الأسطورة، وفيها رضع الطفل هرقل اللبن من هيرا ليحظى بحكمتها، لكن حين أدركت أن الطفل ابن غير شرعي لزيوس من امرأة أخرى، دفعت بالطفل بعيدًا وتحولت لطخة من اللبن إلى مجرة درب التبانة. خُلدت هذه القصة في لوحة مضيئة للرسام الشاب الفينيسي تينتوريتو في المتحف الوطني بلندن.
في أجزاء أخرى من العالم فاقت عادات تبجيل مجرة درب التبانة الثقافات الفردية عددًا. آمن الناس في شرق آسيا أن شريط النجوم الغائم كان «نهر السماء الفضي». وفي فيتنام تحيك الجنية الحائكة الأثواب الحريرية ويرعى راعي الجواميس القطعان، ووقع الاثنان في الحب لكنهما أهملا واجباتهما؛ لذا عاقبهما الإمبراطور اليشم بالعيش على جانبين متقابلين من النهر الفضي. هذان هما نجما النسر الواقع والنسر الطائر. رق لهما قلب الإمبراطور اليشم وسمح لهما بأن يتقابلا مرة واحدة كل عام، في اليوم السابع من الشهر السابع، وهو الاحتفال الميمون بعيد الحب الصيني.
ظهرت مجرة درب التبانة على نحو بارز في روايات نشأة الكون في الأمريكتين، فشعب المايا يطلقون عليها اسم «شجرة العالم»، حيث تمثل سحب النجوم شجرة الحياة. وفي الفجر في منتصف شهر أغسطس تنتصب مجرة درب التبانة وتمر من سمت الرأس، وهو محور السماء. ومع التفاف السماء وإعتاق النجوم السبعة للدب الأكبر، تُطرد الببغاوات السبع في أسطورة شعب المايا من مجاثمها فوق شجرة الحياة.
***
(١) النجوم القديمة والمستقبلية
(١-١) ذبابة مايو والغابة
تُولد ذبابة مايو في الماء، ثم تقضي يومها تحت الشمس؛ هذا اليوم هو عمرها كله حرفيًّا، فبعد أن انقضى عليها عام كحوراء، تبسط جناحيها طيلة وقت يقاس بالساعات. تخيل أن هناك ذبابة مايو غير عادية، وأن لديها القدرة على الطيران خلال الغابة واستيعاب ما تراه والتفكير في تبعاته. ما الذي ستراه؟ وما الذي ستتعلمه عن الغابة في مثل هذا الوقت القصير؟
سترى حشرات وحيوانات أخرى، لكنها ستشعر بالتقزم مقارنة بالمشهد المعقد المكسو باللون الأخضر، فعلى أرضية الغابة تستقر الأشنة والأزهار والشجيرات الصغيرة والنباتات الكثيفة. تنمو الشجيرات لأعلى وتتشابك قممها. عدد قليل من الأشجار لا تكسوه الأوراق، وقد تقشر لحاؤه. وأشجار أخرى تفحمت أو تمزقت. قد ترصد ذبابة مايو أيضًا جذوع الأشجار المتساقطة. ولما كانت خالية من الأوراق والفروع فقد لا يكون ممكنًا تمييزها كأجزاء من أشجار قوية تشق السماء. قد تكون بعض الجذوع متحللة بفعل الخنافس والتجوية، حتى إنها أقرب إلى الوحل منها إلى الأشجار.
ستخلص ذبابة مايو إلى أن الغابة تدور حقًّا حول الحيوانات والحشرات، ففي النهاية، وبخلاف الأوراق القليلة المتساقطة والأزهار التي تستدير كي تتبع الشمس، لا تفعل النباتات والأشجار الكثير. في تلك الأثناء تطوف الحيوانات بحثًا عن الطعام وتحفر جحورًا لها، ويطير النحل من زهرة لأخرى، ويعمل النمل بكد على نقل الطعام وبناء المواد بطول مسارات معقدة على الأرضية الورقية للغابة. يبدو أن هذا النشاط الهادف يحدث على ستار خلفي ساكن، فمن منظور السنجاب، ليست شجرة البلوط سوى منزل ومصدر للطعام على شكل جوز البلوط.
هل يمكن أن تستنتج ذبابة مايو من الملاحظات التي جمعتها أثناء حياتها القصيرة أن الكثير من الأشياء التي في عالمها مرتبط وقتيًّا؟ هل ستستنتج أن جوزة البلوط يمكن أن تنمو لتصير شجيرة، وأن الشجيرات صغيرة الحجم هي سلف لأشجار ارتفاعها ٣٠ مترًا وقطرها ٩ أمتار، وأن الأشجار تموت وتتساقط لكي تصبح جذوعًا خشبية، وأن الجذوع تتحلل على مدار الوقت إلى سماد يكمن أسفل بساط من الأوراق؟ هل يمكن لذبابة مايو أن تتبين نمط إنبات النباتات وتلقيح الأزهار؟ هل يمكن لذبابة مايو أن تعلم أن جوزة البلوط هي طعام ومسكن ليرقات السوس، ومن ثم تشارك في جزء آخر من دورة حياة الغابة؟ هل يمكن أن تعلم أن يرقات الفراشات أو الخنافس يمكن أن تُسقط شجرة بلوط قوية، مثلما يحدث حين يضربها البرق؟
في ضوء هذه الحياة القصيرة قد لا يحالف الذبابة الحظ. إن ولدت ذبابة مايو أثناء عاصفة رعدية ربما تدرك أن بعض الأشجار يضربها البرق وتموت، وإن تصادف أن رأت جوزة بلوط تسقط ربما تستنتج أنه سيكون من ورائها غرض بعد أن تسقط، لكنها قد تعجز عن تخمين أن جوزة واحدة من بين ١٠ آلاف جوزة ستنمو لتصير شجرة بلوط، وحتى إن سقطت إحدى الأشجار مرة كل يوم في مكان ما في الغابة، من غير المرجح أن تكون ذبابة مايو قريبة منها بما يكفي كي تلحظها.
(١-٢) مدينة النجوم
ما مجرة درب التبانة؟ خمن ديموقريطوس أن الوهج الشفاف كان الضوء المشترك للنجوم البعيدة (مع أن ثمة دليلًا على أنه تأثر في فكرته بأناكسوجوراس). وقد خمن أيضًا وجود وحدات صغيرة أساسية غير مرئية للمادة أطلق عليها اسم الذرات. وشاع عن ديموقريطوس أنه كان يضحك بسرعة على كل شيء تقريبًا، حتى إنه أُرسل إلى أبقراط لكي يعالجه. قال أبقراط إن ديموقريطوس ليس مجنونًا، بل يحظى بحالة مزاجية سعيدة فحسب. وربما كان الابتسام سيلازم أي شخص يمكنه أن يحتفظ بهذا العدد الهائل من النجوم والذرات في عقله. كان ديموقريطوس متقد الذكاء وسابقًا لزمانه، لكن لم يكن لديه أي دليل يؤيد تخميناته.
استبعد تيار الفكر الإغريقي الرئيسي هذه الفكرة لمصلحة نظرية الكون المتمركز حول الأرض، التي ذهبت إلى أن الأرض ثابتة ضمن مجموعة من الكرات البلورية، وأن الكرات الداخلية تحمل القمر والشمس والكواكب الخمسة المرئية للعين المجردة، والكرات الخارجية تحمل كل النجوم. كان أودوكسوس هو من اقترح هذا النظام بصورة مبدئية، لكن أرسطو كان أكثر مؤيديه قوة وفصاحة. لقد توصل أرسطو إلى أنه من البديهي أن الأرض لا تتحرك، وأن الأجرام السماوية تتحرك في دوائر تامة، وأننا مركز كل شيء. كانت النجوم تشكل مدرجًا والأرض هي خشبة المسرح الرئيسية. ربما الأحرى بنا أن نطلق على هذه النظرية اسم «الكون المتمركز حول الذات».
وفق نظرية الكون المتمركز حول الأرض لا بد أن تكون النجوم على مسافة متساوية من الأرض لتفسر حقيقة أنها لا تتباين في السطوع أو الموقع على مدار العام. وفي أكثر نماذج هذه النظرية تعقيدًا، تعين وجود ٥٦ كرة بلورية لتبرير الحركات الدقيقة التي تصدر أحيانًا للكواكب؛ لقد كانت متوازنة ومتداخلة وكأنها تروس لساعة سماوية. وفي نسخة النموذج التي نقلها بطليموس في رائعته «المجسطي» بلغت المسافة الممتدة إلى أبعد الكرات حوالي مليون ميل؛ من ثم لا بد أنها كانت تدور بسرعة هائلة تبلغ ١١٠ كيلومترات في الثانية (٢٥٠ ألف ميل في الثانية).
بعد ألفي عام تقريبًا بدأ جاليليو في إجراء التجارب مستخدمًا التليسكوب الذي جرى ابتكاره حديثًا. كشف جاليليو عن العديد من عجائب السماء — البقع الشمسية على الشمس وأقمار كوكب المشتري والتضاريس الجبلية على سطح القمر — لكن ربما جاءت كبرى المفاجآت عندما وجه تليسكوبه إلى مجرة درب التبانة. لقد تحولت الضبابية الشفافة إلى نقاط ضوئية محددة مثلما تتحول صورة تليفزيونية متدفقة إلى نقاط فسفورية متناهية الصغر أو بكسلات حين تقترب منها للغاية. ومن وجهة نظر جاليليو أعطى هذا السماء عمقًا حقيقيًّا؛ بعدًا ثالثًا. بدا من المعقول الافتراض أن كل نقطة ضوئية كانت نجمًا كالشمس، وأن بعضها كان أبعد في المسافة من الآخر. لقد رأى جاليليو عددًا هائلًا يصعب حصره، وافترض أن هناك عددًا أكبر بكثير يخرج عن نطاق قدرة تليسكوبه الصغير. إننا نعيش في مدينة نجوم.
أذكر جيدًا حين رأيت مجرة درب التبانة لأول مرة؛ أعني المرة الأولى التي «رأيتها فيها حقًّا». كنت أدرس علم الفلك لسنوات ورصدت الظواهر على قمم الجبال في أمريكا الشمالية. كانت تلك المواقع مظلمة لكن كان هناك دومًا مدن في الأفق تفيض بضوئها لأعلى سماء الليل. وبعد أن حصلتُ على الدكتوراه ذهبت إلى تشيلي للمرة الأولى، وأنبأتني رحلة الطائرة إلى الشمال من سانتياجو، والرحلة الوعرة بالسيارة مدة خمس ساعات، بأنني سأكون بعيدًا للغاية عن الحضارة. كان المرصد فوق قمة نتوء جبلي صخري، وكانت البرية من حولي في كل مكان: قمم جبال الإنديز المرتفعة، والتلال السفحية القاحلة بنية اللون الممتدة كدثار منبسط متجعد، والحافة الجنوبية لصحراء أتاكاما. لكن لم يفلح أي من هذا في التخفيف من شعوري بالمفاجأة حين شاهدت السماء في منتصف الليل. ظهرت مجرة درب التبانة بالأعلى كشريط فضي بالٍ. كان لمجموعات نجومها وسحبها المظلمة عمق وبنية. توهج ضوء النجوم على نحو شديد السطوع، حتى إنني استطعت قراءة الكتاب الذي كان بين يدي، وكان ظل الكتاب ويدي واضحًا على الأرض. وقفت ساكنًا عدة دقائق وأنا مذهول.
(١-٣) هيكل المجرة
لم يستطع جاليليو أن يقيس حجم المدينة. تولى ذلك الأمر ويليام هيرشل الذي انتقل ببناء التليسكوبات إلى آفاق جديدة قرب نهاية القرن الثامن عشر. كان هيرشل عازف موسيقي محترفًا وعالم فلك حاز على الشهرة والرعاية الملكية بفضل اكتشافه لكوكب أورانوس. وبالعمل مع أخته المخلصة كارولين — وهي ذاتها عالمة فلك بارعة — أجرى عدة عمليات مسح ليلية للسماء وحصر عدد النجوم. انخفضت كثافة النجوم مع انتقاله بعيدًا عن شريط الضوء في أي من الاتجاهين، لكنها ظلت ثابتة تقريبًا بطول ذلك الشريط؛ لذا استنتج أننا نعيش بالقرب من مركز قرص هائل من النجوم. وأشار تقديره إلى أن قطر مجرة درب التبانة يبلغ ٨٠٠٠ سنة ضوئية، وأن سمكها يبلغ ١٥٠٠ سنة ضوئية، وأنها تحتوي على ٣٠٠ مليون نجم.
كيف توصل إلى هذا التقدير؟ إننا محبوسون على سطح كوكبنا ولا يمكننا قياس البعد الثالث. اعتمد هيرشل على الطريقة التي ينتقل بها الضوء. إن الأشعة الصادرة عن أي مصدر ضوء كروي الشكل تنتشر وتتوزع مع انتقالها عبر الفضاء. وعن بُعد يتناقص سطوع أي مصدر ضوئي بمقدار التربيع العكسي للمسافة؛ فإذا ابتعدت عن أحد النجوم ضعفَي مسافتك الحالية عنه، فسيخفت سطوعه بمقدار أربعة أضعاف. استخدم هيرشل السطوع النسبي للنجوم كي يحدد مسافاتها النسبية، وذلك بافتراض أن كل النجوم لها السطوع ذاته.
كان هيرشل محقًّا بشأن قرص النجوم، لكنه كان مخطئًا بشأن حجمه وموقعنا داخله. لقد قلل من شأن حجم مجرتنا على نحو شديد بافتراض أن كل النجوم تماثل الشمس. في الواقع، إن أكثر نجوم يسهل رؤيتها هي أكثر النجوم سطوعًا بطبيعتها، وهذه أضخم حجمًا من الشمس. ولأنه يمكن رؤيتها من مسافات بعيدة للغاية، فهي أبعد كثيرًا عن النجوم المماثلة للشمس التي لها درجة السطوع نفسها. كانت الطريقة التي استخدمها هيرشل في تقدير المسافات غير متقنة بدرجة كبيرة بما لا يسمح بإعطاء نتيجة موثوق بها.
الآن لننتقل بالزمان إلى قرن تالٍ. اضطلع عالم الفلك الأمريكي هارلو شابلي بعملية قياس حجم مجرة درب التبانة، متسلحًا بتليسكوب جديد قطره ١٫٥ متر (٦٠ بوصة) على جبل ويلسون في كاليفورنيا — وكان أكبر التليسكوبات حجمًا في العالم آنذاك — وطريقة جديدة لقياس المسافات باستخدام خصائص النجوم النابضة. درس شابلي التركيزات المحكمة للنجوم التي أطلق عليها اسم العناقيد الكروية، ووجد أنها تقع على مسافات كبيرة على نحو مذهل تتراوح من ٥٠ ألفًا إلى ٢٠٠ ألف سنة ضوئية. شكَّلت النجوم حشدًا كروي الشكل عند الحد الخارجي لمجرة درب التبانة، ولم يكن حشد النجوم متمركزًا حول الشمس، بل حول موضع يبعد ٢٧ ألف سنة ضوئية في اتجاه كوكبة الرامي.
كان شابلي محقًّا بشأن اتجاه مركز مجرة درب التبانة، لكنه أخطأ أيضًا بخصوص الحجم. كان خطؤه هو الافتراض أن الفضاء بين النجوم كان خاليًا. ثمة خليط رقيق من الغاز والغبار يتخلل الفضاء. ويتشتت الضوء بعيدًا عن جزيئات الغبار متناهية الصغر، ويكون التأثير التراكمي لذلك هو أن النجوم البعيدة تبدو معتمة؛ بهذا ينخدع علماء الفلك بالاعتقاد بأنها أبعد مما هي عليه بالفعل. ولم يتسنَّ سبر أغوار المجرة بالموجات الراديوية التي لا تتأثر بالغبار الواقع بين النجوم حتى ثلاثينيات القرن العشرين.
تحتوي مجرتنا على نحو ٤٠٠ مليار نجم. وهذا الرقم أقل دقة من الحجم؛ لأنه يعتمد على مدى العمق الذي تنظر إليه، فمعظم النجوم أصغر حجمًا بكثير وأعتم من الشمس، وهي تفوق في العدد النجوم المماثلة للشمس بكثير.
ماذا عن مكاننا في هذه المدينة من النجوم التي يزيد عددها ٦٠ مرة عن عدد البشر على كوكبنا؟ نحن موجودون بالمنطقة الحضرية لكننا بعيدون عن المركز، على نحو مماثل للمسافة من باسادينا إلى لوس أنجلوس أو من ويمبلي إلى لندن. نحن قريبون من الذراع الحلزوني لكوكبة الجبار، وهو طريق عام رئيسي للنجوم، وتحيط بنا قصص ميلاد النجوم ووفاتها. إن مركز المجرة مكان فوضوي، مكتظ للغاية بالنجوم، حتى إننا لو عشنا هناك فستكون سماء الليل مضاءة بسطوع يماثل ذلك الذي ينشره القمر وهو بدر. وإن عشنا بالقرب من الحافة فسنشعر بالعزلة الشديدة، لكن سيعوضنا عن ذلك استمتاعنا بمنظر الأذرع الحلزونية الخلاب.
(١-٤) الميلاد والطفولة
مجرة درب التبانة ذات مساحة شاسعة، وتبدو خالدة، بيد أن لها بداية وستكون لها نهاية. وعلى نحو مشابه للممثلين الذين يناجون أنفسهم في مسرحية شكسبير «كما تحب»، للنجوم أوقات دخول وخروج، وحتى خشبة المسرح لن تدوم إلى الأبد. إننا مرتبطون بالصورة التقليدية للرضيع الذي «يبكي ويتقيأ». لم تكن مجرة درب التبانة بالحجم نفسه فيما مضى. لكن على عكس الرضيع، لم تبدأ المجرة بنسخة مصغرة للغاية من ذاتها الحالية، بل جُمعت من أجزاء أصغر. من السهل الحصول على رضيع؛ عاطفة لحظية أو نسيان لحبة منع الحمل. لكن ما مدى سهولة الحصول على مجرة؟
دعونا نقابل كارلوس فرينك. كارلوس أستاذ للفيزياء، حاصل على كرسي أستاذية أوجدِن، ومدير لمعهد «علم الكونيات الحوسبي» بجامعة دورهام بإنجلترا. وهو من الشخصيات الرائدة في مجال استخدام أجهزة الكمبيوتر لمحاكاة جوانب الكون وتطور المجرات.
يلوح فرينك بذراعيه أثناء وصفه لعمل معهده. هو ليس فقط مفعمًا بالحيوية والنشاط، لكنه أيضًا مفعم بالمرح. لديه عينان سوداوان براقتان، وأنف قوي، وشعر أسود تتخلله شعيرات رمادية، وله صوت أجش يحمل لكنة بلده الأم؛ الأرجنتين. قد يبدو رجلًا فاتنًا كبير السن، لكنه غير مهتم بإغواء النساء، بل يتوق بكل جوارحه لمعرفة أسرار المجرات. يمكننا أيضًا أن نتصور الانفصال الثقافي الذي يمر به عندما يقابل السكان قليلي الكلام في هذه المدينة السوقية الصغيرة في شمال شرق إنجلترا، ونتخيل حواجبهم المتقوسة حين يتحدث إليهم عند خزينة السداد في المتجر ويشرح أوجه جمال المادة المظلمة.
كل هذا ينبغي أن يشعر علماء الفيزياء الفلكية باليأس، لكن حين يشيح كارلوس فرينك بذراعيه في أحد المؤتمرات فإن هذا يكون مبعثه الابتهاج. وهو يتهلل قائلًا: «لا يمكنني أن أصدق أن الأمر يسير على هذا النحو الطيب؛ إذ تتضح صحة جميع خصائص المجرات — نسبة المجرات الحلزونية والتجمعات النجمية والزخم الزاوي — هذا أمر رائع!» لا يشعر كل من في القاعة بالاقتناع، بل يشعرون بالخداع، لكن لا شك أننا الآن نعلم القصة الأساسية لكيفية وصول كل المجرات، ومن بينها درب التبانة، إلى ما هي عليه اليوم.
تجمَّع الغاز بمراكز تلك التركيزات الضعيفة من المادة المظلمة التي تقل في ضخامتها عن مجرة درب التبانة بآلاف المرات. انهار الكثير منها مشكِّلًا النجوم الأولى في تاريخ الكون، لكن بعد مائة مليون عام أو ما يقارب ذلك ماتت تلك النجوم، ومات الضخم منها بعنف شديد أجبر الغاز المتبقي على التلاشي، وتوقف تشكل النجوم. من المرجح أنه لم يكن هناك أي شهود على أول ضوء للكون؛ إذ تشكلت أولى النجوم من الهيليوم والهيدروجين الخالص دون أي عناصر ثقيلة تسمح بظهور الكواكب أو الكائنات الحية.
بعد مرحلة المجرات الوليدة، حلت مرحلة الطفولة، وفيها نمت المجرات لتقترب من أحجامها النهائية. إن فترة «وجه الصباح المشرق» هي الحقبة التي جرت فيها عملية تشكل النجوم بقوة، وسطعت المجرات على نحو مماثل لما ستكون عليه في النهاية. وكانت القدرة الكهربائية للكون وقت هذه الذروة أعلى بمائة مرة عن الوقت الحالي.
لماذا لم تستمر هذه العملية حتى تتجمع كل المادة الموجودة في الكون ليتشكل عدد قليل من المجرات الضخمة؟ يرجع أحد أسباب ذلك إلى أنه مع استهلاك الغاز تبقَّى قدر قليل لا يكفي لتشكل نجوم جديدة، والسبب الآخر يرجع إلى أن الكون كان يتمدد؛ من ثم كان اتحاد المجرات أقل تكرارًا. إن عملية تشكل المجرات مقيدة للذات؛ لذا لا تزيد المجرات في الحجم عن مجرة درب التبانة إلا في حالات نادرة.
يتابع كارلوس فرينك كل ذلك أثناء حدوثه، أو بالأحرى يشاهده على الكمبيوتر. إنه سعيد؛ فمجرة درب التبانة التي جرى محاكاتها تبدو تمامًا كالمجرة الحقيقية، وفي هذا يقول: «أجل، الأمر مذهل. أجل!»
(١-٥) ظهور واختفاء
حين بلغ الكون ثلث عمره الحالي لم تعد مجرة درب التبانة بسيطة. إنها تامة النمو ومعقدة، وصارت خشبة مسرح تستحق تمامًا مهرجان الحياة والموت الذي تستضيفه. ومن الطبيعي أن يعم المجرة الحرارة والضوء؛ لأنها الآن في أقصى عنفوانها، وكما يخبرنا الشاعر فإنها «تهدر كأتونٍ متقد».
نحن نعتقد أن النجوم مصابيح ضوئية، لكن ذلك ليس صحيحًا، ففي أغوار كل نجم ثمة أتون يعمل على اتحاد الأنوية الذرية تحت ضغط هائل. الاندماج النووي داخل الشمس يحول الهيدروجين إلى هيليوم، والاندماج النووي داخل النجوم الأكبر حجمًا من الشمس يحول الهيليوم إلى كربون، والكربون إلى ماغنسيوم وسليكون، والاندماج النووي في أضخم النجوم يحول الماغنسيوم والسليكون إلى حديد. تعمل كل الطرق الممكنة التي يمكن أن تتحد بها الأنوية الذرية على إثراء الجدول الدوري للعناصر، وهكذا نحصل على الكالسيوم لعظامنا، والنيون لأضوائنا الساطعة، والنحاس لنقودنا المعدنية.
يمكن للمحبين أن يكونوا أنانيين، وإن كانت النجوم تتصف بالأنانية ما كنت لأستطيع كتابة هذا، وما كنت لتستطيع قراءته. إن السمة المهيمنة على كل نجم هي الصراع الهائل بين قوة الجاذبية التي تجذب للداخل وقوة الإشعاع الناتج عن التفاعلات النووية والتي تضغط للخارج. وفي الشمس، بينما تقرأ هذه الكلمات، ثمة تعادل بين القوتين؛ إذ لا تتقلص الشمس ولا تتمدد، وستبقى على حجمها الحالي مليارات الأعوام، لكن حين يفرغ الوقود النووي تمامًا لا بد أن تجد الشمسُ وكل النجوم أوضاعًا ثابتة جديدة. تتسبب محاولة القيام بذلك في إطلاق الغاز في الفضاء، وذلك الغاز غني بكل المعادن الثقيلة التي كوَّنتها النجوم في مراكزها. تنهي أضخم النجوم حياتها بالانفجار كمستعرات عظمى مطلقة الغاز الثري بالعناصر في الفضاء.
في الغابة يمكننا أن نشهد دورة الحياة، وللنجوم أيضًا دورة حياة، فكل نجم هو مصنع كيميائي، وكل نجم سيفقد بعضًا من مادته في الفضاء النجمي. ذلك الغاز قد يشغل أعماق الفضاء فترة طويلة للغاية من الوقت، لكن أكثر المناطق كثافة للمجرة ستحوي ما يكفي من الغاز الذي سينهار في النهاية ليشكل نجومًا جديدة. بعد ذلك تضيف تلك النجوم إلى مخزون العناصر الذي ورثته عن كل الأجيال السابقة من النجوم. ومع مرور الوقت، يزداد تركيز العناصر الثقيلة في أي مجرة على نحو ثابت. ولو كانت النجوم أنانية، لظل كل الكربون الذي خُلق حبيس مراكز النجوم، ولم تكن الحياة البيولوجية لتظهر للنور.
شهدت مجرة درب التبانة حالات ظهور واختفاء عديدة للنجوم على مدار عمرها البالغ ١٢ مليار عام، فمعظم النجوم تولد وتموت دون أن يصحبها عرض مذهل؛ لأنها متوسطة الحجم وأقل سطوعًا مئات المرات من الشمس. وجميعها يموت كجمرات تفقد حرارتها ببطء، يطلق عليها اسم الأقزام البيضاء. وفي الواقع تستغرق النجوم التي تقل في كتلتها عن ثلث كتلة الشمس وقتًا أطول من ١٢ مليار عام كي تحول كل الهيدروجين الموجود بها إلى هيليوم، وهو ما يعني أنه لم يمت منها أي نجم قط طيلة تاريخ مجرة درب التبانة. هذه الأقزام غير نشطة؛ إذ لا تشارك فيما يدور على خشبة المسرح وتحيا حياة هادئة ومنعزلة.
ما علاقة هذا بنا؟ إن كل ذرة كربون ونيتروجين وأكسجين موجودة في حمضك النووي — أساس كل صور الحياة على الأرض — كانت موجودة من قبل داخل نجم بعيد في الفضاء. تلك الذرات قُذفت أو طرحت بعيدًا، وقضت دهورًا لا حصر لها وهي تنجرف في الفراغ في انتظار حدوث شيء مثير. وأخيرًا تجد نفسها داخل سحابة غاز وغبار منهارة، وتحتل موضعًا قريبًا يسمح لها بمشاهدة ميلاد نجم جديد. جُرفت هذه الذرات إلى واحدة من كتل صخرية قليلة ثم دخلت على نحو شبه إعجازي في لولب الحياة المزدوج.
لا يمكننا أبدًا أن نعرف قصتها كاملةً، فالذرات عديمة اللون والرائحة والمذاق، وهي شديدة البساطة بما يمنعها من أن تحمل أي أثر مميز لرحلتها. من الممكن أن تكون بعض من ذراتك وذراتي قد تكونت مباشرة بعد الانفجار العظيم، وانتقلت من وإلى أعماق العديد من النجوم. وكما قالت الشاعرة والمؤلفة ديان أكرمان: «إننا جميعًا أبناء غير شرعيين للمادة.»
في قصتنا عن مجرة درب التبانة تظهر الشمس للوجود بعد ٨ مليارات عام من تكوُّن المجرة. من المخزي أن أقولها، لكن ليس هناك شيء مميز في نجمنا متوسط الوزن والحجم. هو مجرد واحد من عدة ممثلين، وفي غضون ٦٫٥ مليارات عام سيلقي خطبة وداعه ويخرج من المسرح. مجرة درب التبانة في مرحلة البلوغ الآن، وهي لم تتغير كثيرًا منذ تشكُّل المجموعة الشمسية. وتكمل النجوم الموجودة في قرص المجرة دورة كاملة كل ربع مليار عام، وتدور النجوم الموجودة في الهالة في حلقات دخولًا إلى قرص المجرة وخروجًا منه في مدارات بيضاوية. والفعل الوحيد يرد من التغير النجمي؛ إذ ينفجر مستعر أعظم كل خمسين عامًا أو نحو ذلك، وينفجر نجم ضخم كل ١٠ آلاف عام مطلقًا سيلًا من أشعة جاما. ويبدو أن شكسبير كان يعلم ذلك؛ إذ قال إن المجرة «زاخرة بوعود غريبة».
(٢) عمليات الاندماج والاستحواذ
(٢-١) الرقص مع المرأة المسلسلة
ما الذي ينتظر مجرتنا؟ إنه الزواج من المجرة «إم٣١»، طبقًا للحسابات التي أجريت حديثًا. في المرة التالية التي تخرج فيها في ليلة مظلمة في فصل الخريف انتبه لمجرة المرأة المسلسلة؛ المجرة إم٣١. ابحث أولًا عن المربع العظيم لكوكبة الفرس الأعظم. النجم الأيسر العلوي في المربع هو الفرس. عدَّ نجمين ساطعين إلى اليسار ثم نجمين باهتين إلى الأعلى. تقع إم٣١ مباشرة إلى أعلى يمين النجم الباهت الثاني. من السهل رؤيتها باستخدام منظار مزدوج، وهي تبدو كسحابة على شكل النقانق، أما رؤيتها بالعين المجردة فأمر أصعب، وربما تحتاج إلى استخدام أسلوب الحياد البصري؛ بمعنى التحديق في نجم قريب منها، الأمر الذي يعمل على تنشيط الجزء الأكثر حساسية للضوء من شبكية العين لديك.
قد لا تبدو مجرة إم٣١ مبهرة للغاية، لكنها أبعد جسم ستراه على الإطلاق بعينيك المجردتين؛ إذ إنها تقع على مسافة ٢٫٢ مليون سنة ضوئية. هذه اللطخة الضبابية المرئية بالكاد بعيدة الآن على نحو كافٍ، لكن الفجوة تتضاءل بسرعة؛ إذ تقترب المجرة إم٣١ منا بسرعة فائقة تبلغ ١٣٠ كيلومترًا في الثانية (٣٠٠ ألف ميل في الساعة)، وفي غضون ٣ مليارات عام سنندمج مع أقرب مجرة لنا.
كان جون دوبينسكي قد استكشف النتائج المحتملة لهذا الاندماج. هو عالم كندي معسول اللسان، له شعر طويل ولحية صغيرة مشذبة، وقد استخدم التقنيات نفسها التي استخدمها كارلوس فرينك في إعداد نموذج الاصطدام الكوني. هذا النوع من المحاكاة يتطلب قوة حاسوبية هائلة؛ لذا استخدم دوبينسكي كل المعالجات البالغ عددها ١١٥٢ معالجًا في الحاسب المسمى «الأفق الأزرق» في «مركز سان دييجو للحاسبات الفائقة» في تتبع النجوم البالغ عددها ١٥٠ مليار نجم في كل مجرة. وحتى الأشخاص الذين قد يضجرون من القوة المتزايدة للحاسبات الشخصية سينبهرون بهذا العمل الفذ؛ إذ استخدمتْ عملية المحاكاة التي قام بها جون ذاكرة تفوق ألف مرة تلك الموجودة في الحاسب الشخصي التقليدي، وسجلت ٣٠٠٠ قرص فيديو رقمي للبيانات يوميًّا، وأجرت تريليون عملية كل ثانية. الأمر أشبه بقيام كل شخص على الأرض بإدخال عمليات حسابية على مائة آلة حاسبة كل ثانية.
طيلة ملياري عام لن يحدث الكثير، فمجرة درب التبانة تستحوذ على عدد قليل من جاراتها الأصغر الغنية بالغاز، مستخدمةً الغاز في تشكيل نجوم جديدة، والعمل سريعًا على دمج النجوم في القرص، لكن التجاذب أمر لا يمكن إنكاره؛ إذ لا تستطيع المجرتان مقاومته.
تصادم المجرات يختلف تمامًا عن التصادم بين الأفراد أو الأجسام في حياتنا اليومية، فعندما تلتقي المكونات الغازية لكلا القرصين ينضغط الغاز ويسخن، فيتوهج بالضوء الوردي المميز للعنصر المهيمن فيه؛ الهيدروجين. لكن حين تتقابل مجموعتا النجوم تكون النتيجة معقدة ومفاجئة. يكون التصادم معقدًا لأن للجاذبية قوة مطلقة، ومن ثم يتأثر كل نجم بجميع النجوم الأخرى الموجودة في كلتا المجرتين، كما يكون مفاجئًا لأن المسافة بين النجوم كبيرة للغاية، وكأنها حبيبات رمل يبعد بعضها عن بعض مئات عديدة من الأقدام.
ستمر المجرتان إحداهما عبر الأخرى كشبحين، ثم تنخرطان في رقصة جاذبية معقدة. سيستغرق طقس المغازلة هذا مئات الملايين من السنوات، ولو ظل البشر موجودين ليشهدوا هذا فسيرون مجرة إم٣١ تقترب بدرجة كافية بحيث تملأ سماء الليل بأكملها. ونحن نبدأ المرور خلال المجرة إم٣١ ستحث الجاذبية حلقات وتموجات في توزيع النجوم، وستدفع بقوس ضخم يحوي حوالي مليار نجم إلى الفراغ بين المجرات.
حتى عندما تلتهم إحدى المجرات مجرة أخرى تتخلف تأثيرات دقيقة في الحركات المدارية وأنماط الوفرة الكيميائية لنجومها. لقد التهمت مجرة درب التبانة عددًا من المجرات القزمة على مدار مليارات الأعوام الماضية، وبعضها تمدد كالشريط المطاطي في هالة مجرتنا. تنبئنا الآثار المتخلفة بعملية الالتهام التي وقعت، ومن ثم يفترض أن يكون باستطاعة علماء الفلك في المستقبل البعيد للغاية أن يستنتجوا أن المجرة الواحدة التي يرونها تشكلت من مجرتين حلزونيتين.
يملك جون دوبينسكي من روح الشاعر ما يمكنه من إدراك جمال عملياته الحاسوبية. وقد تعاون مع جون فرح، مؤلف الموسيقى الإلكترونية، من أجل تجسيد التصادم الكوني موسيقيًّا. لقد استخدمت الموسيقى بنجاح لاستحضار عظمة الفضاء في أفلام مثل «٢٠٠١: أوديسا الفضاء» للمخرج ستانلي كوبريك وعدد لا حصر له من عروض القباب السماوية. طرح فرح ودوبينسكي عام ٢٠٠٦ مقطوعات موسيقية لعدد من تصورات حركة المجرات على قرص فيديو رقمي بعنوان «جرافيتاس».
لكن ثمة احتمالًا مساويًا تقريبًا بأننا سنندفع تجاه كومة النجوم الموجودة في مركز المجرة الجديدة، الذي يمكن أن يسمى «المعدة المستديرة الكبيرة». ولكي نتابع الجزء التالي من القصة، سنتحول إلى قلب الظلام الكامن في كل نظام رئيسي للنجوم.
(٢-٢) قلب المجرة المظلم
في عام ١٩٣٠ كان كارل جانسكي يعمل مهندسًا متخصصًا في موجات الراديو بمختبرات «بيل»، وكان يحاول تتبع مصدر غامض للشحنات الاستاتيكية التي كانت تشوش على المكالمات الهاتفية العابرة للمحيط الأطلنطي. بنى جهاز استقبال إذاعي، وبعد أن استبعد العواصف الرعدية القريبة والبعيدة تبقَّى له مصدر التشويش الإذاعي القادم من السماء، وكان يأتي مبكرًا بمقدار أربع درجات كل يوم، وهو ما يعني أن للتشويش مصدرًا فلكيًّا. كان هذا الانبعاث الكثيف واردًا من كوكبة الرامي؛ أي في اتجاه مركز مجرة درب التبانة.
أبدى علماء الفلك اهتمامًا قليلًا بما توصل إليه جانسكي. نُشر الاكتشاف في دورية لمهندسي الراديو، وكانت تقنية موجات الراديو حديثةً للغاية، حتى إن معظم علماء الفلك لم يعرفوا كيفية تفسير النتائج. وفي ستينيات القرن العشرين اكتشف علماء الفلك أيضًا انبعاثًا كثيفًا للأشعة تحت الحمراء من كوكبة الرامي؛ هذه الموجات الطويلة يمكنها بسهولة أن تخترق الغبار وتصل مباشرة إلى قلب المجرة. وحين اكْتُشِفَ أيضًا انبعاث الأشعة السينية صار واضحًا أن النجوم لا يمكن أن تكون مسئولة عن هذا النشاط المركز. كان المصدر المحتمل ثقبًا أسود عملاقًا، فمع أن أي ثقب أسود يحبس كل المادة والإشعاع داخل أفق الحدث الخاص به، تُسرع الجاذبية الشديدة الموجودة بالقرب من أفق الحدث من حركة المادة وتسبب انبعاثًا كثيفًا له عدة أطوال موجية. وخمن المنظرون أن مجرة درب التبانة تُئوي ثقبًا أسود أضخم حجمًا من أي نجم.
تحاول أندريا جيز، من فوق قمة بركان خامل في هاواي، أن تقيس الثقب الأسود بدقة أكبر من أي وقت مضى. حصلت أندريا على الدكتوراه من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك)، وهي كبيرة الأساتذة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. بزغت أندريا كشخصية لامعة في مجالها حين انتخبت عضوًا في «الأكاديمية الوطنية للعلوم» قبل بلوغها العقد الخامس من عمرها، وحازت حديثًا على درجة زمالة «العباقرة» التي تمنحها مؤسسة ماكارثر. وهي تستخدم التليسكوب «كيك» الذي يبلغ قطره عشرة أمتار في هاواي ست مرات سنويًّا لكي تعد صورًا عالية الوضوح بالأشعة تحت الحمراء لمركز المجرة. يشتمل المرصد على جهاز ليزر خاص ينشئ نجمًا صناعيًّا في السماء؛ ليسمح لعلماء الفلك بتعويض التأثير الضبابي للحركات المضطربة في الغلاف الجوي للأرض.
لكن في هذه الليلة بالذات يصيب الجهاز عطل، وتعاني جيز نوبة صداع. هي لا تستطيع أن تحدد هل بسبب الارتفاع — الذي يبلغ ٤٢٠٠ متر مما يسبب النزيف الأنفي — أم بسبب الجهاز المتوقف عن العمل. فعادةً ما يوجه علماء الفلك التليسكوب كيك عن بعد من المكتب في وايميا، وهي بلدة جميلة تشتهر بتربية المواشي تبعد ١٥ دقيقة فحسب عن شاطئ رائع لركوب الأمواج. لكن حين يكون الجهاز جديدًا وغير مجرب، يُنجز العمل الشاق فوق قمة الجبل. تصحح أندريا أبحاث الطلاب والمهندسون محتشدون حول الجهاز الذي يزن ألفي كيلوجرام. تأمل أندريا أن يلتقطوا الفوتونات قبل بزوغ الفجر.
تتسم أندريا بالكياسة واللباقة، وذلك في مجال يهيمن عليه الرجال المتنافسون المتسمون بالخشونة أحيانًا. ترعى أندريا أسرتها وتقضي وقتًا أكثر في التدريس والعمل مع طلاب الجامعة أكثر من معظم الباحثين ذوي المنزلة نفسها. يبدو أنها تعلم كم هي محظوظة أن تكسب قوتها من التفكير في الثقوب السوداء.
(٢-٣) مستقبل جديد ساطع
بعد أن توحِّد مجرتا درب التبانة والمرأة المسلسلة قواهما وتتحولا إلى مجرة بيضاوية، من المتوقع حدوث شيء ممتع للغاية في مركز المجرة الجديدة، فمجرة إم٣١ بها حوالي تريليون نجم؛ لذا تبلغ كتلتها ضعف كتلة مجرتنا، وبها ثقب أسود أكبر حجمًا من الثقب الموجود بمجرتنا بثلاثين ضعفًا؛ أي يزيد في كتلته ١٤٠ مليون مرة عن كتلة الشمس. في السنوات العشر الماضية اكتشف علماء الفلك أن كل المجرات الضخمة تُئوي ثقوبًا سوداء، لكن في معظم الحالات، وكما هي الحال مع مجرة درب التبانة، يشكل الثقب الأسود جزءًا ضئيلًا من كتلة المجرة، ويكون هناك قدر قليل من الغاز في المركز كي يلتهمه. نتيجة لذلك يكون الثقب الأسود معتمًا، ولو نظرت إلى مجرة درب التبانة لن تشك أبدًا في وجود هذا الثقب في مركز المجرة، وحين يلتهم ثقب أسود كبير ما يصل إليه بحماسة، يتحول إلى نجم زائف.
يبلغ فيل هوبكنز من العمر ٣٠ عامًا، لكنه يبني النجوم الزائفة بالفعل على مدار الخمس سنوات الماضية. حصل فيل على الدكتوراه من جامعة هارفارد، وبعد تخرجه صار «شخصًا محل ثقة» لعلماء الفلك الذين يريدون فهم بياناتهم. كان أستاذه رئيسًا لقسم الفلك؛ لذا تعلَّم فيل كيف يعاونه. يدخل فيل بيانات الغاز والنجوم والمادة المظلمة في أحد أجهزة الكمبيوتر، ويضيف «بذرة» ثقب أسود معتدلة الحجم إلى المركز، ويجلس ليرى ما يحدث. يمكنه أن يزيد من معدل مرور الوقت أو من كتلة الثقب الأسود بأن يكتب سطورًا قليلة من الشفرة البرمجية. إن وجد أن عملية حاسوبية معينة مملة إلى حد ما، يمكنه أن يضيف مزيدًا من الإثارة إليها عن طريق إضافة عدد قليل من تصادمات المجرات. إنها متعة طيبة لشخص ضليع في العمل على الكمبيوتر.
سيرسل الاندماج الذي سيؤدي إلى وجود مجرة ميلكوميدا سحبًا من الغاز يصطدم بعضها ببعض؛ وهو ما سيحفز انهيارها، وستتشكل حشود من النجوم في مراكزها. كل هذا سيحدث على مساحة الخمسمائة سنة الضوئية التي تحتلها المجرة الجديدة القوية، في نوبة تشكُّل للنجوم تسبب التوهج الكثيف لتلك المناطق. سيكون من الممتع التطلع إليها.
إن الغاز الموجود بالقرب من مركز هذه المنطقة المشكلة للنجوم غير مرئي، وذلك بسبب امتزاج الغبار مع الغاز على نحو يحجب الرؤية من الخارج، وسيشهد هذا الغاز حراكًا. ستحثه الجاذبية على التجمع في إحدى سحب الغاز القريبة، لكنه سيتعرض لجاذبية أقوى من الثقب الأسود في المركز. سيسقط الغاز في براثن الثقب الأسود بسرعة شديدة، حتى إنه سينمو إلى حجم رهيب، وفي غضون ١٠٠ مليون عام فحسب ستزيد كتلته من بضعة ملايين ضعف كتلة الشمس إلى بضعة مليارات ضعف كتلة الشمس.
إن مرحلة النجم الزائف في مجرتنا وفي أي مكان في الكون لن يشهدها سوى الخبير طويل العمر، أما الكائنات ذات نطاقات الاهتمام القصيرة أو ذات الأعمار القصيرة فستكتفي بالتسلية بمشاهدة الموت العنيف للنجوم أو أنماط النجوم التي تتغير تدريجيًّا في سماء الليل، ولن يكون بمقدور أي أنواع سوى تلك التي قهرت الزمن أن تشاهد صعود وهبوط النجوم الزائفة عبر الأكوان، وتستمتع بالبيان الطنان الذي ستلقيه مجرتهم حين تُنشِّط الوحش القابع في مركزها: العرض الضوئي منقطع النظير.