تساءل «أحمد»: هل هذه هي البداية؟
كان المقر السري هادئًا تمامًا عندما فتح «أحمد» عينَيه وألقى نظرةً على ساعته التي كانت تلمع في الظلام. كانت الساعة تقترب من الرابعة، فكَّر قليلًا: هل يجب أن أوقظ الشياطين؟ لكنه لم يقطع في الأمر. كان الوقت لا يزال مبكِّرًا على إيقاظهم، هناك نصف ساعة على الأقل يمكن أن يناموها؛ فلا أحد يدري متى يمكن أن يناموا مرةً أخرى، إن الرحلة طويلة، وهناك! من يدري؟ … فقد تبدأ المغامرة في أي لحظة. قفز من سريره في نشاط، ثم أخذ يؤدِّي بعض التمرينات الخفيفة كعادته عندما يصحو من النوم، في النهاية دخل الحمَّام المُلحق بالحجرة، فأخذ دشًّا باردًا، وعندما كان يرتدي ثيابه كانت الساعة تشير إلى الرابعة والثلث.
أخذ يُعِد حقيبته الصغيرة بكل ما يمكن أن يلزم في هذا المكان البعيد. فجأةً انبعثت موسيقى هادئة من جهاز التليفون، فعرف أن الشياطين قد استيقظوا. رفع السمَّاعة فجاءه صوت «باسم» يقول: صباح الخير، هل أنت مستعد؟
ابتسم «أحمد» وأجاب: تقريبًا، هل أنت مستعد؟ جاءه صوت باسم: لقد استيقظت قبل الرابعة بقليل.
ابتسم مرةً أخرى؛ فقد كان الموعد نفس الوقت الذي استيقظ فيه.
سأل: هل الشياطين جاهزون؟
جاءه صوت «باسم»: إن الجميع في الانتظار.
قال: لقاؤنا بعد خمس دقائق في القاعة الصغرى.
وضع السمَّاعة وهو يهمس لنفسه: لقد استيقظ الشياطين في نفس الموعد، إنهم دائمًا مستعدون.
أخذ يضع باقي الأشياء في الحقيبة، ثم أخذ طريقه إلى القاعة الصغرى. كان الشياطين في الانتظار، ألقى عليهم تحية الصباح، ثم جلس بينهم، وكان طعام الفطور في الانتظار هو الآخر، كان عبارةً عن مجموعةٍ من السندوتشات مع كوب من الشاي باللبن. عندما انتهَوا من الفطور ظهرت كلمات على شاشة القاعة: «رقم «صفر» يتمنَّى لكم صباحًا طيبًا، ويرجو لكم مغامرةً ناجحة، ككل المغامرات السابقة». كانت هذه الكلمات تعني انطلاقهم، بسرعة أخذوا طريقهم إلى «الجراج» حيث توجد السيارات … كان المقر لا يزال نائمًا، إلا من صوتٍ هادئ لكثيرٍ من الآلات التي تعمل ليل نهار، والتي تتلقَّى الرسائل من عملاء رقم «صفر» في جميع أنحاء العالم. في لحظاتٍ كانوا يأخذون أماكنهم في السيارة «الكامارو» الزرقاء. جلس «رشيد» إلى عجلة القيادة وبجواره «أحمد»، بينما أخذ الباقون أماكنهم في الكرسي الخلفي. أدار «رشيد» المحرِّك، ثم انطلق في هدوء. أرسل «أحمد» إشارةً إلى العقل الإلكتروني الذي يحكم الأبواب الصخرية، كانت الإشارة عبارةً عن ثلاثة أحرف: «ل. أ. ن». وكانت تعني اسم «لان»، المقطع الأخير من اسم ملك الأفيون «شو-لان». في دقائق كانوا قد قطعوا الممر الطويل، فانفتحت الأبواب الصخرية لتمرق السيارة كالصاروخ وهي تغادر المقر السري في طريقها إلى مغامرة «المثلث الذهبي».
كان الليل شديد الظلام يطمس معالم الطريق لولا ضوء السيارة القوي، ولم يكن هناك صوت، ولا إنسان؛ ولذلك فقد كان «رشيد» ينطلق بالسيارة في سرعةٍ كبيرة تتجاوز المائتي كيلومتر في الساعة، لكن الشياطين لم يكونوا يشعرون بشيء؛ فقد كانت «الكامارو» الزرقاء مغلقةً بطريقةٍ تمنع «تسرُّب» أي صوت إليهم. كانوا قد ناموا نومًا عميقًا؛ ولذلك فقد كان النشاط يظهر على وجوههم، وربما يكون نوعٌ من السعادة هو الذي يلمع في عيونهم، حتى إن «فهد» قال في ارتياح: ربما لأول مرة أشعر بهذه السعادة الغامرة.
قال «مصباح»: إنها السعادة في لقاء المجهول.
أضاف «فهد»: لعلها السعادة لنوع المغامرة الجديد.
مرةً أخرى عاد الصمت، فاستغرق كلٌّ منهم في تفكيره الخاص، ولم يكَد النهار يظهر حتى همس «أحمد»: ما أمتع الصباح! إن أجل شيء في الوجود أن تبدأ الحياة هكذا مبكِّرًا.
كان الصباح رائعًا فعلًا، لقد بدأت أشجار النخيل تحف جانبَي الطريق، فتبدو كعمالقةٍ وقفوا في حراسة شيء غير معروف، بينما ظلَّ الشياطين يرقبون كل شيء حولهم في متعة.
لم تكَد الساعة تتجاوز التاسعة حتى كانوا عند بوابة المطار الخارجية. نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: أمامنا نصف ساعة فقط حتى تُقلع الطائرة، إن هذا وقت كافٍ. نظر حوله، ثم غادر السيارة فتبعه الشياطين.
كانت الحركة أمام المطار توحي بنشاطه الداخلي، وكان هناك رُكَّابٌ قادمون، ورُكَّابٌ قد وصلوا لتَوِّهم، وكان كثيرٌ من المودِّعين والمستقبلين يزحمون الساحة الواسعة أمام المطار. غادر «رشيد» السيارة، ثم دفع الباب في رفقٍ فأُغلقت جميع الأبواب. كان «أحمد» يعرف أن هناك من سيأخذ السيارة إلى حيث تعود مرةً أخرى إلى المقر السري. تحرَّكوا في هدوءٍ إلى داخل المطار، واشترى «باسم» عددًا من الصحف والمجلات، ثم لحق بهم. وعندما كانت خمس دقائق فقط هي الباقية، كان الشياطين يأخذون طريقهم إلى الطائرة التي كانت تربض قريبًا من باب المطار الداخلي. في نفس الوقت كانت أصوات المذيعات داخل الصالة الواسعة تُعلِن عن وصول طائرة، أو مغادرة طائرة أخرى. وعندما وضعوا أقدامهم داخل الطائرة كانت دقيقة واحدة قد بقيت على ساعة الرحيل. كانت الطائرة من نوع «البوينج». نظر الشياطين إلى المقاعد المزدحمة بالركَّاب، ثم أخذوا طريقهم إلى مقاعدهم، كان كل واحد يجلس في مكان، وهذه دائمًا عادة الشياطين؛ فالقاعدة التي يعملون بها: إن السفر خير طريق لجمع المعلومات.
كانت أول محطة نزول للطائرة في مطار بيروت، وكانت الثانية في «نيودلهي» بالهند، بعدها سوف ينزلون في «بانكوك»، التي تُعتبر أول خطوة في المغامرة داخل «تايلاند»، واحدة من الدول الثلاث التي تشترك في «المثلث الذهبي»، ولأن الرحلة كانت طويلة؛ فقد أخرج «أحمد» كتابًا دقيق الحجم عن شرق آسيا، ظلَّ يقلب صفحاته، حتى توقَّف عند صفحةٍ بعينها، ثم بدأ يقرأ. كانت الفقرة التي يقرؤها عن زرعة الأفيون في المناطق التي سيذهبون إليها. قرأ بعضَ الوقت، ثم أغلق الكتاب وشرد. كان يفكِّر في تلك اللحظات التي تحدَّث عنها الكتاب، لحظات الفجر، حيث يبدأ العاملون في زراعة السموم عملهم. إن جمع المادة الطرية من هذا النوع من الشجر، لا يَتم إلا في الفجر. ظهرت الدهشة على وجهه، وتردَّدت في خاطره كلمات: إن هؤلاء الناس يُسيئون إلى جمال الفجر وعظمته؛ ففي الوقت الذي يبدأ فيه الوجودُ الحياة، يبدأ هؤلاء في جمع السموم. أيقظه من شروده هزةٌ قوية، نظر من النافذة القريبة منه، فعرف أنهم وصلوا إلى مطار «بيروت». نظر في اتجاه الشياطين فوجدهم جميعًا يتحدَّثون مع جيرانهم. علت وجهَه ابتسامة وهو يقول في نفسه: إن السفر خير وسيلة لجمع المعلومات.
انقضى وقت الترانزيت، حيث تبقى الطائرة بعض الوقت في المطار؛ إمَّا لاستكمال الوقود، أو لحمل رُكَّاب جدد في طريق رحلتها. ومن جديد أدارت الطائرة محرِّكاتها، ثم أخذت طريقها إلى الفضاء. شعر «أحمد» بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالةً من أحد الشياطين. استقبل الرسالة، وكانت بدايتها حرف «م»، وهو الحرف الحركي ﻟ «مصباح» في المغامرة. قالت الرسالة: «يبدو أنني في بداية طريقٍ طيب». أرسل رسالةً له: «استمر!»
مرَّت لحظات، ثم بدأت رسائل أخرى، كانت رسالة «فهد» تقول: «المعلومات غزيرة، محدثي شخصية غامضة أعتقد أنها سوف تُفيدنا كثيرًا».
وقالت رسالة «باسم»: «إنها مجرَّد تسلية. لا شيء هناك».
وكانت رسالة «رشيد»: «طريق صعب. زميل كثير الصمت».
عرف «أحمد» خريطة تحرُّك الشياطين داخل الطائرة مع زملائهم من الركاب، قال في نفسه: لعل «مصباح» و«فهد» يصلان لشيء.
استغرق في الكتاب مرةً أخرى وإن كانت عيناه ترقبان في ذكاءٍ حركة الراكب بجواره. كان الراكب شابًّا صغير السن، ويبدو عليه الذكاء الحاد؛ فقد كانت حركته بحساب، وقد ظلَّ صامتًا طوال الفترة السابقة منذ غادرت الطائرة أول مطار، غير أن حركاته الأخيرة جعلت «أحمد» يعرف أنه أمام بدايةٍ طيبة لزميلٍ هام، قال في نفسه: هل يمكن أن يكون أحدهم؟ تشاغل باستغراقه في القراءة وإن كان يفكِّر بسرعة. كان يفكِّر في طريقةٍ يبدأ بها الحديث معه، لكنه قال في نفسه: إن هذه قد تكون طريقةً مكشوفةً وساذجة. ظلَّ لحظاتٍ يفكِّر، ثم وقف في هدوء، ووضع الكتاب مقلوبًا وغادر المكان. دخل حمام الطائرة، ثم أرسل رسالةً سريعةً إلى «فهد»، كانت الرسالة تقول: «راقب زميلي … هل أخذ الكتاب؟»
أرسل «فهد» الرد: «إنه لا يظهر جيدًا». انتظر «أحمد» لحظة، كان يفكِّر: إنه يريد أن يعرف إن كان جاره في المقعد قد أمسك الكتاب أم لا. لم تمرَّ لحظات حتى كان هناك دق على الباب، عرفه في الحال؛ لقد كانت دقات الشياطين. فتح الباب وخطا إلى الخارج، فوجد «فهد» أمامه، قال بسرعة: لقد أخذ الكتاب. ابتسم «أحمد» وهمس: إذن، إنها البداية!
ثم سأل «فهد»: ماذا عن الشخصية الغامضة؟
قال «فهد»: يبدو أنه في طريقه إلى نفس المهمة؛ للبحث عن «شو-لان»، لكنه يخفي ذلك، ويبدو أنه أحد رجال الشرطة الدوليين، لكنه لا يفصح عن شخصيته؛ فهو يدعي أنه في طريقه إلى رحلة فقط لأنه يهوى الشرق، لكنه يملك معلوماتٍ بلا حدود عن المنطقة.
قال «أحمد» بعد لحظة: استفِد منه، وتجاهل أنك تفهم أنه شرطي؛ حتى لا تفقده.
قال «فهد»: إنني أفعل ذلك فعلًا.
ضغط «أحمد» يد «فهد»، ثم أخذ طريقه إلى مقعده بشكلٍ مفاجئ.
ابتسم ابتسامةً لا تظهر، عندما وجد شريكه في المقعد مستغرقًا في القراءة قال بصوتٍ خفيض: آسف، يبدو أنني سوف أقطع عليك متعة القراءة. وضح أن الشاب قد فوجئ بوجود «أحمد»، فابتسم خجلًا وهو يقول: بل إنني الذي أعتذر، لقد أخذتُ الكتاب دون إذن منك!
قال «أحمد» مبتسمًا وهو يجلس: لا بأس … إنه كتابٌ مثير.
ردَّ الشاب: فعلًا إنه كذلك.
قال «أحمد»: اسمح لي أن أقدِّم لك نفسي، «مانجا» من السنغال، غير أن أبي ليس من هناك؛ ولذلك فلوني مختلف، وهذه مسألةٌ تثير دهشة الكثيرين. صمت «أحمد» قليلًا، لقد فتح بذلك مجالًا واسعًا للحديث؛ فهو أفريقي من السنغال، وهذا يعني أنه يحمل كل صفاتهم وملامحهم، إلا أنه مختلف الملامح فعلًا، وهذه مسألة تُثير جاره بالتأكيد، وهذا ما حدث.
فقد بدأ جاره سيلًا من الأسئلة عن السنغال، وعن شعب السنغال، وقد قدَّم له «أحمد» مادةً غزيرةً عن السنغال، وشهرتها، ولكنه قطع حديثه في لحظة وقال: هل أتعرَّف إليك؟ ابتسم الشاب وهو يقول: إنني أعتذر مرةً أخرى، لقد أثارني في الحقيقة ما قلته حتى إنني نسيت أن أقدِّم لك نفسي. صمت لحظة، ثم أضاف: «جارو» من اليونان، أعمل مع والدي الذي يشتغل بالتجارة، ثم صمت «جارو»، فقال «أحمد»: وهل أنت في مهمَّة عمل تجارية؟
ردَّ «جارو»: إنني أقوم فقط بجولةٍ في السوق الآسيوي، وهذا سوف يستغرق وقتًا طويلًا. صمت لحظة، ثم قال: إنني أحاول أن أعرف ما تحتاجه بلاد الشرق الأقصى من إنتاجنا. في نفس الوقت أُحاول أن أعرف ماذا يمكن أن آخذ منها لبلادي.
سأل «أحمد»: هذا يعني أنك بلا صِلاتٍ تجارية مع بلاد الشرق الأقصى؟
لم يردَّ «جارو» مباشرة، لكنه قال بعد لحظة: إن معي بعض الأسماء التي سوف أتصل بها والتي تتعامل مع أبي. لم يستمرَّ «أحمد» في أسئلته؛ فقد قال له بعد لحظة: هل أتركك تُكمِل القراءة؟
ابتسم «جارو» وهو يقول: لقد كنت أقرأ فقرةً معيَّنةً مثيرة. أعتقد أنني سوف أفرغ منها فقط.
قال «أحمد» وهو يبتسم: إذن أكمل القراءة؛ فقد قرأته ولي بعض الملحوظات على ما يحويه. نظر له «جارو» في دهشة، ثم سأل: ملحوظات على ما يتحدَّث عنه الكتاب! إن هذه مسألة مثيرة حقًّا!
ابتسم «أحمد» ابتسامةً عريضةً وهو يقول: لا بأس من الحديث حوله عندما تنتهي من القراءة. ظلَّ «جارو» ينظر إلى «أحمد» في دهشة، لكن «أحمد» كان قد جذب إحدى المجلات، وتظاهر بأنه سوف يستغرق فيها، في نفس الوقت الذي كان يفكِّر فيه، وكانت أفكاره كلها تدور حول سؤالٍ واحد: هل هذه هي البداية؟