عندما غرق «مصباح» في الضحك
ألقى «أحمد» بنظرةٍ جانبية على «جارو»، فرآه مستغرقًا في القراءة تمامًا. أخذ يتصفَّح المجلة في هدوءٍ وبطء؛ فقد كانت أفكاره كلها تدور حول «جارو»، وما يمكن أن يعرفه عنه. إن عمله في التجارة مع والده، ثم رحيله من اليونان إلى الشرق الأقصى، واهتمامه بما في الكتاب، ثم الدهشة التي ظهرت على وجهه عندما عرف اهتمام «أحمد»، قال في نفسه: لعل «فهد» و«مصباح» قد حصلا على شيء.
امتدَّ الوقت ولم يَفرغ «جارو» من قراءته. نظر «أحمد» نظرةً جانبيةً عليه فرآه لا يزال مستغرقًا فيه.
قال في نفسه: إن هذه مسألةٌ غريبة، أن يكون له كل هذا الاهتمام بالقراءة في موضوع «الأفيون». لا بد أن يكون خلفه شيء. عاد من جديد إلى المجلة التي في يده، وأخذ يتصفَّحها، لكنه ظلَّ يفكِّر في «جارو». جاءته رسالة فاستقبلها في هدوء. كانت الرسالة من «فهد» تقول: «الرجل في طريقه إلى «بانكوك»، والحديث عن قبائل «الإيكوس»».
قال «أحمد» لنفسه: بدايةٌ طيبة، ومن يدري فقد يأخذنا إلى هناك؟
ردَّ على «فهد»: «بدايةٌ طيبة، استمر!» في نفس اللحظة كان «جارو» قد مال ناحيته قليلًا، وهمس مبتسمًا: هل أقطع عليك استغراقك؟ … نظر له «أحمد» بابتسامةٍ رقيقة، وقال: لقد كنت أفكِّر في لحظة الفجر. ابتسم «جارو» هو الآخر وقال: إنها لحظةٌ بديعة. توقَّف لحظة، ثم أضاف: لعلك لم تشاهدها مع البحر مرة.
أجاب «أحمد»: بل رأيتها كثيرًا؛ فإنني أهوى هذه اللحظة، والبحر يعطيها معنًى أعمق.
اتسعت عينا «جارو» وقال: أنت شاعرٌ فيما يبدو.
قال «أحمد»: إنني فقط أعشق الشعر.
ظلَّ الحوار بينهما يدور في جوانب شتى دون أن يصل إلى الكتاب أو الأفيون، لكن هذه المسألة لم تكن صعبةً بالنسبة ﻟ «أحمد»؛ فمن خلال الحديث في الشعر تحدَّث عن الشرق وجماله، والطبيعة، والخضرة، والأنهار والجبال، ثم قال في النهاية: غير أن هناك من يعتدون على الجمال، فيحوِّلون الخضرة إلى زراعة السموم، ويحوِّلون الفجر الجميل إلى بداية القضاء على الإنسان. تنهَّد «جارو» وهو يقول: هذا صحيح، لقد قرأتُ في كتابك الصغير المثير أشياء غريبةً عن هذه الزراعة القاتلة، في تلك المناطق الجميلة. قال «أحمد»: لقد تمنَّيت أن أذهب إلى هناك لأرى ما يحدث؛ فهذه مسألةٌ مثيرة للغاية. قال «جارو»: إنني أيضًا أتمنَّى ذلك. صمت لحظة، ثم أضاف: إنني أستطيع أن أحقِّق هذا فعلًا؛ فسوف ألتقي ببعض التجار ذوي الشأن في «بانكوك»، ويمكن عن طريقهم أن أفعل ما أتمنَّاه … لم يردَّ «أحمد» مباشرة، لكنه في نفس الوقت عرف أنه فتح الطريق أمام «جارو» ليتحدَّث. استمرَّ «جارو»: إنها تجارة غريبة هذه التجارة التي تقضي على الناس في النهاية. ثم نظر إلى «أحمد» في إمعان، ثم قال: ينبغي أن نتبادل التليفونات، أو العناوين؛ لنلتقي في «بانكوك».
لم يردَّ «أحمد» مباشرة؛ فقد كان يفكِّر: إنه حتى الآن الآن لا يعرف أين سوف ينزل، ولا ما هي أرقام التليفونات التي يمكن أن يوجد فيها، لكنه فكَّر في نفس اللحظة أن يعطيه رقم تليفون عميل رقم «صفر»، لكنه تردَّد في هذه المسألة؛ فتليفونات العملاء سرية لا يعرفها سوى الشياطين. قال: إنني حتى الآن لم أحدِّد الفندق الذي سوف أنزل فيه؛ ولذلك فليس لي عنوان، أو رقم تليفون.
هزَّ «جارو» رأسه وقال: لا بأس، عندما ننزل هناك سوف يكون في انتظاري من سوف يصحبني، إنني ساعتها أستطيع أن أعطيك رقم التليفون الذي سوف أنزل فيه. فكَّر «أحمد» بسرعة: إن هذه فرصةٌ لا تُعوَّض، ولو أنه ظهر أمام من سيستقبل «جارو»؛ فربما كان واحدًا من الرجال الذين يعملون في هذه التجارة القاتلة، وقد تتعقَّد الأمور؛ لذلك فقد قال بعد لحظة: أعتقد أننا يمكن أن نتفق من الآن. ثم وضع يده في حقيبةٍ صغيرة، ثم أخرج خريطة، بسطها. كانت الخريطة لمدينة «بانكوك» عاصمة «تايلاند»، وعلى الخريطة موقع الفنادق، وأرقام تليفوناتها وعناوينها. أُعجِب «جارو» بالخريطة، فقال: إنها خريطةٌ بديعة، بجوار أنها مفيدة تمامًا. لم يعلِّق «أحمد» فقد كانت عيناه تجريان على الخريطة، ثم توقَّفت عند فندق «الشمس» الذي كان يبدو في مكانٍ متوسِّط من المدينة. قال: سوف أنزل في فندق «الشمس»، وها هو العنوان، وهذه أرقام التليفونات. أخرج من الحقيبة قلمًا وورقة، ثم كتب عليها البيانات، وقدَّمها إليه، فقال «جارو»: سوف تكون فرصةً طيبةً أن نلتقي هناك، وأن نقوم بجولةٍ في المدينة، أو في المنطقة كلها.
جاء صوت مذيعة الطائرة يقطع حديثهما، كانت تطلب ربط الأحزمة لأن الطائرة سوف تنزل بعد قليل في مطار «نيودلهي» … نظرا إلى بعضهما، ثم ضحكا معًا، قال «جارو»: لقد انقضى الوقت سريعًا. ردَّ «أحمد»: إن الزمالة الطيبة تساعد على السفر. ابتسم «جارو» وشكره لهذه المجاملة الرقيقة. بعد قليلٍ كانت الطائرة قد بدأت تخفض من ارتفاعها. نظر «جارو» من النافذة التي بجواره، ثم قال: الليل! نظر «أحمد» هو الآخر، لم يكن هناك شيء يبدو في الخارج، لكن شيئًا فشيئًا عندما بدأت الطائرة تأخذ طريق النزول، ظهرت الأضواء اللامعة في ليل «الهند»، لكنه كان واضحًا أن المطر غزير. علَّق «جارو» على ذلك، فقال «أحمد»: إنها منطقةٌ استوائية تزداد فيها الحرارة ويزداد المطر أيضًا. صمتا مرةً أخرى بينما كانت الطائرة تأخذ طريقها على الممر الأسفلتي اللامع بتأثير المطر حتى استقرَّت أخيرًا. قال «جارو»: لعلنا لا نتأخَّر. ابتسم «أحمد» وقال: إن المسألة لن تختلف كثيرًا. إنه الليل في النهاية سواء في «الهند» أو في «تايلاند».
وكما تمنَّى «جارو» لم تنتظر الطائرة طويلًا؛ فبعد نصف ساعة كانت ترتفع مرةً أخرى في طريقها إلى محطتها النهائية؛ مطار «بانكوك». وعندما وصلت هناك كان الجو مختلفًا تمامًا؛ كانت السماء صحوًا، والنجوم تلمع بشدة، وقد قال «أحمد» ساعتها: إنها مثل اللآلئ المتناثرة على قطعةٍ من القطيفة السوداء.
ضحك «جارو» طويلًا وهو يقول: بالتأكيد أنت شاعر حتى لو أخفيت ذلك … بدأ الركاب يغادرون الطائرة. كانت نسمةٌ باردة قد أخذت تنتشر في الجو جعلت «جارو» يرتعد، إلا أن «أحمد» قال: بعد قليلٍ سوف تتآلف مع الجو. أخذ الجميع طريقهم إلى صالة المطار الداخلية، وكان الشياطين يرقبون «أحمد» وهو يمشي مع «جارو» وكأنهم لا يعرفونه. كانت الصالة خاليةً تقريبًا في هذا الوقت المتأخِّر من الليل؛ فقد كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحًا. فجأةً تردَّد اسم «جارو» من خلال ميكروفون المطار يطلب منه الانضمام إلى مكتب الاستعلامات … حيَّا «أحمد» وهو يقول: لعله واحدٌ في انتظاري. صمت لحظة، ثم أضاف: هل تصحبني؟ ابتسم «أحمد» قائلًا: سوف أنتظر تليفونك. انصرف «جارو» بينما ظلَّ «أحمد» يراقبه. ألقى نظرةً سريعةً على الشياطين فوجدهم في انتظاره. اتجه إلى خارج المطار، فاتجهوا مثله، وفي الخارج قال «أحمد» عندما اجتمعوا: ينبغي ألَّا يرانا معًا فقد نحتاجه في وقتٍ آخر. ألقى «رشيد» نظرةً على السيارات المنتظرة أمام المطار، كان من بينها سيارة «كمارو» زرقاء، ابتسم قائلًا: لقد سبقتنا السيارة وهي في انتظارنا! نظروا جميعًا في الاتجاه الذي تحدَّث عنه «رشيد»، ثم اتجهوا إليه، وفي لحظةٍ كانوا داخل السيارة. ظلَّ «أحمد» يرقب باب الخروج من المطار في انتظار أن يظهر «جارو». مرَّت دقيقتان، ثم ظهر. كان يصحبه رجلٌ قصير القامة، نحيف تمامًا، أبيض الشعر، يلبس نظارةً بيضاء، وله ذقن. أخرج «أحمد» الكاميرا السرية الخاصة به، ثم التقط لهما عدة صور متتالية. اتجه «جارو» والرجل إلى سيارةٍ قريبة، ثم اختفيا داخلها، وعندما انطلقت، تبعتها سيارة الشياطين. كان الهدوء شاملًا حول المطار، وفي الطريق الموصل إلى المدينة؛ ولذلك فإن السيارات كانت تسير بسرعةٍ كبيرة. كان الطريق متسعًا تمامًا، تحفه الأشجار، وتجعله الأضواء مثل النهار. أخذ «أحمد» يقدِّم لهما ملخَّصًا للأحاديث الطويلة التي دارت بينه وبين «جارو»، وعندما انتهى بدأ «فهد» يتحدَّث عن الشخصية الغامضة، والتي عرَّفها باسم «منج». ابتسم «أحمد» وقال: وأنا اسمي «مانجا». ثم تحدَّث «مصباح» عن جاره الذي تعرَّف إليه ويُدعى «روبرت». أمَّا «باسم» فقد قال: لقد كنت أجلس إلى الصمت نفسه، وبرغم محاولتي معه إلا أنه ظلَّ صامتًا … حتى إنه لم يُجِبني بكلمةٍ عندما نزلنا من الطائرة. علَّق «فهد»: من يدري؟ قد يكون هذا الصامت أهم الشخصيات التي قابلناها.
كانت سيارة «جارو» لا تزال أمامهم، واضحةً بأضوائها في الليل الهادئ، غير أن المدينة قد بدأت تظهر. كانت المدينة هادئةً أيضًا. أخرج «أحمد» الخريطة، ثم بدأ يوجِّه «رشيد» الذي قال فجأة: لقد اختفت سيارة «جارو». قال «أحمد» دون أن يرفع بصره عن الخريطة: لا بأس، المؤكَّد أنه سوف يتحدَّث غدًا. انحرف «رشيد» بالسيارة في اتجاه شارع «كاريجي»، حيث يقع فندق «الشمس»، ثم توقَّفت السيارة أمامه. نزل الشياطين بسرعة واتجهوا إلى الداخل. كان موظَّف الاستعلامات يبتسم ابتسامةً عريضة يستقبلهم، كان رجلًا دقيق الحجم، متوسط السن، وعندما قدَّم «أحمد» نفسه كان الخادم يتناول مفاتيح الحجرات ويتقدَّمهم إليها، في دقائق كانوا في حجرة «أحمد» الذي قال: ينبغي أن ترتاحوا بقية الليل لأننا سوف نبدأ عملنا في الصباح. انصرف الشياطين ولم ينسَ «أحمد» قبل أن ينام أن يتحدَّث إلى موظَّف الاستعلامات يطلب منه أن يعطيه المكالمات التليفونية التي تأتي باسم السيد «مانجا». وعندما وضع السمَّاعة وضع أيضًا رأسه على الوسادة، ثم استغرق في النوم.
استيقظ الشياطين متأخرين؛ فعندما فتح «أحمد» عينَيه ونظر في ساعة يده كانت تشير إلى التاسعة. تمطَّى في كسل، وقال في نفسه: لا بأس من الراحة. إن الرحلة إلى جبال «يون-آن» سوف تكون شاقة. دقَّ جرس التليفون فرفع السماعة، وجاء صوت «باسم»: يبدو أن النوم هنا له طعمٌ مختلف!
ضحك «أحمد» وقال: نعم، نومٌ مخلوطٌ بالأفيون. ضحكا معًا. في دقائق كانوا قد اجتمعوا حول عددٍ من السندوتشات. وفي دقائق أخرى كانوا قد انتهَوا منها، ثم أخذوا طريقهم إلى الخارج. مرةً أخرى تحدَّث «أحمد» إلى موظَّف الاستعلامات، وكان رجلًا آخر غير رجل الليل، وطلب منه أن يسجِّل له مذكرةً بما يمكن أن يقوله السيد «جارو» إلى السيد «مانجا».
خرج الشياطين إلى شوارع «بانكوك». كانت الألوان الزاهية تلمع في كل مكان، وكانت تماثيل «بوذا» منتشرةً بشكلٍ لافتٍ للنظر.
لم يكن الشياطين يفكِّرون في شيءٍ ما الآن؛ فقد كانت خطتهم أن ينتظروا مكالمة «جارو» قبل أن يقرِّروا قرارهم الأخير؛ ولذلك فقد قضَوا بعض الوقت في شوارع المدينة الجميلة، وتناولوا طعام الغداء المكوَّن من السمك في أحد المطاعم، ثم عادوا إلى الفندق. وكانت المفاجأة عندما رآهم موظَّف الاستعلامات، أسرع نحوهم وقدَّم لهم خطابًا، لم يكن على المظروف سوى اسم «جارو». أسرع «أحمد» يفتح الخطاب، وكانت الكلمات التي قرأها بسرعةٍ كفيلةً بأن ترسم على وجهه علامات الحزن، حتى إن «مصباح» قال: ماذا حدث؟! لم يردَّ «أحمد»؛ فقد كان موظَّف الاستعلامات لا يزال واقفًا، عندئذٍ رفع الرجل عينَيه قائلًا: هل من خدمةٍ أؤديها؟
قال «أحمد» في هدوءٍ: ألم يقل شيئًا آخر؟
قال الرجل: لقد جاء السيد «جارو» مرتَين، وفي النهاية كتب هذا الخطاب، ولم يقُل سوى أنه سوف يحاول الاتصال إذا تمكَّن من ذلك، وإذا لم يستطِع فسوف يحاول عندما يعود.
شكره «أحمد» فانصرف بانحناءةٍ مهذَّبة. اتجه الشياطين إلى أحد الأركان في الصالة الواسعة، كانت عيونهم متعلِّقةً بما سيقوله «أحمد» الذي كان الحزن لا يزال يرتسم على وجهه. في النهاية قدَّم الخطاب إلى «رشيد» الذي أخذه مسرعًا، وفي لحظةٍ كان الحزن يكسو وجهه، حتى إن «باسم» أمسك الخطاب وجذبه وهو يقول: معذرة، لا بد أن أعرف!
جرت عيناه على السطور، وبدلًا من أن يكون الحزن على وجهه، غرق في الضحك، حتى إن الشياطين نظروا إليه في دهشة، لكنه ظلَّ يضحك بلا توقُّف، وكانت هذه مسألةً محيِّرة، خصوصًا ﻟ «مصباح» و«فهد» …