هذه هي بداية المعركة
كانت الرسالة التي تركها «جارو» والتي أحزنت «أحمد» و«رشيد»، وأضحكت «باسم» تقول: «عزيزي «مانجا»، لم أكن أتصوَّر أن ما فكَّرنا فيه معًا يمكن أن يتحقَّق بهذه السرعة. إنني الآن في طريقي إلى جبال «يون-آن» لأرى الفجر الجميل وهو يبزغ هناك. لقد تمنَّيت أن تكون معي حتى أسمع منك بعض الشعر أيها الشاعر المتخفي. ولقد جئتك أكثر من مرة، لكنني كنت سيئ الحظ فلم أجدك. أعتذر لأنني مضطرٌّ للسفر إلى هناك تبعًا لمواعيد محدَّدة من قبل. سوف أفتقدك كثيرًا، أرجو أن نلتقي بأي صورة، سوف أُحاول أن أُرسل إليك عن أي طريق. عنواني في اليونان: ٤٥ شارع كوري، وشركة أبي هي الشركة الدولية للتجارة. تحياتي وإلى اللقاء. «جارو».
قال «أحمد»: إنها فرصةٌ لا تعوَّض! ضحك «باسم» وقال: إن الفرصة الحقيقية أن نُسرع بالرحيل. إن صديقك «جارو» قد فتح لنا الطريق؛ فما دمت قد اكتسبت ثقته فإنه سوف يكون المفتاح لنا. صمت لحظة، ثم قال: لقد ضحكت لأن «مانجا» اسم طيب. كان «أحمد» يفكِّر أكثر ممَّا يسمع. لقد كان ضحك «باسم» مفتاحًا لأن يستفيد من الرسالة أكثر، قال فجأة: ينبغي أن نسرع إلى حجرتي، ثم نستعد للرحيل.
في لحظاتٍ كانوا في حُجرة «أحمد» الذي قال: سوف أُرسل إلى رقم «صفر» بعنوان «جارو» في اليونان، واسم شركة أبيه. إنها يمكن أن تكون الطريق.
أخرج جهاز الاستقبال، ثم أرسل رسالةً إلى رقم «صفر» بالمعنى الذي قاله للشياطين، وقال في النهاية: «إننا في طريقنا الآن إلى جبال «يون-آن».
في دقائق كانت السيارة «الكامارو» الزرقاء المجهَّزة بكل الإمكانيات تأخذ طريقها إلى جبال «يون-آن» التي تقع في شمال «تايلاند». كان «رشيد» يجلس إلى عجلة القيادة، وكان «أحمد» بجواره يفتح خريطةً صغيرةً حدَّد عليها اتجاه الجبال بالضبط، ثم ضبط بوصلة السيارة على الاتجاه الذي يتبعه «رشيد»، وقال: اتبع مؤشِّر البوصلة؛ إنه سوف يوصلنا إلى هناك!
كان الوقت حوالي العصر، وكانت شوارع «بانكوك» مزدحمةً بألوانٍ مختلفة من البشر؛ أهالي البلاد، وسُوَّاح من كل مكان، غير أن ذلك لم يمنع السيارة من التقدُّم بسرعة. انقضت ساعة عندما بدأ الخلاء يظهر. كانت الطبيعة حولهم آسرةً تمامًا، فاستغرقوا في التمتُّع بها، وعندما بدأ الليل يزحف على الوجود، كانت السيارة تقطع الطريق في سرعةٍ كبيرة، وحيدة، كأنها لا تخضع لأحد. فجأةً هتف «رشيد»: هناك سيارةٌ أمامنا تظهر وتختفي تبعًا لمنحنيات الطريق.
أخرج «أحمد» نظارته المكبرة الكاشفة، وبدأ يمسح الطريق. عند استقامة جزء منه ظهرت السيارة أمامه بوضوح، ظلَّ يتأمَّلها ثم قال: هناك اثنان يجلسان في المقعد الخلفي، والسائق، وبجواره رجلٌ آخر.
ظلَّ يراقب السيارة، لكنها فجأةً اختفت؛ فقد انحنى الطريق. أنزل النظارة وظلَّ يرقب بعينَيه ظهور ضوء السيارة مرةً أخرى. كان «رشيد» قد رفع درجة السرعة حتى آخرها، ولم تمضِ ربع ساعة حتى كانت السيارة الأمامية قد أصبحت أمامهم مباشرة، في نفس الوقت ظهر الجبل أمامهم مرتفعًا يكاد يُخفي السماء التي كانت تلمع فيها النجوم. رفع «أحمد» النظارة وبدأ يرقب. كانت السيارة الأمامية تضيء أنوارها الداخلية، فانكشف مَن بداخلها، هتف «أحمد» في سعادة: إنه «جارو»! لكنني لست متأكِّدًا من الرجل الذي بجواره.
أخرج «مصباح» صورةً متوسطة الحجم قدَّمها ﻟ «أحمد» وهو يقول: أليس هذا هو الرجل؟ نظر «أحمد» للصورة بسرعة، ثم قال: هذا الرجل الذي صوَّرته بالأمس. إن الجالس بجوار «جارو» رجلٌ آخر.
سكت وهو يوجِّه النظارة إلى السيارة، ثم قال بعد لحظة: إنه يجلس في المقعد الأمامي. أضاف بعد قليل: يبدو أن الجالس بجوار «جارو» أكثر أهمية! كانت «الكامارو» الزرقاء تقترب أكثر من سيارة «جارو»، فقال «أحمد»: حافظ على مسافةٍ كافية. إننا لا نريد أن نفقد مرشدنا.
خفض «رشيد» من سرعة السيارة، ثم ظلَّ ثابتًا عليها. فجأةً توقَّفت سيارة «جارو» فتوقَّف «رشيد»، غير أنه لمح شيئًا في مرآة السيارة الأمامية، فقال: هناك سيارة أخرى تتبعنا. استدار «أحمد»، كما استدار بقية الشياطين ينظرون إلى الخلف، فلم يرَوا شيئًا. قال «فهد»: لا يوجد شيء!
ردَّ «رشيد»: لعلها أطفأت أنوارها، والظلام كثيف.
عاد «أحمد» لمراقبة سيارة «جارو» من خلال المنظار. شاهدهم يغادرون السيارة فقال ذلك للشياطين، وظلَّ يتابع ما يدور أمامه. كان «جارو» ومن معه قد بدءوا السير على الأقدام، فقال «أحمد»: يبدو أن المنطقة غير صالحة لاستعمال السيارة.
ردَّ «مصباح»: إذن ينبغي أن نُخفي سيارتنا ونتبعهم بسرعة حتى لا نفقد الطريق. إن ما حدث في صالحنا. نزل الشياطين من السيارة وتحرَّك بها «رشيد». كانت هناك صخرةٌ جانبية مرتفعة حاول أن يدخل خلفها، لكن المسافة لم تكن كافية، فتوقَّف في مكانه. في نفس الوقت كان الشياطين يبحثون حولهم عن مكان. تقدَّم «أحمد» في اتجاه سيارة «جارو». كانت هناك منطقةٌ واسعة حولها مجموعة من النباتات العالية، وكانت السيارة تقف في جانبٍ من الطريق. أرسل إشارات يفهمها الشياطين، فاقتربوا بسيارتهم، وفي سرعةٍ أخفَوها بين النباتات تمامًا حتى لم يكن أحدٌ يستطيع العثور عليها غيرهم. اجتمع الشياطين وبدأت الرحلة على الأقدام. كان الجبل قد بدأ ولم تكن هناك طرقٌ مُعبَّدة. انحنى «أحمد» على الأرض وأخذ يتسمَّع، ثم قال: إنهم أمامنا؛ فأصوات أقدامهم تدب على الأرض. تقدَّم الشياطين في اتجاه المجموعة الأمامية، وكان تقدُّمهم سريعًا، حتى إنهم أصبحوا خلفهم مباشرة. سمع «أحمد» صوت «جارو» يقول: هل سنصل إلى قمة الجبل سيرًا؟ ردَّ صوتٌ بطيء يقول: لا … إننا سوف نمشي حوالي كيلومتر، ثم نركب سيارةً أخرى.
كانت هذه الكلمات كافيةً ليتوقَّف الشياطين لحظة. إنهم يمكن أن يفقدوا الأثر، بجوار أن الطريق يبدو طويلًا. قال «أحمد»: إننا لم نصِل إلى درجة اليقين بعد، وهذا ما يجعل محاولتنا خلفهم مجرَّد محاولة استرشادية. ظلُّوا يتقدَّمون وهم على حذر حتى لا يصدر منهم صوت؛ فقد كانوا يلبسون أحذية «كاوتشوك». بعد قليلٍ سمع «أحمد» صوت «جارو» يقول: إنها رحلةٌ شاقة تمامًا!
ردَّ نفس الصوت الهادئ: لقد طلب الزعيم أن يراك ليحتفل بك؛ فوالدك واحدٌ من أكبر عملائه!
جاء صوت «جارو» يحمل كثيرًا من الدهشة: زعيم! أي زعيم تعني؟! …
قال الرجل بعد لحظة بنفس البطء: إننا نطلق عليه الزعيم لأنه أقوى رجل في الجبل.
لم يردَّ «جارو»، لكن هذا كان مفيدًا بالنسبة للشياطين؛ فقد قال «أحمد»: يبدو أننا نقترب من الهدف … صمت قليلًا يفكِّر، ثم قال: إن الطريق سوف يكون مشكلةً بالنسبة لنا؛ فالجبل سيكون مُلغَّمًا بكثيرٍ من رجال «شو-لان»، كما أننا قد نفقد الطريق لهذا. قال بعد فترة: ينبغي أن يكون بينهم واحدٌ منا. همس «مصباح»: كيف؟ ردَّ «أحمد» بعد لحظة: هذا ما يجب أن نفكِّر فيه. إن المسافة الباقية قليلةٌ حتى يصلوا إلى السيارة، وهذا يعني أننا يجب أن نتصرَّف بسرعة. قال «فهد»: إنني أستطيع أن أكون واحدًا منهم … ما رأيكم؟
همس «أحمد»: ماذا سوف تفعل؟ قال «فهد»: نتفق، ثم دعوني أتصرَّف. جرت مناقشة هامة سريعًا، ثم اتفق الشياطين على أن ينفِّذ «فهد» خطته؛ ذلك لأن «أحمد» لا يستطيع؛ لأن «جارو» يعرفه. بدأت الخطة فقد اختفى «فهد» في الظلام، لم يكن يسير في نفس الطريق الذي يتوسَّط الجبل؛ فقد اتجه إلى حافته الخطرة، وأسرع السير. همس «أحمد»: نرجو ألَّا تلقى أي عقبة فالطريق صعب، وحافة الجبل يمكن أن تكون النهاية و… ولم يكمل كلامه؛ فقد سمع سقوط حجر أخذ يتدحرج وصوته يعلو في الصمت، وجاء صوتٌ من المقدمة يقول: ماذا هناك؟! غير أن صوتًا آخر تردَّد: لعله حجر سقط من الجبل. إنها منطقةٌ خطرة على كل حال، وكثيرون سقطوا فيها.
كانت الكلمات ثقيلة الوقع على الشياطين، وقال «مصباح»: هل يكون قد سقط؟ إلا أن «باسم» أسرع يرد: لا، لا أظن أن «فهد» يمكن أن يسقط بسهولة. ظلَّ الشياطين يتقدَّمون في نفس الوقت الذي كان فيه أصوات أقدام «جارو» ومن معه تدلهم على الطريق. قال واحدٌ منهم: ها نحن قد وصلنا. إن السيارة تقف بعيدًا قليلًا في الانتظار، هي والسائق.
مرَّ بعض الوقت، وقال الصوت الهادئ: لقد اجتزنا المنطقة الصعبة …
سأل «جارو»: لماذا لا تمهِّدونها؟ قال الرجل بعد فترة صمت: لدواعي الأمن. ثم أضاف، وكأنه يُزيل أثر الجملة الأولى: لقد حاولنا، لكنها منطقةٌ صخرية عنيدة.
كانت الإجابة مثيرةً بالنسبة للشياطين؛ فقد همس «أحمد»: إنها لدواعي الأمن. إنها كلمات مشجِّعة … لم يكَد ينتهي من جملته حتى كان جهاز الاستقبال يتلقَّى رسالة.
وضع «أحمد» يده على الجهاز، وأخذ يتلقَّى الإشارات المتتابعة، ثم هتف في النهاية بصوتٍ خفيض: إننا في الطريق الصحيح.
سأل «رشيد»: ماذا تعني؟ ردَّ «أحمد»: لقد وصلَت رسالة من رقم «صفر» الآن. إن تقرير العملاء في اليونان يقول إن الشركة الدولية للتجارة تعمل فعلًا في تجارة السموم. همس «مصباح»: إذن صديقك «جارو» في الطريق إلى الرجل الغامض! غطَّى على كلمات «مصباح» الأخيرة صوت موتور سيارة، فقال «باسم»: لقد تحرَّكت السيارة. ثم قال بعد لحظة: هل يكون «فهد» قد نجح وأصبح بينهم؟ تقدَّم الشياطين حتى وقفوا في نفس المكان الذي تحرَّكت منه السيارة. لم يكن هناك أي صوت سوى صوت السيارة الذي أخذ يتباعد حتى أصبح كالهمس. تنهَّد «رشيد» وقال: ها قد بدأت الرحلة الصعبة.
صمت كل شيء، غير أن الصمت بدأت تغزوه بعض الأصوات. تسمَّع الشياطين في تركيز. انحنى «أحمد» على الأرض وظلَّ يتسمَّع، أخيرًا رفع رأسه وهمس: هناك أصوات أقدام تقترب، لعلهم رُكَّاب السيارة التي كانت خلفنا. أخذ جانبًا من الطريق واختفى خلف صخرة ناتئة على حافة الجبل. أسرع الشياطين أيضًا بالاختفاء، لكن فجأةً سمعوا صوت أنَّات إنسان يتألَّم. أخذ «مصباح» يتتبَّع الصوت؛ دار حول الصخرة، كانت هناك مسافة صغيرة بين الصخرة والهاوية، إن أي قدم تزل يمكن أن يفقد صاحبها حياته؛ فليس بعد المسافة سوى انحدار الجبل حتى النهاية. انحنى يتحسَّس الأرض فاصطدمت يده بجسد إنسان. تصوَّر للوهلة الأولى أنه «فهد». أخذ يتحسَّس جسده؛ كان مكوَّمًا على نفسه. تحدَّث إليه بلغة الشياطين إلا أنه لم يرد، قال في نفسه: ربما لا يستطيع الرد من الألم، أو ربما يكون قد فقد وعيه.
استمرَّ في تحسُّس الكتلة الإنسانية التي أمامه حتى وصل إلى وجهه؛ كان الوجه له لحية، تنهَّد في ارتياح لأنه يعرف أن أحدًا من الشياطين لا يطلق لحيته بهذه الصورة. قفز في خاطره تساؤل: هل يكون هذا الرجل هو نفسه قائد السيارة وقد استطاع «فهد» أن يفاجئه؟ أخذ يفيق الرجل حتى ردَّ في النهاية: رأسي يدور، لقد ضربني أحدهم بآلةٍ حادة على رأسي. أين السيارة؟ أين … أين أنا؟ مدَّ يده يتحسَّس «مصباح»، ثم قال: من أنت؟ قال «مصباح»: إنني من سكان الجبل، من قبيلة «الإيكوس». سكت الرجل لحظة، ثم قال: أنتم حلفاؤنا إذن. خذ بيدي حتى أقوم. همس «مصباح»: انتظر قليلًا حتى تهدأ أكثر، وحتى تسترد قواك. قال الرجل: لا، لا. لا بد أن أجد السيارة. إنهم في الطريق. سأل «مصباح»: من هم؟ قال الرجل: ضيفٌ قادمٌ من بعيد. سأله «مصباح»: وماذا حدث؟
قال الرجل: لقد كنت في انتظاره. كان يصحبه السيد «كاواوا» لينقله إلى الزعيم.
قال «مصباح» بعد لحظة: السيد «شو-لان»؟ قال الرجل في فزع: نعم، نعم. سوف أنتهي إذا لم … قطع عليه «مصباح» كلامه وقال: لا تخَف، إن معنا بعض الضيوف من زملاء السيد «جارو» الذي ينزل ضيفًا على الزعيم، ولا بأس أن تصحبنا إلى هناك.
هتف الرجل في فرح: يا ليت! هل معكم سيارة؟
قال «مصباح»: لا، لكنهم سوف يُرسلون إلينا سيارةً من طرف الزعيم.
قال الرجل: لا بأس، وإذا لم تصل السيارة، فإننا نستطيع أن نصل أيضًا بسرعة؛ فأنا أعرف طريقًا مختصرًا جدًّا وسهلًا للوصول إلى القصر.
قال «مصباح» في هدوء: مقر الزعيم!
ردَّ الرجل: نعم.
مدَّ «مصباح» يدَيه وأسند الرجل وهو يسأله: ما اسمك؟
قال الرجل: «شن-لي».
قال «مصباح»: وأنا اسمي «شولاي». هيَّا اعتمد عليَّ أيها الصديق «شن-لي».
تقدَّما في بطء، في نفس الوقت الذي أرسل فيه «مصباح» عدة إشارات للشياطين فاقتربوا منه. حكى لهم ما حدث بسرعة، فقال «شن-لي»: لقد كانت ضربةً قوية.
أمسك «باسم» بالذراع الأخرى ﻟ «شن-لي» الذي أخذ يتقدَّم في بطء … فجأةً وصلت رسالة إلى «أحمد» من «فهد» تقول: «لا تتحرَّكوا، إنني في الطريق إليكم! هناك أنباءٌ هامة!» … وعندما نقل «أحمد» الرسالة إلى الشياطين تأكَّدوا أنهم في الطريق إلى بداية المعركة …