مستوى جديد من الازدهار
بذل رجال ونساء البلدان المتحاربة مجهودًا وأظهروا تحملًا شبه معجِز تحت وطأة الضغوط المتطرفة للحرب العالمية الثانية. وقد ساعدهم في ذلك الصناعات الثقيلة التي أصبحت تسيطر على الاقتصادات الرأسمالية؛ الأمر الذي أتاح تحقيق مستوى إنتاج حطَّم كل الأرقام القياسية. وأثبتت الحاجة مرة أخرى أنها أُمُّ الاختراع بظهور جميع المتنافسين الذين كانوا يقدمون اختراعات في مجالات المواد التركيبية، والطب، والاتصالات، والطيران، وبالطبع الأسلحة. وحينما انتهى القتال، عملت القوة التدميرية التي أُطلق لها العِنان على إعادة الجميع لصوابهم، المهزومين والمنتصرين على حد سواء. لقد مرَّ ٣١ عامًا مروعًا، لكن الأغلبية نجت وظلت على قيد الحياة.
للمرة الثانية خلال ربع قرن من الزمن، دُمرت أوروبا. وللمرة الثانية، راحت الولايات المتحدة تستعرض عضلاتها الصناعية الرائعة. ولأول مرة يُظهر بلد معادٍ للرأسمالية عداءً عنيدًا على الساحة العالمية. تعلمت الحكومات من الدروس المستفادة من الحربين العالميتين والركود الكبير بينهما أن تلعب دورًا أكبر في المسائل الاقتصادية. وقدم الاقتصاد الكينزي والوصفات الاشتراكية مبررات منطقية للإبقاء على دور دائم للحكومة في المسائل الاقتصادية، على الأقل لشحن بطاريات الاقتصاد خلال فترات الركود الاقتصادي المتكررة.
وفي الحرب العالمية الثانية وضعت الدول المتحاربة قواعد للمنتجين والعمال، وجمدت الأسعار والأجور، واستولت على بعض الشركات الخاصة واغتصبت أي موارد يمكن أن تعتبر ضرورية للمجهود الحربي. وبحلول عام ١٩٤٥، كان هناك كثير من البيروقراطيين الذين يملكون الخبرة اللازمة ليشيروا على المستثمرين ورواد الأعمال والمديرين والعمال بما يجب عليهم القيام به. من الطبيعي تماما أنهم كانوا يعتبرون توصياتهم بنَّاءة. نصح الكثيرون باستمرار الرقابة الحكومية على الاقتصاد. ودعا الاشتراكيون البارزون في بريطانيا العظمى وإيطاليا وفرنسا لنبذ سياسات عدم التدخل. كان السؤال مطروحًا عمَّا إذا كانت الرأسمالية ستعود مجددًا إلى شكل حديث من الفلك السياسي كذلك الذي هربت منه في القرن الثامن عشر.
تفتحت ثلاثة مسارات أمام زعماء ما بعد الحرب حينما واجهوا مهمة إعادة تأسيس المصانع وأنظمة النقل، والمؤسسات المالية، والترتيبات التجارية التي كانت تنظم اقتصادهم العالمي. يمكننا أن نصنف هذه المسارات إلى: إرشادية، وإلزامية، وإعلامية. النوع الأول يوضح طريق التقدم، والثاني يفرض الطريق الواجب اتباعها، أما الثالث ففيه تعمل لغة الأسواق الرمزية على إعلام المشاركين فيها بالخيارات المتاحة أمامهم. تستجيب الحكومة أيضًا للمعلومات بدلًا من أن تتصرف انطلاقًا من ضروريات أيديولوجية. كان أكثر اللاعبين التجاريين قوة بعد الحرب هي الشركات، التي كان الكثير منها دولي، لكن الميدان الرأسمالي كان يحوي مئات من المؤسسات الأصغر والكثير جدًّا من الأشخاص الذين يخططون للمشاريع على ظهور المظاريف فقط.
تبنَّت فرنسا والسويد وبريطانيا العظمى المسار الإرشادي. وفي خطة مدتها أربع سنوات حددت الحكومة الفرنسية اتجاه التخطيط الاقتصادي، مستعينة في ذلك بالإعانات والقروض. وتولت حكومة حزب العمال البريطاني السلطة عام ١٩٤٥ حاملة شعار استئصال شأفة البلايا الخمس الكبرى: العوَز، والفساد، والمرض، والجهل، والبطالة. وسرعان ما أممت الحكومة السكك الحديدية والمرافق وبنك إنجلترا ومناجم الفحم ومصانع الصلب. ووُضعت خطة وطنية للرعاية الصحية توفر تأمينًا صحيًّا «من المهد إلى اللحد». واستثمرت الحكومة مبالغ ضخمة في بناء المساكن الشعبية. كانت السويد أكثر جميع هذه الدول الصناعية كرمًا؛ فقد وفرت للجمهور معاشات تقاعُد، وتأمين صحي، ومعاشات في حالات العجز، وإعانات للطفل والأسرة، ومساعدات للفقراء، وإسكان مدعوم لذوي الدخل المنخفض. وضعت هذه الحكومات أولويات، ورسمت الاتجاه المنشود للمشروعات الحرة.
كان الاقتصاد السوفييتي اقتصادًا موجهًا تملك فيه الدولة جميع المشاريع تقريبًا. وكان المخططون المركزيون يحددون أهداف الإنتاج دون أن يعيروا اهتمامًا كبيرًا لمؤشرات السوق. ولأن الأوروبيين يقدرون قيمة حقوق الملكية الخاصة التي ناضلوا لانتزاعها من الملوك منذ زمن طويل، كان العديد من الروس يعارضون الاستيلاء على ممتلكاتهم؛ لذا كان القمع السياسي مصاحبًا لإعادة هيكلة الاقتصاد السوفييتي. وبعد الحرب، أعلن المخططون السوفييت أهدافًا اقتصادية جديدة جعلت الرقابة أكثر شدة. كانت الحكومة السوفييتية مصممة على ألا تتعرض مرة أخرى أبدًا لغزو مروع كالذي تعرضت له على يد هتلر؛ لذا خلقت منطقة عازلة تضم دول بولندا والمجر ويوغوسلافيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وألبانيا وبلغاريا من أجل حماية أراضيها. وقد تضمن هذا العزل — كما اتضح فيما بعدُ — أن يُفرض على هذه الدول نظام الاقتصاد الموجه، وحكم الحزب الواحد، والتبعية للاتحاد السوفييتي. ولم يُفلت من قبضة الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين سوى يوغوسلافيا فقط.
كان أداء الصناعة الروسية رائعًا خلال الحرب، واستعاد اقتصادها مستويات الإنتاج التي كان يحققها قبل الحرب في غضون خمس سنوات. لكن مع غياب إملاءات زمن الحرب، أصبح مسئولو التخطيط الحكوميون أقل يقينًا بشأن خطواتهم. في الواقع لم يتوفَّر إلا القليل من المعلومات عن العواقب السيئة التي أسفرت عنها خطط السوفييت الخمسية المتتالية، ولم تظهر إلا في وقت متأخر جدًّا. وهذا منح الماركسيين اليساريين في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وحتى في الولايات المتحدة، الحرية في ممارسة الدعوة إلى الشيوعية في بلدانهم.
اختار القادة الأمريكيون المسار الإعلامي. وفي ظل عدم خوض الأمريكيين تجربة الحرب داخل بلادهم، وافتقارهم تقاليد العمل بالغة القوة؛ كان ميلهم ضعيفًا للبرامج المتطرفة التي تتيح للحكومة توجيه المبادرات الاقتصادية. وكان أعضاء صفقة روزفلت الجديدة الذين كانوا يفضلون فرض المزيد من السيطرة السياسية قد حل محلهم خلال الحرب رجال الأعمال الذين يطلق عليهم «رجال الدولار الواحد سنويًّا» — وهم رجال الصناعة والأعمال الذين تطوَّعوا لخدمة الحكومة خلال الحرب بأجر رمزي قدره دولار واحد سنويًّا؛ تمشيًا مع القانون الذي لا يبيح للحكومة قبول خدمات مجانية طوعية — الذين استعادوا ثقة الشعب من خلال تحقيق أهداف الإنتاج الحربي. ورغم أن هذه الثقة كانت قد فُقدت أثناء فترة الكساد الكبير، عزز تجددها حججهم التي تعارض أن يصبح السماح لتدخل الحكومة في زمن الحرب مقدمة للمزيد من التخطيط المركزي.
كشف الكساد أكبر نقطتي ضعف للرأسمالية: تأرجُحُها المتباين بين أوقات الرخاء والشدة، والتوزيع المجحف إلى حد كبير للثروة التي تنتجها. وعلى الرغم من أن القادة الأمريكيين كانوا ضد التخطيط المركزي والتوجيهات المركزية على حد سواء، فقد أدركوا أن هناك حاجة لتخفيف حدة هاتين النزعتين. ولم يكن هناك سبيل للعودة إلى عقلية رجال الأعمال في أوائل القرن العشرين، حتى لو ظل الأمريكيون على ولائهم للعمل الحر؛ فقد أصبح هذا المصطلح نفسه محملًا بمعنى أيديولوجي بعد تحول الاختلافات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة من اختلافات على المبادئ إلى اختلافات في منظومة السياسات الخارجية.
كان روزفلت متنبهًا دائمًا إلى ضرورة إشراك الجمهور معه في صياغة السياسات؛ ومن ثَمَّ فقد منح أولويةً لعقد مؤتمر بشأن الأغذية والزراعة، لعلمه بأن الأمريكيين سيشعرون بالحاجة الملحة لإطعام الشعوب التي تتضوَّر جوعًا بعد الحرب. وقد دفع المؤتمر — الذي عقد عام ١٩٤٣ — الاقتصادي البريطاني الحاد النقد جون ماينارد كينز للقول بأن روزفلت «بفطنته السياسية الحادة قرر أن أفضل استراتيجية لإعادة البناء بعد الحرب هي البدء بالفيتامينات، ثم سلوك طريق عمل مُلتوٍ وصولًا إلى ميزان المدفوعات الدولي».
لم يمر الأوروبيون بتجربة الازدهار الفوري الذي تمتع به الأمريكيون. وأدت الحرب إلى نكوص البعض مرة أخرى إلى الماضي البدائي. وكان شتاء عام ١٩٤٦-١٩٤٧ — وهو الشتاء الثاني بعد عودة السلام — شديدًا على غير العادة ودمر محصول البطاطس. ومن ثَمَّ لم يكن المزارعون في ألمانيا يبيعون البطاطس إذا توفَّرت لديهم؛ لأن التنبؤ بقيمة العملة كان أمرًا صعبًا للغاية. وشهدت ألمانيا — التي كانت قد بلغت قبل ذلك ذروة التطور الرأسمالي — منظر سكان المدن وهم يذهبون إلى الريف بمصباح، أو كرسي، أو إطار صورة كي يبيعوه مقابل أجولة من البطاطس الثمينة ليعودوا بها إلى منازلهم. وحل العام التالي بموجة جفاف غير مسبوقة. كان موسم حصاد عام ١٩٤٧ الأسوأ على مدى القرن العشرين. وصار الملايين في ألمانيا وفي أماكن أخرى بلا مأوى، هائمين على وجوههم خلال الأنقاض التي انتشرت في كل مكان أمارة على القوة التدميرية التي أطلقت لها الحرب العِنان. أصبح اللجوء وضعًا مألوفًا للرجال والنساء والأطفال، الذين تم ترحيلهم أو طردهم أو إنقاذهم من السجن في نهاية الحرب؛ فقد نجت عدة ملايين من اليهود من خطط هتلر الوحشية لإبادتهم. وتوفرت للاجئين حرية للتحرُّك فهاموا في الطرقات أو تجمعوا في مخيمات جديدة لإيواء المشردين.
في الواقع شجعت الأبعاد الاستثنائية للفقر تنفيذ برنامج طموح لتحقيق التعافي الاقتصادي. بدأ ذلك بدرجة كبيرة كعملية من المحاولة والخطأ بميزانية منخفضة. كان أول ما يحتاج إليه العديد من الناس الذين تضرروا جراء الحرب هو الأساسيات من مأكل وملبس ومأوى. ثم واجهوا تحديًا يتمثل في الحاجة لعملية إصلاح لآثار التدمير واسع النطاق، وأخيرًا احتاج منفذو البرنامج إلى دفعات من المال لإنعاش اقتصادهم في زمن السلم. كان العم سام يملك المال والإرادة فبدأ بتوزيع أموال من خلال الأمم المتحدة، أو مباشرةً من واشنطن. بذلت كندا أيضًا جهودًا كبيرة في تقديم المعونات. إن الناس يتعلمون بالفعل من التجربة. وقد أدرك زعماء أمريكا أخيرًا الضرورة المطلقة لقبول الولايات المتحدة مسئوليات قيادة العالم التي كانت تتحاشاها بعد الحرب العالمية الأولى.
مشروع مارشال الشامل
بالرغم من المساعدات الأمريكية والكندية، كانت مساعدة الدول التي مزقتها الحرب للوقوف على أقدامها من جديد بطيئة بدرجة تثير الشكوك حول الرأسمالية، بل وتثير التعاطف مع البديل الشيوعي لاقتصاد السوق. ونتيجة لقلق وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال حيال ذلك، أعلن عام ١٩٤٧ عن برنامج جديد. ولما حظي مشروع مارشال بتصديق الكونجرس، خصصت دولارات في شكل قروض ومِنح للغذاء والبذور والأسمدة؛ لإطعام الناس، ثم أموال لتوفير السلع الرأسمالية والمواد الخام والوقود اللازم لحفز الإنتاجية. ورغم أن الاتحاد السوفييتي دُعي للمشاركة، فقد رفض بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن دول أوروبا الشرقية التابعة له. واجتمعت ست عشرة دولة أوروبية غربية في باريس لمناقشة العرض الأمريكي. وانتهت اجتماعاتهم إلى تشكيل لجنة للتعاون الاقتصادي الأوروبي. لكن إسبانيا وحدها — التي كانت تحت حكم الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو — لم تتلقَّ دعوة للانضمام إلى المجموعة، ولو أن الديكتاتوريات اليمينية تم قبولها بعد خمس سنوات للتحالف في الحرب ضد الشيوعية. حينئذٍ مدت الولايات المتحدة نطاق مساعداتها إلى إسبانيا، وحصلت على إذن بإقامة قواعد جوية هناك.
استثمرت الولايات المتحدة في المجمل ١٨ مليار دولار في برنامج التعافي الأوروبي في الفترة من عام ١٩٤٨ إلى ١٩٥٢، في الوقت الذي كان فيه رجل الدين الأمريكي العادي يتقاضى ٢٤٠٠ دولار سنويًّا. كانت السرعة التي انتعش بها المستفيدون من مشروع مارشال تجعله يبدو كدواء عامٍّ شافٍ لكل أشكال التدهور الاقتصادي. في عام ١٩٤٨، طُبقت المبادئ الواردة في مشروع مارشال خارج أوروبا في برنامج الرئيس هاري ترومان المعروف ببرنامج النقطة الرابعة للهند. لكن النجاح المتفاوت الذي أسفر عنه هذا الجهد المكلف أشار بوضوح إلى أن التنمية الاقتصادية تتطلب ما هو أكثر من المال، لكن هذا الاستنتاج لم يحظَ بالانتشار. وقد تحدث العديد من الخبراء — وما زالوا يتحدثون — عن نجاح السوق بوصفه نتيجة حتمية للقوانين المستقلة للطبيعة، لكن التاريخ يعلمنا أن الرأسمالية تعمل — كغيرها من النظم الاجتماعية — من خلال تفاعلات شخصية غير معروفة سلفًا.
لأوروبا ما بعد الحرب أهمية كبيرة في تاريخ الرأسمالية؛ لأن مسارها المختلف يذكرنا بأن هناك طرقًا عديدة يمكن من خلالها أن يزدهر العمل الحر؛ فبعد الحرب استغرقت أوروبا الغربية المدمرة نحو خمس سنوات لاستعادة قوتها الصناعية كاملة. وفي عام ١٩٥٠ كان ناتجها المحلي الإجمالي يعادل الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة عام ١٩٠٥! لكن تلك كانت المرة الأخيرة التي يحدث فيها مثل هذا التفاوت؛ ففي العقدين التاليين شهدت أوروبا أطول فترة متواصلة من التنمية الاقتصادية سجلت على الإطلاق حتى ذلك الوقت. وفي السنوات الأربع من عام ١٩٤٨ إلى ١٩٥٢، نمت اقتصادات دول أوروبا الغربية نموًّا مدهشًا بنسبة سنوية بلغت ١٠٪.
أدت الاتفاقات التي عقدت عقب الحرب مباشرة إلى تعاون دولي مستمر فيما بين قادة الصناعة في العالم، مدفوعين بالشعور بالاهتمامات المشتركة؛ ذلك الشعور الذي كان مفقودًا في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين. وأدرك معظم الناس أن النمو الاقتصادي لا يتطلب إفقار الجار؛ فقد كانت الدول تزداد ثراء إذا كان جيرانها أثرياء أيضًا، كما قال آدم سميث قبل سنوات مضت. ورغم أن التعريفات الجمركية الحمائية لم تختفِ، فقد صارت أكثر اعتدالًا بكثير مما كانت عليه في منتصف القرن التاسع عشر. ومع ذلك أحجمت جميع الدول عن معالجة القضية المثيرة للجدل والمتمثلة في حرمان المزارعين — الذين يشكلون فصيلًا سياسيًّا قويًّا في أي بلد — من الدعم المحلي.
مبادرات جديدة في التعاون الدولي
يقال: «رُبَّ ضارة نافعة.» واندلاع حربين عالميتين مدمرتين يفصل بينهما عشرون عامًا من شأنه أن يختبر صحة هذه المقولة. ويفسر ضيق الفاصل الزمني لفترة السلام بين الحربين أحد جوانب النفع؛ فقد شهد رجال مثل رجل الأعمال والسياسي الفرنسي (أبو المجموعة الأوروبية) جان مونيه ووزير الخارجية الفرنسي روبير شومان خلال سنوات النضج من حياتيهما كلا الحربين العالميتين. وبحلول نهاية الصراع الكارثي الثاني، كان هذان القائدان عازمين على تسيير الأمور بطريقة مختلفة هذه المرة. كان مونيه قد اكتسب دراية بالتجارة البريطانية والأمريكية والأوروبية نتيجة لرحلاته المتعددة كمندوب عن شركة البراندي التي تملكها عائلته قبل أن يصبح دبلوماسيًّا في عصبة الأمم. أما شومان — الذي كان قد تحول من مواطن ألماني إلى مواطن فرنسي عندما أعيد إقليم الألزاس واللورين إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى — فقد صنع سيرة مهنية مرموقة في مجال السياسية الفرنسية.
اقترح الرجلان خطة طموحة تمثلت في ربط صناعتي الحديد والصلب في أوروبا الغربية تحت سلطة واحدة. وكانت هذه بالتأكيد فكرة حان وقتها المناسب. وفي عام ١٩٥١، كانت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج ضمن مجموعة الحديد والفحم الحجري الأوروبية. وبوجود سوق واحدة لمنتجات الفحم والصلب، بات الأعضاء يأملون في الحصول على إمدادات ثابتة؛ فشجعوا اكتساب الربح من أجل تمويل التحديث بوتيرة ثابتة. يا للفرق الذي أحدثه حَمَّام الدم الثاني! فقد كانت أرواح مونيه وشومان وآخرين ممن أعانوهم على النجاح على العكس تمامًا من الروح الانتقامية لجورج كليمنصو في مفاوضات معاهدة فرساي.
كان أداء الدول الأوروبية ممتازًا في إنتاج الصلب وصناعة السيارات والمستحضرات الدوائية والإلكترونيات. ولعبت ألمانيا أيضًا دورًا كبيرًا في تطوير صناعة السيارات في الفترة التي أعقبت الحرب. كان كارل بنز ونيكولاوس أوتو رائدا إنتاج السيارات التجارية. وقد أدى التباطؤ الذي ساد في عشرينيات القرن العشرين إلى حصول شركات صناعة السيارات الأمريكية على موطئ قدم في السوق الألمانية؛ فاستحوذت شركة جنرال موتورز على شركة أوبل وأسست فورد شركة تابعة ناجحة هناك. وأدى الكساد الكبير إلى انخفاض عدد شركات صناعة السيارات الألمانية من ١٥٠ إلى نحو عشر شركات، منها شركتا أوبل وفورد، لكن الشركات التي ظلت باقية كانت قوية.
شركات صناعة السيارات والحرب
لم تجتَزْ سيارة الشعب مرحلة النموذج المبدئي قط. كان المصنع ينتج نوعًا من السيارات الألمانية تشبه سيارات الجيب أثناء الحرب إلى أن استولى عليه الجيش البريطاني عام ١٩٤٥؛ فأعاد الجيش تسمية السيارة باسم فولكس فاجن، وأمر بطلبية من ١٠ آلاف سيارة، ثم عرض المصنع على شركات صناعة السيارات البريطانية، التي سخرت من شكل فولكس فاجن المضحك. ولم ينل المصنع إعجاب شركة فورد أيضًا، ولا شركات صناعة السيارات الفرنسية؛ فأعيد المصنع للحكومة الألمانية.
في هذه الأثناء اعتُقل فرديناند بورشه لمدة عشرين شهرًا بوصفه مجرم حرب، واعتقلت الحكومة الفرنسية لويس رينو — أحد كبار رجال صناعة السيارات — بتهمة التعاون مع حكومة فيشي النازية، وتوفي رينو في السجن. كان تورط صانعي السيارات هذين في الجريمة يشكل فضيحة مدوية لم يكن من الممكن تجاهلها من جانب ألمانيا أو الدول التي انتصرت عليها. كان فيري نجل بورشه سياسيًّا، لكنه كان — كأبيه فرديناند — مصممًا بارعًا. ولما كان فيري بحاجة ماسة لتدبير المال اللازم لإطلاق سراح والده، صنع سيارة رياضية. وأصبحت بورشه ٣٥٦ أول سيارة تحمل اسم بورشه، الذي سرعان ما ارتبط بسلسلة من الطرازات الفارهة.
طلبت الحكومة من شركة بورشه أن تعمل على تصميم فولكس فاجن ومنحتها عائدات على كل المبيعات المستقبلية للسيارة التي صارت تسمى بيتل (الخنفساء) تقديرًا لشكل فولكس فاجن المميَّز. في السنوات التي تلت ذلك، أنتجت شركة بورشه ما يقرب من مائة ألف سيارة طراز ٣٥٦، وفي الوقت نفسه خرجت ٢٠ مليون سيارة بيتل فولكس فاجن من خط الإنتاج لتجوب الشوارع في كل بلدان العالم. في تسعينيات القرن العشرين ظهر بورشه آخر، هو حفيد فرديناند المدعو فرديناند بيش، وهو من أخرج فولكس فاجن من الركود المالي، جاعلًا إياها واحدة من أكبر أربع شركات تصنع السيارات في العالم. ويُعزى الفضل في عودة انتعاش ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى حد كبير لهذه النجاحات، فقد صارت وظيفة من كل سبع وظائف في الدولة تعتمد على صناعة السيارات في شركات فولكس فاجن، أو ديملر بنز، أو بي إم دابليو التي تسيطر على السوق.
الاقتصاد الأمريكي في أوج نشاطه
تعبيرًا عن امتنان الحكومة لمحاربيها القدامى، وزعت عليهم منحًا كان لها تأثير صحي على المناخ الاقتصادي؛ فقد استفاد ما يقرب من مليون محارب قديم من قانون قُدَامَى المحاربين الذي تكفل بدفع تكاليف التعليم الجامعي أو التقني وقدم معاشًا للإنفاق على مستلزمات المعيشة. وكانت سنة ١٩٤٧ هي سنة الذروة، حيث كان ما يقرب من نصف طلاب الجامعات الأمريكية من أسر المحاربين القدامى، وكان أغلبهم من أوائل من ارتادوا التعليم الجامعي في أسرهم. ومن قبيل الصدفة البحتة، أنتج هذا الاستثمار في التعليم زيادة في رصيد المهارات لعدة سنوات، لا سيما مع اكتساب العمالة الماهرة أهمية أكبر بكثير في قوة العمل. (أهمية جعلت الاقتصاديين يضيفون مصطلح «رأس المال البشري» لمناقشاتهم المتعلقة بعنصر الإنتاج الذي يشمل: العمالة والأرض ورأس المال.)
كان هناك ٩٠٠ ألف آخرون من قدامى المحاربين لا يزالون عاطلين عن العمل — وهذا العدد يكاد يشكل نصف عدد أفراد قوة العمل العاطلين عن العمل — ممَّا دفع الكونجرس لأن يصوت بمنحهم إعانات بطالة بواقع ٢٠ دولارًا أسبوعيًّا لمدة ٥٢ أسبوعًا سنويًّا طوال فترة بحثهم عن عمل. وكانت هناك عدة برامج مكَّنت قدامى المحاربين من الحصول على قروض عقارية رخيصة، وهذا شجع حدوث طفرة في مجال البناء والتشييد؛ فقد شيد أحد متعهدي المقاولات — ويدعى ويليام ليفيت — ١٧ ألف منزل على مقربة من مصنع كبير من مصانع شركة الولايات المتحدة للحديد والصلب في لونج آيلاند بولاية نيويورك. كانت مدينة ليفيت هي الأولى ضمن عدد من المجمَّعات السكنية التي شيدت بسرعة؛ فقد بدأ المقاولون في جميع الأنحاء يعمرون مساحات من الأرض بالمنازل المكوَّنة من طابق واحد على مسافات غير بعيدة من مدن أمريكا. شيد هؤلاء المقاولون منازل بأعداد ضخمة وبتصميمات مماثلة ومزودة بالعديد من العناصر مثل الخزانات. وفي ظل التحيُّز الذي كان سائدًا في تلك الأيام، عادة ما كان يجري استبعاد السود من هذه المجمَّعات السكنية.
أصبحت تنظيمات العمال قوةً في الاقتصاد الأمريكي بعد صدور قانون واجنر، المعروف رسميًّا باسم قانون علاقات العمل الوطني لعام ١٩٣٥. منح هذا القانون حماية قانونية للتنظيمات العمالية. كان الرأي العام — فضلًا عن قرارات المحاكم — يتحول لصالح العمال. وقد حدث ذلك أولًا في العشرينيات لدى مطالبتهم بالحق في التجمع، ثم بعد ذلك خلال فترة الكساد الكبير في مطالبتهم بالحق في التنظيم النقابي. فقد حظر الكونجرس استخدام أوامر المحكمة في وقف تجمُّعات العمال عام ١٩٣٢، وفي قرارات لاحقة عامي ١٩٣٨ و١٩٣٩ فسرت المحكمة العليا التعديل الأول بأنه يجعل الشوارع والحدائق «منتديات عامة» تكفل الاعتصام السلمي.
في ظل زيادة الإنتاج أثناء الحرب، توصلت شركات عديدة إلى تسويات مع عمالها كي تحصل على عقود عسكرية؛ ممَّا زاد أعداد أعضاء الاتحادات العمالية زيادة كبيرة. وحينما حاولت هذه الشركات عقب الحرب أن تقلِّص الأجور، نجحت الاتحادات في نضالها من أجل إبقاء الأجور على حالها أو من أجل زيادة مكاسب العمال. وخلال الخمسة عشر عامًا من تضامن المواطنين — الذي تشكل من خلال المعاناة المشتركة المتمثلة في الأزمة الاقتصادية للكساد الكبير والحرب — نجح العمال في إقناع معظم الأمريكيين بأن الأجور لا ينبغي أن تحددها الاعتبارات الموضوعية لقانونٍ ما كقانون العرض والطلب، وطرحوا بدلًا من ذلك هدفًا مزدوجًا يتمثل في الحصول على أجر معيشي مناسب ودمج العمال من ذوي الياقات الزرقاء (عمال المصانع والمناجم) دمجًا كاملًا في نطاق الازدهار بعد أن حل السلام أخيرًا. واستمرت النزاعات، فوجدت الاتحادات العمالية الكبيرة، والصناعة الكبيرة، والحكومة ذات الدور الكبير التوازنَ الذي يمكنهم من العمل.
كان هذا مزيجًا سحريًّا بالنسبة للاقتصاد الأمريكي؛ فبينما جعلت الحرب معظم دول أوروبا وجزءًا من آسيا في عداد المُعدَمين، نَمَا الاقتصاد الأمريكي بنسبة ٥٠٪ في الفترة من عام ١٩٣٩ إلى عام ١٩٤٥! ونما الاقتصاد في كندا والأرجنتين على نحو أسرع، فتمكن الأشخاص الذين كانوا يعيشون طوال حياتهم في شقق صغيرة من شراء منازل، وتزوج الموظفون العائدون إلى الخدمة، وبدءوا ينجبون الأطفال الذين شكلوا طفرة المواليد في الفترة من ١٩٤٦ إلى ١٩٦٠. وازدهرت الشركات الصغيرة، التي كان الكثير منها يخدم العائلات في الضواحي المنتشرة، من خلال المتاجر المتنقلة، وخدمات التنظيف، وما شابه ذلك من الخدمات. وتحرك اقتصاد زمن السلم الأمريكي — المتباطئ منذ عام ١٩٣٠ — بأقصى سرعة، بعد أن ظل راكدًا لربع قرن.
سلام بارد جديد
فسَّر الأمريكيون قمع الاتحاد السوفييتي جيرانه من الدول على أنه جزء من خطة للسيطرة على العالم. وفي عام ١٩٤٧، أعلن الرئيس هاري ترومان عن نيته احتواء الشيوعية عن طريق إرسال الدعم العسكري والاقتصادي إلى اليونان وتركيا، اللتين كانتا تحاربان حركات التمرد الشيوعية. قامت عقيدة ترومان على فكرة أن الضغط السوفييتي عن طريق جماعات التمرد التابعة له — في حال نجاحه — سيسفر عن تأثير تسلسلي يشبه سقوط قطع الدومينو، بمعنى أنه في حال اعتناق دولة واحدة المذهب الشيوعي ستتبعها في ذلك جاراتها الأخريات. وقد نشأت من وحي العداء المتبادل المتزايد بين روسيا وأمريكا معركة دعائية واسعة النطاق، مدعومة بمساعدات كتلك التي أَمَد بها ترومان تركيا واليونان. كان ونستون تشرشل قد صاغ استعارة جديرة بالذكر عندما أعلن في خطاب ألقاه في الولايات المتحدة أن «الستار الحديدي» قد أُسدل بين شرق أوروبا وغربها. وحلت حرب باردة بين الحلفاء السابقين محل الحرب الساخنة التي كانوا قد خاضوها معًا. وأصبحت الرأسمالية نظامًا اقتصاديًّا يميز الغرب، وباتت قدرتها على إنتاج الثروة تحمل طابعًا أخلاقيًّا جديدًا.
كان جنون الارتياب في روسيا والتخوُّف شبه الهستيري من الاشتراكية في الولايات المتحدة يعملان بفعالية على بناء شعور متبادل بعدم الثقة والعداء بين الدولتين. وأصبح كل حدث مادة للدعاية، وبات ولاء كل بلد من البلدان الأجنبية نصرًا يسعى لاكتسابه كل جانب من الجانبين. وقد يضيف أي شخص واقعي أن نظامي المعتقدات والحكم كانا متباينين للغاية إلى درجة استحال معها أن يكون الحال على أي شكل غير ذلك. فالعمل الحر، والانتخابات الحرة، والحريات الشخصية فيما يتعلق بالتنقُّل والتعبير والمعتقد الديني، والمشاركة السياسية، كانت جميعها تلخص القيم الغربية الأثيرة، بينما كان السوفييت يفاخرون بالتشغيل الكامل، والملكية العامة لسلع البلاد، والمساواة في معاملة أفراد الشعب. لقد وحَّدت مناهضة الشيوعية دول أوروبا الغربية والعالم الجديد، كما حدَّت من نطاق الأفكار السياسية التي تحظى بالقبول في الولايات المتحدة؛ الأمر الذي هدَّد بكبت المناقشات الحامية التي يحتاجها الاقتصاد القائم على الابتكار والمبادرة.
أصبح التنافس بين الشرق والغرب أكثر حدة من المنافسات السابقة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن كان هناك فارق حاسم منع الحرب الباردة من التطور والاشتعال. فمع انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ العصر الذري؛ ففي عام ١٩٤٩، وبعد برنامج مكثف، أنتج العلماء السوفييت قنبلة ذرية مماثلة لتلك التي أسقطتها الولايات المتحدة على اليابان. ولما كان السوفييت يتابعون برنامج الولايات المتحدة عن كثب، فقد أتبعوا القنبلة الذرية بتطوير قنبلة هيدروجينية أكثر قوة ومنظومة صواريخ بالستية عابرة للقارات لنقل هذه القنابل. حينئذٍ صارت كلتا الدولتين — اللتين استحقتا لقب القوتين العظميين — قادرتين على محو إحداهما الأخرى. وأصبحت الإبادة المتبادلة خطرًا واضحًا ومتربصًا. وفي السنوات التي تلت ذلك، تمكنت سبع دول أخرى من الحصول على أسرار مشروع مانهاتن من خلال تسلُّمها من حلفائها. وربما تتحرك أربع دول أخرى في هذا الاتجاه في الوقت الحالي.
صارت البلدان التي خرجت لتوِّها من الحرب العالمية الثانية تواجه السياسات العدوانية للاتحاد السوفييتي. ولم يكن لدى أحد أي فكرة عن مدى نجاح أداء الاقتصاد السوفييتي في ذلك الوقت، لكن الجميع كان يعرف أن الجيش الأحمر قوة قتالية هائلة. وفي إحدى ليالي شهر أغسطس من عام ١٩٦١، لم يعد ستار تشرشل الحديدي استعارة لغوية؛ إذ أقامت الحكومة الألمانية الشرقية جدارًا في برلين الشرقية لوقف تدفق الهاربين إلى الغرب. ظلت أوروبا الغربية تعتمد على القوة العسكرية للولايات المتحدة، التي بدأت تثير قلق الكتلة السوفييتية بإقامة قواعد عسكرية ومواقع لإطلاق الصواريخ.
ورغم وجود فترات مرعبة للغاية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، نجحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في كبح متطرفيهما، وتجنَّبَا التدمير المتبادل. وقد ساعدهما في هذا الأممُ المتحدة، التي تشكلت في مؤتمر سان فرانسيسكو من ٥٠ دولة عام ١٩٤٥. ورغم أن قوًى بعينها تنكرت لعصبة الأمم المنحلة، فإن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة حافظَا على أشكال التشاور، وإن لم تكن تتسم بالروح الإيجابية في كل الأحيان. ورغم أن الأمم المتحدة كانت تخضع لسيطرة الولايات المتحدة أكثر ممَّا تخضع لسيطرة الاتحاد السوفييتي، كانت قوة حق النقض الذي تملكه روسيا في مجلس الأمن — وإن كان مزعجًا — آلية لتحقق التوازن.
مؤسسات جديدة للتجارة الدولية
بعد الحرب، رأى بعض الأشخاص الذين يمتازون ببعد النظر فرصة لصنع سوق عالمية حرة نسبيًّا، وهو الهدف الذي لم تحققه النوايا الحسنة في وقت سابق. كان أحد تطورات القرن السابع عشر التي منحت إنجلترا دفعة اقتصادية هو إزالة العقبات المحلية التي تعوق طريق التجارة داخل المملكة. بينما في ذلك الوقت في فرنسا، لم يكن بمقدورك قيادة أي مركبة لمسافة ٢٥ كيلومترًا من دون الحاجة لدفع مبلغ من المال لعبور جسر أو المرور عبر طريق مختصرة. كانت هذه الامتيازات التي تتيح جمع الرسوم تحظى بالتقدير الكبير والحماية. أما في إنجلترا، فكانت البضائع والناس تتنقل داخل سوق واحدة وموحدة، بدلًا من الأسواق المحلية والإقليمية التي كانت سائدة في مناطق أخرى. وكان هذا محفزًا للتنمية باعتراف قطاع واسع من الناس، لكن المنافسات الوطنية عرقلت كل جهد لتطبيقه في مجال التجارة الدولية؛ فقد فرضت البلدان الرسوم الجمركية أو ملأت المعاهدات التجارية بمطالب تافهة تتعلق بالمعاملة الخاصة لمنتج مفضل أو لمجموعة مصالح.
خلقت المؤسسات التي أُنشئت بعد الحرب بيئة سانحة للتنمية الاقتصادية فيما بين الدول التي تعاونت. وحافظ الدولار على استقرار التجارة الدولية. وبحلول عام ١٩٥٦ بات من الممكن تحويل جميع العملات الأوروبية الغربية بسهولة، بدعم من جانب اتحاد المدفوعات الأوروبي. كان الاتحاد قد بدأ بمنحة مقدَّمة من الولايات المتحدة، فشجع التجارة متعددة الأطراف من خلال تيسير وسائل السداد. لم تستخدم الدولارات التي حصلت عليها كل دولة من مشروع مارشال في شراء السلع الضرورية فحسب، بل مكَّنت هذه الدول من شراء السلع بعضها من بعض. كانت حسابات كل دولة تجري تسويتها في نهاية كل شهر، بحيث تسوَّى الديون أو الأرصدة الكبيرة بالذهب أو بالدولارات.
ولما كان الاقتصاد الأمريكي موجهًا بالفعل نحو الاستهلاك، فقد انتعش حينما اشترت ملايين الأسر الكبيرة سلعًا بأثمان مرتفعة مثل السيارات والثلاجات والغسالات والمجفِّفات. وقد أدى إحداث التغيير في نظم الإقراض والاقتراض إلى إتاحة هذا الإنفاق الكبير. في وقت سابق، كانت المتاجر ومحلات البقالة الراقية تفتح للزبائن حسابات للبيع بالأجل أو بالتقسيط. وكانت إحدى السمات الواضحة للتصميم الداخلي لأي متجر تلك الأنابيب التي تعمل بالهواء المضغوط لمناولة إيصالات المشتريات الآجلة السداد من كل قسم إلى مكتب الائتمان، حيث يجري فرزُها في شكل فواتير شهرية. ومن ثَمَّ، لم يكن الاقتراض شيئًا مبتدعًا بالنسبة للأمريكيين، لكنه لم يسبق أن استُخدِم من قبل كإحدى ركائز الازدهار. بعد الحرب، عملت أطراف متعددة — شملت البنوك وتجار التجزئة والمصنعين والمقرضين ووكالات تحصيل المستحقات والديون والمسئولين في الدولة والولايات — على تحويل صناعة الإقراض المحلية العشوائية في أمريكا إلى نظام وطني مترابط.
التأثير الاجتماعي للتكنولوجيا
في الخمسينيات، دخل التليفزيون غرفة المعيشة الأمريكية كأحدث ابتكار على الإطلاق. ومخترع التليفزيون، فيلو فارنسورث، يعد إثباتًا على عشوائية العبقرية الميكانيكية. نشأ فارنسورث في مقاطعة بيفر بولاية يوتا، وبدأ يتلمس طريقه في عالم الكهرباء منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره. وكانت أول صورة تليفزيونية بثَّها عام ١٩٢٧ صورة دولار مكوَّنة من ٦٠ خط أفقي. وعلى الرغم من خسارته معركة نيل براءة الاختراع أمام هيئة الإذاعة الأمريكية، استمر في عمله واخترع ١٦٥ جهازًا آخرَ، بما فيها أنابيب التفريغ، والماسحات الضوئية الكهربائية، وأشعة الكاثود (المهبط). ويعد فارنسورث مثالًا رائعًا على إحدى نقاط القوة الكامنة في اعتماد الرأسمالية على الابتكار؛ أنها لا تستطيع تجاهل الهواة.
أدى امتلاك أجهزة التليفزيون على نطاق واسع إلى ظهور أحد أكثر مستجدات حقبة الخمسينيات تطفلًا؛ إنها الإعلانات التجارية التليفزيونية. ورغم كونها امتدادًا طبيعيًّا للإعلانات في الصحف والمجلات والإذاعة، فإنها بدت فجَّة للغاية. كانت المحطات التليفزيونية تعرضها في أوقات ذروة المشاهدة، فتقطع بها المسرحيات ومباريات كرة القدم ونشرات الأخبار. وتحولت الصورة التي تساوي ألف كلمة إلى تتابع مسلسل يستمر ٣٢ ثانية من الصور التي تقدم المعلومات للمشاهد وتقنعه وتثير حنقه أيضًا. ورغم ما كانت تتعرض له إعلانات التليفزيون من انتقادات، فإنها نجحت في بيع كل شيء من مزيلات رائحة العرق إلى وثائق التأمين على الحياة. وسرعان ما تَنبَّه المرشحون السياسيون إلى الدعم الذي يمكن للإعلانات التجارية التليفزيونية أن تولِّده. ولأنها أكثر فعالية من جولات المرشح لكسب تأييد الناخبين، سرعان ما حازت نصيب الأسد من ميزانيات الحملات الانتخابية. واكتسب جمع التبرعات أهمية جديدة في السياسة الأمريكية، وأظهرت التجارة قدرتها مجددًا على تشكيل منظومات جديدة بطرق غير متوقعة.
كان السفر جوًّا أحد المستجدات الأخرى التي طرأت على حياة المستهلكين الأمريكيين بعد الحرب العالمية الثانية. كانت حكومة الولايات المتحدة قد شجعت البحوث المتعلقة بالطيران بعد نجاح رحلة الأخوين رايت عام ١٩٠٣، لكنها توقَّفت عن ذلك بعد الحرب العالمية الأولى. ظهرت الخطوط الجوية الأولى مثل أمريكان إيرلاينز ويونايتد إيرلاينز من شركات لصناعة الطائرات. وفي عام ١٩٢٧، لفت تشارلز ليندبيرج اهتمام العالم عندما طار من نيويورك إلى باريس بطائرة أحادية السطح ذات محرك واحد. ثم أصبح ليندبيرج قائد طائرة لدى شركة بان أمريكان، التي كانت تعتمد على الدخل الناتج من نقل البريد، لا سيما إلى دول أمريكا اللاتينية، شأنها في ذلك شأن شركات الطيران التجارية الرائدة الأخرى. خلال الثلاثينيات، كان الخوف وارتفاع التكلفة سببين لقلة نشاط الطيران التجاري. وقد تصدى أحد الجهود التسويقية لمواجهة هذه العقبات؛ إذ اكتشفت إحدى شركات الخطوط الجوية أن الزوجات كُنَّ قلِقات بشأن سلامة أزواجهن بدرجة تجعلهن يمنعن أزواجهن من السفر جوًّا. ولمعالجة هذه المشكلة، قدمت الشركة تذاكر مجانية للنساء اللواتي ترافقن أزواجهن في رحلات العمل. لكن من خلال متابعة الاستبيانات التي أجريت بشأن تشارك الزوجين في الرحلات، اكتشفت شركات الطيران — من واقع الردود الغاضبة التي تلقتها من الزبائن — أن ليس كل الأزواج يصطحبون زوجاتهم!
الارتقاء بالتعليم الأمريكي العالي
لم يأتِ أكثر التأثيرات العلمية عمقًا في التفكير الأمريكي من داخل الولايات المتحدة، بل من الاتحاد السوفييتي. ففي عام ١٩٥٧، أطلق السوفييت قمرًا صناعيًّا يزن ١٨٤ رطلًا إلى الفضاء الخارجي. وبعد شهر، حلَّقت سفينة الفضاء الروسية سبوتنيك الأثقل وزنًا في مدار الأرض وعلى متنها الكلبة لايكا. أحدث هذان الحدثان دويًّا ترددت أصداؤه في جميع أنحاء العالم. شعر الأمريكيون بالذهول، وكأنهم تلقَّوْا ضربة قاضية. وفي غضون أربعة أشهر انضمت الولايات المتحدة للاتحاد السوفييتي في الفضاء بأول قمر صناعي أمريكي، إكسبلورر ١، لكن سبوتنيك الروسية كانت قد أحدثت الأثر المطلوب على المستوى الدعائي، وبددت الفكرة القائلة بأن السوفييت متخلفون. لا شك أن رد الفعل الأمريكي إزاء هذا الإنجاز الرائع في مجال التكنولوجيا هو ما يجعل سبوتنيك في غاية الأهمية بالنسبة لتاريخ الرأسمالية. وقد أجمع المحللون والسياسيون على أن الولايات المتحدة اضطرت إلى بذل جهد هائل كي تحرز تفوقًا في العلوم والهندسة، بل وأجمعوا كذلك على أن الجامعات الأمريكية — وليس مرافق البحوث الحكومية — كانت هي الأساس لتحقيق ذلك.
خلال عقد من الزمن، بدأت الجامعات الحكومية والخاصة في برامج توسعية كان لها تأثير في تغيير طبيعة التعليم العالي في أمريكا وفي أماكن أخرى. ولأن إطلاق السفينة سبوتنيك إلى الفضاء كان يمثل ذروة الإنجاز، لم يكن من الممكن على الإطلاق تقليل المنح الحكومية الموجهة للتعليم الجامعي، على الرغم من زيادة مئات الآلاف من الطلاب الجدد. علاوة على أن قانون المحاربين القدامى أظهر مدى الازدهار الذي يطرأ على الطلاب الذين ينتمون لمستويات اجتماعية متواضعة أو حتى فقيرة بعد حصولهم على التعليم الجامعي. التحقت النساء أيضًا بالجامعات بأعداد كبيرة في العقود التي تلت الحرب، وكثيرًا ما طرقن مجالات غير تقليدية. بعد ذلك بقليل، بدأ التحرك من أجل إدراج طلاب الأقليات أيضًا تحت مظلة التعليم الجامعي، لكن كان توسيع القاعدة التعليمية الذي حدث في المرحلة التي تلت إطلاق سبوتنيك هو النموذج المُحتذى لهذا الجهد. كان التعليم العالي في إنجلترا يركز تركيزًا خاصًّا على برامج الدراسات العليا بهدف إعداد المزيد من العلماء والأساتذة للكليات في جميع أنحاء البلاد.
واستجابة لهذا التحدي، أصدرت الهيئة التشريعية في كاليفورنيا «الخطة الرئيسية للتعليم العالي» لعام ١٩٦٠، والتي وضعت ثلاثة مستويات تعليمية للطلبة: أن يلتحق ثُمن الطلبة — الحاصل على أعلى الدرجات — من خريجي مدارس كاليفورنيا الثانوية بجامعة كاليفورنيا، ويحصل ثُلث الأوائل على مكان مضمون في أحد حُرُم جامعة الولاية، أما البقية فيستطيعون الذهاب إلى كليات تمهيدية مدة الدراسة بها سنتان تمهيدًا للالتحاق فيما بعدُ بكليات الأربع سنوات. وقد اتبعت ولايات عديدة هذا النموذج، وجعلت فروعًا متعددة تنبثق من الجامعة الأصلية للولاية. وفي الشرق، حيث كان التعليم الخاص سائدًا، بدأت ولايتَا ماساتشوستس ونيويورك أول نظامين للجامعات الحكومية.
حين توسعت حكومة الولايات المتحدة في الجامعات بدلًا من معاهد التكنولوجيا — كالمعاهد الموجودة في ولاية كاليفورنيا وماساتشوستس — أصبحت راعيًا للفنون والعلوم الليبرالية؛ وذلك لأن السنتين الأوليين من الدراسة الجامعية في الولايات المتحدة كانتا تكَرَّسان لدراسة ما يسمى بالتعليم العام، خلافًا لأنظمة وطنية أخرى كانت تجعل الطلاب يختارون تخصصًا دراسيًّا منذ مرحلة الدراسة الثانوية. لذا، إلى جانب جميع العلماء الجدد الذين وجدوا وظائف جيدة في مجال التعليم العالي، كان هناك الآلاف من الأساتذة في الأدب والفلسفة والتاريخ والعلوم السياسية وعلم الاجتماع ممن وجدوا بدورهم وظائف جيدة في نفس المجال. وفي ظل الثبات الوظيفي الذي يوفره الحقل الأكاديمي، فَقدَ الكثير من مثقفي البلاد اللهجة اللاذعة التي تميز المتشككين من خارج الحقل الأكاديمي، والموجودين بكثرة في أوروبا. كان الاقتصاديُّ جوزيف شومبيتر يخشى أن تفشل الرأسمالية بسبب خصومها الثقافيين. وقد قدَّم الشعب الأمريكي دعمًا مذهلًا للرأسمالية ومطالبها الواقعة على عاتق المجتمع، وذلك يُعزى جزئيًّا لأنه لم يكن عرضة للتعليق المثبط من جانب النقاد.
كانت الهيئات التشريعية في الولايات ورعاة الأعمال الخيرية وراء الجهد الضخم لبناء الأنظمة الجامعية من خلال المنح المالية. وكانوا ينتظرون مقابل ذلك العرفان بالجميل من جانب الطلاب. لكن الحُرُم الجامعية في جميع أنحاء البلاد وفي أوروبا صارت بؤرًا للمتهورين الثوريين. ووفقًا لمبدأ العواقب غير المقصودة، تمخَّض ارتفاع عدد الطلاب الذين شكَّلهم تعليم ليبرالي في مجتمع ملتزم بالأعراف — كمجتمع الولايات المتحدة في ذروة الحرب الباردة — عن احتجاجات ومظاهرات تتعلق بحرية التعبير والحقوق المدنية والحرب التي كانت الولايات المتحدة تخوضُها في فيتنام. وقد أقصى أعضاء مجلس جامعة كاليفورنيا كلارك كير عام ١٩٦٧ بسبب استيائهم من النشاط الطلابي. وبحلول ذلك الوقت، كان قد صار مسئولًا عن توسُّع الجامعة إلى تسعة فروع. وقد علق كير — الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا للجنة كارنيجي للتعليم العالي — بأنه تولى منصبه وطُرد منه «بنفس الحماس».
مساهمة العلماء الألمان في التكنولوجيا الأمريكية
أدى إطلاق سبوتنيك إلى ما هو أكثر من تشجيع التعليم العالي؛ فقد حوَّل استكشاف الفضاء إلى ساحة من ساحات تنافس الحرب الباردة أنفق فيها الكونجرس بسخاء مليارات الدولارات. صحيح أن الولايات المتحدة سرحت قواتها المسلحة بسرعة، لكنها أبقت على برنامج بحثي وتنموي رئيسي يتعلق بالأسلحة الجديدة، كما فعل الروس. اعتمدت سبوتنيك الروسية على التطورات التي أحرزها الألمان في زمن الحرب، شأنها في ذلك شأن إكسبلورر ١ الأمريكية، وكلتاهما اعتمدت على أعمال روبرت جودارد الأمريكي، وقسطنطين تسيولكوفسكي الروسي، وهيرمان أوبرث الألماني. كان جودارد قد نجح في إطلاق صاروخ باستخدام الوقود السائل عام ١٩٢٦، لكن هذا لم يحظَ سوى بالقليل من الاهتمام في الولايات المتحدة. وهذا على العكس تمامًا ممَّا حدث في ألمانيا. كان فيرنر فون براون في صغره قد صار مفتونًا بإمكانية السفر عبر الفضاء من خلال ما قرأه من كتابات جول فيرن، وإتش جي ويلز. انضم إلى شركة صواريخ عندما كان في السابعة عشرة من عمره عام ١٩٢٩ وفهم أعمال جودارد، وتسيولكوفسكي، وبطبيعة الحال، أوبرث أيضًا. بعد ثلاث سنوات، التحق بالجيش. ولما كان حاملًا شهادة الدكتوراه في سن الثانية والعشرين، ترأَّس ما أطلق عليه اسم فرقة الصواريخ، التي طورت الصواريخ البالستية. وقد أطلق وزير الدعاية النازي جوزيف جوبلز على أول نموذج تطوره هذه الفرقة اسم «سلاح الانتقام رقم ٢». كان هذا السلاح الذي تم تطويره تحت إشراف فون براون يستطيع حمل رءوس حربية زنة ألفي رطل لمسافة ٥٠٠ ميل بسرعة ٣٥٠٠ ميلًا في الساعة. ولحسن الحظ، لم يصبح ذلك السلاح جاهزًا للاستخدام الفعلي حتى وقت متأخر من عام ١٩٤٤.
لكن هذه هي المرحلة التي عندها تحديدًا تصبح قصة الصواريخ مثيرة حقًّا؛ فعلى الرغم من أن الألمان اعتمدوا على العديد من الأجهزة الحاصلة على براءة اختراع أمريكية مثل أجهزة التحكُّم الجيروسكوبية، فقد كانوا الوحيدين الذين لديهم علم بكيفية صنع الصواريخ التي تنطلق بدفع الوقود السائل. وهذا دفع الجيشين الأمريكي والسوفييتي بمجرد دخولهما ألمانيا إلى أن يتسابقا على إيجاد أقصى عدد ممكن من العلماء لاستقدامهم إلى أرض الوطن. كان فون براون يرى أن نهاية الحرب مقبلة، وعزم على أن يضع عمله بين يدي القوى الغربية، بل كان في الواقع قد رتب لتسليم نحو ٥٠٠ من العلماء الألمان بالإضافة إلى وثائق معملية وأجهزة فحص. وفي نفس الوقت، في صيف عام ١٩٤٥ وخريفه، كانت الجيوش المحتلة تلاحق النازيين السابقين لتقديمهم للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وهنا كانت تكمُن المشكلة، فقد كان العلماء الملاحَقِين نازيين؛ إذ ما من ألماني كان ليُسمح له بالعمل ضمن برامج حساسة كهذه من دون أن ينضم إلى الحزب أو إحدى مؤسساته التابعة. وما هو أسوأ أن بعضهم كان من الممكن أن يُدان باعتباره مجرمَ حرب نظرًا لأنهم استخدموا عمالة السُّخرة في مصانع منطقة بحر البلطيق التي كانت تنتج الصواريخ.
اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية معظم العلماء الألمان المتقدمين بطلبات للحصول على إذن بدخول الولايات المتحدة غير مرغوب فيهم. وترتب على ذلك معركة مع وزارة الحربية، فاتفقت الوزارتان على حل وسط يقضي بجلب مجموعة منتقاة من العلماء الألمان إلى الولايات المتحدة للحصول منهم على معلومات. وهذا يبين كيف كان العِلم الألماني شاملًا وعميقًا خلال الحرب، وتنوع من العمل في مجال الصواريخ إلى الدراسات عن آثار الإشعاع على الجسم البشري. كان الجيش الأمريكي يريد أن يستأنف هؤلاء العلماء العملَ في الولايات المتحدة، بمأمن من أي عدو محتمل. وأصبحت صفة «متعصب» مرتبطة بحرمان شخص ما من الدخول إلى الولايات المتحدة. لكن ماذا كان يحدث إذا كان الشخص نازيًّا «متعصبًا»؟ كان يجري التوصل لحل وسط آخر. كان العلماء الذين يبدو عملهم ضروريًّا لمصالح الولايات المتحدة هم فقط الذين يُسمح لهم بالوفود إلى أمريكا. وقد مَرَّ أكثر من مائة عالم من علماء الفيزياء والمهندسين الألمان بهذا الاختبار. كان يُطلق عليهم «علماء مشابك الورق» وذلك لأن من كانوا يُراجعون أوراقهم من العسكريين كانوا يضعون مشابك تثبيت الورق على أوراقهم للتدليل على أهميتها. استمر برنامج مشابك الورق حتى السبعينيات، وأسفر عن جلب ما مجموعه ١٧٠٠ عالم ألماني إلى أمريكا، حيث وضعوا الأساس لبرنامج الفضاء الأمريكي في وايت ساندز، ونيو مكسيكو، وهانسفيل، وألاباما.
أثَّرت هذه الدفعة التعليمية إلى حد كبير في الاقتصاد لأنها مثلت استثمارًا ضخمًا للمال، ووفرت البنية التحتية الفكرية لموجة جديدة من الابتكارات في مجالات الكمبيوتر، والمستحضرات الدوائية، والطيران. لقد وضع الأمريكيون نظامًا رائعًا للتعليم العالي، لكنهم تحملوا أيضًا عبء دفع ثمن برنامج تسريع وتيرة البحث وتطوير المعدات العسكرية، من قنابل هيدروجينية وغواصات نووية إلى برنامج فضائي بالغ التطور. كان هدف الأمن يأتي مباشرة بعد هدف الانتصار في الحرب، لكن توجُّهات زمن الحرب ظلت مستمرة. وكانت السرية في بعض الأحيان تغطي عدم الكفاءة فيما يتعلق بالمشتريات، وأثبت أعضاء في الكونجرس أنهم مجامِلُون أكثر من اللازم، خاصة إذا كان الشيء مصنوعًا في دولتهم. كانت وزارة الدفاع على علم بهذا، فتمكنت في سنوات الثمانينيات من توزيع أجزاء قاذفة القنابل الشبح بي ٢ على كل ولاية من الولايات.
خلال الحرب، جهزت قوات الجيش والبحرية — التي تعمل في مسارين مختلفين — آلة الحرب بأعظم ما يحمله المستقبل؛ جهاز الكمبيوتر. كان المهندسون وعلماء الرياضيات يسعون جاهدين لتصميم جهاز من شأنه أن يُجري بسرعة الحسابات المعقدة للرياضيات الحديثة. فبعد ما حدث في قاعدة بيرل هاربر، أصبح هذا الاختراع يشكل حاجة أكثر ضرورة لحساب مخططات إطلاق النار والقصف. وفي يونيو من عام ١٩٤٣، خرج أول كمبيوتر إلكتروني رقمي من المختبرات التابعة لجامعة ولاية بنسلفانيا، التي كانت تعمل وفقًا لعقد مع الجيش. ثم حصلت البحرية على جهاز كمبيوتر جرى تصميمه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكان هذا الكمبيوتر يمتاز بسعة ذاكرة أكبر. وبينما كان سلاح البحرية على وشك التخلي عن المشروع بسبب كلفته الباهظة، أجرى الاتحاد السوفييتي أول تفجير لقنبلة ذرية عام ١٩٤٩. عندئذٍ لم يعُد هناك سبيل للتراجع. كان أول كمبيوتر ينتجه الجيش ضخم الحجم ويزن ٣٠ طنًّا! هل كان لأي شخص في ذلك الوقت أن يتصور أن بعد ٦٠ سنة أخرى سيتمكن الناس من شراء أجهزة كمبيوتر محمولة تمتاز بسعر أقل، وإمكانات أعلى، وسرعة أكبر، وتنوع أوسع؟!
ما يثير الأسف أن هذه الفترة المجيدة من تاريخ الرأسمالية تسببت في الإضرار بالبيئة بقدر يفوق ما سبَّبه الدمار المريع للحربين العالميتين الأولى والثانية. وبدأ مصطلح جديد، «علم البيئة» — أي دراسة علاقات الكائنات الحية بمحيطها — يقتحم الوعي العام. ماذا كُنَّا نفعل ببيئتنا؟ من وجهة النظر البيئية، استتبع التقدم الاقتصادي عملية اعتداء منظمة على جميع جوانب البيئة. وازداد عدد سكان العالم من ١٫٦ مليار نسمة عام ١٩٠٠ إلى أكثر من ٦ مليار نسمة عام ٢٠٠٧. وهذه الزيادة الجديدة من البشر — الذين يحرقون الوقود الحفري، ويتخلصون من نفاياتهم، ويجرفون سطح التربة ويكسحون قاع الأنهار — لوَّثت وأفسدت واستنزفت البيئة. ولن يكون علاج هذه العملية المروعة أمرًا سهلًا.
واصل العلماء الألمان في الولايات المتحدة أبحاثهم في مجالي البيولوجيا الإشعاعية، وطب العيون، ومجال طب رواد الفضاء الجديد. وخضعوا جميعًا لتحقيقات بشأن استخدام الألمان للأسرى في التجارب الطبية، من دون أن يتم التوصل لأي حل مُرضٍ في هذه القضية. لقد فرضت الحرب أمورًا مثل مكافحة العدوى، وعلاج الملاريا، وتضميد جروح الجنود. كان هذا يشكل مستنبتًا خصبًا للأبحاث الطبية. كان العالم البريطاني ألكسندر فليمنج قد تمكَّن من عزل البنسلين للمرة الأولى حينما قام بتنمية عفن الخبز الذي نجح في القضاء على البكتيريا المسبِّبة للمرض. ثم جاء علماء بريطانيون إلى الولايات المتحدة لمواصلة هذا البحث خلال الحرب. وخاضت شركة فايزر مجازفة بطولية بتجريب طريقة جديدة لإنتاج البنسلين كُللت بالنجاح. وبحلول ساعة الصفر، عندما هبطت قوات الحلفاء في فرنسا في يونيو ١٩٤٤، كان البنسلين قد صار متاحًا لعلاج الجرحى. وفي غضون ثلاث سنوات، انخفضت تكلفة الجرعة الواحدة منه من ٢٠ دولارًا إلى ٥٥ سنتًا.
تجاوز علماء الكيمياء الحيوية عملية إنتاج بنسلين فليمنج، واكتشفوا فئة جديدة من العقاقير التي أثبتت فعالية استثنائية، لا سيما في مجال مكافحة الالتهاب الرئوي والتهاب السحايا والأمراض البكتيرية وغيرها من الأمراض. كان فليمنج قد نشر نتائج أبحاثه عام ١٩٢٩. وصارت عقاقير السلفوناميد (أو السلفا) التي توصَّل لتركيبها، متاحةً لعلاج جرحى الحرب من كِلَا الجانبين. وكان كل جندي يحمل حصة من مسحوق السلفا إلى أرض المعركة. وعندما قطع اليابانيون طريق وصول الحلفاء إلى مادة الكينين المستخدمة لعلاج الملاريا، أنتجت الأبحاث عقارًا تركيبيًّا، اسمه الأتابرين، أنقذ حياة الآلاف من الأمريكيين الذين كانوا يقاتلون في جنوب المحيط الهادي. واكتشف الأمريكي تشارلز درو أن بلازما الدم تستطيع أن تحل محل الدم الكامل الذي يفسد بسرعة. وسرعان ما بدأ الصليب الأحمر يؤسِّس بنوك الدم. وبحلول نهاية الحرب، كانت هذه البنوك قد جمعت من الدم وأرسلت إلى جبهات القتال أكثر من ثلاثة عشر مليون وحدة من الدم. وقد رادت شركة سكويب للأدوية صناعة حقن مادة المورفين التي تؤخَذ تحت الجلد؛ مما مكَّن المسعفين من استخدامها بسهولة في ساحة المعركة.
وقد وضع تطوير هذه العقاقير والعلاجات الجديدة للمدنيين الأساس للتوسع في صناعة المستحضرات الدوائية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي عام ١٩٥٢، كان لويد كونوفر، الذي يعمل لدى شركة فايزر، قد عمل على عقار منتج بطريقة طبيعية وعدله لينتج نوعًا جديدًا من المضادات الحيوية؛ إنه مضاد التتراسيكلين الحيوي. ومن هذا البحث صارت سلسلة من المضادات الحيوية الموجهة لمحاربة عدوًى بعينها متاحة في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. في أوروبا، كانت الحكومات توفر الرعاية الصحية الشاملة، بينما تمسكت الولايات المتحدة بنظام خاص؛ فقد كانت تقدم الرعاية بتكاليف متزايدة لكن لكبار السن والفقراء جدًّا فقط.
أحدث المال الذي أنفقته الحكومة على تطوير العلوم والتكنولوجيا التي كانت وراء ظهور أجهزة الكمبيوتر — والتي استفيد منها في مجالَيِ الرعاية الطبية والطيران — تأثيرًا هائلًا على اقتصاد ما بعد الحرب، وساهم بقدر كبير في الابتكارات التي وصلت إلى السوق في السبعينيات والثمانينيات. لم تكتفِ الحكومة بإنفاق الكثير في تمويل البحث من أجل الحصول على الأرباح في المستقبل، بل عززت عقودها أيضًا حجم الشركات الرائدة في كل صناعة، لأنها كانت تحصل على عائدات كافية تمكِّنها من مواصلة البحوث وبرامج التنمية المكلفة. وقد أظهر طول فترة الدعم الحكومي للأبحاث الأهمية الحاسمة للحفاظ على قاعدة علمية، ليس فقط من أجل الأغراض الدفاعية، بل لأغراض النمو الاقتصادي أيضًا. ففي الفترة من عام ١٩٤١ إلى عام ١٩٦٠ زادت حصة مشاركة الحكومة في تمويل البحث والتطوير بمقدار ١٣ ضعفًا، حتى صار يمثل ٦٤٪ من الإجمالى الوطني.
مثلت سرعة التغير التكنولوجي عنصرًا جديدًا آخر في اقتصاد ما بعد الحرب. وكان على قادة الشركات أن يراقبوا باستمرار فرَس الرهان التالي. مع ذلك، كانوا دائمًا ما يراهنون على الفرس الخاسر، أو يتوقعون الأحداث قبل الأوان أو بعد فواته. على رأس هذه المشاكل أن أي منتج جديد كان حتمًا يقضي على سالفه، الذي عادة ما يكون منتجًا يحقق عائدًا ثابتًا، ومألوفًا بالنسبة لعمال التصنيع وموظفي المبيعات على حد سواء.
مجيء الكمبيوتر
تُظهر السيرة المهنية لآي بي إم كل الإثارة التي تميز البقاء في الصدارة. استفادت هذه الشركة من الإنفاق الحكومي أكثر من غيرها من الشركات؛ إذ مولت العقود الفدرالية المتعددة تكاليف نصف أبحاثها. ومكنت العقود الكبيرة المبرمة مع وزارة الدفاع مهندسي آي بي إم من الحصول على التكنولوجيا المتطورة في الذواكر الرئيسية المغناطيسية ولوحات الدوائر. كان المنتج الرئيسي للشركة قبل الحرب البطاقات المثقبة، وهي عبارة عن مستطيل صغير ينقل البيانات من خلال فتحات. كانت آي بي إم تطوِّر هذه البطاقات باستمرار، فانتقلت من معالجة البيانات بالطريقة الميكانيكية إلى الكهربائية ثم إلى الإلكترونية. وكانت فكرة واطسون تتمثل في حصر جميع المعلومات المفصلة على بطاقة واحدة، يمكن تخزينها بعد ذلك، أو ربطها مع غيرها، أو طباعتها. ونظرًا لأن واطسون كان يكره طرد أي شخص من عمله، فقد واصل صنع آلات الكروت المثقبة حينما بدأت المبيعات في الانخفاض خلال فترة الكساد الكبير. لكن من حسن حظه أن برامج فدرالية مثل قانون الإصلاح الوطني وإدارة التأمينات الاجتماعية احتاجت معالجة كميات هائلة من البيانات. وعندما جاءت الطلبات التي تريد شراء مزيد من معالجات البيانات من شركة آي بي إم، كانت المعالجات موجودة ومخزَّنَة في المستودعات! وقد استخدم النازيون بطاقات آي بي إم في تنظيم بيانات التعداد السكاني في ألمانيا واستغلالها على نحو سيئ أيضًا، وكانت النتائج مروعة.
نظرًا للطابع المعقد للشركات العملاقة التي باتت تسيطر على الاقتصاد، أصبحت معالجة البيانات في غاية الأهمية، وأصبح من الممكن إدخال جميع الإحصاءات التي جمعت لفصل التكاليف الثابتة عن المتغيرة، وحساب العائدات على الاستثمارات، ونسب المخزون في جهاز آي بي إم لفرزها. ودخلت مفردة «الآلات الحاسبة» قاموس الإدارة. كانت شركات التأمين والبنوك في فترة ما بعد الحرب تعتمد على البطاقات المثقبة التي تنتجها آي بي إم، أو ربما من الأحرى أن نقول، تعتمد على شركة آي بي إم؛ فقد عرضت الشركة عقود تأجير تشمل خدمات الصيانة؛ وهي خدمات كانت مرغوبة للغاية لأن أجهزتها كانت تزداد تعقيدًا.
كانت آي بي إم تعتمد اعتمادًا كبيرًا على موظفي المبيعات المدرَّبِين تدريبًا جيدًا، وأنفقت مبالغ كبيرة في مجال التدريب. وكان حرص الشركة على التركيز على علاقاتها مع العملاء يجعلها في طليعة الشركات. ورغم التكلفة الكبيرة لإبقاء موظفي المبيعات — الذين يُقدَّر عددهم بالآلاف من الرجال والنساء — على دراية بمنتجات آي بي إم؛ فقد ازدهرت الشركة. كانت أجهزة الكمبيوتر التي تنتجها جديدة ومعقَّدة للغاية بحيث يعجز عن فهمها معظم الزبائن، لكنهم كانوا على ثقة بأن شركة آي بي إم على دراية بما تفعله. وقد جعل واطسون الشركة تركز أولًا على آلات البطاقات المثقبة، ثم على أجهزة الكمبيوتر، متجنبًا الفرصة لأن تصبح آي بي إم مجموعة شركات مندمجة مثل شركة ريمنجتن راند أو آر سي إيه، حتى إنه رفض فرصة شراء براءة اختراع جهاز زيروكس. وبينما كان الناس في الماضي يكتبون الكلمات، باتوا الآن «يعالجونها»! في الوقت نفسه، كانت كمية البيانات التي يمكن تخزينها تتضاعف مرتين وثلاث مرات بينما تزداد أسعار أجهزة الكمبيوتر انخفاضًا. كان هذا مسارًا تكنولوجيًّا نادرًا ما لبث بعد ذلك أن صار مألوفًا أكثر؛ ففي العقود الثلاثة الأولى عقب الحرب، انتقل استخدام أجهزة الكمبيوتر من الحكومة إلى قطاع الأعمال إلى الأشخاص العاديين.
القوة الاجتماعية الجديدة للعمالة
في القرنين السابع عشر والثامن عشر ومعظم سنوات القرن التاسع عشر، كانت الأيدي العاملة في الولايات المتحدة نادرة. وكان أصحاب المزارع يمثلون نسبة كبيرة من الطبقة العاملة. وفي المستعمرات الأمريكية، وفي ظل وفرة الأراضي، لم تكن نسبة كبيرة من السكان موزعة على أراضٍ شحيحة كما كان الحال في أوروبا. وكان لهذا تأثير طويل الأمد على النظرة تجاه العمال. كان الرحَّالة الأوروبيون دائمًا ما يتعجبون من طابع الاستقلال الذي يمتاز به المستخدمون في أمريكا. وعلقوا أيضًا على الذكاء والمعرفة اللذين كانا يميزان الرجال والنساء في المناطق الريفية. وقد غيَّر تدفق العمالة الأجنبية إلى المصانع الأمريكية في نهاية القرن التاسع عشر طبيعة الطبقة العاملة، وأحدث فجوة اجتماعية كبيرة بين العمال والمديرين. بعد الحرب العالمية الأولى، انتقل ملايين الرجال والنساء السود إلى المدن الشمالية والجنوبية ليصبحوا جزءًا من البروليتاريا الجديدة.
وإذا تأملنا ذلك الآن، سنرى أن كبار رجال الأعمال مثل ألفرِد سلون مدير جنرال موتورز اتخذوا قرارًا خاطئًا عندما عارضوا التمويل العام للمعاشات. فقد أثقلوا شركاتهم بتكاليف استمرت في الازدياد بينما كان يمكن توزيع هذا العبء من خلال التمويل العام، كما هي الحال بالنسبة للدعم الذي منحته الصفقة الجديدة للأسر التي تعول أطفالًا. كان المحرك الدافع للإصلاح الاجتماعي قد تلقَّى دفعة قوية في سنوات الستينيات، إلى جانب حدوث ازدياد في أعداد الحاصلين على التعليم العالي. وأدت ضرائب الدخل التصاعدية والأجور المتزايدة إلى تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء لمدة عشرين عامًا، في حين تحرك الاقتصاد قُدمًا بكامل طاقته. وقد أعلن الرئيس ليندون جونسون الحرب على الفقر، لكن الحرب الحقيقية التي كانت أمريكا تخوضها في فيتنام قوَّضَت العديد من أهدافه المحلية.
لكن عندما تغيَّر أصحاب الشركات (نتيجة لاندماجها)، خسر العمال الاتفاقات التي كانوا قد فازوا بها. وأوجد النشاط النقابي حوافز قوية شجعت الإدارات على ميكنة المهام بأقصى قدر ممكن. وما هو أكثر أهمية بكثير بالنسبة للعمال أن أصحاب المصالح التجارية بدءوا حملة طويلة الأمد للحيلولة دون حصول النقابات على دعم قانون واجنر، ونجحوا من خلال قانون تافت هارتلي لعام ١٩٤٧ في الحد من بعض النشاط النقابي؛ فقد انخفضت عضويات النقابات انخفاضًا مطَّردًا مقارنة بسنوات ازدهارها طوال العشرين عامًا التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ففي عام ١٩٧٠، بلغت ذروتها بحيث بلغت نسبة العمال المنتمين للنقابات ٢٧٪ من إجمالي عدد العمال. وفي عام ١٩٨٠ كان عامل واحد من كل خمسة عمال ينتمون لأحد الاتحادات. وفي عام ٢٠٠٧ صارت النسبة واحدًا من كل ثمانية، كان معظمهم من العاملين في القطاع العام. لكن الجهود التشريعية التي بُذلت لاكتساب حماية — مثل تلك التي يكفلها قانون واجنر — لصالح عمال الدولة والحكومة المحلية تعثرت في السبعينيات.
نادرًا ما كان موظفو الأعمال المكتبية يتقاضون ما يمكن أن تستأهله مهاراتهم ومسئولياتهم في أعمال أخرى، لكن قوة العمل هذه التي كانت نسائية إلى حد كبير قبلت بهذا التفاوت. على سبيل المثال، حينما تركت ساندرا داي أوكونور — أولى العضوات الإناث في المحكمة العليا — كلية الحقوق بجامعة ستانفورد، كانت الوظيفة الوحيدة التي عُرضت عليها هي وظيفة سكرتيرة في مكتب محاماة. وكانت ساندرا قد حققت المركز الثاني في صفها لدى تخرُّجها (كان الأول هو رئيس المحكمة العليا ويليام رينكويست). لكن حالما اقتحمت المرأة ميادين المهن بأعداد كبيرة في الستينيات، ارتفعت رواتب موظفي الأعمال المكتبية. وسرعان ما ظهرت حركة شاملة تطالب بتأمين «أجر متساوٍ لقدر العمل المتساوي» وهو المصطلح الذي كان قد نشأ في الحركة العمالية في الثلاثينيات، لكنه أصبح يشير حصريًّا إلى التمييز ضد المرأة من ناحية الراتب. في عام ١٩٦٣، وقع الرئيس جون كينيدي على قانون المساواة في الأجر، وبدأت الفجوة بين رواتب الذكور ورواتب الإناث تضيق. ومنذ ذلك الحين ضاقت هذه الفجوة بحيث باتت المرأة تتقاضى ٧٧ سنتًا بعد أن كانت تتقاضى ٥٩ سنتًا فقط من كل دولار يجنيه الرجل.
تقلصت أيضًا الفوارق بين كل العاملين الأمريكيين خلال مجمل الفترة التي أعقبت الحرب حتى عام ١٩٧٣؛ فقد عمل الرخاء المتزايد — الذي حظي بالإشادة في المؤلفات المتعلقة بعالم الأعمال — على رفع أجور الجميع، وذلك بدعم من النقابات القوية. واكتسبت الشركات دعمًا ظاهرًا من الجمهور في سوق الأسهم؛ فقد أعلنت شركة الهاتف والبرق الأمريكية بفخر أن لديها مليون مساهم. وبحلول عام ١٩٥٢، بات هناك ستة ملايين ونصف مساهم يكسب ٧٦٪ منهم أقل من عشرة آلاف دولار، وهذا يعادل رواتب الباعة والمدرسين الذين يدرسون للطلبة في المستوى التمهيدي للالتحاق بالجامعة.
في البيئة الليبرالية للفترة التي أعقبت الحرب، جاء تدخُّل الحكومة في قرارات الأعمال من منشأ جديد، هو ميثاق الحقوق؛ ففي عام ١٩٥٥، حظرت لجنة التجارة بين الولايات التمييز العنصري في القطارات والحافلات المتنقلة بين الولايات. وقد شكل هذا نقطةً لانطلاق حركة وطنية للقضاء على التمييز بين الأعراق في الأماكن العامة في ولايات الجنوب. وانتصر المتظاهرون السلميون الذين كانوا يتظاهرون من أجل مجموعة كاملة من المطالب حينما قررت المحاكم أن مراكز التسوق أماكن عامة لا يمكن مصادرة حق التعبير عن الرأي فيها. وحظر تشريع الإسكان العادل في الولايات والمحليات على أصحاب العقارات التمييزَ ضد المستأجرين المحتملين، على الرغم من أن آلية التنفيذ لم تكن كافية في أغلب الأحيان لمراقبة هذه الممارسات الشائعة. في الآونة الأخيرة، وتمشيًا مع هذه الروح، صودرت من الصيادلة سلطة رفض تحضير أو بيع الوصفات الطبية — مثل حبوب منع الحمل — التي قد تخالف قناعاتهم. ولأن المؤسسات الخاصة تتسم بعلاقتها الوثيقة مع الجمهور؛ فإنها لم تعُد تتخذ قرارات تعسفية من شأنها أن تثير هذا الجمهور.
في الفيلم الشهير «كل رجال الرئيس»، كانت النصيحة التي أسداها مصدر المعلومات المدعو «ديب ثروت» لصحفيي التحقيقات في فضيحة ووترجيت هي: «تعقبوا الأموال.» لكن هذا ليس أمرًا سهلًا دائمًا. ماذا حدث للأموال الناتجة عن فترة الازدهار الذهبية التي حلت عقب الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان وأجزاء من أمريكا اللاتينية؟ من دون شك يمكننا أن نرى أن العمال في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى والدول الإسكندنافية قد حصلوا على نصيب كبير منها على صورة المزيد من أوقات الراحة وما يصاحبها من انخفاض في الإنتاجية. أيضًا زادت البلدان الأوروبية الغربية استثماراتها في الدول المتخلفة في العالم الثالث وعززت الدعم الذي تُقدِّمُه للبنك الدولي. كانت هذه الدول تنفق المزيد على الخدمات العامة. وكانت التحويلات النقدية التي يرسلها العمال الوافدون تصل إلى المليارات. وقد بلغت التحويلات ذروتها عام ٢٠٠٦، حينما أرسل المهاجرون المقيمون في الولايات المتحدة ٢٤ مليار دولار إلى المكسيك، وكذلك مثلت التحويلات المالية ٢٩٪ من الناتج المحلي الإجمالي لدولة نيكاراجوا في ذلك العام. ويمكننا أن نرى أرقامًا مماثلة تنطبق على ما يرسله الأتراك العاملون في ألمانيا، وما يرسله مواطنو كوراساو من هولندا، ومواطنو جزر الكومنولث البريطانية من منطقة البحر الكاريبي.
نهاية طفرة ما بعد الحرب
كان إنتاج النفط الأمريكي يتناقص بسرعة أكبر؛ فقد كانت الولايات المتحدة قد وفَّرت ما يقرب من ٩٠٪ من النفط الذي استخدمه الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، كانت دول الشرق الأوسط — بما فيها كل دول شبه الجزيرة العربية — تنتج أقل من ٥٪ من الإنتاج العالمي للنفط. لكن الإقبال الشَّره على المنتجات البترولية خلال فترة الازدهار في سنوات الخمسينيات والستينيات غيَّر كل ذلك، وأصبحت منطقة الخليج العربي مركز إنتاج النفط في العالم. كانت حقول النفط في تكساس وأوكلاهوما وكاليفورنيا تضخ النفط على مدار الساعة، لكن ذلك لم يكن كافيًا؛ إذ إن الولايات المتحدة كانت قد فقدت كل طاقتها الإنتاجية الفائضة في الوقت الذي كان فيه استهلاك العالم من النفط ينمو بمعدل ٧٫٥٪ سنويًّا. وكان الإنتاج الأمريكي قد بلغ أقصى ارتفاع له عام ١٩٥٥، ثم بعد ذلك بدأت الولايات المتحدة تتحول على نحو متزايد لاستيراد احتياجاتها من النفط من المكسيك وكندا وفنزويلا. في عام ١٩٥٥، كان ثلثا النفط الذي يذهب إلى أوروبا يمر عبر قناة السويس، التي استعادت أهميتها الاستراتيجية التي فقدتها حينما غادرت بريطانيا الهند قبل عقد من الزمان. وبحلول عام ١٩٧٣، صارت الأيام التي كان النفط فيها وفيرًا ورخيصًا شيئًا من الماضي. كانت احتياطيات النفط في دول الشرق الأوسط هائلة، وكانت قدرة الإنتاج الفعلي للدول العربية تلبي نسبة ٩٩٪ من الطلب العالمي، ولم تترك سوى هامش طلب نسبته ١٪! وبدأ صُنَّاع السياسة يتحدثون عن أزمة النفط.
لكن إرنست شوماخر — اقتصادي ألماني يعمل في لندن — حقق نتائج أفضل قليلًا عن طريق كتابه «كل صغير جميل»، وهو كتاب ممتع ظهر عام ١٩٧٣. قدم شوماخر أزمة النفط كتحدٍّ للغرب كي يصحح أساليبه الباذخة. وكان انتقاده الشديد للاستهلاك مصحوبًا بشعره وظرفه وحكمته البوذية. كان العميد البحري هايمان ريكوفر — مطور الغواصات النووية — قد أطلق هذا التحذير في وقت سابق لهذا عام ١٩٥٧. لكن البصيرة العلمية لشوماخر وريكوفر تبيِّن ثانية كيف يمكن أن تشحذ المصلحة الشخصية ذكاء الفرد؛ فقد كان شوماخر يعمل لدى مجلس الفحم البريطاني، وكان ريكوفر أحد المدافعين البارزين عن الطاقة النووية.
يرى الكثير من المراقبين أن الانتكاسات المتوالية لعام ١٩٧٣ لم تكن سوى عثرة في الطريق. وهم على حق في ذلك إلى حد ما إذا أغفلنا التحول في المفاهيم والمواقف. كان الفنانون والمفكرون هم أول من سئم سنوات الازدهار العجيبة، وبدءوا يتنافسون فيما بينهم على تحديد ما إذا كنا قد دخلنا العصر بعد الصناعي، أو بعد الرأسمالي، أو بعد الحديث. أيما كان هذا العصر، فهو بالتأكيد «بعد» عصرٍ ما. وفي الحقيقة، كان الكثيرون قد أصبحوا متخمين بالتعاقب اللانهائي لوسائل الراحة والاستجمام والإلهاء الجديدة. وصدرت عدة كتب في الولايات المتحدة في مطلع الستينيات كانت تثير قضايا مهمة صارت أكثر إلحاحًا بعد أزمة عام ١٩٧٣.
في عام ١٩٦٢، أثارت الكاتبة راشيل كارسون اهتمام البلاد بكتابها «الربيع الصامت» بما يحويه من وصف لتسميم البيئة بالمبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب. وقد فجَّرت كارسون — عالمة الحيوان التي تعمل لدى دائرة الولايات المتحدة لمصايد الأسماك — عاصفة نارية بكتابها «الربيع الصامت». في ذلك الوقت، كان مئات من الخبراء الآخرين يدرسون مدى التأثيرات المدمرة التي أحدثها القرن العشرون في الكوكب الذي نعيش فيه. وشن دعاة حماية البيئة إحدى أكثر الحركات السياسية نجاحًا في التاريخ؛ ففي عام ١٩٦٢، صدر للكاتب مايكل هارينجتون كتاب «أمريكا الأخرى: الفقر في الولايات المتحدة» الذي نبَّه من خلاله الناس إلى أن الرخاء لم يكن من نصيب الجميع في الولايات المتحدة. وبعد ثلاث سنوات، شن كتاب رالف نادر «سيارة غير آمنة على الإطلاق» حملة على شركات صناعة السيارات في أمريكا، وكان عنوان الكتاب الفرعي يقدم رسالة مفادها: المخاطر الكامنة في تصميم السيارات الأمريكية. تصاعدت احتمالات صدق نبوءات هؤلاء الكتاب إثر الضربات المتعددة التي واجهها العالم جراء أزمة النفط، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم معدل التضخم.
ثم تناول جيل أصغر سنًّا القضايا المتعلقة بتدهور البيئة، وسلامة المنتجات، واستمرار محنة الفقراء، وجعلوها قضاياهم الخاصة. واعتمادًا على التقليد التنويري المتمثل في الإيمان بالعقل مع الالتزام بالتقدم الاجتماعي، انطلقت الحركة الداعية لحماية البيئة في السبعينيات. علاوة على جهودها التي كرست لإعادة التوازن بين البشر والطبيعة، ساعدت أيضًا في تخفيف حدة التوتر الذي ظهر في المجتمعات الغربية جراء المواجهات الغاضبة التي اندلعت في الستينيات، والتي تعلقت بالنزاع بشأن الحقوق المدنية، ووضع المرأة، والأعراف الجنسية، والحرب في فيتنام. لقد انشغل الغربيون على مدى عقود من الزمان بتلويث هوائهم، وتربتهم، ومياههم، وبيئتهم التي يعيشون فيها، وعالم الحيوان دون أن يعيروا ذلك الكثير من الاهتمام.
ربما كانت أكثر سمات الرأسمالية لَفتًا للنظر هي علاقتها التي لا تنفصم مع التغيير؛ تلك الزعزعة المتواصلة للأنماط الثقافية والمادية التي كانت مستقرة من قبل. وما فعلته الرأسمالية بالإضافة إلى تشجيع التغيير أنها قدمت أيضًا دليلًا على أن التطلعات البشرية المشتركة للتحسين من الممكن بلوغها؛ فقد فتحت أمام نسبة كبيرة من الرجال والنساء في الغرب إمكانية تنظيم طاقتهم واهتماماتهم ومواهبهم من أجل إنجاز مشاريع في السوق، مثل إقامة صلة تجارية جديدة أو تلبية حاجة قديمة بمنتج تجاري. ويمكن للمرء أن يفعل ذلك وحده. ولم يكُن على المرء أن يكون طويل القامة، وحسن المظهر، وشابًّا، وغنيًّا، وله علاقات جيدة، أو حتى ذكيًّا جدًّا كي ينفذ خطة، ولو أن كل تلك الصفات كانت مفيدة بلا شك. وقد احتفظت الرأسمالية بالتأييد الشعبي من خلال هيمنتها على هذا المجال الإبداعي. لكن رواد الأعمال الجدد كانوا يواجهون صعوبة في جذب رأس المال الاستثماري، ومن ثَمَّ كانت حالات الفشل أكثر من حالات النجاح. وحتى عندما كانت مشاريع فردية تحقق نجاحًا، لم يتنبأ سوى القليلين بالعواقب غير المقصودة التي ستترتب على هذا العبث بالطبيعة وبالمجتمع. كان الاضطراب مكونًا حتميًّا في هذا النظام، لكن الرأسمالية صارت قادرة على أن تواصل البقاء قبل أن يتمكن أي شخص من أن يلاحظ ذلك بوضوح.
استغرق الأمر بعض الوقت كي يدرك الناس أن صدمات عام ١٩٧٣ كانت علامة على انتهاء «العصر الذهبي» لازدهار الرأسمالية في مواطنها. كان ارتفاع الأسعار عادة ما يصاحب فترات النمو، لكن هذه المرة، صاحَب ارتفاع الأسعار ركود في الإنتاج. وهذا قدم للمجال الاقتصادي حالة جديدة ومصطلحًا جديدًا هو «الركود التضخمي» الذي أدى بدوره إلى تشجيع الاهتمام بالنظرية النقدية. وفي اتجاه مزعج آخر، بدأت الفجوة بين الدخول المنخفضة والدخول المرتفعة اتساعها طويل الأمد عام ١٩٦٩، على الرغم من أن القلق حيال هذه الظاهرة نادرًا ما تجاوز الكلمات الرنانة في الخطب. ومع تزايد الدراسات التي توثِّق إهمال البيئة وسلامة العمال والمستهلكين في أكثر المجتمعات تقدمًا، بات بإمكاننا القول: إن أعظم فصل في تاريخ الرأسمالية انتهى دون ضجة كبيرة.
في هذه الأثناء، في مختبرات شركة إنتل في مدينة بالو ألتو بولاية كاليفورنيا، وشركة سوني في شيناجاوا بالعاصمة طوكيو، كان المهندسون يضعون خططًا تفصيلية لاستخدامات شيء يُسمى الترانزستور. والترانزستور هو اللفظ المختصر لكلمتي «مقاوم النقل» بالإنجليزية، وهو جهاز يضخم تدفق الكهرباء أو يحوِّله. كان هذا الجهاز موجودًا منذ عقدين أو أكثر، لكن جرى تحسينه في ذلك الوقت. كان الترانزستور موصولًا بلوحة دوائر إلكترونية، ومن ثَمَّ كان يستطيع أن يفعل أشياء عجيبة بفضل صغر حجمه، وقدرته على التكيُّف مع مختلِف الأجهزة. وهكذا وجد البارعون طريقة جديدة لاستغلال الطاقة الكهرومغناطيسية لكوكبنا. وتسبب هذا المولود التكنولوجي الجديد في «التدمير الخلَّاق» لتقنية الصمام المفرَّغ الذي كان له فضل بدء عصر التكنولوجيا اللاسلكية. واستمرت الثورة العارمة دون أن يصاحبها اسم مبتكَر للعصر الذي كان يوشك على البزوغ، ولو أن الولايات المتحدة حصلت على اسم جديد، هو وادي السليكون، حيث كانت الشركات الناشئة والإصدارات الأولى للأسهم تخلق طبقة جديدة من أصحاب الملايين.