عن الأزمات والنقاد
لقد وضح المعنى الكامل للعولمة تمام الوضوح في القرن الحادي والعشرين مع أول ركود اقتصادي عمَّ أنحاء العالم الأول؛ فقد شيد المموِّلون في أنحاء العالم بنية متهالكة من المشتقات المالية وصناديق التغطية القائمة على الرهون العقارية الأمريكية، وهو ما كشف مرة أخرى عن المزج السام بين احتمالات الربح والحكم السيئ اللذين أحدثا حالات الذعر المالي في الماضي. وحينما هوت أسعار المساكن عام ٢٠٠٧، سحبت معها الأوراق المالية الجديدة الوهمية؛ فأفلست شركات كبرى، وشحَّت الأموال، ووجد الملايين من مقترضي الرهن العقاري أنفسهم مدِينِينَ بأكثر ممَّا تساويه قيمة منازلهم. وسرعان ما تسرَّبت الاضطرابات إلى قلب النظام الرأسمالي؛ المركز المالي، حيث تحولت أزمة السيولة إلى أزمة إعسار. ونتيجة لعدم وجود فقاعة جديدة في الأفق لإلهاء الناس عن الأسس الاقتصادية، أسفرت هذه الجرعة القوية من الحقيقة عن دعوات لعودة الضوابط والتعاون الدولي من أجل احتواء الخسارة.
إن تاريخ الرأسمالية لا يعيد نفسه، لكنَّ الرأسماليين يكررون أفعالهم؛ فحقيقة أنه نادرًا ما يفاجأ أي أحد عندما تحدث أزمة — على الرغم من أن هناك قلة من الأشخاص حاولوا فعل أي شيء لمنع حدوثها — تشير إلى أن ثمة سمة تشجعها الرأسمالية؛ إنها سمة التفاؤل الذي ينكر الأمر الواقع. «روح» الرأسمالية هي روح البائع الذي ينضح بالثقة. وعندما لا يكون هناك من هو في موقع المسئولية، ويكون معظم المشاركين في بحث مستمر عن طرق جديدة (وسهلة إذا أمكن) لكسب المال، يصبح حدوث حالات الذعر المالي والأزمات والانهيارات أمرًا لا مفر منه. ولا شك في أن الناس في جميع أنحاء العالم سيسعون وراء الصفقات المربحة بعيدًا عن المناطق الخاضعة لرقابة القوانين. وعندما تفشل الصفقات الجيدة، تسارع الحكومات بإصلاح ما هو خطأ، وتكون نتائج ذلك متفاوتة.
قبل حلول الأزمة الاقتصادية العالمية في ٢٠٠٨-٢٠٠٩، كانت عثرات السوق قد صارت أكثر تواترًا وإيلامًا، بدءًا من انهيار عام ١٩٨٧، ثم أزمة السندات الرديئة في أواخر عقد الثمانينيات، والانخفاض في المدخرات وتجارة القروض عام ١٩٨٩، والركود الياباني، والأزمة المالية الآسيوية عام ١٩٩٧، والإفلاس شبه التام لصندوق «إدارة رأس المال طويل الأجل» عام ١٩٩٨، وانفجار فقاعة الدوت كوم في عام ٢٠٠٠، وانهيار شركتي إنرون وورلد كوم عام ٢٠٠١، ثم بلغت الأزمة ذروتها مع الخسائر المتزايدة جراء انهيار الأوراق المالية المبنية على الرهن العقاري عام ٢٠٠٨. ورغم أن تصاعد حالات حبس الرهن — ابتداء من عام ٢٠٠٧ — وضع حدًّا لنزوة الرهن العقاري عالي المخاطر، فقد زادت المشاكل تعقيدًا. كان كبر حجم مدَّخَرات الصين قد جعل الاقتراض رخيصًا؛ إذ كان الأمر يبدو وكأنَّ المستهلكين الأمريكيين قرروا أن يتركوا للصينيين مهمة الادخار بينما ينفقون هم بلا حساب. في الوقت نفسه، دفع انخفاض أسعار الفائدة مديري رأس المال للبحث عن سبل جديدة للحصول على فائدة أكبر على أموالهم، حتى لو اضطروا إلى ابتكار حيل بارعة لفعل ذلك.
بدأت الصدمة بانهيار بنك ليمان براذرز، لكن هذا الحدث لم يدفع حكومة الولايات المتحدة للتصرف. كان الارتباط الوثيق على نحوٍ لا يصدق بين مؤسسات العالم المالية — بحيث تغرق جميعها أو تنجو جميعها — قد أصبح واضحًا. تحركت الحكومة بسرعة لإنقاذ بنك بير ستيرنز، ثم شركتي التمويل العقاري التابعتين لها فاني ماي وفرايدي ماك، ثم الشركة الأمريكية الدولية للتأمين، بينما كانت تتفاوض مضطرَّة على بيع شركة ميريل لينش بسعر بخس لبنك أمريكا. تصرفت الحكومات في جميع أنحاء العالم أيضًا بسرعة، إن لم يكن بنوع من التخبط؛ وهو ما أحيا الأمل في أن الدروس المستفادة من الكساد الكبير في الثلاثينيات، ومن عقد الانكماش الياباني «الضائع» في التسعينيات، قد خلفت بقية من حكمة. وتجلى الجانب السلبي لعشرين سنة من العوائد المرتفعة على رأس المال بوضوح تام، وبدأ من نيويورك وانتشر إلى المراكز المالية الرئيسية في لندن وفرانكفورت وهونج كونج وطوكيو. وحينما صارت أيسلندا على شفا الإفلاس، صارت المؤسسات التي كانت قد استثمرت في السندات الأيسلندية ذات أسعار الفائدة المرتفعة هي الأكثر فقرًا.
كان للأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ سببان أساسيان. ظهر أول السببين في أواخر السبعينيات، عندما أثارت حالة من الركود اعتقادًا بأن المصلحة ستتحقق من القضاء على القوانين التي كانت تشكل إرثًا من فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات؛ فقد بدأ الكُتَّاب يصوِّرون المشاريع الرأسمالية وكأنها جاليفر المقيد بسلاسل من آلاف الأقزام الصغار، ودعاة حماية البيئة، ومن هم مثلهم. وقال رجال الأعمال إن الاقتصاد يصبح قويًّا حينما يتمتع المشاركون فيه بحرية التصرف بحرية وبسرعة. كان عصر التحرر من القوانين هذا — المرتبط برئيسة الوزراء الإنجليزية مارجريت ثاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريجان — قد بلغ ذروته في الولايات المتحدة عام ١٩٩٩ بصدور قانون جرام ليتش بليلى لتحديث الخدمات المالية، الذي وقع عليه الرئيس بيل كلينتون رسميًّا.
كان هذا القانون بمثابة هدية للبنوك وشركات الوساطة المالية وشركات التأمين، والناجحين الطموحين بوجه عام؛ فقد سمح للمصارف بالاندماج مع شركات التأمين، وحرر البنوك الاستثمارية من كثير من القيود التي تطبق على المصارف التجارية العادية للودائع. ومنح القانون عملاء البنوك حماية لخصوصيتهم. والأهم بكثير أنه أزال الرقابة على الاستثمارات المقصورة على فئة معينة مثل سوق تريليونات الدولارات لمقايضة العجز عن سداد الائتمان، وهي وسيلة مخادعة استخدمها المستثمرون لتغطية رهاناتهم على مختلف الأوراق المالية. كانت هذه القوانين قد جرى وضعها لتقليل المخاطر لأقل حَدٍّ ودرئها، لكنها في الواقع شجعت المضاربين على التلاعب بالقوانين.
كانت الرهون العقارية تشكل مجالًا كبيرًا للرفعة المالية لأولئك الذين يعملون في السوق العقارية؛ فمثلًا إذا اشترى شخص ما منزلًا بقيمة مليون دولار بدفعة مبدئية قيمتها مائة ألف دولار، ثم باعه على الفور مقابل ١٫١ مليون دولار في سوق العقارات، يكون قد استرد الدفعة المبدئية التي دفعها بالإضافة إلى مائة ألف دولار أخرى، وبذلك يكون قد ضاعف حجم استثماره الأوَّلي. ويكون التمويل بالاستدانة متاحًا عندما تحصل على حق ملكية شيءٍ ما مقابل دفعة مالية جزئية من ثمنه تقوم بسدادها. لكن كي تنجح، لا بد أن يكون هناك تقدير للقيمة. وقد شهدت الولايات المتحدة ارتفاعًا كبيرًا في أسعار العقارات — إلى الضعف تقريبًا — في الفترة بين عامي ٢٠٠٠ و٢٠٠٦. وقد وصف رالف نادر القروض العقارية وصفًا ملائمًا باقتدار بأنها رأسمالية نوادي القمار؛ فقد بيَّنت الطريق إلى توريق أي شكل من أشكال الائتمان، من أقساط السيارات إلى بطاقات الائتمان.
ورغبة في استمرار أوقات الرخاء، بدأت المؤسسات المالية إصدار الرهون العقارية للأشخاص ذوي السجلات الائتمانية الخَطِرة أو لذوي الدخل غير الكافي لسداد أقساطهم. وأغرت البنوك وشركات الادِّخار والإقراض العملاءَ من خلال تخفيض الدفعة المبدئية أو إلغائها بالكامل. وازدهرت سوقٌ جديدة بالكامل للقروض التمويلية. وكذلك كانت ضغوط بنك الاحتياطي الفدرالي لخفض أسعار الفائدة تجعل القروض العقارية أكثر جاذبية. وقد روَّجت الإدارتان الديمقراطية والجمهورية على حدٍّ سواء لامتلاك المنازل باعتبارها سياسة عامة حصيفة؛ فأدت زيادة المشترين إلى ارتفاع أسعار المنازل أكثر وأكثر. ومع ازدياد حصول الأشخاص ذوي سجلات الائتمان الخطِرة على قروض الرهن العقاري عالية المخاطر، ازدادت المخاطرة زيادة هائلة. وخلال ذروة ازدهار سوق الإسكان، استغل كثير من أصحاب المنازل ارتفاع قيمة ملكيتهم كما لو كانت بنكًا. ولما كانوا يشتركون مع القطاع المالي في تفاؤله، فقد حصلوا على قروض بضمان منازلهم اعتمادًا على تزايد قيمة منازلهم. وبهذه القروض تمكَّنوا من دفع رسوم التعليم الجامعي للأبناء، وبدءِ نشاط تجاري، وشراء سيارات دفع رباعي، أو تزيين المنزل الجديد.
يمكن للعواقب غير المقصودة لقرارات فردية عقلانية تمامًا أن تعين في تفسير سبب انزلاق المراكز المالية في العالم إلى أدنى مستوياتها عام ٢٠٠٨؛ فحينما قرَّرت أسر آسيوية بعد الأزمة المالية التي مرَّت بها عام ١٩٩٧ توفير مبلغ محدد تقتطعه شهريًّا وتضعه في حساب منفصل ليكون متاحًا وقت الحاجة إليه، لم تكن تقصد بهذا تنشيط الاستهلاك الأمريكي في ظل انخفاض سعر الفائدة الناجم عن زيادة مدَّخراتهم. وحينما أقرَّت كلٌّ من الإدارتين الجمهورية والديمقراطية امتلاك المنازل باعتبار هذه سياسة اجتماعية حصيفة، لم تنويَا بذلك إطلاق سباق بين البنوك على إصدار الرهون العقارية عالية المخاطر بحيث تتمكن من توريقها من أجل المستثمرين المتعطشين. وحينما كان كبار المديرين التنفيذيين في البنوك الاستثمارية وصناديق التغطية يدفعون لألمع مسوقيهم مكافآت سخيَّة في نهاية السنة، كانوا يقصدون مكافأة الأداء المتفوق وتشجيعه. لكن ما كان غير مقصود بالمرة هو خلق منافسة نهِمة وحادة جدًّا بدرجة تُقصي الآراء المدروسة بعناية، أو تمنع النظر إلى الأمور من منظور أوسع يغطِّي النتائج بعيدة المدى، أو الاستماع إلى رأي الرافضين. لا يصلح مفهوم العواقب غير المقصودة للنماذج الرياضية التي يفضلها خبراء الاقتصاد، لكن كلما صارت السوق أكثر تحررًا، صارت المبادرات الفردية أوسع، وهو ما يستتبع عواقب غير مقصودة مترتبة على تصرُّفات الأفراد. وعندما تتلاقى العواقب غير المقصودة — كما حدث عام ٢٠٠٨ — يمكنها أن تخلق كوارث غير متوقعة.
إن خوض المخاطر جزء لا يتجزأ من الرأسمالية، لكنه يعمل في القطاع المالي على نحو يختلف عن عمله في مجال التكنولوجيا؛ فالبنوك — مثل المرافق — تقدم أقصى نفع عندما تكون موثوقة وفعالة. لكن الذي حدث أن المصرفيين صاروا يتزلفون للعملاء كما يفعل بائعو السيارات المستعملة. وتحول إعراضهم الفاتر عن المقترضين غير الحريصين إلى ترحيب حارٍّ بجميع القادمين. بطبيعة الحال، إذا لم تُقدِّم البنوك قروضًا إلى رواد الأعمال المخاطرين، فإن الرأسمالية ستعاني. لكنَّ تحقيقَ التوازن بين الاستقرار والابتكار لم يكن حليفَ البنوك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ إذ بدأت البنوك الاستثمارية تشتري الأوراق المالية القائمة على الأصول التي كانوا يبيعونها للآخرين، وكانت نتائج ذلك كارثية. يقول البعض إن استراتيجيات خوض المخاطرة تغيرت بالنسبة للمصرفيين حينما صارت مؤسساتهم تتعامل مع عامة الجمهور؛ ما أتاح لهم المراهنة على أموال الأشخاص الآخرين بدلًا من المراهنة على أموالهم الخاصة. كما أن مكافآت نهاية العام على الأداء دفعتهم لتوسيع نطاق عملياتهم، لكنها أصبحت مصدر نزاع كبير في المجال المصرفي العام بعدما صارت المؤسسات المالية تستجدي مساعدة الحكومة كي تتمكن من البقاء واقفة على قدميها. إن مَن لم يعملوا في وول ستريت يعتبرون الحصول على المكافآت التي تبلغ الملايين نوعًا من الفحش. ولم يكن يروق لهم منطق الخبراء الماليين الذي يذهب إلى أنه ينبغي لهم أن يحققوا ربحًا كبيرًا من كل ما يستطيعون بيعه لمصلحة شركتهم، أو أن «يأكلوا ما يصطادونه» كما يقول العاملون في هذا المجال. لكن هؤلاء ظلوا صامتين إزاء ما ينبغي القيام به عندما عادت الفريسة للحياة مجددًا وكشرت عن أنيابها ودفعت شركاتهم إلى شفير الإفلاس.
يمكننا أن نَصف هذا العالم بأنه عالم الاستثمار الافتراضي، الذي كان واقعه المادي سيلًا من الرسائل الإلكترونية الصادرة من نحو ٦٠ ألف طرف إلكتروني في جميع أنحاء العالم؛ فقد أتاح التقدُّم التكنولوجي زيادة حجم المعاملات المالية، لكن كان نوعًا من الخداع المزدوج، حينما شجع باعة الرهن العقاري الناس على اقتراض رهن عقاري لا يستطيعون سداده، وحينما تفاوضت الشركات المالية مع مديري صناديق معاشات التقاعد والبلديات كي تقنعهم بشراء أوراقها المالية المدعومة بالأصول دون أن تحيطهم بأي معلومات حول المخاطرة التي ينطوي عليها ذلك.
وخلال السنوات العشر الماضية، نمَت الخدمات المالية من نسبة ١١٪ إلى ٢٠٪ من ناتجنا القومي الإجمالي، لكن بعض الرجال والنساء المتعقِّلين استطاعوا ربح نسبة قدرها ١ : ٣٠ من الأموال التي استثمروها، ووزَّعوا المخاطرة — أي نوَّعوا استثماراتهم لتقليل حجم الخسارة حال حدوثها — دون أن يسعوا إليها. أما المستثمرون الجريئون حقًّا فيقدمون على عدة أشكال من التمويل بالاستدانة في حافظة استثمارية واحدة. لكن الأمر الأكثر ضررًا على الأمة على المدى البعيد أن علماء الفيزياء وعلماء الرياضيات وخبراء الكمبيوتر انسحبوا بعيدًا عن أعمالهم الأصلية للانضمام إلى فئة الخبراء الماليين ذوي الدخل المرتفع؛ فقد تحول ما لا يقل عن ٤٠٪ من خريجي كبرى الجامعات الأمريكية إلى العمل في مجال التمويل في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. ومع شيوع الدخل السنوي الذي يبلغ مليون دولار سنويًّا، شكلت وول ستريت دائرة ضيقة من الرابحين الصغار، حيث تذهب كل الحوافز لمن يخاطر أكثر، ولا تشجع المثبطات الإيجابية الحذَر أو حتى الأمانة.
والعامل غير المتوقِّع في هذا السيناريو نفسي ومتوطن ويتمثل في شعور الثقة الذي شجع الناس — الذين هم في هذه الحالة مستثمرو المؤسسات ومديرو صناديق التغطية — على شراء أوراق مالية جديدة مدعومة بأصول. من منظورنا الآن، يبدو لنا عدم تقديرهم حجم هذه المخاطرة أمرًا غريبًا؛ فعند حدوث الانتعاش، يدفع التفاؤل الناس لعدم التفكير إلى حَدٍّ كبير ويكون شعورًا معديًا. من ناحية أخرى، يمكن للشائعات والتصريحات العلنية الحمقاء أن تتسبب بسهولة في حدوث انخفاض حادٍّ في الثقة يكاد يكون مماثلًا لما تُسببه التقارير حول الأرباح المخيِّبة للآمال أو الاضطراب في الأسواق الأجنبية. وقد أنتجت هذه الاستجابات من جانب التجار والمستثمرين — سواء في حالة التفاؤل أو في حالة التشاؤم — درجة من المخاطرة انعكست على الاقتصاد العالمي بأسره نظرًا لسهولة وصول مستثمري العالم لهذه «الصفقات الرابحة». ويمكن أن نضيف أن الولايات المتحدة تستفيد من هذا العمى الانتقائي نتيجة لعدم اكتراث العالم بعجز أمريكا التجاري البالغ ٧٠٠ مليار دولار سنويًّا.
وعندما بدأت أسعار المنازل في الانخفاض في أواخر عام ٢٠٠٧، انخفضت أيضًا الأوراق المالية التي تدعمها هذه المنازل. كان خفض التمويل بالاستدانة — أي دفع ثمن الأوراق المالية المشتراة على هامش — كالحية الرقطاء التي تقتل الفريسة بعصر عظامها؛ فقد عُصر الجميع في المجال المالي من المصرفيين إلى شركات التأمين إلى المستثمرين في صناديق التغطية، وعملائهم من المؤسسات والأفراد؛ فجفَّت السيولة وأصبح المال شحيحًا. حتى المقترضون من أجل أعمال مشروعة لم يعد باستطاعتهم الحصول على قروض. كانت الأمور بالغة السوء بدرجة جعلت بنكَا جولدمان ساكس ومورجان ستانلي يتوخيان الأمان في قدرٍ أكبر من التنظيم والتدقيق من خلال تحولهما إلى بنكين تجاريين، وتركَا مجال الخدمات المصرفية الاستثمارية الشبيه بالمياه المليئة بأسماك القرش. وبالطبع حصلا هما أيضًا على مساعدات حكومية ومصادر إقراض.
لكنَّ المموِّلين الذين كانوا ينشدون الحرية ليسوا المسئولين وحدهم عن أزمة عام ٢٠٠٨؛ فقد شارك في تفكيك منظومة القوانين التي كانت تراقب الشركات المالية مسئولون حكوميون، من أعضاء مجالس المدن إلى أعضاء في الكونجرس إلى رؤساء بلديات إلى رؤساء دول. حتى حكومة الولايات المتحدة تحوَّلت من حكَم محايد إلى حدٍّ ما في العلاقات الاقتصادية إلى مُدافع عن المصالح التجارية. كانت التغييرات التي طرأت على الحملات السياسية قد أدت إلى تشجيع التواطؤ بين قادة في مجالي السياسة والاقتصاد. فمع ظهور التليفزيون كأداة رئيسية للحملات الانتخابية قبل ٤٠ عامًا، نال المال — الذي لا سبيل لإغفاله أبدًا — أهمية جديدة؛ فتكاليف الدعاية التليفزيونية دفعت أصحاب المناصب والمعترضين عليهم إلى الارتماء في أحضان المصالح التجارية. ذات مرة، سُئل ويلي ساتون أشهر اللصوص العباقرة في السطو على البنوك: لماذا تُعاود نهب البنوك؟ فرَدَّ قائلًا: لأن المال موجود في البنوك. وهذا بالضبط هو السبب في أن المرشحين من كِلَا الحزبين ذهبوا إلى الأثرياء للحصول على مساهمات منهم.
إنه مزيج سامٌّ من الجشع والحاجة — الجشع من جانب مهندسي التمويل ذوي الطموحات العالية، والحاجة من جانب السياسيين لدفع ثمن حملاتهم التي باتت باهظة التكلفة — جعل ذوي المناصب يدينون بالفضل لرجال الأعمال الذين أرادوا التخلص من رقابة الحكومة. ومنحت أيديولوجية السوق الحرة التي تسيطر على المناقشات العامة غطاءً لمسئولي الحكومة. لكن بعد صدور قانون جرام ليتش بليلى، ظل بعض المشرِّعين يحاولون الحد من التجارة في المشتقات. وتوقَّعوا بالضبط التأثيرات المتتالية لأي تراجُع. واقترح النواب تدابير لمكافحة الإقراض الضار، تُمَاثِلُ التدابير التي صدرت في مدن ولاية أوهايو، لكن المدافعين عن حرية العمل التجاري قوضوا هذه الجهود. وحينما جرى تشويه سمعة القوانين — كما حدث في الثمانينيات — صارت حتى الهيئات التنظيمية التي لم تتعرض للنقد رعديدة ومهملة في ممارسة عملها.
لم تكن أسعار المساكن بحاجة لأن تتراجع كثيرًا قبل أن يجد العديد من أصحاب المنازل أنفسهم مدينِين بمبالغ على قروضهم العقارية تفوق قيمة منازلهم. فبحلول عام ٢٠٠٩، كان أكثر من ربع منازل الرهن العقاري — نحو ١٣ مليون عقار — قد انخفضت قيمتها السوقية عن قيمة قرض الرهن، وبلغ معدل تنفيذ حالات حبس الرهن العقاري ٥ آلاف حالة في اليوم الواحد، ووصلت خسائر المستثمرين إلى ٤٠٠ مليار دولار. ولما كانت الحكومة الأمريكية تعي أن الحكومة اليابانية لم تتصرف بسرعة كافية لوقف الخسائر التي ترتبت على الكساد الياباني عام ١٩٩٠، فقد كافحت لتتوصل إلى عملية التعافي ولتعجل عودة الثقة. في بادئ الأمر، عرض بنك الاحتياطي الفدرالي ووزارة الخزانة مائة مليار دولار «للأصول المتعثرة». لم يعد مصطلح «الإنقاذ المالي» مستساغًا لدى العامة بسبب ما يثيره في الذهن من أفكار عن مدى سوء حالة الاقتصاد؛ لذا بات الناس يتحدثون عن «تنشيط الاقتصاد»، ثم عن وعود التعافي الاقتصادي. نفذت الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة باراك أوباما أكبر برنامج أشغال عامة منذ الكساد الكبير. كانت كل الجهود الرسمية ترمي لإقناع المشاركين العاديين في السوق العادية أن المرحلة الأسوأ قد انتهت بالفعل، أو كما كانت الحملة الرئاسية لفرانكلين روزفلت عام ١٩٣٢ تنشد: «الأيام السعيدة عادت مرة أخرى.»
في تلك الأثناء، أدى تراجع صناعة السيارات الأمريكية الذي اختمر طويلًا إلى مطالبات بدفعات من أموال دافعي الضرائب؛ فقد نفدت أموال جنرال موتورز وكرايسلر، وكانت فورد تترنَّح على شفا الإفلاس. وكانت المشاكل المستعصية لشركات صناعة السيارات تتحدى إحدى القناعات القوية لدى الاقتصاديين، والتي تذهب إلى أننا نستطيع الاعتماد على عقلانية المشاركين في السوق. لكن الحرص المستنير على المصلحة الذاتية كان ينبغي له أن يهمس في آذان قادة ديترويت في السبعينيات بأن ثمة شيئًا ما خطأ عندما ظهرت سيارات هوندا ونيسان وتويوتا في أمريكا لأول مرة. طبعًا كان معظم الناس في ميشيجن «يشترون السيارات الأمريكية»؛ لذلك لم يروا تلك السيارات الجديدة الأنيقة تذرَع الطرقات السريعة لولايتي كاليفورنيا ونيويورك. ونظرًا لأن شركات السيارات الأمريكية كانت كبيرة بما يكفي للسيطرة على المنطقة بأكملها، استطاع كبار المديرين التنفيذيين لصناعة السيارات أن ينغمسوا في الأحلام، ويلبوا طلبات الأذواق قصيرة المدى على سيارات الدفع الرباعي التي تستهلك كميات هائلة من الوقود، بينما يصدرون تصاميمهم المبتكرة لصالات العرض في الخارج. في عام ١٩٨٩، سخر فيلم مايكل مور الشهير «روجر وأنا» من قِصر النظر المتعمد لروجر سميث الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز بعد تسريحه ٥٠ ألف عامل من عمال صناعة السيارات في مسقط رأس مور بمدينة فلينت. لا شك أنه كانت هناك تقارير دورية تفيد بتراجع حصة شركات السيارات الأمريكية في السوق. لكن الجهل المتعمد من هذا القبيل لم يكن من الممكن أن يستمر إلى الأبد. وحينما بدأت عواقبه تتوالى أخيرًا عام ٢٠٠٩، أفلست جنرال موتورز وكرايسلر.
ولمواجهة هذه المواقف، نبَّهت القيادات العمالية للحاجة إلى إعادة بناء التضامن الذي كان موجودًا من قبلُ بين النقابات العمالية وعامة العمال. كان اتحاد العمال الأمريكي وكونجرس المنظَّمات الصناعية يهدفان لتمثيل ثلث قوة العمل الأمريكية، كما كان الحال في أوج ازدهارهما عام ١٩٥٠، وبدآ حملة لتوضيح كيف يمكن لحركة عمالية قوية أن تحفز الديمقراطية وتغذي التزامًا أخلاقيًّا بالأجور المعيشية وظروف العمل المقبولة في جميع أنحاء العالم. وكانت الحقائق الموجودة على أرض الواقع تدعم هذا؛ فبين عامي ١٩٧٨ و٢٠٠٨ ارتفعت رواتب رؤساء الشركات التنفيذيين ٢٧٥ مرة بينما ارتفعت أجور العمال العاديين ٣٥ مرة. ولم يكن رؤساء الشركات كرماء مع العاملين لديهم مثلما كان هنري فورد. وعلى الرغم من أن معدل الإنتاجية الأمريكية قد ارتفع منذ عام ٢٠٠٣، لم ترتفع الأجور بالمثل، وانخفضت الفوائد من حيث القيمة.
رغم أن مركز كارثة الرهن العقاري عالي المخاطر كان في الولايات المتحدة، فقد وصلت المتاعب التي كانت تضرب مركز الأعمال في مانهاتن سريعًا إلى المدن والبلدات في مختلف أنحاء البلاد، ناهيك عن المستثمرين الأجانب الذين شاركوا مع المؤسسات المالية الأمريكية المتهورة في خداع الناس. حتى وادي السليكون — أكثر المراكز الأمريكية للمشاريع التجارية مدعاة للفخر — لمس التأثير الهادر لأزمة الائتمان من خلال انخفاض الطلبيات على منتجات شركاته، وهذا ليس بالأمر الهين بالنظر إلى أن مبيعات أجهزة الكمبيوتر والبرمجيات تشكل نصف إنفاق رأس المال في الأعمال التجارية في الولايات المتحدة. وبالمثل شهد قطاع التكنولوجيا الذي عادةً ما يتمتع بوفرة رأس المال المغامر بعضًا من هذا التراجع أيضًا.
فحينما توقَّف عن الإنفاق الناسُ الذين اقترضوا قروضًا لا تتوافق مع ارتفاع قيمة منازلهم في الأيام المحمومة للطفرة العقارية، أدَّى ذلك إلى الإضرار بالمصدِّرين الكبار والصغار الذين يعولون على المستهلك الأمريكي المضمون. وشارك زعماء أمريكا اللاتينية — الذين كثيرًا ما انتقدوا العملاق الأمريكي الشمالي — في الشماتة بعض الشيء إلى أن رَأَوا الخطر يلوح في آفاق بلدانهم جرَّاء انهيار سوق الإسكان في الولايات المتحدة. لقد طال أذى هذا الانفجار المالي الجميعَ وكأنه شَرَك ملغوم يَعلق فتيله بالعابرين فوقه على حين غرة. لكن الهند — التي أنقذتها تقاليدها المصرفية المحافظة — نَجت نسبيًّا من هذه الكارثة. وقد أدت الهشاشة غير المتوقَّعة لهذه الأوراق المالية التي كانت البنوك الأمريكية تروِّجها في جميع أنحاء العالم إلى شعور قادة العديد من الاقتصادات الناشئة بالحنَق على المتسببين في هذه الكارثة.
إن هيمنة قطاع الخدمات المالية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية حالة كلاسيكية يمكن أن نشبهها بنملة تقود فيلًا؛ ففي بادئ الأمر كانت المؤسسات المالية قد أسست لتسهل إقامة المشاريع، لكن في نهاية القرن العشرين أصبحت هذه المؤسسات نفسها صاحبة رأس مال استثماري. وكانت أسواق الأوراق المالية — التي نشأت منذ أكثر من ٢٠٠ سنة مضت — قد قامت بدور الوساطة بين الشركات العامة والشركات المتداولة علنًا. وكانت في الماضي حكرًا على الأثرياء، لكنها الآن تخدم آلاف المؤسسات وملايين من صغار المستثمرين. البنوك أيضًا كانت تضخ الأموال لتمويل إنتاج السلع والخدمات؛ فاكتسبت سلطة في هذه الأمور. ففي القرن الحادي والعشرين، صار الممولون يتدخلون على نحو متزايد في شئون الشركات التي يتداولون أوراقها المالية ويتفاوضون حول قروضها. كان لهذا التحوُّل في السلطة من مديري الشركة إلى أصحاب الديون تأثير عميق على قرارات الشركات بسبب التركيز على تحقيق مكاسب فورية. وقد استفاد المساهمون من هذا — على المدى القصير على الأقل — بينما تحطم العديد من القيم المتعلقة بالشركات القوية.
إذا اختلفت أهداف الرأسمالية المالية كثيرًا عن أهداف المشاريع بوجه عام، فسيواجه الناس معاناة جراء ذلك، كما تبين بوضوح عام ٢٠٠٨. وحينما وقع اختيار الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور على تشارلي ويلسون — الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز — ليكون وزيرًا للدفاع عام ١٩٣٥، تصدَّر ويلسون عناوين الصحف بقوله: «إن ما هو جيد بالنسبة لهذا البلد، جيد بالنسبة لشركة جنرال موتورز، والعكس بالعكس.» وقد قوبل بانتقاد حادٍّ بسبب هذا الرأي، الذي عبَّر عنه في الجلسة البرلمانية لسماع شهادته، لكن ما قاله كان منطقيًّا؛ ففي ذلك الوقت، كانت شركات صناعة السيارات في أمريكا تدفع لعمال صناعة السيارات أجورًا جيدة، وتجعل المستهلكين راضين عن سياراتهم التي اشترَوْها. وأدَّت الأرباح الهائلة التي أمكن تحقيقها من الرفع المالي الحاذق للمعاملات الورقية — مثل الرهون العقارية — إلى تصاعد جميع الحوافز على المدى القصير، مثلما حدث لرواتب رؤساء الشركات التنفيذيين السخية في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. في ضوء هذا ربما تخصِّص الشركات مكافآت للتنفيذيين في شكل حسابات ضمانات مجمَّدة يتعين دفعها بعد فترة من السنوات المزدهرة، لا بعد فترة وجيزة من الازدهار.
وهكذا يوجد شيء من الانفصال بين ما تتطلبه السوق وما يريده المشاركون فيها. ونحن لم نَرَ هذا لزمن طويل لأننا كمجتمع كُنَّا ملتزمين بالمنفعة الأخلاقية للعمل الجاد. فلم تصبح أخلاقيات السعي وراء المتعة سائدة إلا في الآونة الأخيرة. وتلك هي المشكلة؛ فاقتصاد المشاريع الحرة يعتمد على المنافسة، والخيارات العقلانية، والمعلومات المعروفة على نطاق واسع، حتى وهو يكافئ الأشخاص الذين يحتكرون السوق، ويورطون غيرهم في صفقات حمقاء، ويستخدمون معلومات سرية لخدمة مصلحتهم الخاصة. ومن الممكن تمامًا أن يكون الخطر الأخلاقي الحقيقي اليوم هو أن الرأسمالية تقضي على آداب قديمة كان يلقنها الآباء والمعلمون حينما كان هناك توافُق في الآراء حول كيفية تنشِئة الأطفال على نحو يجعلهم يتحلون بالمسئولية. وإذا تلاشت تمامًا هذه المجموعة من القيم سنخسر القاعدة الأخلاقية للرأسمالية، التي تعتمد على تلبية الرجال والنساء التزاماتهم، وإدارتهم مواردهم بحكمة، وتقديرهم قيمة العمل الجاد، ومعاملتهم الآخرين بإنصاف.
ملخص ما سبق في تاريخ الرأسمالية
يمكن تبيُّن أصول عيوب الرأسمالية من خلال النظر في تاريخها، عندما انتقلت المعاملات التجارية من هامش المجتمعات الأرستقراطية قبيل العصر الحديث لتشكل مركز المجتمعات الحديثة. كانت المساومة قديمة قِدم التعامُل البشري، لكنها كانت دائمًا غائبة في ثنايا المجتمعات التي يديرها المحاربون بالأساس. وحينما اجتاز الأوروبيون الطرقَ ووصلوا إلى جزر الهند، وجدوا الموانئ الآسيوية الغريبة حيث يمكنهم شراء الحرير والتوابل. وحينما أبحروا في الاتجاه الآخر، واجهوا عالمًا جديدًا في قارتين تحويان عشرات الجزر الاستوائية. فنشأت تجارات مربحة؛ مما يدل على أن الأوروبيين كان لديهم بالفعل مدَّخرات كبيرة ليستثمروها في المشاريع في الخارج.
كانت المجتمعات الأرستقراطية التي تدعم الأنظمة الملكية الأوروبية في القرن السادس عشر تنظر للتجار نظرة ازدراء بسبب استغراقهم في كسب المال، لكنهم كانوا معجَبين بالتحدي المتمثل في توسيع نفوذ أوروبا وسلطتها. وكانوا مؤمنين بالتفاوت بين البشر إيمانًا راسخًا؛ فقلة من البشر هم من وُلدوا ليرأسوا البعثات الدبلوماسية، ويعملوا في خدمة القانون أو الكنيسة، ويقدموا المشورة للملوك، ويقودوا الجيوش، بينما الباقون يجمعون الأخشاب وينزحون المياه، فضلًا عن المزارعين والخدم الذين كانوا يعيشون حياة الكدح. ولما كان التجار فئة حضرية، فقد وقعوا في مكان ما بين هذه الفئات، يحظَوْن بالاحترام لمهارتهم ولأموالهم، لكن افتقارهم إلى الروابط العائلية المتميزة كان يدفع للحط من قدرهم.
في القرن السابع عشر بدأت المواقف تتغير — في إنجلترا على الأقل — بعد أن بدأ بيع الأشياء وشراؤها يصبح أكثر انتشارًا. وعندما خضع النظام الزراعي البدائي للتقنيات المحسنة بهدف زيادة المواد الغذائية، أدى ازدياد المحاصيل إلى انخفاض أسعار الغذاء. في الوقت نفسه، لم تعُد هناك حاجة لكثير من أبناء المزارعين في المزارع؛ فانتقلوا إلى الصناعات الريفية، أو غادروا ليتعلموا الحرف بالمدن أو يعززوا شبكات التوزيع في سوق إنجلترا الموحَّدة. وفي القرن الثامن عشر، نجحت التطبيقات العملية للمعارف العلمية في جعل بخار الماء يُستخدم في حفر المناجم، وتشغيل المصانع، ودفع القاطرات. كانت هذه التغيرات تتعارض مع الأعراف التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من القوانين، والدين، والثقافة الشائعة لذلك الزمن. فكان أنصار التطورات الاقتصادية يسوِّقون الحجج لتبرير الممارسات الجديدة. وصوَّروا النظام الرأسمالي الأوَّلي على أنه نظام طبيعي وتحريري وتقدمي ومجزٍ. وما إن رسَّخ الرأسماليون الاعتقاد بهذا الرأي، كانوا قد وجهوا الضربة الأيديولوجية اللازمة لزعزعة المجتمعات الجامدة وقِيمها.
ظلَّت الندرة تميِّز المجتمعات الغربية في القرن الثامن عشر لأن عدد السكان بدأ ينمو في ثلاثينيات وأربعينيات ذلك القرن، ومع ذلك كان المشترون في المدن يجدون أشياء مبهجة ونافعة، من الخرائط وكتب الرحلات إلى المجوهرات والملابس المزينة بالأحجار الكريمة، والأطعمة الغريبة كالسكر والبن والكاكاو، وأدوات جديدة رائعة مثل النظارات والأدوات العلمية، وبوصلات الجيب؛ فبدأ الابتهاج من الابتكار البشري الذي كان قد صار جزءًا من روح الرأسمالية يسيطر على مخيلة الجمهور. ودخلت الخطاب العام مقارنات كريهة بين الغرب وبقية العالم.
بعد نهاية القرن السابع عشر، لم تعُد المجاعات تحدث في إنجلترا، وصارت أقل حدة في المناطق الأخرى في أوروبا الغربية. وفي عام ١٧٢٣، اختفى أيضًا الطاعون اللعين، الذي ظل يكرِّر اجتياحه لأوروبا بانتظام منذ انتشار الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر. وبدأ الشعور بعدم الأمن على الحياة — الذي برر سيطرة سلطة الآباء والقضاة والملوك — يتلاشى ببطء. وارتفعت الدعوات التي تنادي بمزيد من المشاركة السياسية والتسامح الديني والتغيُّر الشخصي بعدما اكتسب المشاركون في السوق — أو انتزعوا — حرية التحرك خارج المتاهة المعقدة للأعراف الاجتماعية. وحلت الأهداف الفردية قصيرة الأجل محل المخاوف القديمة بشأن المستقبل. وحدد تراكم مثل هذه القرارات الأسعار والأجور دون أن يتحمل أي شخص مسئولية النتائج المترتبة عليها.
استمر الاحتفاء بالمخترعين مع تحوُّل التجارب الأولى على قوة البخار إلى ثورة في عمليات الإنتاج. لقد بدأ العصر الصناعي حقًّا في القرن التاسع عشر، واكتسب زخمًا بانتقاله من إنجلترا إلى فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. وبحلول نهاية القرن، حلَّت براعة الكهرباء محل سحر المحرك البخاري، وانضمت الكيمياء للفيزياء في خدمة الصناعة، وشجع المستثمرون المتحمسون البحثَ المستمرَّ عن اختراعات جديدة؛ الأمر الذي أدى بمرور الوقت لظهور البحث المنظم. وهذا كان يعني استمرار الخوض في خصائص العالم الطبيعي وعناصره، من خلال دراسة العلماء ردود الفعل إزاء الحرارة والبرودة والضغط والانضغاط والتوتر وقوة الجاذبية. فبث هذا العمل جودة مدهشة في العالم المادي حين بدأ يحل محل الروحانية القديمة. وصف البعض هذا بأنه تحرُّر للعالم من الوهم. وفي حين بدأ هذا الاستهداف المستمر للطبيعة بالأسئلة منذ ظهور الفلاسفة الطبيعيين، جاء المخترعون وراءهم مباشرة ليسوِّقوا اكتشافاتهم وينشروا أثرها.
تحوَّل العالم الاجتماعي الذي تركَّز حول تكرار مهامَّ سنوية في المواسم والأعياد إلى مجتمع يتميز بالتغيُّر المستمر؛ فقد اكتسب التغيُّر — الذي يعتبر دائمًا شيئًا مرهوبًا — خاصية ازدواج التأثير؛ إذ استطاع بالفعل أن يجلب التحسن، لكنه استطاع أيضًا أن يطمس أساليب عتيقة وراسخة للعيش في العالم. وتطلَّب استمرار نمو الاقتصاد أن يخوض الرجال والنساء المجازفات، ويفكروا تفكيرًا إبداعيًّا، ويتقبلوا التغييرات التي جعلت حياتهم مختلفة تمامًا عن حياة آبائهم. كانت أيضًا فكرة اكتساب الناس مواقعهم في المجتمع دون النظر إلى أصولهم العائلية من الأمور المستحدثة. وكان الحراك الطبقي الاجتماعي — الذي يبدو بالنسبة لنا مفهومًا عاديًّا للغاية — أمرًا مستهجنًا في مجتمع تمحور حول مكانات اجتماعية شملت الأرستقراطيين، والنبلاء، وعامة الشعب، والخدم، حيث كان الخاضعون أكثريَّةً والمستقلون أقلية.
لم يكُنْ من الممكن الحفاظ على الطموح الذي لعب دورًا أساسيًّا في حث الناس على أن يكونوا أكثر إنتاجية إلا من خلال وجود متسَع في الطبقات العليا من السُّلَّمِ الاجتماعي؛ ففي حين كانت المكانات الاجتماعية الموروثة تشجع الركود، كان السعي الدءوب يشجع الآمال في الارتقاء والمخاوف من انخفاض المكانة الاجتماعية. وبمجرد أن تحرَّر الرجال والنساء من النظام الزراعي القديم، تعلَّمُوا حرفًا يدوية مثل صناعة الأحذية، وعملوا في مجال البناء، وشكَّلوا الوشائج البشرية للتجارة، أو اجتُذبوا للعمل في المصانع. وظهرت طبقتان جديدتانِ لتحلَّا محل الطبقات القديمة: طبقة العمال وطبقة أرباب العمل. واختلف عمل المرء باستخدام يديه كثيرًا عن عمله باستخدام عقله. وعلى الرغم من أن هاتين المنزلتين كانتَا متاحتين أمام جميع الراغبين بينما لم تكُن المكانات القديمة كذلك، ظل للحراك الاجتماعي حدوده التي تحكمه. لكن ازداد الحراك الجغرافي مع عثور العاملين بالمزارع على فرص عمل في الصناعات الريفية، ثم بعد ذلك في المدن. أما الأشخاص الأكثر مغامرة فقد تركوا أوروبا كلها كي يجِدوا مكانًا — وربما يكوِّنوا ثروة — في جنوب أفريقيا وشمالها. وقد استفادت الرأسمالية استفادة هائلة من ارتباطها بالحرية السياسية، في الوقت الذي كانت تخلق فيه أشكالًا جديدة من السيطرة. صارت المصانع هي أماكن العمل، بدلًا من المنازل والمحال. واكتسب أولئك الذين يشيدون المصانع ويديرونها ويستثمرون فيها السلطة. ومع ذلك فقد آمنوا إيمانًا قويًّا بأيديولوجية الفردية، والنزعة الاستقلالية، وحقوق الإنسان التي صاحبت صعودهم إلى مواقع السيادة.
عضدت الأيديولوجية الرأسمالية مفهوم الطبيعة البشرية؛ فقد نظرت إلى الحقوق بوصفها حقوقًا عالميةً؛ ما جعل المحرومين يثورون للمطالبة بالتمتُّع بثمار عملهم وحرياتهم. لكن التقاليد القانونية الأوروبية كانت تميِّز تمييزًا صارخًا في الحقوق والامتيازات بين كُلٍّ من السادة والخدم. وحاول أرباب العمل أن يحافظوا على هذه المزايا القانونية القديمة، رغم أن العاملين لديهم كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب حقوق. وأصبح الاستهلاك المحلي أيضًا أكثر أهمية لاقتصادات الرأسمالية. ودار الصراع بين جانب العرض وجانب الطلب. كان المنتجون يريدون الإبقاء على انخفاض الأجور، وطول ساعات العمل عند صنع سلعهم، لكن عندما يحين وقت بيع هذه السلع، كانوا يحتاجون إلى الزبون الذي يتقاضى أجرًا مجزيًا ويرغب في التسوق.
أطلق احتمال تحقيق الثراء العِنان لجشعٍ نادرًا ما شوهد من قبلُ في المجتمع البشري. وكانت الثروة الكبيرة تتحقق من استيراد النباتات الاستوائية مثل التبغ والسكر والشاي والكاكاو لبيعها للمستهلِكين الأوروبيين ذوي القوة الشرائية والأذواق التي تميل للإدمان. وبدلًا من استيراد هذه المنتجات من الآسيويين والأفارقة، بنى الأوروبيون نظامًا زراعيًّا لاستزراع هذه المستجدات المرغوبة في أراضي العالم الجديد. ولا شك أن ما أتاح هذه التجارة هو شراء الأوروبيين ملايين العبيد من أفريقيا وشحنهم إلى جزر البحر الكاريبي وسواحل المحيط الأطلنطي في الأمريكتين. بدأ استغلال الأوروبيين للأشخاص المستضعفين بنظام العبودية في القرن السادس عشر، ثم تحول إلى استغلال استعماري يمارسه الأوروبيون ضد سكان البلدان البعيدة، لا سيما أفريقيا في القرن التاسع عشر. ثم انضمَّت ألمانيا وإيطاليا إلى إسبانيا والبرتغال وبريطانيا العظمى وفرنسا في إقامة الإمبراطوريات وتوجيه الاستثمارات الرأسمالية لتنمية «الموارد الطبيعية» في مستعمراتهم. لقد كان الرأسماليون ينزعون الطابع الإنساني من علاقاتهم مع الناس الذين يعيشون خارج قارة أوروبا، ويتعاملون مع عمال المستعمرات ومجتمعاتها كما يتعاملون مع عناصر الإنتاج العديدة.
رغم أن النزاعات الحربية في أوروبا كانت قديمة جدًّا، غيَّرت الثروة التي ولدتها الرأسمالية قواعد الصراع في القرن العشرين؛ إذ صارت البلدان قادرة على مواصلة القتال لسنوات. وحينما اندلعت الحرب عام ١٩١٤، لم يتوقَّع أحد هذه النتيجة؛ إذ كان معظم الناس يعتقدون أنها ستنتهي في غضون أشهر، لكنها استمرت أربع سنوات دامية. وبما أن المنافسة كانت في جزء منها على ممتلكات استعمارية، كانت المستعمرات البعيدة تُزج للدخول في الصراع. وبعد عقدين من الحرب العالمية الأولى، بدأت الحرب العالمية الثانية. ربما ما من اختلاف يمكن أن يفوق ذلك الاختلاف بين الشعور بالإنجاز الذي ساد في مطلع القرن العشرين، والشعور باليأس الذي ساد بعدما انتهت الحرب العالمية الثانية بانفجار الطاقة الذرية الشرسة عام ١٩٤٥.
حلَّ عام ١٩٠٠ بأعاجيب شملت السيارات، والطاقة الكهربائية، ومراكز المدن في هيئتها الجديدة التي تميَّزت بانتشار ناطحات السحاب. وازداد أمد العمر المتوقع، وقلَّصت تدابير الصحة العامة انتشار الأمراض الذي كان يهدم البنية السكانية من قبل. وبعد أربعة عقود، كانت الحرب قد قتلت الملايين من الرجال والنساء، وشردت ملايين آخرين من منازلهم، ودمَّرت بالكامل الآلاف والآلاف من أحياء المدن. ودخل الرجال والنساء — الذين كانوا في مقتبل أعمارهم وقت الحرب العالمية الأولى — مرحلةَ منتصف العمر وقد صقلتهم المحن؛ فقد عزَّزت هذه الأوقات الصعبة التفكير الجدي، وجعلت الدول الرأسمالية تعترف بعد الحرب العالمية الثانية بضرورة التعاون، وتؤسس نماذج لمنظمات دولية ذات مكانة دائمة.
عانت أوروبا تراجعًا تجاريًّا كبيرًا بين الحربين العالميتين، وقد جعل هذا التباطؤ المفاجئ في وتيرة الرأسمالية الخبراءَ في حالة صدمة، وأطلق عليه الكساد الكبير، مثلما كانت الحرب العالمية الأولى توصَف بأنها الحرب الكبرى. فقد سقطت عشرات الاقتصادات في حالة من الفوضى. ورغم الجهود المبذولة لتخفيف الخسائر في الوظائف والمدخرات، عجزت معظم السياسات الحكومية عن مواجهة الأزمة. ولم يعُدْ نشاط الرأسمالية مجددًا إلا مع النفقات الهائلة للحرب العالمية الثانية؛ الأمر الذي أثبت صحة نظرية جون ماينارد كينز. فقد قال كينز إن استثمارات القطاع الخاص وحدها لا تستطيع أن تخرج الاقتصادات من حالة الكساد. ومثلما حدث في حالة السبع سنوات السمان اللاتي تبعتهن سبع عجاف، تأرجحت الرأسمالية بين أوقات الرخاء والشدة، لكن مع قدرة أقل على التنبؤ بما سيحدُث فيما بعدُ. إنَّ الطلب المكبوت الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، والثروة الكبيرة التي كانت الولايات المتحدة على استعداد لإنفاقها لتساعد في انتعاش أوروبا الغربية ثم انتعاش اليابان بعد ذلك أدَّى إلى حلول عصر ذهبي دامَ ربع قرن. وبعد نحو ثلاثين سنة جلب مصدر جديد للركود نهايةً للازدهار الوافر الذي بدأ في فترة ما بعد الحرب.
في السبعينيات، بدأ الناس يتنبَّهون إلى الخسائر البيئية التي سبَّبَها تسارع مستويات استهلاك الوقود الحفري، وهي حقيقة دعمها ظهور قوة منظمة الأوبك، أو رابطة الدول المنتجة للنفط. كانت المنظمة تمارس نوعًا من السلطة الاحتكارية، وأعلنت عن ارتفاع كبير في أسعار النفط؛ مما أبرز عدة مشاكل أخرى في أوطان الرأسمالية. أبرز تلك المشاكل أنه للمرة الأولى لم يؤذِن ارتفاع الأسعار بحلول فترة من النمو، بل فترة من الكساد أو الركود أو — كما أصبح يطلق عليه — الركود التضخمي. وتراجعت حركة مساواة الأجور التي بدأت في فترة ما بعد الحرب، ثم تلت ذلك أربعة عقود طويلة من التفاوت بين الدخول المنخفضة والمرتفعة في الولايات المتحدة. وخسرت التنظيمات العمالية — التي استفادت من الكساد ثم من النمو في فترة ما بعد الحرب — شعبيتها في مخيلة الجماهير. وكسر الركود التضخُّمي أيضًا الإجماع على أن الحلول الكينزية تصلح لحل جميع مشاكل الرأسمالية، وازدادت قوة أرباب العمل مع تراجع قوة العمال.
ورغم أن الدول الرأسمالية كانت تستوعب هذه الحقائق المقلقة، تحركت الرأسمالية قُدمًا بأقصى سرعة معتمدة على سلسلة متوالية من التكنولوجيات الجديدة التي أذنت بحلول عصر الكمبيوتر والترانزستور والإنترنت. وهبَّت «رياح التدمير الخلاق المستمرة» التي تحدَّث عنها الاقتصادي شومبيتر مع ظهور جيل جديد من الأجهزة العبقرية. إن كل انكماش اقتصادي يمنح النقاد فرصة لأن يتصوَّروا أن نهاية الرأسمالية قد حانت، لكنهم يستهينون بقدرة الرأسمالية الخصبة على تشجيع الإبداع وتحويل النماذج الأولية المستحدثة إلى مشاريع كبيرة ناجحة.
الرأسمالية المعاصرة ومنتقدوها
ثَمَّةَ تَبِعتان رأسماليتان أخريان تلقيان ظلالًا كبيرة على المستقبل وهما: الفقر المستعصي والبيئة المتدهورة؛ فبينما كانت معظم اقتصادات العالم تنمو على نحو جيد، انتهت ستون سنة من الجهود التي بذلها العالم الأول لحفز الازدهار في العديد من بلدان العالم الثالث بخيبة أمل. ويعيد الخبراء الآن تنظيم صفوفهم مجددًا لاختبار بعض الأساليب الجديدة لإعادة إحياء الاقتصادات الراكدة وإنعاش الدول الفاشلة. وبالتفكير على نطاق أوسع، يعتقد البعض أن الوقت قد حان لتصحيح عيوب الرأسمالية بدلًا من توقُّع حدوث طفرة تكنولوجية أخرى تحوِّل الانتباه إلى أمر آخر. ويوجد جهد متعدد الجوانب ضمن جدول أعمال القرن الجديد يرمي لوقف التدمير البيئي الناجم عن قرن من النمو السكاني، وحرق الوقود الحفري، وتلويث المياه، ومختلف التعديات البشرية الأخرى على هذا الكوكب.
وينقسم نُقَّادُ الرأسمالية إلى ثلاث مجموعات؛ فهناك أولئك الذين يشعرون بالاستياء من السوقية والقبح اللذين يشجعهما السعي وراء الربح. وهم لا يحبون تخمة السلع والاهتمامات المادية التي تشغل إخوانهم البشر في العالم. وهذه الشكوى عادة ما تصدر من أعضاء ينتمون للنخبة الاجتماعية أو الأكاديمية. وهناك آخرون يحاربون الرأسمالية بسبب خطايَا العولمة التي وسعت نطاق طمع الدول الغنية على حساب الفقراء المستضعفين. والشركات متعددة الجنسيات هي العدو اللدود للحركة المناهضة للعولمة لأنها يُنظر إليها على أنها تعمل من دون أن تتحمل مسئولية اجتماعية أو إحساسًا باحتياجات الإنسان. ويصور النقاد الشركات متعددة الجنسيات على أنها أخطبوطات تتشبث مجساتها بأي مخطط يبشر بالربح، مهما كان مشبوهًا. وهناك فريق ثالث يريد أن يعمل في إطار الرأسمالية كي يجعل النظام أكثر انفتاحًا وأكثر عدالة، ومتجاوبًا مع الناس كما هو متجاوب مع الربح. هذه السمة الأخيرة تبدو أكثر السمات إثارة للاهتمام، لا لشيء إلا لأنها تشكل أكثر السمات فعالية في مكافحة الفقر وما يصاحبه من بؤس وظلم.
مشكلة الفقر ومحللوها
وقد تأتي أفضل الأفكار التي تصلح للتصدي للفقر من أشخاص مثل محمد يونس، وهرناندو دي سوتو، وأمارتيا سِن، وفرانسيس مور، ووالدن بيلو، وراج باتيل، وبيتر بارنز، الذين يريدون تسخير قوى الرأسمالية بأساليب جديدة لتحسين حياة كل البشر. وهذا بالطبع ما كان ماركس يود تحقيقه: أن يبني على القاعدة الرأسمالية للثروة كي تتوفر الحياة الكريمة للمجتمع بأسره. لكنه فشل في توقُّع الخطر المترتب على ارتباط قوتي المجتمع الاقتصادية والسياسية من خلال امتلاك الدولة للممتلكات؛ إذ إن اندماج القوة هذا أسفر عن جمود البرامج، وخلق جهازًا حاكمًا لا يتأثر بالإرادة الشعبية. لكن القضية التي تناولها ماركس لا تزال باقية، وهي: كيف يمكن جعلُ الثروات التي تولِّدها الرأسمالية تزيد من فرص الحياة للجميع، بما في ذلك مليار القاع.
شاهد يونس النساء اللاتي كن يصنعن قطع الأثاث من الخيزران يدفعن هذه الفوائد الربوية المرتفعة ليتمكنَّ من شراء الخيزران إلى درجة لا تجعلهن يستطعن النهوض بأعباء المعيشة؛ ففكر في أن يقدِّم لهن قروضًا من دون ضمانات. وبدأ بمبلغ ٢٧ دولارًا من جيبه الخاص، وقدَّم مبالغ صغيرة إلى ٤٢ امرأة. ونجحت الفكرة، وسددت النسوة ديونهن بالإضافة إلى نسبة فائدة معقولة. ثم أسَّس يونس بنك جرامين (بنك القرية) عام ١٩٧٦ بقرض من الحكومة. وفي عام ١٩٨٣، أصبح البنك مستقلًّا. وامتد نطاق نشاط البنك من القرية إلى المقاطعة ثم إلى البلاد بأسرها. والبنك الآن ملك لمقترضيه، باستثناء نسبة ١٠٪ تملكها حكومة بنجلاديش. وبحلول عام ٢٠٠٧، صار البنك يُقرض مبالغ وصلت إلى ٦٫٣٨ مليار إلى ما يزيد على ٧ ملايين مقترِض؛ الأمر الذي ألهم مئات من مؤسسات الإقراض الصغيرة الأخرى في جميع أنحاء العالم.
كان بنك جرامين يتعامل مع النساء أكثر ممَّا يتعامل مع الرجال لأنهن كن أكثر استعدادًا لإنفاق دخولهن على أسرهن. وكان يونس يدرك أيضًا الحاجة إلى إنشاء شبكات دعم بين عملاء البنك؛ فكان البنك يفرض في عقود عملائه عقد اجتماعات أسبوعية إلزامية بحيث تجتمع مجموعات المقترضين الذين يعيشون بالقرب من بعضهم لمناقشة مشاريعهم وتبادل الأفكار. وكان المشاركون في هذه المجموعات يقومون أيضًا بدور ضامن مشترك للسداد؛ فصار سجل إقراض بنك جرامين مشرِّفًا ببلوغه معدلات سداد تتجاوز نسبة ٩٠٪. لكن اليساريين المتشددين عارضوا نشاط البنك باعتباره شكلًا من أشكال الاستدراج إلى الرأسمالية، وهدَّد رجال الدين المحافظون الإناث المقترضات بحرمانهن من مراسم الدفن الإسلامية. لكن لا شيء استطاع أن يوقف زخم هذا الجهد. وحينما فاز يونس بجائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٦، تبرَّع بنصف قيمتها التي تبلغ ١٫٤ مليون دولار لتأسيس شركة لصنع الأغذية عالية القيمة الغذائية ومنخفضة التكلفة للفقراء. وقد استطاع مشروع هاتف القرية الذي أطلقه بنك جرامين أن يوفر الهواتف الخلوية لمائتين وستين ألف قروي في خمسين ألف قرية، استفاد كثير منهم بهذه الهواتف بتأجيرها لإجراء المكالمات. وكذلك كانت هذه الهواتف تشكِّل نعمة لعمال اليومية في المناطق الحضرية؛ لأنهم باتوا يمكنهم الاتصال هاتفيًّا الآن بعملائهم المحتملين بدلًا من أن يضيعوا الوقت الثمين في التسكُّع في جميع أنحاء المدينة بحثًا عن عمل جديد.
قال أبراهام لينكولن عشية الحرب الأهلية: «إن البيت المنقسم على نفسه لا يمكن أن يصمد.» لكن لينكولن نفسه اقتبس من الكتاب المقدس ما يقول إن الفقراء سيكونون «… معنا في كل حين». وبيَّنت نظرية توماس روبرت مالتوس الشهيرة حول النمو السكاني أن الفقر قدر محتوم على عدد كبير من الرجال والنساء. وقد تبيَّن أن اختراق ظلال الاستسلام هذه ليس سهلًا؛ فمنذ نحو قرنين من الزمان استنكر الثوري الإنجليزي ويليام كوبيت قسوة الأعمال التي ظلت تستخدم بالكامل العمال القنوعين والكادحين لكنها لم تدفع لهم من الأجور ما يكفي لإطعام عائلاتهم. واليوم، جذب فقراء العمال الذين تحدث عنهم كوبيت انتباه الناشطين الذين نجحوا في حمل أكثر من مائة مدينة في الولايات المتحدة على تمرير قرارات رسمية بشأن أجور عامليها والعاملين الذين يعملون لحساب الشركات بموجب عقود محلية.
ولد أمارتيا سِن — مثل يونس — فيما أصبحت فيما بعدُ بنجلاديش، لكنه هاجر إلى الهند بعد التقسيم الذي تم عام ١٩٤٧. وقد أمضى سِن سنوات رشده في التدريس بجامعتي كامبريدج وأكسفورد، والآن بجامعة هارفارد. وقد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ١٩٩٨، وهو يشكل قوة أخلاقية وفكرية من العيار الثقيل في مجال مكافحة الفقر، أو بالتحديد، مكافحة الفهم الخاطئ للأسباب التي تؤدي للفقر وما يمكن أن يخفف من حدته. استغل سِن عمله العلمي الرياضي للغاية لتفتيح أفضل العقول في علم الاقتصاد على طرق جديدة للتفكير في الفقراء. ومثلما حدث مع يونس، أثرت مجاعة اجتاحت البنغال عام ١٩٤٣ في تفكيره تأثيرًا عميقًا. وبدراسة هذه الكارثة، اكتشف أن الناس لا يموتون جوعًا نتيجة لعدم توفُّر الطعام وإنما لأنهم لا يستطيعون شراءه؛ وذلك بسبب تدني الأجور وارتفاع معدلات البطالة والتوزيع القاصر.
هرناندو دي سوتو هو محارب آخر في الحرب على الفقر، وهو خبير اقتصادي من بيرو يتمتع بعلاقات قوية مع الشركات المصرفية والهندسية الدولية، ويرأس حاليًّا معهد بيرو للحرية والديمقراطية. يركز المعهد على طريقة مختلفة لتمكين الفقراء تتمثل في: منحهم حقًّا قانونيًّا لحيازة الأرض التي يشغلونها والمعدات التي يُشغِّلونها. وقد جذب دي سوتو الانتباه إلى الاقتصادات غير الرسمية في جميع أنحاء العالم، حيث يزرع الناس الأرض، ويطوِّرون أماكن معيشتهم، ويمارسون الأعمال من دون أن يحوزوا حق ملكية لممتلكاتهم. وهذا يعني أنهم لا يستطيعون استخدام ممتلكاتهم كضمان لاقتراض القروض، على الرغم من أن الأرض قد تكون في حيازة أسرهم منذ عدة أجيال. ويرى دي سوتو أن الناس يختارون العمل في اقتصاد الظل لأن الحصول على تراخيص لممارسة الأعمال التجارية وامتلاك الأرض عادة ما يشكل مهمة شاقة ومكلفة. وقد تمكن دي سوتو من خلال معهده من القضاء على العشرات من قوانين التسجيل والترخيص التقييدية، ومساعدة أكثر من مليون شخص في بيرو، وما يقرب من نصف مليون شركة في اكتساب ملكية قانونية لممتلكاتها. وفي مصر، أحصى دي سوتو ٧٧ إجراء وضعتها ٣١ هيئة من مختلف هيئات القطاعين العام والخاص لا يمكن للمرء هناك أن يسجل حتى عقد إيجار للأرض قبل أن ينهيها. ونظرًا لأن دي سوتو يحظى بعلاقات طيبة مع البنك الدولي، فهو يرعى الآن حملات مماثلة ضد العراقيل البيروقراطية في السلفادور وتنزانيا ومصر.
وأفضل وسيلة لتوفير فرص لأطفال أكثر الناس فقرًا في أي مجتمع تتمثل في الاستثمار في المنافع العامة مثل المدارس الجيدة، والرعاية الصحية والحدائق، والهواء النظيف، والمياه غير الملوثة، والحماية الفعالة للشرطة، والفنون الشعبية. ولا يمكن معالجة بعض أوجه عدم المساواة في المجالات التي تنطوي على عدم العدالة إلَّا من خلال هذه الطريقة فقط. وهذا يتطلب المال، أو بالأحرى، إيرادات. لدى بيتر بارنز عدد من الأفكار العبقرية لجمع الأموال داخل النظام الرأسمالي. كان بارنز أحد مؤسسي شركة «إدارة الأصول عبر المسافات الطويلة»، وهي منظمة تجمع بين الاتصالات والجهود الإنسانية الليبرالية مثل تشجيع الزبائن على شراء الكتب القيمة، والتبرع للشئون البيئية، وتوجيه الرسائل الغاضبة إلى نواب الكونجرس. ويطرح بارنز في كتابه «الرأسمالية ٣٫٠» فكرة «المشتركات» أي الأشياء التي نتشارك ملكيتها جميعًا كالهواء والماء والنظام البيئي واللغات والثقافات. وهو يدلل على ضرورة إدراج العلوم والتكنولوجيا والترتيبات القانونية ضمن مفهومنا عن المشتركات. وهو يعتقد أنَّنا بحاجة لتنمية ثروتنا المشتركة لتحقيق التوازن بينها وبين الثروات الخاصة، ويشدد على أن ما نملكه جميعًا أكثر بكثير ممَّا ندرك، لأننا لا نفكر فيه، أو في قياسه، أو في استغلاله.
لقد ألهمت الرغبة في إطعام الجياع في العالم فرانسيس مور لابي، ووالدن بيلو، وراج باتيل، الذين كتبوا جميعًا دراسات مهمة حول ما يشوب جهودنا من عيوب. وراج باتيل عالم اجتماع عمل لدى البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة، وهذه الخبرات هي التي جعلته ناقدًا صريحًا للمنظمات التي تدعم العولمة. أما فرانسيس مور لابي فقد حققت شهرة باعتبارها مؤلفة لكتاب «حمية لكوكب صغير» الذي بيع منه عدة ملايين من النسخ؛ ففي عام ١٩٧٥، أطلقت حملة «الغذاء أولًا» لتوعية الأمريكيين بأسباب الجوع في العالم. وأكدت — مثلما أكد سِن — أن سبب الجوع في العالم ليس نقص المواد الغذائية وإنما عدم قدرة الجياع على الوصول إلى المواد الغذائية الوفيرة الموجودة في العالم. وقارنت لابي — المدافعة التي لا تكلُّ عن الفقراء — بين «الديمقراطية ضيقة النطاق» التي تقتصر على مجرد التصويت وبين «الديمقراطية الفعالة» التي تُثريها الاختيارات الرشيدة التي يقوم بها المشاركون بشأن ما ينبغي شراؤه وكيفية العيش. أما والدن بيلو — وهو عالم اجتماع مثل باتيل — فقد أسس معهد «التركيز على جنوب الكرة الأرضية» وهو معهد بحوث سياسية يقع في بانكوك.
لم يفلت هؤلاء المفكرون المبدعون من النقد؛ فمعارضو برنامج دي سوتو لمنح سندات ملكية أراضٍ للفقراء يقولون إن هذا الجهد يهدد حيازة الأرض بوجه عام، وربما يؤدي إلى طرد الفقراء الذين وضعوا أيديهم على أرضٍ إذا ما جاء من هم أكثر منهم فقرًا ليدعوا ملكيتهم للأرض ويسجلوها رسميًّا. ويعبر النقاد عن رثائهم لأن أعلى الفقراء قدرة (من حيث القدرة المادية) يستفيدون على حساب أقل الفقراء قدرة. ويمكن توجيه نفس الحجة لانتقاد مؤسسات الإقراض الصغير مثل بنك جرامين؛ فليس جميع النساء الفقيرات لديهن موهبة إدارة عملياتهن الخاصة حتى لو تم منحهن قروضًا معقولة. وهذا النقد يبعث على الانتباه إلى أن الرأسمالية نظام مكافآت. بمعنى أن الذين يبلون بلاء حسنًا في معاملات السوق هم من يتمكنون من تحقيق الازدهار. في المجتمعات التقليدية، ورِث الرجال والنساء مكاناتهم الاجتماعية، بينما الاقتصادات الموجَّهة — مثل الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية والصين وكوبا — قدمت لشعوبها المساواة والضمانات التي تكفل مستوًى معيشي معين. لكن لم تنجح الاقتصادات التقليدية ولا الموجَّهة في خلق الثروة. بل عانت سنواتٍ من المجاعة، حتى في العصر الحديث، لكنها كانت تحترم بحق الاحتياجات الإنسانية المشتركة، وتضع ضوابط للسيطرة على المنافسة المستمرة فيما بين أبناء شعوبها.
أمارات تدل على الثورة الخضراء
ليست الثورة الخضراء جهودًا خيرية، لكنها تمتلك رؤًى في خططها للمستقبل؛ فقد أدى نهم الرأسمالية للموارد الطبيعية — لا سيما النفط — إلى ما لا يمكن تصوره: أن يجعل البشرُ جو كوكبهم غير صالح للعيش إلى الأبد. وهذه المشكلة من العمق بدرجة طالما صعَّبت تناولها على محمل الجد. لكن لحظة الحقيقة وذيوع الأمر حانت عندما فاز الفيلم الوثائقي الذي يتناول جهود ألبرت جور «حقيقة مزعجة» على جائزة الأوسكار، وحصل كتابه الذي يحمل نفس العنوان على جائزة بوليتزر، وكللت جهوده الشخصية بالحصول على جائزة نوبل للسلام عام ٢٠٠٧. فقد تبين أنه من الصعب قبول العواقب المزمنة لتدهور البيئة نتيجة للخوف من أن هذه المشكلة لا يمكن حلها كالمعتاد بواسطة تقنيات جديدة. أم هل يمكن أن تحل كذلك؟
بعض الأفكار الختامية حول الرأسمالية
ليست الرأسمالية نظامًا موحدًا ومتناسقًا، على الرغم ممَّا توحي به كلمة «نظام»، وإنما هي مجموعة من الممارسات والمؤسسات التي تتيح لمليارات البشر تحقيق مصالحهم الاقتصادية في السوق. ولا توجد قوة دولية مشتركة ضخمة، لكن يوجد لاعبون كثيرون ومتنوعون في السوق، مع تباين التأثير الذي يُحدثه كلٌّ منهم. وتوجد ضمن المصالح المشروعة للجميع في السوق فرص أقل جاذبية لاستغلال الثغرات القانونية، وجهل المشترين، والمكاسب الفجائية. وبسبب هذه العوامل وغياب التنسيق المركزي لهذه السوق، قد يتسبب الرأسماليون في وقوع أضرار جسيمة، كما تبين من انهيار سوق الرهن العقاري عالي المخاطر، الذي لن يكون آخر حالات الذعر المالي؛ ففقاعة الدوت كوم، وفقاعة الإسكان سبقتهما فقاعة بحر الجنوب في القرن الثامن عشر، ومن قبلها فقاعة زهور التيوليب في القرن السابع عشر؛ لذا من الصعب أن نصدق أن هذا لن يتكرر ثانية.
يشير تاريخ الرأسمالية إلى أن الديمقراطية والرأسمالية ربما تكونان منفصلتين؛ لأنهما تولدان قيمًا غالبًا ما تكون متعارضة. فالديمقراطية تعني حكم الأغلبية من خلال انتخابات نظامية تنافسية، والديمقراطيَّتان الأوروبية والأمريكية تتضمنان حماية الحقوق المدنية والشخصية. بينما تشير الرأسمالية إلى استثمارات في العملية الإنتاجية التي قد تعتمد، أو لا تعتمد، على مشاركين يتمتعون بالتمكين السياسي. والرأسمالية سلوك أخلاقي، بينما الديمقراطية عامرة بالاهتمامات الأخلاقية بشأن الرفاهية العام وصواب رأي القادة. ونظرًا لأن نمو الرأسمالية يعتمد على الابتكار — والابتكار يزعزع الوضع الراهن — يخلق نظام السوق الحرة باستمرار مشاكل اجتماعية يتعين على الحكومة معالجتها. وحينئذٍ يصطدم خطاب «نحن الشعب» بخطاب «أنا الفرد». والرأسمالية تعتمد على براعة التكنولوجيا في الحفاظ على زخمها، لكن تطبيق تقنيات جديدة يتطلب الاستقرار من أجل تأمين العمالة والموارد والعملاء والحماية القانونية، وحتى السلام. إن الديمقراطية والرأسمالية تتماشيان معًا على نحو جيد، لكنهما غالبًا ما تبدوان مثل زوجين لا يطيق كلٌّ منهما أن يحيا مع الآخر، أو يحيا من دون الآخر.
والعلاقة المشحونة بقدر أكبر بكثير من التوتر هي العلاقة بين الرأسمالية والمساواة، لكن جذورها متضافرة؛ فقد انبثق مفهوم المساواة كقيمة اجتماعية رئيسية من عصر التنوير. وظهر جليًّا في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر من خلال الإعلان الأمريكي للاستقلال وشعار الثورة الفرنسية «الحرية والمساواة والإخاء». قبل ذلك، كان عدم المساواة الذي جعل البعض دوقات وجعل غيرهم حمالين يبدو طبيعيًّا كطلوع الشمس في كل صباح. والتفكير التنويري الذي قوض هذا القبول لعدم المساواة يدين بالكثير للرأسمالية، للرهبة التي أثارتها قدرة الإنسان على فهم قوى الطبيعة وتسخيرها لمصلحة الجميع. وكان الازدهار الذي لمَحه الفرنسيون عبر القنال في إنجلترا يمنح الأمل في أن المستقبل سوف يحمل فوائدَ، ملموسة وغير ملموسة، ولم تخطر من قبلُ ببال الرجال والنساء، ومن بين هذه الفوائد أن يُعاملوا على قدم المساواة. ظلت المساواة هدفًا ومثلًا أعلى أكثر منها حقيقية، لكنه هدف آخذ في التحقق.
تحدَّث جيمس ماديسون — الرئيس الرابع للولايات المتحدة وصاحب الفكر الثاقب في القرن الثامن عشر، والذي عُرف بأبي الدستور الأمريكي — عن شيء آخر وثيق الصلة بعصرنا حينما حذَّر من أن تركيز السلطة في فرع واحد من فروع الحكومة هو بمثابة الاستبداد. وينطوي كامل هيكل دستور الولايات المتحدة على توازُن للقوى، علاوة على عمليات رصد إضافية للانتهاكات (تذكرون تلك المحاضرات في التربية المدنية حول «الضوابط والتوازنات»). وخطر التركيز يكون أكبر إذا كان الحوتان الكبيران في حياتنا — أي الحكومة والاقتصاد — يسعيان وراء نفس الفرائس (أو الأرباح). فعندما تعمل الحكومة يدًا بيد مع رجال الأعمال في البلاد، يمكنك أن تتأكد من أن آلية التصحيح الذاتي للسوق ستتعطل. وعندئذٍ ستكبت المنافسة وتتفشى المحسوبية ويحظى عدم الكفاءة بالحماية. وتتسبب العلاقات المالية بين المرشحين للمناصب العامة والمانحين الأغنياء — بما في ذلك النقابات العمالية — في حدوث مشاكل. وتحظى جماعات الضغط بفرصتها الذهبية في ظل تبادُل التبرعات مقابل المحسوبية. لكن على المدى البعيد، قد تؤدي حملة صغيرة لجمع التبرعات من الناخبين العاديين عبر شبكة الإنترنت إلى الحد من اعتماد السياسيين على التبرعات الضخمة. أما في المستقبل القريب، فربما يؤدِّي تلاقي النوايا الحسنة والاقتراب الوشيك للكوارث إلى إحياء بعضٍ من آليات السوق التنظيمية الذاتية. وهناك نظم ضبط جديدة أفضل على وشك الظهور في المستقبل القريب.