تطورات حاسمة في الريف
تبدأ كل الاقتصادات بإنتاج الغذاء. إننا ندرك ذلك، لكن ليس إدراكًا بديهيًّا. فصفوف السلع المعروضة في مراكز التسوق المنتشرة في كل مكان أفتَرَت حواسَّنَا وجعلتنا لا ندرك كيف يمكن أن تكون الندرة في الواقع، فضلًا عن أن المجاعات ليست سوى أحداث تقع في أراضٍ أخرى بعيدة عنَّا. لكن المجاعات كانت في الماضي شائعة شيوع المناخ السيئ الذي يتسبَّب في حدوثها. حتى في العصور الوسطى التي شهدت تشييد صروح رائعة وإنشاء جامعات وتمويل حروب، كان الأوروبيون كثيرًا ما لا يجدون ما يسد رمقهم، شأنهم في ذلك شأن بقية سكان العالم. ربما كان لدى القلة الثرية الكثير ممَّا يمكن أن يؤكَل خلال الشهور التي تسبق أول حصاد، لكن معظم الناس كانوا مضطرِّين لأن يقتصدوا في نفقاتهم، آملين ألا يتعفن مخزون الجزر واللفت الذي ادَّخروه من الخريف السابق، أو ألَّا يتسبب امتداد موجة صقيع إلى إرجاء غرس فصل الربيع.
كانت طرق حفظ الطعام قليلة تلك الأيام، وخلال الأشهر العجاف كان المزارعون يحاولون جاهدين ألَّا يتغذوا على الحيوانات التي نجت من فصل الشتاء؛ انتظارًا لموسم تناسُلِها في فصل الربيع، أو يمنعون أنفسهم من استهلاك البذور التي ادَّخروها من محصول الحبوب السابق كي يزرعوها مجددًا في موسم البذر التالي. ورغم أن الموت جوعًا لم يكن أمرًا شائعًا، فقد ظل يلوح دومًا كلما حدث نقص في كمية الحصاد. والآن وبفضل ما وصلنا إليه من علم، بِتنا نُدرك الضرورة المطلَقة لإنتاج مزيد من الغذاء باستخدام عمالَةٍ أقلَّ طالما رغبَتِ البلاد في دعم مساعٍ اقتصادية أخرى إلى جانب إنتاج الطعام؛ نظرًا لأن إعادة هيكلة الزراعة في حَدِّ ذاتها من شأنها أن تحرر طاقة العمال وأموال الاستثمارات اللازمة للأنشطة الاقتصادية الأخرى كالصناعة مثلًا.
أحدثت الندرة تأثيرًا متغلغلًا في مجتمعات ما قبل العصر الحديث. كانت السلطات العامة تراقب حصاد كل عام خلال جمعه في صوامع الغلال لتخزينه للسنة التالية، وكان المسئولون دومًا يرصدون المزارعين الذين احتجزوا محاصيلهم ولم يطرحوها في الأسواق طمعًا في الاستفادة من ارتفاع السعر، أو الذين باعوا جزءًا منها لصانعي الجعة دون إذن بذلك من السلطات. وعزز الخوف من المجاعة تفشي الإجراءات الرقابية؛ فصار زرع الحبوب وتسويقها خاضعَين لمجموعة متشابكة من القوانين. وعكست قوانين كل بلد خشية السلطات من المجاعات وما تثيره من شغب وإخلال بالأمن. وكانت كل خطوة من خطوات إنتاج القمح أو الشعير أو الشوفان أو الأرز — تلك الحبوب الثمينة التي تشكل عصب الحياة — تخضع للرقابة.
كانت عناصر الثالوث الأعظم لشرور التسويق في القانون الإنجليزي — الاحتكار وقطع السوق (أي الاستئثار بكافة ما يُنتظر وروده من سلع إلى السوق بغية التحكم في أسعارها)، وشراء السلع بنية إعادة بيعها في نفس السوق أو سوق أخرى بسعر أعلى — تندرج ضمن الجنايات. ماذا كانت هذه الأفعال الشائنة؟ إنها تنطوي على شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية وحبسها عن السوق؛ انتظارًا لظهور سعر أفضل، ثم توزيعها على تجار التجزئة الآخرين. لقد أكدت هذه القوانين القديمة ذات الأسماء العتيقة أن زرع الحبوب وتسويقها كانا من الأنشطة الاجتماعية بقدر ما كانا من الأنشطة الاقتصادية أيضًا؛ إذ لم يكن ينظر إلى الحبوب باعتبارها مجرد سلعة تُجلب من الريف بحثًا عن أفضل سعر للبيع.
في إنجلترا، لم يكن المزارع — سواء أكان مستأجرًا مؤقتًا للأرض أو مالكًا لها أو مستأجرًا مطلقَ التصرُّف فيها — الذي كان يزرع محصول الحبوب الأساسي، أو محصول الذرة، يملك المحصول حقًّا، بل كان فقط يلازم عملية نقله من الحقل إلى السوق. ولم يكن له الحق في تخزينه، ولا نقله إلى سوق بعيدة، ولا بيعه إلى أحد الوسطاء بينما لا يزال في الحقل. في الواقع كان على المزارع أن يملأ عربته بما زاد عن حاجة استهلاك أسرته من الحبوب ويتوجه إلى أقرب سوق. وهناك يعرض ما جمعه للبيع للزبائن العاديين. وبالمثل، كان الطحان الذي يصنع الدقيق والخبَّاز الذي يصنع الخبز مُلزَمَين بإتمام عملية صناعة الخبز على نحو منظَّم إلى أن تصل إلى مرحلتها النهائية في شكل رغيف من الخبز، ثم بيعه بالسعر الذي تحدده محكمة الجنايات المحلية.
وحتى في يومنا هذا يمثل الجوع واقعًا مفجعًا للملايين من الناس؛ ففي تقرير عن المجاعات في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ سنوات قليلة مضت، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن أحد المزارعين ترك زوجته تأخذ آخِرَ ما تبقى لديهم من الذرة البيضاء كي تصنع منها عصيدة تقيم أود الأسرة وتبقيهم على قيد الحياة. وقد لا يدرك معظم الناس أن الحبوب التي تُستخدم في صناعة الخبز هي ذاتها البذور التي تُدخر لزراعة محصول السنة التالية من القمح أو الشعير. ونتيجة للندرة المستمرة وتحت إغراء تناول البذرة المخزنة لموسم البذر التالي، غالبًا ما تكون المقاومة من المستحيلات، كما في حالة مزارع جمهورية أفريقيا الوسطى؛ مما يسفر عن تداعيات مروعة في المستقبل.
ونظرًا لأن الناس في المجتمعات القديمة سَعَوا إلى تقدير الطبيعة، لا إفساد منظومتها؛ فقد أَولَوا نظامهم الاجتماعي مهابةً وتوقيرًا، في حين غالبًا ما يفكر الإنسان الحديث في إصلاح هذا النظام. إن فلسفة القبول والاستكانة لم تلعب دور بلسم الآلام فقط، بل شجعت احترام الإرادة الروحية التي مكَّنت البشر من احتمال الأوقات العصيبة. وعمل الاستقرار الذي كانت تفرضه السلطات على تلافي الكثير من التداعيات السيئة، لكنه إلى جانب ذلك ثبَّط التفكير الجريء، وتمخض الملل من القلق الدائم عن نوع من الكسل. في الحقيقة لا يمكن أن ندرك الصراع الذي خاضه المجددون في سبيل تجديد النظام إلا حين نطلق العِنان لمخيِّلتنا في استكشاف النظام القديم الذي سبق الرأسمالية.
لم يكتمل التحول من الاقتصاد الأخلاقي المعني بإعاشة المجتمع إلى الاقتصاد المعني بتشجيع التنمية في غضون قرن واحد. فوعي الناس في القرن السادس عشر لم يتشكل في عالم تجاري. وروح الشعب التي عبَّرت عنها تشريعات تيودور لتنظيم الأجور وإعانة الفقراء وحصاد الحبوب قامت على قناعات قوية مدعومة بأمر اللهِ آدمَ أن يعمل بعرق جبينه، وعقاب سفر عاموس لكل: «الدَّائِسُونَ عَلَى الْبَائِسِينَ.»
كانت المعالم البارزة لاقتصاد الكتاب المقدس متطابقة بما فيه الكفاية مع الأمر بالعمل في أوروبا القرن السادس عشر لفرض العقيدة التي تذهب إلى أن العالم يمكن جعله مثمرًا بالعمل، وأن العمل أتى للإنسان عقابًا وهبة على حد سواء؛ فهو هبة لأنه ربط المجتمع البشري بإحسان الرب، وهو عقاب لأن الرب سخَّر الرجل والمرأة للأبد في العمل المشترك في سبيل الحفاظ على الحياة وتنفيذًا لمشيئته. وقد أوضحت نصوص الكتاب المقدس هذا النظام الاجتماعي، وكَسَت الدورة اليومية للمهام بالمنطق الرباني. ومن ثم، إذا حدث أن وجد الأجير نفسه مسحوقًا تحت وطأة قسوة مالك الأرض، فيمكنه أن يرتاح من ألمه بأن يعتبر من الدرس الوارد في العبارات التالية المأخوذة من الكتاب المقدس: «لَا تَسْلُبِ الْفَقِيرَ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا، وَلَا تَسْحَقِ الْمِسْكِينَ فِي الْبَابِ؛ لأَنَّ الرَّبَّ يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ، وَيَسْلُبُ سَالِبِي أَنْفُسِهِمْ.»
قليل هو العمل الذي كان يمكن أن يوصف بأنه عمل خاص في حياة العمال في الريف أو الحضر. فقد كان السادة يُشرفون على الخدم، وكانت النقابات تتحكم في التجار والحرفيين، وكان يوجد المئات من هذه المنظمات المهنية الاحتكارية، لكن أعلاها مكانة كانت تلك التي تُعنى بمراقبة التجار. إن فحص قائمة بنقابات الحرفيين يماثل رؤية صورة للتصنيع عندما كان يجري بيد الإنسان وسَاعِدِه فحسب. كانت ثمة نقابات لصانعي الأحذية والخبازين والصباغين والبنائين والنجارين وحتى صانعي القرطاسية، وكانت هذه النقابات منظمة تنظيمًا صارمًا، فحمت مصالح أعضائها من المنافسة الخارجية، ونظمت الأسعار وتأكدت من مراعاة معايير الجودة. وكان الصبية يلتحقون بالتجارة متمرنين مبتدئين ثم يصيرون فيما بعدُ عمال يومية، وقلة منهم كانوا يتمكنون من إنشاء تجارتهم الخاصة. أما الفتيات فغالبًا ما كُنَّ تعملن خادمات تحت رقابة صارمة من سيداتهن. وفي أوروبا لم يكن يجري السماح لأيٍّ من هذه المجموعات بالزواج قبل النضوج وبلوغ سن العشرين.
كانت جذور هاجس الحرص على النظام في فترة ما قبل العصر الحديث نابعة من ضيق الأفق الاقتصادي الذي ساد، ولطالما كان سائدًا على مدى كل الأزمان قبل ذلك. وقدمت المخاوف من نقص الحصاد كل عام المبرر الرئيس لسيطرة الحكومة على معظم جوانب الحياة اليومية. ومضت السيطرة السياسية دون محاسبة، لا سيما في أوساط ذوي الأملاك. ولم يكن الناس ينظرون إلى محدودية إنتاج الغذاء باعتبارها مشكلة تقتضي الحل، بل كانوا ينظرون إليها باعتبارها جزءًا من النظام الكوني، وملمحًا حتميًّا غير قابل للتغيير من ملامح الحياة البشرية. وكانت الدورة السنوية للأنشطة التي أنتجت الغذاء جزءًا من دورة مقدسة من الواجبات والحقوق التي يقصد بها حماية المجتمع من المجاعة، وهي غاية كانت تتجدد أهميتها مع إحساس كل فرد بالجوع. وغالبًا ما كانت البلدان تسمى «كومنولث»؛ أي أمة، لأن الجميع كان يجمعهم هدف البقاء على قيد الحياة.
كانت القوى العسكرية — كالرومان في العصور القديمة والعرب في القرن الثامن — قادرة على دعم جيوش جرارة، لكن ذلك لم يكن لأنهم عرفوا كيفية إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام الجنود، بل لأنهم تمكنوا من الاستيلاء على المواد الغذائية جراء فتوحاتهم. وقد استخدم الإسبان قوتهم بطريقة مماثلة في القرن السادس عشر. فعندما تهددتهم المجاعة، أخذوا محاصيل الحبوب من مدينتي صقلية ونابولي اللتين سيطروا عليهما، وخلفوا الإيطاليين وراءهم فريسة للموت جوعًا. ولم ينجح أي شعب قط قبل القرن السابع عشر في تغيير النسبة المقبضة التي أشارت إلى اشتغال نحو ثمانين بالمائة من السكان في الزراعة لتوفير الغذاء لبقيتهم، وكانت الحكومة هي التي تحدد مَن سيُطعِمون الآخرين ومن سيُطعَمون.
كان الحصول على الغذاء من خلال الزراعة — على عكس الحصول على الغذاء من خلال الصيد وجمع النباتات — سببًا في إمكانية نشوء المجتمعات المستقرة قبل أربعة قرون من ميلاد المسيح؛ إذ التصق العبيد والفلاحون الأجراء والعمال بمعاولهم لأن الزراعة البدائية للمحاصيل كانت تثمر ما يكفي من الغذاء لبقائهم، وبقاء البنية الاجتماعية الفوقية التي عاشت على كد ظهورهم؛ فقد كان فائض محاصيلهم وماشيتهم يذهب لدفع نفقات الأسر المالكة والمؤسسات الدينية وتجهيز الجيوش وزمرة صغيرة من التجار والحرفيين الذين كانوا يعيشون في ثنايا المجتمع. وانبثقت الثقافة من بين القلة الحكيمة المتعلمة التي تمتعت بالقوة والموهبة على ما يبدو. لقد تمتعت مجتمعات عديدة بالازدهار في الماضي، لكنَّ أيًّا منها لم ينج من تهديد المجاعة عن طريق تحسين إنتاج زراعته تحسينًا ملموسًا.
ازدياد محتويات سلة المواد الاستهلاكية
إن عوامل الجغرافيا والمناخ ونوعية الحيوانات كانت تملي بدرجة كبيرة الأولويات في مرحلة ما قبل العصور الحديثة. كانت الحبوب واللحوم المملَّحة والخضروات الجذرية تمكن البشر من الصمود أمام فصل الشتاء في المناطق الباردة من العالم، وكانت الخراف تُذبح في فصل الربيع، بينما كانت لحوم الأبقار متوفِّرة على مدار العام. لكن هذا كان عادة ما يحدث بينما الحيوانات في سن صغيرة نسبيًّا؛ نظرا لارتفاع كلفة إبقائها حية حتى تبلغ سنًّا أكبر. وكان الصيادون الماهرون يقتنصون الطيور من السماء قبل أن تتجه صوب الجنوب. وكانت زوجات المزارعين ميسوري الحال تتمكنَّ من تحمل كلفة تدجين الأرانب والدجاج، بل وإقامة المناحل في بعض الأحيان. وكانت الأسر المحلية تعيش خلال شهر أكتوبر على ما تزرعه في أفنية البيوت من فاكهة وخضروات، ثم أمكن تحويل التفاح إلى نبيذ. ونظرًا لأن أحدًا لم يستسغ الفاكهة المملحة، وأن محاولات تجفيف الفواكه والخضروات — عدا أنواع قليلة منها — لم تنجح؛ كان كل ما يفيض عن الحاجة من الفواكه يتعفَّن بسبب ارتفاع ثمن كمية السكر اللازمة لحفظها صالحة للأكل. وكانت حبوب الشعير وحشائش الدينار تذهب لصناعة الجعة، ما لم يكن الحصاد هزيلًا؛ إذ كان القانون يتدخل حينئذٍ ليمنع بيعه لصناع الجعة. ثُمَّ بدأت محاصيل من العالم الجديد — كالذرة والبطاطس — تدخل في بعض الأطعمة الأوروبية في منتصف القرن السابع عشر. ثم عُرفت زهور عباد الشمس، التي جُلبت هي الأخرى من أراضي العالم الجديد، وانتشرت زراعتها بدءًا من منتصف القرن السادس عشر، وتحول طولها الفارع إلى مثار للمنافسة؛ فقد ذكر بستاني في إنجلترا أنه تمكن من زراعة زهرة عباد شمس بلغ ارتفاعها أربعة عشر قدمًا، لكن زهرة أخرى في مدريد تجاوزتها بارتفاع بلغ أربعةً وعشرين قدمًا. وذكر بستاني آخر من مدينة بادوفا الإيطالية أنه تمكن من زراعة واحدة بلغ ارتفاعها رقمًا يتعذر تصديقه؛ أربعين قدمًا. وبحلول القرن الثامن عشر حصل أحد الأشخاص على براءة اختراع جهاز لاستخراج الزيت من بذور عباد الشمس.
بدا كل ما في العالم الجديد غريبًا على الأوروبيين؛ إذ لم يسبق لهم قط رؤية زواحف بكبر حجم الإجوانا (العظاية الأمريكية)، ولم يشعروا بالعجب لخُلو العالم الجديد من الخيل والأبقار فحسب، بل لخلوِّه أيضًا من أي حيوانات ذات أربعٍ تفوق حجم ثعلب جزر الكاريبي. ورغم أن المستكشفين والفاتحين افتقدوا الأشجار التي اعتادوا رؤيتها في أوروبا، نالت إعجابهم النباتات المزهرة الرائعة في منطقة الكاريبي، والتي قدروا عددها في وقت لاحق بأكثر من ثلاثة عشر ألف نبتة. وازدهرت سلالات الخيول والأبقار والفئران المتطفلة في بيئتها الجديدة. وقام المغامر هرناندو دي سوتو برحلة استمرت أربع سنوات عبر الجنوب الشرقي لقارة أمريكا الشمالية، حاملًا مُؤنًا معظمها من الماشية، وقطع الرحلة مارًّا بالمناطق التي باتت تسمى الآن نورث كارولاينا وتينيسي وألاباما وأركنسو، مخلفًا وراءه عددًا وافرًا من الخنازير الأوروبية لتتناسل ويتكاثر عددها في العالم الجديد. كان الغزاة يُمنحون مساحات شاسعة من الأراضي؛ مما شجعهم على تربية الماشية، في حين أكملت الخيول رحلتها نحو الشمال، مغيِّرة من ثقافة الهنود البسطاء.
جلب كولومبوس في رحلته الثانية إلى نصف الكرة الأرضية الغربي بذورًا لجميع أنواع الفواكه والخضروات الإسبانية التي لم ير مثيلًا لها هناك خلال زيارته الأولى. وكان الإسبان هم أصحاب الفضل الحقيقي — الذي ينسب خطأ للأمريكي «جوني آبلسيد» — في سرعة تبادل الحياة النباتية والحيوانية بين العالمين؛ فقد جلبوا هم والبرتغاليون إلى أوروبا نباتات كالموز والليمون والبرتقال والرمان والتين والبلح والمكسرات، وجوز الهند الذي كان قد اكتُشف في أراضي الفلبين. وجلب الأوروبيون من العالم الجديد مجموعة كبيرة ومتنوعة من أنواع نبات القرع، فضلًا عن الكاكاو والتبغ. وعلى الرغم من أن مجموعة الخضروات والفواكه الأوروبية كانت أكبر بكثير من تلك الموجودة في أراضي نصف الكرة الأرضية الغربي، تمكن عدد قليل من محاصيل العالم الجديد — كالبطاطس والفاصوليا والذرة — من إحداث تأثير كبير على أوروبا التي كانت تعاني نقص المواد الغذائية؛ إذ أضحى من الممكن زراعة خضروات العالم الجديد هذه في الأراضي التي لا تصلح لزراعة الحبوب التي كان يعتمد عليها الأوروبيون باعتبارها مصدرًا رئيسيًّا للغذاء. على سبيل المثال، كانت الذرة تُزرع في الأراضي التي تُعَد رطبة بدرجة تجعلها لا تصلح لزراعة القمح وجافة بدرجة تجعلها لا تصلح لزراعة الأرز، بينما كانت الذرة تدر محصولًا يساوي ضعف محصول كلٍّ منهما من الفدان الواحد. وعادة ما كانت هذه المحاصيل التي أتت من العالم الجديد — والتي اختلفت احتياجاتها من حيث التربة والطقس — تمثل بوالص تأمين ضد المجاعة.
كانت البطاطس أغنى من الحبوب من حيث سعراتها الحرارية، علاوة على أنها تزدهر زراعتها في الحقول الصغيرة للغاية. والأروع أن البطاطس كانت تدرُّ محصولًا من الفدان الواحد قدر ما يدرُّه فدان القمح أو الشعير ثلاث مرات، وكان من الممكن تخزينها خلال فصل الشتاء، ولم تتطلب زراعتها مهارة كبيرة. ورغم أن البشر بطبيعتهم مناهضون بشدة لتغيير نظامهم الغذائي، وبطيئون في التحول للاعتماد على أطعمة لم يعتادوها من قبلُ مهما كانت مفيدة، أثار الحصاد السخي لنبتة البطاطس البسيطة إعجاب الأيرلنديين، الذين بدءوا زراعتها في نهاية القرن السادس عشر.
تمثل أعظم إسهامات العالم الجديد في تغذية أوروبا في محصول السكر الذي كان يُنتج في جزر البحر الكاريبي. كان كولومبوس قد جلب قصب السكر من جزر ماديرا البرتغالية خلال رحلته الثانية، وكان البرتغاليون قد نقلوا زارعة السكر من ساو تومي قبالة سواحل غرب أفريقيا إلى مستعمرتهم في العالم الجديد البرازيل في بواكير القرن السادس عشر. ونتيجة لسرعة استهلاك الذهب الموجود في سان دومينجو، تحول المستعمرون إلى إنتاج السكر باعتباره مصدر ربح أكثر ضمانًا، وساعد المسئولون عن المستعمرات الإسبانية في ذلك بتوفير قصب السكر المستخدم في غرس المحصول، والعبيد العاملين في الحقول، ونجحت زراعة القصب وازدهرت سريعًا رغم أنها من الزراعات الكثيفة التي تتطلب جحافلَ من العبيد. وكانت أولى الأمثلة على الزراعة الرأسمالية المصانعُ التي أقيمت في الحقول، والتي لم تكن معروفة في العالم الأوروبي الذي لم يكن يعرف سوى الزراعة التي يتعاون فيها أبناء العائلة الواحدة فقط. وازدادت أعمال الفلاحة — الشاقة بطبيعتها — قسوةً مع استعباد العمال وضربهم لإجبارهم على العمل بكد أكبر. حتى إن النسبة بين الجنسين في عمالة زراعة قصب السكر كثيرًا ما بلغت ٣٠ رجلًا إلى امرأة واحدة في المزرعة. وسرعان ما حقق السكر شعبيةً وانتشارًا واسعًا في أوروبا. وسرعان ما استولى الإنجليز والهولنديون والفرنسيون على جزر خاصة بهم بالكاريبي خلال القرن السابع عشر بهدف استغلالها لزراعة هذا المحصول الجديد والمربح.
نعرف جميعًا حلاوة السكر في الحلوى والكعك والبسكويت والقهوة، لكننا نُغفل تقدير الدور الحاسم الذي لعبه السكر في التأثير على النظام الغذائي الأوروبي برُمته؛ إذ لم تقتصر استعمالات السكر على استخدامه لتحلية الحلويات وزيادة سعرات الأطعمة، بل كان دوره الأهم أنه مكن الأوروبيين من حفظ الفواكه والخضروات على مدار العام. فقبل اختراع التجميد الصناعي، لم تكن توجد سوى ثلاث طرق لحفظ الأطعمة: التمليح والتقديد والتجفيف، ثم صار السكر هو المكوِّن الرئيس لحفظ الأطعمة. وقبل أن يعلن أحد الكيميائيين الألمان في القرن التاسع عشر عن طريقة لاستخراج السكر من البنجر، تعيَّن على الناس استيراد السكر من المناطق المدارية التي ازدهرت فيها زراعة قصب السكر. لقد قدَّم قصب السكر لجزر الهند الشرقية ما قدَّمه اكتشاف البترول اليوم لدول الشرق الأوسط نتيجة لندرته وارتفاع الطلب عليه؛ إذ منحها احتكارًا لسلعة استمر ازدياد الطلب عليها لقرنين.
وبينما أضافت التجارة في التوابل الجديدة والأقمشة الفاخرة والمعادن الثمينة من جزر الهند الشرقية والغربية تنوعًا كبيرًا إلى حياة الأوروبيين الموسرين؛ وجدت هذه المواد طريقها ببطء إلى خزائن طعام الرجال والنساء العاديين وموائدهم. كبرت المدن، وازدادت التجارة بين الدول الأوروبية زيادة كبيرة، لكن في المناطق الريفية ظل الرجال والنساء — بالإضافة إلى أطفالهم وخدمهم — يعملون بالطريقة التي اعتادوا العمل بها لقرون، يحرثون التربة ويقطعون الأخشاب ويربون الماشية. ولم يكن الناس هم الذين يحددون أدوراهم تلك في هذه الأنشطة الزراعية، إنما خصصت هذه المسئوليات من خلال الأوضاع الموروثة التي تنوعت بين مستأجر ومؤجِّر وساكن كوخ وعامل. واحتل توفير الغذاء والنسيج والمأوى اللازم للبقاء وقت الأسرة بأكملها في ظل تقسيم العمل المتواصل بين الجنسين تقسيمًا صارمًا. ونظمت العادات — لا الحوافز — تدفق المهام التي كانت تتبع التقويم السنوي. وإذا أضفنا القليل من الجهل والعزلة والخرافة، يمكننا أن نرى أن تغيير هذا النظام كان ليتطلب تناغمًا معقدًا بين الحافز والابتكار والصدفة البحتة.
لقد مرت مائتا عام قبل أن يزداد حجم استيراد السكر الآتي من حقول جزر الكاريبي بحيث ينخفض سعره بما يكفي لتمكين معظم الناس من شراء هذا المكوِّن الرائع؛ ففي عام ١٧٥٠ كان السكر يمثل ما نسبته ١٪ من مجمل السعرات الحرارية للنظام الغذائي للإنجليز، ومع مطلع القرن العشرين بلغت هذه النسبة ١٤٪. وأدت توقعات الأرباح المرتفعة إلى كبح أي شعور بتأنيب الضمير إزاء استعباد العمال. وأصبح السكر بندًا آخر ضمن بنود القائمة المتنامية للسلع التي ربطت بين الدول الأوروبية ضمن حلقة متزايدة النطاق من التبادلات المادية. فمن دول البلطيق كانت تأتي الحبوب والأخشاب، ومن هولندا كانت تأتي الرنجة المجففة ومختلف السلع التي يجمعها تجارها على مدار العام، ومن شبه جزيرة أيبيريا كان يأتي زيت الزيتون والنبيذ وصوف خراف المارينو الفاخر، ومن إيطاليا كانت تأتي الخمور والفواكه، ومن فرنسا كانت تأتي الأقمشة الفاخرة والخمور، ومن إنجلترا كانت تأتي الأصواف والأدوات المعدنية والمواد الغذائية. وفي ظل شبكة التجارة الدولية هذه، تمتعت الدول التي وصلت سفنها للمحيط الأطلنطي بميزة بارزة.
النمو السكاني والزراعة
حدد معدلَا المواليد والوفيات وتيرة ازدياد عدد السكان وانخفاضه؛ ففي أوقات الرخاء، كان الناس ينجبون المزيد من الأطفال، أو كانت وفيات الأطفال تنخفض. وبمرور الوقت كان تضخم الطلب الناجم عن ازدياد عدد أفراد الجيل الجديد يدفع أسعار المواد الغذائية للارتفاع، وهذا بدوره كان يشجع بعض الفلاحين على التوسع وزراعة أراض ضعيفة الخصوبة. وهكذا أدى ارتفاع الأسعار الناجم عن ارتفاع الطلب إلى تأمين الغذاء بواسطة الاستفادة من الأرض التي كانت عادةً أردأ من أن يُستفاد منها. بيد أن استخدام استراتيجية كهذه من أجل إعالة السكان الآخذ عددهم في النمو كان محكومًا عليه بالفشل؛ ففي نهاية المطاف انخفض المحصول، وباتت المجتمعات السكانية الأكبر عددًا أكثر عرضة للمجاعات. لقد مرت أوروبا — بالإضافة إلى أجزاء أخرى من العالم — على نحو منتظم بهذه الدورات من النمو والانخفاض السكاني. وكانت الأمراض أيضًا سببًا في وفاة السكان الذين كانوا في معظم الأحيان يعملون تحت وطأة معاناة الوهن جراء الجوع. وفي وقت لاحق، صارت الحروب سببًا آخر لسقوط الضحايا. وازداد الأمر سوءًا في الأوقات التي كانت فيها الجيوش تعيش على خيرات الريف؛ إذ أسفرت حرب الثلاثين عامًا — التي دارت رحاها من عام ١٦١٨ إلى عام ١٦٤٨ — عن انخفاض سكاني بلغت نسبته ٣٥٪ في ألمانيا؛ ما أنهى على نحو مباغت الزيادة السكانية التي تحققت خلال القرن السابق.
أثبتت بضع حقائق اقتصادية بسيطة صحَّتَها وسادت بلا منازع، وبات من المعروف أن وفرة المواد الغذائية تؤدي لانخفاض الأسعار، بينما نقصها يؤدي لارتفاع الأسعار، وأن ازدياد عدد السكان يُسفر عن ارتفاع الطلب الذي يسفر بدوره عن ارتفاع الأسعار، وأن انخفاض عدد السكان يؤدي إلى انخفاض أسعار الحبوب وأسعار الفدادين المزروعة على حد سواء. ونتيجة لأن المزارعين الذين عاشوا قبل العصر الحديث لم يتمكنوا من إنتاج ما يكفي من الحبوب والماشية التي تقي أُسرهم شرَّ العوز، كان شبح السنوات العِجاف يخيِّم عليهم على الدوام، فساعد ذلك على تثبيط الرغبة في الاستثمار وزيادة الاتكال على الحكام؛ إذ كان من الأفضل الحفاظ على المال تحسبًا لأوقات القحط. ومن الأفضل أيضًا ألَّا نعارض الحكام الذين يمكنهم المساعدة في الأوقات العصيبة. وكان تقلب كميات المحاصيل يجعل الناس تحت رحمة المُناخ، وفي مواقف كهذه يسود الإيمان بالقدر؛ فليس من الممكن أن يتجرد المناخ من أهميته كمسألة حياة أو موت إلا بزيادة الإنتاجية الزراعية، فعندئذٍ فقط يصير الناس على استعداد لتقبل الإيمان بقدرة الرجل والمرأة على التحكم في مصيرهما.
ونتيجة لانخفاض عدد السكان هجر الناس المناطق التي كانت مستوطنة حول الأراضي الحدودية، التي كانت قد عمرت في ظل الازدهار السكاني الذي كان موجودًا من قبل. ففي إنجلترا اختفت الحياة في أكثر من ٤٠٠ قرية وضَيعة خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر. ومع بداية القرن السادس عشر بدأت أعداد الأوروبيين تتعافى مجددًا من ضربة الطاعون الأسود. لكنها لم تتجاوز الحد الذي كانت قد وصلت إليه قبل اجتياح الوباء إلا مع منتصف القرن الثامن عشر. وعاد تأرجح النمو والانكماش من جديد؛ فالسكان الذين ارتفع عددهم خلال القرن السادس عشر، تراجع عددهم من جديد خلال القرن التالي. لكن ظهر استقرارٌ جديد خلال أربعينيات القرن الثامن عشر، ثم تحول هذا الاستقرار إلى نقطة انطلاق للنمو السكاني الذي لا نزال نشهده إلى اليوم. بعد ذلك توقف الانكماش رغم تعرض سكان أوروبا لبعض المجاعات خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر.
أثارت تبعات نظرية مالتوس الذعر؛ لأنها كانت تعني أن إنجاب الأطفال يمكن أن يمحو أي وفرة تبشر بها المحاصيل الضخمة. باختصار، أوقات الرخاء تؤدي إلى أوقات شدة. ويرى مالتوس أن إعادة التوازن بين أعداد الناس وكميات الغذاء يتطلب أن يقوم ملَك الموت بعمله عن طريق الأمراض والندرة والكوارث. كانت ردة فعل مالتوس سلبية إزاء التفاؤل الذي عَمَّ الأوساط الفكرية الأوروبية في أعقاب الثورة الفرنسية؛ إذ لم يكن يأمل أن يكبح الناس رغبتهم الملِحَّة في الجِماع. فقد أدرك أن إنجاب عدد أقل من الأطفال سيدرأ خطر المجاعة لكنه لم يكُنْ واثقًا بشأن رغبة الرجال والنساء في الحد من نسبة مواليدهم. ويرى أيضًا أنه ما من عصر تنوير من شأنه أن يعيد كتابة هذه القوانين الحتمية لنمو السكان وانخفاضهم. وقد ذكر في إصدارات لاحقة أن إنجلترا محظوظة لأن بها الكثير من الخيول (كان الإنجليز يحبون الصيد والرماية)، وهذه الخيول بمنزلة حائط صَدٍّ ضد المجاعات؛ لأنها تصلح للأكل في أوقات القحط، علاوة على ما تنتجه من سماد طبيعي يشكل ضرورة ثمينة للمزارعين.
وكحال كثير من نُذُر السوء، تبين أن مالتوس كان على حق … بشأن الماضي. فقد نشر بحثه عام ١٧٩٨ بينما كان العالم على وشك أن يشهد تطورين مثيرين ومحوريين في تاريخ الرأسمالية هما: تحديد حجم الأسرة والنمو المطرد للمحاصيل بعد قرنين من التحسينات الزراعية التي عززت بعضها بعضًا. فبحلول نهاية القرن السابع عشر نجحت إنجلترا وهولندا بالفعل في كسر القيود التي طالما كانت تحد الإنتاجية من قبل، ومع ذلك أدرك مالتوس بوضوح أن النمو السكاني كان بمنزلة نمر طليق في المجتمعات الحديثة الأولى التي تشكل مبتدأَ قصتنا. لكن أرقام مالتوس القاتمة ألهمت الشاب المعاصر تشارلز داروين فكرة بالغة الأهمية. فإذا كانت جميع الأنواع مضطرة للنضال من أجل الحصول على غذائها؛ فالطبيعة إذن قد بدأت حربًا يشنها الجميع ضد الجميع. وهذا الرأي جعل الفيلسوف الإنجليزي والمتحمس لنظرية داروين هربرت سبنسر يبتكر عبارة: «البقاء للأصلح.»
بعد الحرب العالمية الثانية، صار الباحثون مهتمين بظاهرة تذبذب سكان أوروبا زيادة وتراجعًا، لأن هذه الظاهرة بدت تحوي بعض مفاتيح «صعود الغرب». في نظر المؤرخين، كان الانتصار الأعظم يتمثل في تفسير كيف استطاعت دول الغرب أن تتحرر من أغلال الفقر والجهل وأن تمضي إلى عصر حديث من صنعها؛ عصر فصلها عن الدول الأخرى، وفصلها عن ماضيها أيضًا. لقد ركز العلماء اهتمامهم لفترة طويلة على عوامل التجارة الخارجية والنمو الحضري وتطور الصناعة لشرح تحول الغرب عن ماضيه وتفوقه على المجتمعات المعاصرة. وأخيرًا بات واضحًا أنَّ شيئًا ما كان مفقودًا في هذه القصة؛ فالأموال والعمالة ما كانت لتتحول إلى صناعة لو لم ينتج المزارعون المزيد من الغذاء اللازم لإطعام العمال والناس كافة. وهذا يعني أن التغيير — إذا كان مقدرًا له أن يكون دائمًا — لا بد أن يصل إلى قطاع الريف؛ أكثر قطاعات المجتمع محافظة وازدحامًا بالسكان.
أدى هذا الإجراء إلى اكتشاف لافت للانتباه مفاده أن غالبية الرجال والنساء في أوروبا كانوا يتزوَّجون في سن متأخرة نسبيًّا؛ ما بين ٢٦ و٢٧ عامًا للرجل، وما بين ٢٤ و٢٥ عامًا للمرأة. وهذا يشكل تناقضًا صارخًا مع سن الزواج المبكِّرة بين الصينيين والهنود، الذين كانوا يتزوجون حالما يناهزون سن البلوغ ثم ينتقل الزوجان بعد ذلك للعيش مع أسرة الزوج أو الزوجة. وحتى في جنوب أوروبا كانت العائلات الكبيرة تقطن في بيت واحد، وهذا عكس الحال تمامًا في إنجلترا، حيث كان يتعين على معظم الأزواج أن يؤسسوا بيتًا مستقلًّا كي يتمكنوا من إتمام الزواج. وهذا التقليد عمل على تقليل عدد السكان؛ لأنه إذا مر ثُلث سنوات خصوبة المرأة دون أن تتزوج فهذا يعني أنها ستنجب عددًا أقل من الأبناء. والشرط الذي يلزم الرجل بأن يتمكن من إعالة زوجته كي يُسمح له بالزواج يفسر لنا كيف استمر هذا النمط من تأخُّر سن الزواج. فحصول الزوج على قطعة أرض لزراعتها كان يعتمد عادة على وفاة الأب، وهذا واقع يربط بين معدلَي الوفيات والمواليد. لكن سن الزواج ثبتت مرونته لاحقًا. فبمجرد ظهور وظائف أخرى للرجال — بعد ظهور الصناعة — انخفض سن الزواج سنة أو سنتين، لكنه ظل أعلى بكثير في دول أوروبا من أي مكان آخر.
أوضحت هذه النتائج السبب في أن المجاعات في أوروبا لم تكن أبدًا بشراسة المجاعات التي ضربت أجزاء أخرى من العالم. وكذلك السبب في أن إنجلترا كانت أول دولة تختفي فيها ظاهرة المجاعات. وكان تأخر سن الزواج أكثر شيوعا بين الفقراء، الذين كانوا يقضون مرحلة المراهقة في التدرب على حرفة أو صنعة ما، أو في خدمة الأرض الزراعية. أما بين أبناء ذوي الأملاك، فكان الحرص على إنجاب ورثة من أجل استمرار نسل العائلة يحظى باهتمام بالغ. فكان الأثرياء يزوجون صبيانهم وبناتهم اليافعين بفضل توفر المال اللازم لدعم الشباب المتزوجين حديثًا. وكان مسموحًا للآباء أن يرتبوا لتزويج الفتيان والفتيات في سن صغيرة قد تصل إلى الثامنة أو التاسعة من العمر — وكان القانون الكنسي أيضًا يبيح ذلك — لكن هذا لم يكن النمط السائد في ذلك الوقت على عكس الاعتقاد الذي ساد طويلًا بذلك. فحالة روميو وجولييت استثناء وليست قاعدة؛ إذ كان على الأشخاص العاديين أن يأخذوا وقتهم قبل أن يتمكنوا من الزواج.
كيف قيَّدت تكاليف الغذاء التنمية الاقتصادية
في ظل عمل نحو ٨٠٪ من الناس في زراعة المواد الغذائية، لم يتبقَّ سوى قدر ضئيل من العمالة والأموال لدعم المشاريع الأخرى العديدة. وكان أي فائض يحققه المشتغلون بالزراعة يذهب إلى الضرائب التي يجمعها الحكام، والإيجارات التي يحصِّلها ملاك الأراضي، وضريبة عُشر الدخل (العشور) الخيرية للكنيسة. كان أبناء الطبقتين المتوسطة والعليا — كالمسئولين في البلاط وملاك الأراضي ورجال الدين — يتلقون دعمًا يأتي من الأموال المحصَّلة في شكل ضرائب وإيجارات يدفعها المشتغلون بالزراعة. أما البقية — من التجار والمحامين والمصرفيين والباعة — فقد كانوا يعيشون على ما ينفقه أولئك الذين يحصلون على الدعم الآتي من الضرائب والإيجارات والعشور. ولم يكن من الممكن أن تحدث أي زيادة في الطلب على السلع المصنعة أو حتى السلع المجلوبة من الأراضي البعيدة دون أن تحدث تغيرات في طريقة إنتاج الغذاء؛ لأنه لم يكن يوجد ما يكفي من المال لشراء هذه السلع. وممَّا يؤكِّد على هذا أن نسبة السكان المشتغلين بالزراعة في أوروبا القرن السادس عشر كانت تساوي نسبتهم في أوروبا إبان عهد الإمبراطورية الرومانية.
لقد حدَّت تكاليف الغذاء بشدة من حجم المبالغ المالية المتوفرة لشراء السلع الكمالية مثل المصنوعات الجلدية، ووحدات الزينة، والتوابل، وأدوات المائدة الفاخرة، والعربات والأثاث، والأقمشة، والكتب. وأدت موجات المحصول السيئ إلى ارتفاع أسعار الحبوب؛ ومن ثَمَّ إلى مزيد من الحد من عمليات الشراء. كان اللحم مثلًا يغيب عن موائد الفقراء لسنوات كاملة خلال أوقات القحط، وكان الناس يُضطرون لتأجيل عمليات شرائهم إلى حين انفراج الأوضاع؛ مما يزيد حالة عدم اليقين إزاء ما سيقوم به أولئك الذين أجَّلُوا مشترياتهم. وحتى عندما كانت الأموال تتوفر بكثرة، كانت الصناعة والتجارة تواجهان عقبة أخرى تتمثل في قلة عدد العمال المشتغِلين في المهن الأخرى غير الزراعة؛ إذ كان توسع الإنتاج يتوقف على توفر الرجال والنساء للعمل في هذه المشاريع، لكن الطلب على العمالة الزراعية كان يأتي في المقام الأول.
ترتبت على هذا الوضع عدة نتائج؛ فقد شجع الناس على الادخار لأوقات القحط، وجعل استهلاك السلع الكمالية مقصورًا على نسبة ضئيلة للغاية من أفراد المجتمع الذين يملكون دخلًا متيسرًا، وهؤلاء لم تتجاوز نسبتهم ١٥٪. وكان على المزارعين أن يتعلموا كيفية تحقيق زيادة في إنتاجية الغذاء باستغلال عدد أقل من الأيدي العاملة من أجل الخروج من هذا المأزق؛ إذ كان على الأساليب الزراعية الجديدة أن تكفل الحصول على محاصيل أكبر فأكبر لإزالة الخوف من المجاعة الذي ثبط الاستثمار في مشاريع أخرى غير الزراعة. وكان من الضروري أيضًا أن تواصل أسعار المواد الغذائية انخفاضها كي يتمكن الناس — الذين لا ينتمون للأثرياء من الطبقة الأرستقراطية وأبناء الحضر — من شراء السلع المصنَّعة والمستوردة من الخارج. وكي يزداد المشهد تعقيدًا، كان لا بد أن تبدأ هذه التغيرات — اللازمة للتخلص نهائيًّا من مشكلة الندرة — من المجتمعات الريفية التي يعرف عنها تمسكها الشديد بالتقاليد.
لا بد أن الحافز للتغيير ظهر حينما بدأت أسعار الغذاء في الارتفاع في مطلع القرن السادس عشر؛ ففي ظل ازدياد عدد الأفواه الجائعة الذي دفع أسعار الحبوب للارتفاع، صارت التحسينات التي ابتكرها الهولنديون جذَّابة على الرغم من المخاطرة التي ينطوي عليها عمل أي شيء بطريقة مختلفة. وأسفر تدفق الذهب من العالم الجديد عن قرن سادَهُ التضخم، لكن أسعار الحبوب ارتفعت ارتفاعًا أسرع من ارتفاع الدخول. وفي إنجلترا تضافر عدد من العوامل المواتية لدفع عملية إصلاح النظام الزراعي القديم. كانت العلاقة بين مالك الأرض والمستأجر هناك مرنة بحيث تسمح بتبني ممارسات جديدة؛ إذ بدأ ملاك الأرض ومستأجروها والمنتفعون بها تقليدَ التقنيات الزراعية الجديدة التي أثبت المزارعون الهولنديون نجاحها عمليًّا.
كان لنكبة الطاعون الأسود تأثير على هيكل حيازة الأراضي في جميع أنحاء أوروبا. ففي البلدان الشرقية حوَّل ملاك الأرض المستأجرين إلى عبيد أرض (أقنان)، بينما في أوروبا الغربية هربت عائلات كثيرة من نظام الإيجار تمامًا وسَعت لامتلاك أراضيها الخاصة. وفي إنجلترا كان هناك العديد من المزارعين المستقلين — فلاحين أو أصحاب حق انتفاع بالأرض — إلى جانب مستأجرين كانوا يزرعون مساحات شاسعة من الأرض. ونجح ملاك الأرض الإنجليز في إنهاء إيجارات الأراضي المنخفضة المتعارَفِ عليها، والتي كانت تدوم طوال فترة حياة المستأجر، واكتسبوا سلطة تعديل الإيجارات بما يتناسب مع مستويات أسعار الحبوب والماشية التي كان ينتجها مستأجروهم. هذا مكن المستأجرين أيضًا من التخطيط على نحو أفضل في ظل تحديد الالتزامات المفروضة عليهم. وقد عقد الكثير منهم في اتفاقات كانت تتضمن — على سبيل المثال — اشتراط تحسينات معينة في طريقة الزراعة مقابل عقود استئجار أطولَ من شأنها أن تمنحهم حق مشاركة أصحاب الأرض في الأرباح التي تتأتى من النفقات التي أنفقها هؤلاء المزارعون في هذه التحسينات من أموال ووقت. وفي فرنسا لجأ أصحاب الأراضي لتكتيكات مغايرة بغية زيادة دخولهم؛ فقد استنزفوا المستأجرين بالغرامات ورسوم الإقطاع وكثرة خدمات العمالة.
وفي أراضي منطقة دول البلطيق — أو «سلة خبز أوروبا» — شجع ارتفاع الأسعار الناجم عن الزيادة السكانية خلال القرن السادس عشر ملاك الأرض على التوسع إلى الأراضي المهملة وإنتاج المزيد من المحاصيل من أجل تصديرها. ومجددًا، أحدث النمو التفاعل المتسلسل المعتاد، حيث تؤدي زيادة أعداد العمال إلى انخفاض الأجور، وتؤدي زيادة نمو السكان إلى ارتفاع الطلب على المواد الغذائية ومن ثَمَّ ارتفاع أسعارها. انتعشت أحوال الأغنياء لفترة، لكن على المدى الطويل، لم تتمكن إنتاجية الغذاء من اللحاق بالطلب المتزايد الناجم عن ازدياد الأفواه. وخلال فترة قصيرة لم تتجاوز ٥٠ سنة، خلق ارتفاع أسعار الحبوب دافعًا لاكتشاف أساليب جديدة للحصول على محاصيل أكبر. وعلى الرغم من أن معظم أصحاب الأراضي في معظم المناطق فضلوا التمسك بأساليبهم الراسخة، آثر عدد آخر لا بأس به تجربة أساليب جديدة لزيادة المحاصيل، واضعين بذلك أوروبا على مسار تغيير نظامها الزراعي.
إن توفر مصدر طبيعي للمياه جعل المزارعين الأوروبيين في غنى عن الاعتماد على نُظُم للري كتلك التي كان يعتمد عليها المزارعون في الصين وفي الشرق الأوسط؛ فقد كان حفر القنوات وبناء السدود والسواقي من أجل الري عملًا مكلفًا لم يكن يقدِر عليه سوى الحكومة والفئات الميسورة في المجتمع. ولعل هذا هو الذي قصر عدد المجددين المحتملين على المسئولين أو الأغنياء الذين كانوا في أغلب الأحيان أشد أعضاء المجتمع محافظة؛ فقد كانوا يملكون أكبر الاستثمارات في ظل الوضع القائم. ومع ذلك، تمتعت أجزاء من الصين بالنمو وازدياد الثروة معًا لفترة طويلة إلى أن تغلب نمو عدد السكان على قدرة الأرض الصينية على تلبية حاجاتهم في منتصف القرن الثامن عشر.
التحسينات الزراعية الهولندية
صارت المقاطعات الهولندية المتحدة — على الأرض التي انتزعت أثناء التوغل في أراضي بحر الشمال — أعجوبة أوروبا، لا سيما بعد أن أمنت استقلالها عن إسبانيا بنهاية القرن السادس عشر. كان الهولنديون يصطادون أطنانًا من أسماك الرنجة من البحار التي احتضنت شواطئهم، وأنشئوا أضخم أسطول تجاري في العالم لشحن هذا المصدر الرائع للبروتين الثمين إلى جيرانهم الأوروبيين. وفي مقاطعات الفلاندر استصلح المزارعون الأراضي البور التي كانت عادة أراضيَ رملية لا تصلح لزراعة الحبوب، وزرعوا فيها الكتان والقنب الذي تستخدم أنسجته لصناعة الخيش، وكان هذان المحصولان ينتجان الكتان والحبال (علاوة على مخدر الماريجوانا)، وامتازت مخلفاتهما بأنها أغصان ليفية كان يجري تقليبها مع التربة أثناء الحراثة بغية زيادة كثافة التربة الرملية وزيادة إنتاجيتها. وفي المناطق الأخرى جفف الهولنديون المستنقعات لتوفير مزيد من الفدادين الصالحة للزراعة، وأجرَوُا التجارب على البرسيم — النبات المألوف للبشر منذ القدم — فأثبتت الملاحظة الدقيقة أن البرسيم يخلِّف النيتروجين في التربة، شأنه في ذلك شأن جميع النباتات البقولية. وأصبح اللفت أيضًا محصولًا جديدًا، يزرع في الصيف ويمكن تخزينه لفصل الشتاء من أجل إطعام الماشية، وأدى هذا الابتكار إلى ماشية أسمن وسماد أكثر لتغذية التربة الجائعة.
لم تكن الزراعة عاليةَ الإنتاجية بالمرة في جميع أنحاء العالم نتيجة لأن الحصاد كان يستنزف خصوبة الأرض. وكان العلاج التقليدي للتربة المنهكة هو إراحتها بعدم زراعتها لفترة إلى حين استعادة خصوبتها مجددًا، لكن هذا كان يتطلب ترك ثلث الفدادين أو ربعها دون زراعتها والاستفادة من إنتاجيتها. وكان الفلاحون يستعيدون خصوبة التربة المنهكة أيضًا بأن يضيفوا لها النيتروجين الذي كان مصدره الرئيسي روث الحيوانات؛ مما يعني ضرورة علف الحيوانات كي تظل حية وتتغوط. لكن هذا الحل كان يستحوذ على مساحات أكبر من الأرض كان من الأفضل أن تُستغل في إنتاج الغذاء. إن التخلص من مشكلة تدهور خصوبة التربة هذه تطلَّب حُزمة من الممارسات التي يعزز بعضها بعضًا، ولحسن الحظ، كان الهولنديون لعقود طويلة يُجرون التجارب على التحسينات الزراعية الممكنة.
أدرك بعض المزارعين في هولندا أنهم يستطيعون نبذ الطريقة القديمة التي كانت تتبع في العصور الوسطى، حينما كان المزارعون يتركون ثلث الأرض الزراعية كل عام دون زراعة بُغية إراحتها واستعادة خصوبتها. وبدلًا من اتباع دورات إراحة الأرض لجئوا إلى تقسيم الأرض إلى أربعة أقسام، تتناوب عليها في كل موسم زراعي أربعة محاصيل، هي الحبوب واللفت والتبن والبرسيم. ولم تسفر هذه التقنية عن زيادة الفدادين المزروعة بمقدار الثلث فحسب، بل أيضًا كان البرسيم الذي يُثري التربة بما يخلفه فيها من بقايا نيتروجينية يُستغل بعد حصاده لعلف الماشية؛ وبذلك حلت حلقة النمو المثمِرة محل حلقة التدهور المفزعة. وحين تجاوب بعض مُلَّاك الأرض والفلاحين مع إمكانية زيادة الإنتاجية، كانوا بهذا يتخذون أولى الخطوات الدائمة على طريق التخلص من اقتصاد الندرة القديم.
حَذَا المزارعون الإنجليز حذو نظرائهم الهولنديين ونجحوا في جعل قاعدتهم الزراعية تكفي لإطعام أعداد أكبر فأكبر من السكان باستخدام قدر أقل من العمالة والاستثمار. فبعكس هولندا، تمتعت إنجلترا بمساحة جيدة من الأرض الصالحة للزراعة التي أتاحت زراعة الحبوب اللازمة لإطعام السكان وعلف ماشيتهم، في حين لم يكن الهولنديون يتمكنون من إنتاج ما يلزمهم لإعاشة السكان على مدار العام بأكمله. صحيح أنهم استغلوا الأرباح التي كانوا يحققونها من التجارة لتخزين الحبوب، لكن برنامج الإنقاذ هذا بات يزداد كلفة أكثر فأكثر.
وبينما قلد بعض المزارعين الإنجليز التقنية الهولندية لدورة تناوب المحاصيل الزراعية الأربعة، تبنى آخرون تقنية تناوب زراعة محاصيل الحبوب ومحاصيل العلف. كانت هذه التقنية الأخيرة تتضمن أن يزرع الفلاح أكثر مساحات الأرض خصوبة لمدة ثلاث سنوات أو أربع، ثم بعد ذلك يتركها للرعي لمدة خمس سنوات تالية، وخلال تلك السنوات الخمس تعمل المحاصيل المنتجة للنيتروجين جنبًا إلى جنب مع روث الماشية على استعادة التربة خصوبتها اللازمة لزراعة محاصيل الحبوب من جديد. كان هذا يشبه النظام الهولندي في أنه لا يلجأ لأسلوب إراحة الأرض بعدم زراعتها، بل كانت الأرض دومًا تُزرع بمحصول ما، سواء لغذاء الإنسان أو لعلف الماشية، ولم يكن يُترك أيٌّ من عناصر الحقل دون الاستفادة منه على نحوٍ ما، ولا أيٌّ من الأيدي العاملة دون مهامٍّ إضافية. استلزمت هذه الابتكارات يقظة المزارع نظرًا لخصائصها المتشابكة. وقد لجأ الإنجليز والهولنديون على حد سواء إلى غمر المروج بهدف تدفئة التربة في الشتاء ومد أمد موسم الزراعة. وفي غضون قرن واحد أسفرت جميع هذه التحسينات عن رفع نسبة العائد إلى البذور، ونسبة العائد إلى العمالة، ونسبة العائد إلى الأرض. أو بعبارة أخرى: أدت إلى الحصول على محاصيل أكبر من عدد أقل من الفدادين والأيدي العاملة والبذور.
تطلب فعل الأشياء بأسلوب مختلف — عندما يتعلق الأمر بعصب الحياة — شجاعةً وسعة خيال واهتمام بالتفاصيل. وفي الحكاية المألوفة — والساذجة إلى حد ما — للتقدم، يسود الافتراض بأن كل ما تطلَّبه إحداث التغيير كان مزج الفرصة مع الدافع البشري الفطري لتحسين الذات. وبعد ذلك يغتنم الناس — كما يذهب هذا الافتراض — هذه الطرق البارعة لتحقيق الرخاء في المناطق الريفية. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا كانت الأسر الزراعية التقليدية تفكر مثلما يفكر أصحاب رأس المال المغامرون اليوم. لكنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، وكانت هناك عوامل عديدة منعتهم من القيام بذلك؛ فالتجديد يثير خوف أولئك المعتادين على اتباع العرف، والمجازفة قد تصنع الفرق بين توفير الاكتفاء من المواد الغذائية أو عدم توفيره.
ثمة عامل آخر عمل في اتجاه معاكس لهذه التقنيات الجديدة: أن الإيقاعات الحيوية للرجال والنساء في فترة ما قبل العصر الحديث لم تكن معتادة على العمل المتواصل؛ فقد اعتاد الناس معاناة العوَز إلى جانب مشقات أخرى كثيرة، لكنهم لم يعتادوا بذل المزيد من الجهد في العمل لفترات طويلة من الوقت يومًا تلو الآخر؛ فالبشر بطبيعتهم لا يعملون لساعات طويلة. صحيح أن زراعة محاصيل الحبوب بالطريقة القديمة كانت تتطلب جهدًا مكثفًا في بذرها وحصادها، لكن بين هذين الموسمين كان يوجد الكثير من وقت الفراغ. وحتى التقويم المسيحي يشجع أيام الراحة، لا سيما مع احتوائه على عشرات وعشرات من أيام الأعياد والمناسبات الدينية، التي يقرب عددها من مائة يوم إذا تضمنت أيام الآحاد على مدار العام الواحد. إن العمل الشاقَّ قدرة يجب تنميتها، عادة من خلال التدريب الصارم منذ مرحلة الطفولة المبكرة. وقد يتأتى ذلك من خلال الخوف من العقاب إلى جانب الرقابة الدائمة على تغيير العادات، لكن هذا لا يحدث إلا ببطء. من الواضح أيضًا أن بعض الناس أكثر تأقلُمًا مع العمل الشاق من سواهم. لكن الأمر الذي بات بالغ الأهمية للخروج على النظام الزراعي القديم كان إتاحة الفرصة لأولئك المستعدين لبذل المزيد من الجهد في استخدام أساليب جديدة. إلا أن وجود ما يطلِق عليه الاقتصاديون الفاعلَ الاقتصادي الرشيد لم يكن أمرًا ذا معنى في نظر مُلَّاك الأراضي أو المستأجرين عندما كان هناك الكثير من الأساليب التقليدية لإنفاق المال، وعندما فاقت المجازفة المكاسب.
المطورون الزراعيون الإنجليز
إن الموجة الجديدة للتحسينات جعلت إنجلترا تتخطى ظاهرة تعاقب السبع سنوات السمان والسبع سنوات العجاف؛ إذ باتت المكاسب مضمونة ولم تصطدم بالعقبات المعتادة التي تعوق التغير الدائم. وعلى مدار الثلاثة قرون ونصف القرن التالية انخفضت نسبة العاملين بالزراعة في شمال غرب أوروبا من ٨٠٪ إلى ٣٪ من إجمالي السكان. وقد تمكن فريقان في إنجلترا من التحرر من القيود المؤسسية التي تثبط التغيير إلى حد بعيد؛ فقد نجح مُلَّاك الأراضي من المزارعين وغير المزارعين في إحلال إيجارات تعبِّر عن أسعار السوق محل نظام الإيجارات المنخفضة الثابتة المتعارف عليه. كان هؤلاء هم المجددين في الأغلب، لكن كان على ملاك الأرض هؤلاء أن ينجحوا في العثور على مستأجرين متعاونين؛ نظرًا لأن قليلًا من الملاك فقط هم من كانوا يزرعون أرضهم بأنفسهم. وقد تنوعت مساحات الأراضي المملوكة للنبلاء والأرستقراطيين في جميع أنحاء إنجلترا إلى حدٍّ كبير، كما تفاوتت قدرات ملاك الأراضي على دفع مستأجريهم لتنفيذ إصلاحات زراعية. وكان قليل من النبلاء أيضًا يكرهون الإلحاح على مستأجريهم من أجل تنفيذ أي تحسينات إلى درجة أنهم تحولوا إلى مجالات اقتصادية أخرى كالاستثمار في تعدين المناجم. لقد نجح المطوِّرون — من كلا الفريقين: ملاك الأراضي من المزارعين وغير المزارعين — في السيطرة على نسبة ٦٠٪ من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة في إنجلترا، أما النسبة الباقية فكانت ملكًا للمَلك وملاك الأراضي الذين كان مستأجروهم يدفعون إيجارات ثابتة، وملاك الأراضي الذين لم يرغبوا في إصلاح أراضيهم، وساكني الأكواخ الفقراء.
استطاع المطوِّرون من الفريقين زيادة ممتلكاتهم من الأراضي من خلال شراء الأراضي التي كانت تُطرح للبيع عقب وفاة مُلاكها أو نتيجة لمرورهم بأزمات مالية؛ فقد كانوا قادرين على أن يتجاوبوا سريعًا مع الحوافز التي تتمثل في فرص الأسعار المغرية نتيجة لأنهم كانوا ميسورين بما يكفي لتمكينهم من المراهنة على مكاسب التغيير؛ فقد جلب لهم نجاحهم الناجم عن التحسينات الأموال اللازمة لشراء المزيد من الأراضي، وشاركت الحكومة أيضًا في تشجيع التحسينات الزراعية، ومنحت الخبراء رواتب كي ينشروا زراعة النباتات النافعة ويشرحوا للمزارعين كيفية زيادة محاصيلهم، وصارت كتب الإرشاد الزراعي تصدُر في طبعات رخيصة ومتوالية في نفس الوقت الذي بدأت فيه نسبة الأميَّة تنخفض في المجتمع. وعلى المدى الطويل، أدت الأرباح الناجمة عن إجراء التحسينات إلى تقليص الشعور بالمجازفة في نفوس أولئك الذين اكتفوا بالمشاهدة من بعيد؛ مما أزال إحدى العقبات التي كانت تعترض سبيل التغيير.
لا تتيح لنا السجلات أن نعرف أي الفريقين — ملاك الأراضي من المزارعين وغير المزارعين — لعب الدور الأبرز في تحويل الزراعة الإنجليزية من زراعة معنية في الأغلب بتوفير الغذاء وتابعة لنظام قروي إلى نظام مَزَارِعَ خاصة تساير متطلبات السوق. ونظرًا لأن مساحة الأرض لم يكن لها تأثير على مدى قابلية تبني التقنيات الجديدة، فربما يجدر أن نتحول إلى بحث الخصائص الشخصية والثقافية التي دفعت إلى التجديد. تذكُرُ كتب الإرشادات الرومانية أن أفضل سماد للأرض يتمثل في دبيب حذاء صاحب الأرض، وقد كرر كتاب القرن السابع عشر هذه المقولة المستهلكة مرارًا وتكرارًا. وإذا كانت هذه العبارة صحيحة، فهي إذن ربما كانت تمنح ميزة لمالك الأرض الذي يزرعها بنفسه يتفوَّق بها على مالك الأرض الذي يؤجِّرها لآخر، والذي كان يتعين عليه حث مستأجره على تعلُّم مهارات زراعية جديدة. فالمدير بالغُ الكفاءة كان ذلك الذي يستطيع ادِّخار كل فضلات الحيوانات، وتحويل حقوله من الرعي إلى الزراعة، وتناوب زراعة محاصيل الحبوب، وزراعة المحاصيل التي تحسِّن خصوبة أرضه كالبرسيم مثلًا، وغمر الحقول، والتأكد من قيام أبنائه وخَدَمه بمهامهم المختلفة على أكمل وجه.
نبعت أكبر القوى الدافعة لتبني التحسينات الجديدة من نجاح هذه التحسينات البارز في إنتاج محاصيل أكبر، ونظرًا لما حققته من نتائجَ لعب روادها الذين كانوا موزَّعين في أنحاء الريف دور العوامل الحفازة للتغير. وسرعان ما أدى الإقلاع عن تقنية إراحة الأرض إلى زيادة رقعة الأراضي المزروعة. وبمجرد أن استثمر عدد كافٍ من الأشخاص مواردهم في تلك التحسينات المنتجة، دفعوا الآخرين لأحد خيارين: أن يحذوا حذوهم أو يتكبدوا الخسارة. وعلى الرغم من أن زيادة المحاصيل عجلت بانخفاض أسعار الحبوب، فإن المطورين ظلوا يحققون الربح لأنهم كانوا ينتجون أكبر كمية من المحاصيل، بينما واجه مُلَّاك الأرض والفلاحون — الذين لم يعززوا خصوبة أراضيهم أو لم يطبقوا أساليب زراعية أكثر فعالية — خروجهم من دائرة المنافسة في السوق نتيجة لاستمرار انخفاض الأسعار. وهكذا خلقت آليات السوق رويدًا رويدًا قوة دافعة نحو إجراء التحسينات.
صار الانقسام الأشد وضوحًا في مناطق الريف بين أولئك الذين تبنوا التحسينات وأولئك الذين لم يفعلوا ذلك، سواء أكانوا فلاحين أو مستأجرين أو ملاك؛ فالانقسام لم يكن بين ملاك الأرض ومستأجريهم. علاوة على أن المصلحة الشخصية لم تمارِس تأثيرًا ثابتًا في هذا الأمر؛ ففي أوقات التغيُّر الجذري يكون من العسير على أي شخص أن يعرف أين تكمُن مصلحته تحديدًا. لكن السوق قست على الذين أرادوا الوقوف دون حراك؛ إذ عملت آليات سعر السوق على مكافأة بعيدي النظر والمطوِّرين، ومعاقبة من قاوموا التغيير أو من لم يتكلَّفوا عناء التعرف عليه. لا شك أن المستقبل دائمًا ما يكون غامضًا، واعتماد الرأسمالية على القرارات الفردية زاد صعوبة تصوُّرِ تطوراتها في المستقبل؛ بحيث لم يكن من الممكن معرفة النتائج التي يمكن أن يُسفر عنها تراكم تلك القرارات الفردية.
أعتقد أن عكس النظرية الماركسية هو الصحيح؛ أي إن العلاقات الاجتماعية الجديدة كانت هي النتيجة لتحول الزراعة الإنجليزية، وليست المتسبِّبة فيها. لقد حدثت التغيرات نفسها على مدى خمسة أو ستة أجيال من التجريب والمقاومة، كان الوقت خلالها يمر بطيئًا، مبرزًا النجاحات والإخفاقات إبرازًا عشوائيًّا في كل طبقات المنظومة الزراعية القديمة، بدءًا من ساكني الأكواخ الفقراء إلى مُلَّاكِ الأرض الأثرياء. ولا شك أن الابتكارات أعادت توزيع الدخل الناجم عن النشاط الزراعي؛ فقد زادت أرباح الذين طبَّقوها وقللت عائدات مُلَّاكِ الأرض والفلاحين والمستأجرين الذين لم يفعلوا ذلك. وعمل هذا التسلسل البطيء من التطورات على إعادة ترتيب بنية مئات المجتمعات الريفية.
لقد سقطت عائلات أرستقراطية عديدة جرَّاء المديونية العارضة أو التصفية الاضطرارية الكاملة للممتلكات. وفقد المستأجرون الذين لم يكن لديهم عقود إيجار مضمونة ممتلكاتِهم. وهكذا، كان سوء الحظ أو المرض أو غياب التخطيط يستطيع دفعهم إلى صفوف ساكني الأكواخ — الذين لم يمتلكوا سوى منزل وقطعة أرض صغيرة — أو إلى ما هو أسوأ، إلى صفوف عمال التراحيل. وتشير السجلات إلى أن بعض الملاك المتصرفين في الأرض انتعشت أحوالهم رغم أن أعدادهم كانت تتناقص خلال القرن السابع عشر، وارتقى أكثرهم نجاحًا إلى طبقة النبلاء، في حين فقد آخرون منهم ملكيتهم المستقلة تمامًا. لقد عملت السوق بطريقتها الموضوعية والقاسية قسوة واضحة على زيادة أعداد الأغنياء والفقراء على حد سواء، وتغيير مجموعة الخيارات المتاحة أمام الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى.
تعمير مدفع إطلاق الرأسمالية
لم يقتصر تأثير التقنيات الزراعية المحسَّنة على زيادة المحاصيل فحسب، بل إنها قلبت النظام الزراعي القديم رأسًا على عقب، وحل الإنتاج الموجَّه للسوق — بكل ما تطلبه من تعديلات عملية — محل حالة من الاستقرار تسترشد خطاها من التقاليد والأوضاع الموروثة. والشيء الذي كان ماركس وأتباعه محقُّون بشأنه هو إجماع طبقة جديدة من المُلَّاكِ على استغلال نفوذهم وأموالهم لتأمين سياسات تخدم مصلحتهم. لكن من قبيل المفارقة أن بات يُنظَر إلى عملية إعادة ترتيب المجتمع المعقدة هذه باعتبارها عملية طبيعية، وتحول جزء من حملة التحسين التي قادها ملاك الأرض لتحرير أنفسهم من القيود التقليدية — ممثلة في القوانين التي تحارب الاحتكار والاستحواذ وتكديس السلع — إلى كلام بلاغي منمق، وبدأ المتجادلون والمؤلفون يتحدثون عن الإنتاج الموجَّه للسوق بوصفه نظامًا طبيعيًّا يتعارض مع التدخلات السياسية.
كان لاستمرار الحصاد الوفير تأثير فكري آخر؛ فقد جعل الناس يستطيعون الشعور بأنهم أقل رهبة من التغيير، وأقل خضوعًا للطبيعة، وأقل ميلًا لقبول السلطة. ولعلنا نستطيع أن نعبِّر عن ذلك على النحو التالي: في حالات الطوارئ يكون طابعنا النفسي مختلفًا، ونتيجة لشعورنا بالقلق والخوف، نقبل سلطة الزعيم، ونفعل ما يُملى علينا. وقد عاشت مجتمعات ما قبل العصر الحديث يلازمها دائمًا شعور الترنح على حافة كارثة، لكنَّ تلاشي هذا الخوف مهَّد الطريق لتوقعات أكثر تفاؤلًا بشأن المستقبل، وتقديرات أكثر إيجابية للقدرات البشرية؛ فخفَّف ذلك على الرجال والنساء قليلًا.
بحلول منتصف القرن السابع عشر، استقرت أعداد السكان والأسعار في إنجلترا، قبل أن تبدأ موجة صعود أخرى بعد عام ١٧٣٠. كان سكان العالم يزدادون ويقلون على مدى ثلاثة آلاف سنة، لكن بدءًا من القرن الثامن عشر استمرَّ الازدياد إلى يومنا هذا. وخلافًا لنمط الأكورديون السابق الذي ميَّز التأرجح بالزيادة والنقصان في عدد سكان أوروبا، وضعت الزيادة السكانية هذه المرة قاعدة جديدة للنمو في المستقبل، بحيث تشكل كل مجموعة من السكان منصة تنطلق منها أعداد متزايدة أكثر وأكثر. وكان من الطبيعي أن تشهد الموارد الغذائية نقصًا حادًّا بين الحين والآخر، لكن العكس هو ما حدث؛ إذ ازدادت الموارد بحيث تكفي لإطعام مستويات جديدة من أعداد البشر. ففرنسا — التي حكمها لويس الرابع عشر عام ١٧٠٠ وكانت تحوي عشرين مليون نسمة — صارت تحوي أربعين مليون نسمة عام ١٩١٤، وازدادت أعداد الإنجليز بوتيرة أسرع. وفي المستعمرات الإنجليزية الواقعة في أمريكا الشمالية — محطة تجميع فائض الرجال والنساء الآتين من شمال غرب أوروبا — تضاعف عدد السكان كل خمسة وعشرين عامًا أو نحو ذلك.
نحتاج إلى إلقاء نظرة أخيرة على العالم الزراعي التقليدي من أجل فهم سبب الغضب الذي أثارته الممارسات الزراعية الجديدة. كانت الزراعة تنظم حول القرى التي كان معظمها يحوي حقولًا مفتوحة مشتركة وقطاعات واسعة من الأراضي التي استطاع القرويون زراعتها وحصدها. صحيح أن كل قروي كان يزرع أرضه الخاصة، لكن القرارات بشأن ميعاد الزرع، وميعاد الحصاد، وميعاد تنظيف التربة من فضلات المحصول كانت تُتخذ جماعيًّا، وكان المتخاذلون والمستهترون يشتركون مع البارعين والمجتهدين في شبكة المسئوليات عينها، وكان الريف أيضًا حافلًا بسكان الأكواخ الذين كانوا يملكون فدانًا أو اثنين لزراعة المواد الغذائية وتربية الدواجن، وكانوا يتمكنون من التيسير على أنفسهم قليلًا من خلال العمل في مزارع الآخرين، مثلما كان يفعل الخدم العاملون بعقود سنوية وعمال اليومية. ومع بداية القرن السادس عشر، حلت زراعة الأرض الخاصة إلى حد كبير محل زراعة الحقول القديمة المفتوحة، دون الاكتراث للقانون، لكن النموذج القديم ظل قائمًا باعتباره النموذج المثالي.
وبينما واصلت أسعار المواد الغذائية ارتفاعها، زادت جاذبية دمج بقية القطاعات المفتوحة في مزارع خاصة مستقلة. ونظرًا لأن الحكومة كانت تفعل كل ما في وسعها للاستثمار بهدف الحيلولة دون نقص الغذاء، فقد تطلبت مثل هذه «التسييجات» تشريعات برلمانية. وتعبِّر كلمة «تسييجات» عن تخصيص الأراضي التي كانت مفتوحة من قبلُ. وخلال النصف الأول من القرن السادس عشر، حينما كانت أسعار الأصواف مرتفعة، حوَّل بعض ملاك الأرض الإنجليز أراضيهم الصالحة للزراعة إلى مراعٍ للأغنام؛ فأدت هذه التسييجات إلى حرمان المستأجرين من حيازاتهم، فصاروا بذلك مثل «العاطلين» الذين كانوا يجوبون الطرقات بحثًا عن عمل وطعام إبان العصر الإليزابيثي. ورغم ما أثاره هذا النظام من استنكار وانتقاد، ظل قائمًا إلى أن انخفضت أسعار الأصواف مرة أخرى. لكن التسييج الذي شاع خلال القرن السابع عشر بهدف تحديد مساحة خاصة لزراعة الحبوب أسفر عن تأثير اجتماعي مختلف عمَّا حدث في القرن السادس عشر. ففي واقع الأمر، خلقت هذه التسييجات وظائف وأنتجت مزيدًا من الغذاء، ومن ثَمَّ لم تشكل مصدر قلق لمسئولي الحكومة، بل تبين أنها إدارة مُثلى للأراضي الزراعية، وصارت تشكِّل الأساس الذي انبثقت منه جميع الأنشطة الاقتصادية الأخرى.
أوجدت الأعمال المنسقة من حراثة وإزالة أعشاب ضارة وجني في الحقول المشتركة أنماطًا للعمل واللعب والاحتفال الذي عزَّز الحياة المشتركة للقرية، في حين فصل نظام التسييج كل شخص عن هذه الشبكة من الالتزامات والأنشطة المجتمعية؛ لأنه سمح للأفراد بتنظيم مواردهم الخاصة وجلَب في أعقابه مزيدًا من التفاوت بين الفقراء والأغنياء؛ فتلاشى الشعور بالمصير المشترك حينما أصبح المنتجون الرئيسيون عائلات منفردة، لا مجموعة من القرويين الذين ينسقون دورة مهامهم الموسمية.
وعلى عكس تغيرات أخرى عديدة، كان التماسك والتكافل الذي ميَّز الحقول التي كانت مفتوحة من قبلُ ظاهرةً واضحة ومثارًا للتعقيب. ففي نظر علماء الأخلاق، كان المجتمع الزراعي جديرًا بالبقاء لأنه يلقِّن الرجال والنساء واجباتهم بعضهم تجاه البعض. لكن بحلول منتصف القرن السابع عشر، تحدى المؤيدون للتقنيات الزراعية الجديدة هذه الحجة تحديًا قويًّا؛ فقد كانوا مولَعِين بإنتاجية الحبوب التي تحققت بعد أن تمتع المزارع بالمرونة بحيث يتمكن من زراعة أرضه بالحبوب أو تركها لرعي الماشية، وغمر حقوله، واتباع دورة المحاصيل التي تناسب أرضه، إلا أن أطراف الجدل أثاروا قضايا مختلفة؛ فعُقدت المقارنة بين الإحسان إلى الفقراء وغرس الحب الأخوي وبين استخدام ذكاء المرء وبصيرته وانضباطه وفطنته للاستزادة من هبات الطبيعة.
لم يكن الرجال والنساء الإنجليز يدركون أنهم عبروا حاجزًا فصلهم عن ماضيهم وعن أي مجتمع معاصر آخر، لكنهم أدركوا ذلك لاحقًا. فبعد منتصف القرن السابع عشر لم تَعُد المجاعة تشكل تهديدًا لهم، لكن ظل سوء التغذية المزمن شائعًا بين نسبة اﻟ ٢٠٪ الأقل دخلًا من بين سكان أوروبا، ولم تختفِ هذه الظاهرة تمامًا على مدى قرن آخر. إن الإنتاجية الزراعية — فضلًا عن توفُّر القوة الشرائية لجلب المواد الغذائية من مناطق أخرى في حالة حدوث النقص — قضت على أحد فرسان الخراب الأربعة في جميع ربوع إنجلترا. وهكذا اختفى سبب قوي للإبقاء على النظام الاجتماعي الصارم دون أن يلاحظ الكثيرون، مخلفًا وراءه مجموعة القواعد الاجتماعية التي سيُكتشف تقادُمُها تدريجيًّا فيما بعدُ. وفي الواقع، ما من شيء آخر كان ليميِّز إنجلترا، التي كانت آخر مجاعة تعرضت لها في عام ١٨١٩، هذا التميز الهائل عن بقية أوروبا ولا عن بقية بلدان العالم التي لا تزال تعاني نقص الإمدادات الغذائية.
ولم تختلف الأحوال في فرنسا — حيث كان يتناهى إلى أسماع الفلاحين هناك أخبار عن التحسينات الزراعية والتربة والمناخ في هولندا — إذ لم يجرِ تنفيذ أي تحسينات مماثلة على مدى قرن آخر. وعمل الانخفاض السكاني الناجم عن نكبة الطاعون الأسود على زيادة قوة تمسك الفلاحين بأراضيهم، لكنهم كانوا خاضعين لأعباء تشريعية عديدة. وحين بدأ عدد السكان يزداد في القرن السادس عشر، أدت زيادة عدد الورثة الأحياء إلى تقسيم أرض العائلة، وأدى تجزؤ الحيازات هذا إلى دخول العائلات في صراع بقاء على عدد قليل جدًّا من الفدادين، علاوة على أن فرنسا كانت تفتقر إلى شيء كان متوفرًا في إنجلترا، وهو وجود شبكة من الأنهار والقنوات تفيد في نقل شحنات الحبوب. بدلًا من ذلك، كان الريف الفرنسي مغطًّى بمتاهة معقدة من الامتيازات الإقطاعية (على الممرات والجسور)؛ ممَّا زاد صعوبة نقل السلع من منطقة إلى أخرى، إلى حد أنه كان من الممكن أن يشارف الفرنسيون على الموت جوعًا في منطقة من مناطق البلاد على الرغم من توفر الحبوب بكثرة في منطقة أخرى.
إن القدرة على إطعام المزيد من الناس بأسعار أقل وبأيدٍ عاملة أقل حررت العمال للاشتغال في مهن أخرى، ووفرت مزيدًا من الأموال في جيب كل شخص بحيث يتمكن من شراء الأواني الخزفية وأدوات المطبخ والمنسوجات القطنية الهندية والكتب، ومجموعة كبيرة من المصنوعات الجلدية من الأحذية إلى سروج الخيل. فعندما تحوَّل الفلاحون الإنجليز من إنتاج ما يكفي لإطعام ست عائلات أخرى إلى إنتاج ما يكفي لإطعام ثلاثين، حققوا انقلابًا مذهلًا في الإنتاجية، علاوة على أن الزيادة المطردة في كميات الغذاء منحت الناس معيارًا جديدًا للشعور باليقين والثقة. وبعد انقضاء جيل دون حدوث أية مجاعات، تمكن المنفقون والمستثمرون من نبذ الحذر المصحوب بالخوف وبدءوا يتجرءون على المجازفة بمدَّخَراتهم في القليل من المغامرات. ما من علاقة مباشرة بين زيادة فعالية الزراعة والابتكار الهندسي للماكينات الحديثة التي أذنت ببدء عصر جديد للتصنيع. صحيح أن الثورة الزراعية لم تتمكن من إنتاج الاختراعات الحيوية للتصنيع، لكن ما من شك أنه من دون محاصيلها السخية كانت تلك الاختراعات ستصبح مقصورة على ذلك الجزء المحدود من الاقتصاد، والذي لم يكن مكرسًا لزراعة المواد الغذائية اللازمة لبقاء الجميع.
وعلى عكس الخطى المتسارعة التي ميزت حركة التجارة من قبل، أدى إنتاج مزيد من الغذاء بقدر أقل من الأموال وعدد أقل من الأيدي العاملة إلى تحرير الموارد الحيوية للأفراد، ورأس المال الضروري لمختلف الأنشطة الاقتصادية الأخرى التي كان يستحيل تصورها من قبل. فمِن بين جميع ثورات القرون الحديثة، كانت الثورة الزراعية هي الأعمق تأثيرًا. ومع ذلك، كثيرًا ما يُستهان بهذه الثورة في الدراسات؛ نظرًا لأنها لم تكن واضحة وضوح تجارة التوابل والخزف والمنسوجات الخلابة، أو مبهرة شأن الماكينات التي أعلنت «صعود الغرب» وقوته الصناعية.
ظلت حياة القرية على حالها بالنسبة لأولئك الذين ورثوا أماكن آبائهم، لكن كثرة الأشقاء أفقدتهم تلك الأدوار المحددة في الحياة؛ فانطلقوا في الطرقات، بعد أن تبدلت أحوالهم بفعل تغيرات لا رجعة فيها؛ بحثًا عن عمل في البلدات المجاورة، أو عن الغابات والمروج البكر حيث قد يتسنى لهم ادِّعاء ملكيتها بوصفهم أول من ارتادها. وأدى ازدياد التسويق الزراعي إلى زيادة عدد الرجال والنساء العاملين باليومية، الذين بمجرد استئصالهم من النظام الزراعي القديم فقدوا وضعهم في القرية واضطروا إلى الانضمام إلى فئة العمال في المجتمع المتمدن، حيث الزبائن قليلون والوظائف غير مضمونة؛ فأصبح بعضهم جزءًا من قوة عمال التراحيل الموسمية، وانتقل كثير منهم للعيش في لندن، حيث استطاعت قلة منهم بلا شك الحصول على فرصة من الفرص التي توفرت جراء التجارة الناضجة والتصنيع المتطور. وارتحل آخرون في بحث دائب عن عمل، يقتفون أثر التوسع الاقتصادي.
ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، صار من الممكن تقسيم إنجلترا بين أولئك الذين أقصتهم تغييرات القرن وأولئك الذين ظلوا على حالهم، وكانت تجربتهم تلك نذيرًا لما يخبئه المستقبل لفلاحي أوروبا بأسرها في العقود التي تلت ذلك؛ إذ سيعبر ملايين الرجال والنساء المحيط الأطلنطي لتأسيس نقطة انطلاق أوروبية في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، بينما سيصبح إخوانهم وأخواتهم جزءًا من طبقة عمال بازغة. وفي الوقت الحاضر، لا تزال المجاعات تذكِّرنا بالتحدي الصعب المتمثل في ضرورة تغذية المجتمع، وتجعلنا أيضًا ندرك كيف استطاعت ثورة زراعية أن تجعل الرأسمالية ممكنة.