وجها الرأسمالية في القرن الثامن عشر
كانت هناك مصانع في الحقول قبل أن تظهر المصانع المسقوفة. وكما هي حال النفط في القرن العشرين، لم يكن بالإمكان إنتاج السكر سوى في مناطق قليلة مميزة؛ كالبرازيل وجزر الكاريبي. وكالنفط أيضًا، كان السكر يحظى بالطلب في كل مكان؛ فدفع إغراء الأرباح التي تأتي من زراعة هذه السلعة الثمينة منافسي إسبانيا الأوروبيين إلى الأجزاء الاستوائية من العالم الجديد، حيث طوروا نوعًا كثيفًا من الزراعة، مستخدمين عمالة العبيد. وعلى مدى ثلاثين عامًا، شُحن أحد عشر مليون أفريقي على متن السفن كالماشية إلى نصف الكرة الأرضية الغربي. وعلى الرغم من أن إنجلترا هيمنت على التجارة إبان أوج ازدهارها في القرن الثامن عشر، شاركت فرنسا والبرتغال وإسبانيا والدنمارك وهولندا في الاتجار بالبشر. وهذا هو وجه الرأسمالية القبيح الذي ازداد قبحًا من خلال التبريرات السطحية التي قدَّمها الأوروبيون ليبرروا سخرة الرجال حتى الموت. يقولون إن النفاق هو الإجلال الذي تظهره الرذيلة للفضيلة. وفي هذه الحالة، خلف النفاق إرثًا مريرًا. ولتلطيف حدة وخز الضمير إزاء هذا الظلم العظيم، عقد الأوروبيون مقارنات عنصرية بغيضة مدت في عمر العبودية لما يزيد على القرن.
تزامن الفصل الأكثر إشراقًا — بل والأكثر إثارة للدهشة — في تاريخ الرأسمالية مع الأيام القاسية لمزارع السكر. بدأ ذلك في القرن الثامن عشر، حين اكتشف سلسلة من الرجال البارعين كيف يمكن جعل القوى الطبيعية تدفع، وتضخ، وترفع، وتدير، وتبرم، وتصهر، وتطحن كل أنواع الأشياء. لم يكن هناك أي تفكير في استيراد العبيد إلى بريطانيا العظمى، لكن أجور العمال المرتفعة مثلت حافزًا رائعًا دفع لإيجاد مصادر بديلة للطاقة.
وهذا أعطى دفعة للمخترعين الذين بدءوا ملحمة تكنولوجية لم يَزِدها مرور الزمن إلا تسارعُا. وبناء على تجارب القرن السابع عشر العلمية فيما يتعلق بالهيدروليات (علم السوائل المتحركة) والهيدروستاتيكا (علم توازن السوائل)، صمَّم هؤلاء المهندسون الرواد عبيدًا آليين، أو آلات استطاعت استغلال الطاقة. وعززت الحسابات العبقرية لإسحاق نيوتن — حول كيفية عمل الجاذبية على إبقاء الكواكب في أماكنها — احترامًا جديدًا للعقل البشري. وكما كتب شاعر القرن الثامن عشر ألكسندر بوب:
ثم أثبت توماس نيوكمن، وريتشارد أركرايت، وجيمس واط أن بإمكان أشخاص عاديين اقتباس الشرارة الأولى من نيوتن وبناء محركات تستطيع أن تعمل بجهد يفوق بكثير جهد البشر وحيواناتهم.
قد لا تبدو هاتان الظاهرتان — المزارع الأمريكية التي اعتمدت على عمالة العبيد، والبراعة الميكانيكية المتمثلة في ضخ الماء وصهر المعادن وتزويد مصانع النسيج بالطاقة — مترابطتين؛ فضلًا عن أننا بالطبع نكره ربط العبودية بإنجازات نظام قام على مشاريع حرة، لكن لا بد من الاعتراف بأنهما استجابتان توأمتان لمارد الرأسمالية الذي هرب من مصباح التقاليد إبان القرن السابع عشر؛ فكلٌّ منهما تمثل خروجًا جذريًّا على الممارسات السابقة. فعلى مستوى الزراعة مثلًا، لطالما كان زرع المواد الغذائية هو مهمة الفلاحين في كل البلدان، وكان عمل الفلاحين شاقًّا ومذلًّا، ومع ذلك قامت العائلات التي كانت مغروسة في العادات القروية بمهام متنوعة تتعلق بزراعة المواد الغذائية وتجهيزها. أما مزارع السكر فكانت ظاهرة جديدة خلت من التقاليد القروية، واستخدمت العمال الذين سيقوا من أوطانهم ليعملوا كالآليين، في ظل أنظمة ذات طابع عسكري؛ كي يزرعوا محصولًا جديدًا واحدًا.
لقد غيَّر اكتشاف طاقة الوقود الحفري للأبد علاقة البشر ببيئتهم الطبيعية. لم تكن مَلَكة الابتكار شيئًا جديدًا، لكن قوة البخار كانت كذلك؛ فقد تمكَّن البشر من قبلُ من اختراع آليات متقنة من دواليب مائية وطواحين هوائية ونوافير ومنافيخ وأسلحة نارية وسدود، لكنهم لم يسبروا أبدًا من قبلُ أسرار الفيزياء، أو يبتكروا طرقًا لاستغلال هذه الأسرار في تسخير قوى الطبيعة. وهكذا أحدث مقدار القوة التي بات من الممكن توليدها — فضلًا عن تعدد الاستخدامات التي يمكن استغلال هذه القوة فيها — تحولًا في عمليات الإنتاج في كل مكان. علاوة على أن القدرة على توليد أرباح — كتلك التي تتأتى من زراعة السكر — تفسر سبب استثمار الوقت والمال اللذين كان الناس على استعداد لإنفاقهما في تطوير قوة البخار. ورغم أن الزراعة والصناعة تطلبتا تركيزًا لرأس المال، كان استصلاح أرضٍ ما كي تصبح مزرعة سكر جديدة يكلف أكثر بكثير من إقامة مصنع قطن. أصبح هذا الاستثمار الرأسمالي الملمحَ الرئيسي للنظام الاقتصادي الجديد، وربما ما كان يمثل أهمية أكبر بالنسبة للرجال والنساء العاملين في ذلك الوقت، أن كلًّا من مصانع الحقول والمصانع المسقوفة وضعت أنظمة عمل تطلَّبت ساعات طويلة من الشغل المنضبط. صحيح أن أرباب العمل كانوا دومًا يفضلون العمل الشاق على عادات الاسترخاء والراحة، لكن استثمارهم الكبير في العبيد والمعدات حول هذا التفضيل إلى ضرورة حتمية.
خلقت الحرب المستمرة بين القوى الأوروبية حلقة مفرغة؛ فالدول المتحاربة كانت بحاجة إلى الثروات التي تستمدها من آسيا والعالم الجديد لدعم حروبها. لكنَّ التنافس الحامي على السيطرة على هذه الأنواع من التجارة المربحة كان يزيد نار العداوة اشتعالًا. تواجهت فرنسا وإنجلترا في خمس بقاع مختلفة حول العالم: للتنافس على القطن والحرير في الهند، وعلى العبيد في الساحل الغربي لأفريقيا، وعلى مزارع السكر في منطقة الكاريبي، وعلى التحالفات مع الهنود الحمر في وادي نهر أوهايو في أمريكا الشمالية، وعلى الفراء في منطقة خليج هدسون. وقد علَّق الروائي الأمريكي جيمس فينيمور كوبر على هذا التنافس تعليقًا طريفًا في روايته «آخر رجال الموهيكان» حين ذكر أن الجيشين الفرنسي والإنجليزي في أمريكا الشمالية كانا مُضطرَّين إلى السفر لمسافات بعيدة كي يحارب أحدهما الآخر.
كان السكر أحد الكنوز الكبرى الأولى للرأسمالية، فضلًا عن أن نجاحاته أظهرت قدرة حافز الربح على التغلب على أي عوائق ثقافية تحول دون الاستغلال الشَّره. كانت العبودية شيئًا قديمًا؛ فعبيد المصريين بَنَوا الأهرام، وعبيد الرومان شيدوا الجسور والقنوات المائية، لكن ما أضافته الرأسمالية إلى العبودية تَمثل في الوحشية المتواصلة والمنظَّمة في مجال صناعة السلع على مستوًى لم يسبق له مثيل. ليس الحجم وحده هو ما يميز العبودية الحديثة عن سالفتها القديمة في اليونان وفي العصور التوراتية، بل العِرق أيضًا؛ فالعبودية قديمًا كانت في كثير من الأحوال تحوي مكونًا عرقيًّا نظرًا لأن العبيد كانوا يُؤخَذون أسرى حرب، لكن الحرب لم تكن عنصرية دائمًا. وحينما جلَب البرتغاليون إلى وطنهم الأفارقة الأسرى للعمل في لشبونة التي لم يكن يسكنها أحد بدءًا من القرن الخامس عشر، لم تكن هذه التجارة تختلف كثيرًا عن تجارة العبيد التي كان العرب يمارسونها لعدة قرون من قبلُ على امتداد وسط أفريقيا وشرقها. لكن بعد مائة سنة لاحقة، أضيف شيء جديد إلى هذه التجارة بالبشر: هو أن العبيد صاروا يُدمجون في نظام إنتاج متوسع؛ إذ كان أولئك الذين يرسَلون إلى منطقة الكاريبي يُخصَّصون للعمل في جماعات لغرس قصب السكر، وإزالة الأعشاب الضارة، وجني الحصاد، وسحق القصب في المطاحن التي كانت تنتج الدبس والسكر. وقد عمل حجم التجارة تحديدًا على تشجيع الحرب في أفريقيا بهدف تلبية الطلب الجديد على العبيد.
قنع الإسبان — الذين كانوا أول من وصل من الأوروبيين إلى العالم الجديد بحثًا عن الذهب والمجد — باستخدام السكان الأصليين للعمل لديهم. وقد قام الأوروبيون بذلك فعلًا أينما استطاعوا، لكن هذا لم يكن ليفلح مع السكان الأصليين للعالم الجديد، الذين كانت مناعتهم ضعيفة على نحو استثنائي ضد الأمراض الأوروبية؛ فقد كانوا معزولين للغاية عن بقية سكان العالم إلى درجة أن فصائل دمائهم كانت تختلف عن فصائل دماء الآسيويين، والأفارقة، والأوروبيين، الذين امتزجوا على مدار قرون عديدة. فأسفر اندماج العالَمَين القديم والجديد دون قصد عن إبادة جماعية، حينما لقي أفراد قبيلة تلو الأخرى من قبائل نصف الكرة الأرضية الغربي مصرعهم جراء الإصابة بالأمراض التي جلبها الأوروبيون معهم، ولم يبقَ من السكان الأصليين سوى «بقايا لإنقاذ السلالة» في الأمريكتين الشمالية والجنوبية.
يقدر علماء الديموغرافيا التاريخية أن عدد سكان العالم الجديد قبل وصول الأوروبيين كان يتراوح بين ٩٠ إلى ١١٠ مليون نسمة، كان يعيش منهم ١٠ إلى ١٢ مليون نسمة في شمال المكسيك، ثم عملت أمراض الحصبة والجدري والتهاب الغشاء البلوري وحمى التيفوس والزحار والسل والدفتيريا على محو قبائل كاملة عن بَكْرة أبيها. وأدى تكرار التعرض لأمراض جديدة إلى غربلة السكان الأصليين فانخفض عددهم إلى عُشر العدد الأصلي؛ إذ كان الناس يمرضون ويموتون بسرعة مذهلة. وفي ظل عدم معرفة مسبِّب المرض — إذ لم تُعزل الجراثيم حتى حلول القرن التاسع عشر — لم يتمكن أحد من فهم الظاهرة. وظل الهنود الحمر يعانون معاناة نفسية عميقة وهم يشهدون موت ذويهم وبقاء غُزَاتهم على قيد الحياة. وكان الأوروبيون — الذين لم يقلوا جهلًا بالمسبب عن الهنود — يميلون لرؤية أن العناية الإلهية هي التي حَبَتهم بالنجاة ودمرت أعدائهم الوثنيين.
مصدر جديد للعمالة
تعديات على البحيرة الإسبانية
لم يكن تعظيم الربح باعتباره ضرورة رأسمالية أكثر وضوحًا في أي مكان من وضوحه في حالة اكتساح السكر مستعمرات أوروبا في العالم الجديد. كان كولومبوس قد حمل فسائل قصب السكر إلى منطقة البحر الكاريبي في رحلته الثانية. وكانت السلطات الإسبانية في الوطن الأم تشجع زراعته. لكن المستعمرين أنفسهم كانوا أكثر اهتمامًا بالمعادن الثمينة، فكان البرتغاليون هم من أظهروا الأرباح التي يمكن استدرارها من غلي قصب السكر بمجرد توفير العمال القادرين على القيام بهذا العمل الشاق. وقد شكلت زراعة السكر في جزر ماديرا وساوتومي للبرتغاليين نموذجًا ملهمًا لتأسيس المزارع في العالم الجديد. وعلى مدى ما يزيد على ثلاثة قرون، استوردت البرازيل نحو أربعة ملايين عبد، وهذا كان يفوق عدد العبيد في أيٍّ من المستعمرات الأوروبية الأخرى، ويزيد على ثلث مُجمَل عدد العبيد الذين جرى إرسالهم للعالم الجديد؛ ومن ثَمَّ، لا عجب في أن البرازيليين لم يتبادر إلى ذهنهم أي شيء آخر سوى رغيف سكر حين رأوا الجبل المخروطي القابع عند ميناء ريو دي جانيرو (كان البرتغاليون هم أول من أطلقوا هذا الاسم على ذلك الجبل بسبب الشبه الشديد بين شكله المخروطي وشكل حاويات تخزين السكر المخروطية، ولا يزال الاسم باقيًا حتى اليوم).
التزم الهولنديون بالتركيز على التجارة، وأرادوا موطئ قدم في المستعمرات الإسبانية؛ فتحول تجار شركة الهند الغربية الهولندية من القرصنة إلى التهريب ثُمَّ أخيرًا إلى احتلال جزيرة كوراساو جنوب البحر الكاريبي قبالة سواحل فنزويلا عام ١٦٣٤. وبالقرب من كوراساو كان يوجد أيضًا مصدر للملح، وهو مضاف غذائي ثمين وضروري لتجارة الرنجة الهولندية. كانت الشركة قد أسست بالفعل هولندا جديدة في قارة أمريكا الشمالية حينما اشترت مانهاتن مقابل بضائع تبلغ قيمتها نحو ٢٤ دولارًا تقريبًا. لكن كوراساو التي تحوي ميناءً طبيعيًّا صارت مركزًا لتجارة العبيد الهولندية. ومن خلال هذه البوابة المؤدية إلى المستعمرات الإسبانية الرئيسة، دخل الهولنديون المنافسة على الأزينتو الإسباني.
لم يكن الإسبان يعيرون اهتمامًا كبيرًا لجزر الأنتيل الصغرى، التي يطلق عليها جزر ويندوارد وجزر ليوارد، الواقعة على بعد ٥٠٠ ميل شرق مركز قيادتها في سان دومينجو وقرطاجنة. وكان من بالغ سعادة الإنجليز والفرنسيين أن يستولوا على هذه الجزر؛ فقد استقر الفرنسيون في جزر المارتينيك وجوادالوب، واستقر الإنجليز في جزر سان كريستوفر، وباربادو، وأنتيجوا، ومونتيسيرات، ونيفيس. وبدأ رواد المشاريع الإنجليز زراعة التبغ في جزرهم مستعينين بعمال سخرة من البيض بعقود مؤقتة، لكن العمال البيض كانوا سببًا في ظهور مشاكل اجتماعية، فضلًا عن أن المعروض منهم لم يكن مضمونًا. وحينما كانت عقودهم تنتهي خلال أربع أو خمس سنوات، كان يتعين منح الرجال والنساء المنتهية عقودهم أرضًا أو عملًا؛ لذلك كان العبيد الأفارقة قوة عمل أكثر جاذبية بكثير، طالما يمكن زراعة محصول وتصديره بما يغطي أسعار شرائهم، فظهرت زراعة السكر على الساحة.
كانت فرنسا أغنى بلدان أوروبا وأكثرها قوة، لكن رواد المشاريع الفرنسيين كانوا مضطرين للسجال مع نظام ملكي مستبدٍّ وفاسد، كان استغلال السلطة فيه يهدد أمان استثماراتهم. وبدلًا من وجود سوق موحدة في فرنسا، كانت الطرق الداخلية للتجارة الفرنسية مثقَلَة برسوم كان يتعين دفعها على الطرق والجسور، في الوقت الذي كان فيه معظم فلاحيها يفتقرون إلى المهارات والاستثمارات اللازمة للزراعة على نحو منتج. ومع ذلك، تعلَّمَ الفرنسيون كيفية إنتاج السكر في العالم الجديد، وارتفعت العائدات ارتفاعًا هائلًا خلال القرن الثامن عشر، لكنها لم تصل سوى إلى مجموعة صغيرة من المستثمرين ذوي الحظوة. وبفضل الضرائب الباهظة المفروضة على مزارع السكر في العالم الجديد تمكَّن النظام الملكي الفرنسي من تأجيل أزمة مالية حتمية حتى نهاية القرن.
بنهاية القرن السادس عشر، تحول مركز تكرير السكر في أوروبا من أنتويرب إلى لندن، وتراجعت صناعة السكر في صقلية بحيث باتت تلبي الطلب المحلي فقط، ودخل الإنجليز تجارة العبيد بشركة احتكارية، الشركة الملكية الأفريقية. لكن بحلول نهاية القرن السابع عشر، كان زمن الاحتكارات قد ولَّى؛ فقد زادت شكاوى التجار قوة، وباتت التجارة مفتوحة على مصراعيها، وصارت مدينة ليفربول مركزًا لهذه التجارة في بريطانيا شأنها في ذلك شأن مدينة نانت في فرنسا. خلال أوج ازدهار تجارة العبيد عام ١٧٩٠ كانت سفينة عبيد تغادر من أيٍّ من الموانئ الإنجليزية كل يومين. وبعد أن ضمنت إنجلترا عقد الأزينتو الإسباني عام ١٧١٣، هيمنت على تجارة العبيد لمدة قرن، إلى أن وضع المصلحون الإنجليز حدًّا لهذا المشروع الكريه.
العبيد في المستعمرات الإنجليزية في الأمريكتين
عندما أدَّى تحسُّن الظروف الصحية إلى انخفاض معدل الوفَيَات الذي كان مرتفعًا من قبلُ في فيرجينيا، أصبح شراء العبيد أفضل من استئجار عمال الخدمة البيض، وباتت فيرجينيا تحظى بصفوة من أصحاب المزارع؛ رجال يملكون الموارد اللازمة لإقامة مزارع يزرعها العبيد. وفي الوقت نفسه، بدأ الوطن الأم تجارة عالية الربحية من تصدير التبغ إلى القارة. وحينما اشتكى أحد رجال الكنيسة في فيرجينيا من نقص رجال الدِّين فيها، لم يلقَ سوى التوبيخ من جانب المدعي البريطاني العام الذي رد طلبه إقامة معهد ديني «لإنقاذ أرواحهم» قائلًا: «أرواح! اللعنة على أرواحكم، فلتنتجوا التبغ.» وسرعان ما ارتفعت نسبة السكان السود التي كانت تبلغ ١٠٪ خلال العقد الأول من القرن الثامن عشر إلى ٤٠٪. وبحلول ذلك الوقت كانت البحرية البريطانية ترافق إلى الوطن في كل عام قافلة سفن مكونة من ٣٠٠ سفينة. وفي غضون ذلك انتقل السكان الأكثر فقرًا من الساحل إلى السهول، في ميريلاند ونورث كارولاينا، أو إلى الوديان الداخلية حيث تمكنوا من الزراعة على نطاق أصغر، مخصصين فدادين قليلة لزراعة التبغ بهدف كسب ما يلزم لشراء الأغطية والمعدات والأدوات المنزلية.
وحينما أسفر الاستقلال الأمريكي عن نهاية للمعونات البريطانية التي كانت مخصَّصة لدعم التبغ والأرز وصبغ النيلة، كان الجنوب الأمريكي محظوظًا بما فيه الكفاية حين اكتشف محصولًا مربحًا آخر هو القطن. وبفضل محلج القطن الذي اخترعه إيلي ويتني عام ١٧٣٩ أمكن تحقيق الربح من القطن قصير التيلة الذي كان من الممكن زراعته في جميع أنحاء المنطقة. وسرعان ما انتشر محصول القطن إلى الغرب في ولايات ألاباما ومسيسيبي ولويزيانا، مرسخًا العبودية في اقتصاد الدولة الجديدة. وبحلول عام ١٨١٥ كان أصحاب المزارع في الجنوب يرسلون ١٧ مليون بالة من القطن إلى مصانع لانكستر ومانشستر. وبحلول عام ١٨٦٠ ارتفع هذا الإجمالي إلى ١٩٢ مليون بالة، وتضاعف عدد السكان العبيد أربع مرات وبلغ نحو أربعة ملايين نسَمة من الرجال والنساء والأطفال السود.
نظام عمل تطلب تبريرات
إن استمرار العبودية لما يزيد على الأربعة قرون أمر يسترعي اهتمامنا؛ فكيف سمحت الثقافة الأوروبية بفظائع كتلك التي ارتُكبَت ضد الأفارقة فضلًا عن الشعوب الأصلية للأمريكتين الشمالية والجنوبية؟ عن نفسي، أظن أن مستوى القسوة في كل مكان في العالم في ذلك الوقت كان يجعل العبودية أقل إثارة للاستغراب. فعلى سبيل المثال، أحد التقارير البرلمانية للقرن التاسع عشر يصف ببرود تفوُّق الفتيات المراهقات على البغال في مهمة جر عربات الفحم عبر الممرات الضيقة للمناجم. إن القسوة التي تعرَّض لها الرجال والنساء الأفارقة عكست بعضًا من المعاملة القاسية التي يلقاها كل من حكم عليهم القدر بالتبعية، ثم هناك أيضًا تلك القدرة المدهشة للبشر على تبرير ما يريدون فعله.
دائمًا ما يسود منطق «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، كما هو الحال بالنسبة لرَدِّ فعلنا إزاء تضور الملايين جوعًا اليوم. كانت نسبة ضئيلة فقط من الأوروبيين هي التي على علاقة مباشرة بالعبودية. ولعل هذا يبرِّر سبب قلة قسوة العبودية في الجنوب الأمريكي، حيث كان السيد والعبيد يعيشون جنبًا إلى جنب. كان الحال في أمريكا البريطانية على العكس من أمريكا اللاتينية — التي كانت تحوي الكثير من الخلاسيين والميستيزو (وهو العرق الناتج من تزاوج الأوروبيين، لا سيما الإسبان، بالشعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية) — إذ أصبح العرق هو الحجة التي تمسَّك بها المدافعون عن العبودية لتسويغ شرعية امتلاكهم الرجال والنساء في عبودية أبدية.
أحدثت الرأسمالية منعطفًا في العلاقات بين الأعراق على نحو بالغ القبح، والسبب في ذلك واضح وغامض في آنٍ واحد. فقد بدأت الرأسمالية كنظام للإنتاج، تدفعه رغبة شرهة في الربح، وصارت كل الأماكن التي تحوي موارد طبيعية حول العالم مصدر جذب للمستثمرين. وقد استطاع هؤلاء الأوروبيون حمل رءوس أموالهم معهم، لكنهم لم يستطيعوا حمل الرجال والنساء العاملين اللازمين لاستخراج تلك الموارد البعيدة أو زراعتها. وبدلًا من ذلك كانوا مضطرين للاعتماد على عمال المناطق التي تحوي هذه الموارد، بمعنى حشد الآسيويين والأفارقة أو سكان أمريكا الأصليين؛ أي كل البشر الملونين. كان رواد الأعمال الأوروبيون ينظمون العمل في الخارج بما يخدم مصلحتهم، وكان ذلك يتأتى عادة بمساعدة الملوك المحليين الذين جرت رشوتهم. ونظرًا لأن الأوروبيين كانوا يحكمون على العمال وفقًا لسرعتهم في التأقلُم على عادات العمل التي وضعوها، فإن هؤلاء العمال كانوا عادة ما يوسمون بعدم الكفاءة. وقد حفلت خطابات الأوروبيين إلى الوطن بأمارات الامتعاض من كسل أولئك العمال — الذين كان الأوروبيون يعتمدون عليهم لإنجاز العمل — فضلًا عن عاداتهم القذرة.
إن تبريرات العبودية تنبهنا إلى وخز الضمير الذي كان يخيم على النظام. في بعض الأحيان يظهر العلماء الآراء الأوروبية المجحفة في حق الأفارقة على أنها أسباب تؤيد الاستعباد، لا أعذار يمكن الاعتماد عليها في تبرير الحقيقة. فبمجرد أن ثبتت العبودية أقدامها، وُجدت كل الدوافع للحط من شأن الأفارقة. فقد أثارت بشرتهم السوداء صورًا وعبارات تحقير مرتبطة بالسواد، مثل: الشيطان الأسود، والسوق السوداء، والوغد الأسود. بالإضافة إلى الدخول في حلقة منطقية مفرغة؛ إذ إن السمات الشخصية البغيضة — البلادة والفظاظة والكسل واللامبالاة — التي طبعتها العبودية في نفوس الأطفال وآبائهم كانت نفس السمات التي استُغِلت لتبرير العبودية. وبنهاية القرن الثامن عشر، كان هناك التزام جديد في أوروبا بالحرية والمساواة يدين سخرة العبيد، ورغم ذلك لم تنتهِ العبودية تمامًا حتى عام ١٨٨٨؛ إذ كانت البرازيل آخر بلد غربي يلغي العبودية، ولم يرغب أحد في التحدث عنها. وقد علق أحد مؤرخي القرن العشرين على ذلك ساخرًا بأن ذكر تجارة العبيد لم يَرِد في كتب تاريخهم إلا عند الحديث عن إلغاء الرق.
ثمة شيء واحد يمكن قوله على وجه اليقين: إن استخدام عمالة العبيد لم يُسفِر عن تطورات اقتصادية مستدامة في أمريكا الجنوبية وفي جزر الهند الغربية وفي أمريكا الجنوبية، ولا حتى في أفريقيا نفسها؛ فقد تدهور نظام العبودية عبر المحيط الأطلنطي بنفس السرعة التي ازدهر بها. وكآثار أقدام على الرمال، اختفت بنية تصنيع السكر المعقَّدة برُمتها بعد إلغاء الرق. صحيح أن العبودية استمرت زمنًا أطول في الولايات المتحدة، لكن الحكاية عينها تكررت؛ فقد كانت القيمة السوقية للعبيد الأمريكيين قبيل الحرب الأهلية تبلغ نحو ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغ يفوق قيمة كل التصنيع والسكك الحديدية في الولايات المتحدة. لكن بعد أربع سنوات، صار الجنوب في حالة من الخراب؛ إذ أسفر الضرر الذي خلَّفته الحرب والاحتلال العسكري الذي استمر اثني عشر عامًا إلى إضعاف اقتصاد الجنوب لفترة طويلة، حتى تطبيق «الصفقة الجديدة».
الاختراعات الصناعية
تعيدنا نهاية نظام العبودية عبر المحيط الأطلنطي إلى فصل آخر من فصول القرن الثامن عشر يتعلق بتاريخ الرأسمالية، وهو الفصل الذي وقعت أحداثه في إنجلترا حين أحدثت البراعة التكنولوجية تحولًا في عالم العمل. ثَمَّةَ دعابةٌ تقول إن أفضل طلاب الدراسات العليا فقط هم من يقال لهم إنه لم تكن هناك ثورة صناعية. إن مشكلة مفهوم الثورة الصناعية تكمن في كلمة «ثورة»؛ إذ توحي هذه الكلمة بحدوث تغيير جذري على نحو فجائي، لكن ذلك التغيير الجذري لم ينطبق سوى على بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر؛ لأن الابتكارات الصناعية التي يشملها مسمى «الثورة» استغرق تصوُّرها وتصميمها واختبارها وتعديلها ما يزيد على قرن، شأنها في ذلك شأن ما حدث من قبلُ في حالة الثورة الزراعية. فضلًا عن أنه انقضى وقت طويل قبل أن تُستخدم الماكينات الجديدة في الغزل والنسج وصنع أدوات المائدة وتصنيع الطوب والحديد ونقل البضائع والأشخاص عبر السكك الحديدية والمياه.
من الأفضل استخدام مصطلح «التطور الصناعي» للتعبير عن نشوء الآلات المصمَّمة للقيام بالعمل الضخم بدلًا من الرجال والنساء، وبهذا ستكون التعبيرات التي نستخدمها في الحديث عن تطور البشر مثل: «العمل الثابت لقوانين الطبيعة» و«التكرار» و«التغيرات العشوائية» و«المخلفات» و«البقاء للأصلح» ملائمة أكثر في هذه الحالة؛ فجميع المفاهيم التي تعبر عنها المصطلحات السابقة تضافرت في إتمام صنع المحرك البخاري. وكحال التطور، لم يكن تسلسل الخطوات المؤدية إلى إتمام أيٍّ من الآلات هو التسلسل الأمثل، بل استغرق التوصل للنماذج المقبولة ما يكفي من الوقت. وبما أنني أشك كثيرًا في أن يحظى مصطلحِي «التطور الصناعي» بالانتشار، فإنني سأستخدم مصطلح «الثورة الصناعية»، آملةً أن يتذكر قرائي أن وتيرة إحداث تحول في عالم العمل كانت وئيدة ومتزنة.
كان كل تغير في النظام السياسي الأوروبي مشجعًا للصناعة؛ فقد تحولت أنماط التجارة من المتاجرة فيما بين الدول الأوروبية إلى المتاجرة مع المستعمرات نتيجة للمنافسات الشرسة بين بريطانيا وفرنسا خلال القرن الثامن عشر. ودفع هذا الدول إلى تشجيع معالجة المواد الخام محليًّا، حيث يجري ذلك بعيدًا عن المنافسين وفي الوقت نفسه يخلق الكثير من فرص العمل في تكرير السكر ولف التبغ. كانت المستعمرات مصادر مثالية للمواد الخام فضلًا عن الزبائن الجيدين للسلع المصنَّعة. وكانت المستعمرات مضطرَّةً غالبًا إلى إطاعة القوانين التي تفرضها الدولة الأم، وكانت القوانين الإنجليزية للملاحة تفرض أن يتم شحن السكر والتبغ إلى بريطانيا العظمى مباشرة، كما يجب تنزيل أي بضائع قد تستوردها المستعمرات من أوروبا في الموانئ البريطانية أولًا قبل مجيئها. كان البريطانيون قد قلَّلُوا وارداتهم من الكتان من ألمانيا ووارداتهم من النبيذ من فرنسا؛ فصار شراب «البورت» هو الشراب المفضَّل نتيجة لأن العلاقات الدبلوماسية بين بريطانيا والبرتغال كانت جيدة على نحو استثنائي. وبطبيعة الحال ردت دول أخرى على تلك الإجراءات بتشريعاتها الحمائية الخاصة. هذه كانت السياسات التي انتقدها آدم سميث في «ثروة الأمم»؛ فمن واقع حساب كلفة الحفاظ على المستعمرات البريطانية، ذهب سميث إلى أن أفضل الشركاء التجاريين لبريطانيا هم أقرب جيرانها.
عززت تطورات اقتصادية عديدة فرصة حدوث ثورة صناعية، على الرغم من أن أيًّا منها لا يمكن اعتباره سببًا في حد ذاته. فالظروف تمكِّن المسببات من إحداث التغيير، لكن الظروف نفسها لا تستطيع أن تتسبب في أي شيء. كانت التغييرات الزراعية الجذرية أول وأهم هذه المسببات؛ لأنها قللت عدد الرجال والنساء الذين كانوا يعملون بالزراعة إلى النصف؛ من ٨٠ إلى ٤٠٪. ورغم أن البريطانيين والهولنديين كانوا منذ وقت طويل يصنِّعون بأساليب مبتكرة، إلا التصنيع ظل جزءًا ثانويًّا من الاقتصاد إلى أن تمكنوا من تحسين إنتاجية مزارعيهم. وفي نهاية المطاف، أصبح فائض العمال من مناطق الريف الإنجليزي يشكل طبقة العمال «البروليتاريا» في عصر الصناعة. ولم يتوقف الأمر عند حد تحرُّر العمال من الاشتغال بالزراعة، بل انخفضت النفقات أيضًا، محررة الأموال اللازمة للاستثمار في أوجُهٍ أخرى ولشراء بضائع أخرى خلاف المواد الغذائية. لقد أسفر قرن من التجارة المربحة عن ازدياد رأس المال وانتشاره في جميع أنحاء أوروبا.
وعلى نحو أكثر تحديدًا، لعبت حقيقتان اقتصاديتان في إنجلترا دورًا رئيسيًّا في استحداث أجهزة من شأنها توفير الأيدي العاملة، وهما: الأجور المرتفعة، وكلفة الفحم الرخيصة للغاية. يبدو ارتفاع الأجور في إنجلترا مخالفًا للمنطق في ضوء كثرة عدد الرجال والنساء الذين لم تعُد هناك حاجة لعملهم في الحقول. ومع ذلك، كانت أجور العمال الإنجليز أعلى من أجور نظرائهم في أي مكان آخر في أوروبا، وأعلى بكثير من أجور العمال في أنحاء أخرى من العالم. وهذا يمكن عزوه إلى ثبات النمو السكاني في إنجلترا خلال القرن السابع عشر وإلى توسع أنواع أخرى من أوجه العمل؛ فقد بقي الكثير من فائض العمال في المناطق الريفية وأصبحوا جزءًا من المنظومة المتدرجة التي كانت تتضمن أن يجلب بائعو الأقمشة الصوف الخام إلى ساكني الأكواخ، حيث كانت عائلاتهم تعمل على غسله ثم تلبيده ثم ندفه ثم غزله ثم نسجه ليتحول في النهاية إلى قماش. وكان الحرفيون المهرة في إنجلترا يقومون بالكثير من أعمال الحديد المزخرف في منازلهم خلال السواد الأعظم من القرن الثامن عشر.
كان تجار المدينة يستخدمون الملاحين، وعمال الميناء، وعمال المخازن، وصناع الأشرعة، وعمال جلفطة السفن (أي سد شقوقها بالقار)، وصناع الأشرعة وعمال تركيب النحاس، وعمال الحبال الذين كانوا يعملون على صيانة سفنهم كي تظل قادرة على الإبحار. وهكذا كان استيراد المواد الخام يعود بربح طيب من خلال وظائف ذات أجور جيدة في مجالات تصنيع السكر والتبغ والشاي فضلًا عن شراب الجِن، الذي صار شرابًا مفضلًا في القرن الثامن عشر. كان ارتفاع الأجور يعني أن عددًا متزايدًا من الرجال والنساء العاملين بات قادرًا على شراء البضائع التي تنتجها ورش العمل في إنجلترا. وعلى عكس العديد من العواصم في جميع أنحاء العالم، لم تكن لندن تعج بالموظفين ورجال البلاط، بل بالمشاركين في نشاط تجاري ضخم. وقد ظهر نشاطها هذا جليًّا حينما أتى حريق على المدينة عام ١٦٦٦ ليعاد بناؤها مجددًا بسرعة مذهلة من جانب مستثمري القطاع الخاص.
ثورة علمية
ليس كل رغبة تستطيع أن تُثمر فكرة جديدة. وكما يقول المثل: «لو كانت الأماني خيولًا، لركبها المتسولون.» ولأننا نعلم أن حفنة من المخترعين طوَّرُوا بعض الآلات الرائعة، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأننا إذا استطعنا إيجاد دافعهم لذلك نكون قد فسرنا السبب في أنهم اتخذوا هذه الخطوة، لكن تصميم الآلات يتطلب ما هو أكثر من الدافع القوي، وفي هذه الحالة، ما هو أكثر من الموهبة؛ فقد تعدى توماس سافري وتوماس نيوكومن وجيمس واط الدافع والموهبة وأضافوا البراعة إلى التجربة، واعتمدوا على المعرفة التي لم تكُن معروفة من قبل. وهكذا اجتمعت التكنولوجيا والعلوم وشكَّلتا وحدة دائمة. وقد عاش العالم الفلكي جاليليو والمفكر فرانسيس بيكون في نفس الزمن.
في عام ١٦٣٢ أجبرت محاكم التفتيش الإيطالية العالم جاليليو جاليلي على التنكُّر لاعتقاده بأن الشمس هي الجرم السماوي المركزي الذي تدور حوله الأرض والكواكب الأخرى. كان جاليليو بما لديه من سيرة مهنية طويلة ومتميزة في عالم الرياضيات والفلك قد توصل إلى تصور دقيق لقوانين الحركة، وطور التلسكوب كاسر الأشعة قبل أن يجري إسكاته. أصاب جاليليو معاصرًا إنجليزيًّا آخر بعدواه تلك؛ فقد أعجب فرانسيس بيكون — على الرغم من كونه محاميًا وقاضيًا — بملاحظات جاليليو ومنطقه الاستقرائي. قال بيكون في كتابه «تقدم المعرفة»، الذي كُتب لتشجيع اكتساب المعارف المفيدة، إن التجارب — وليس النظريات — هي مرتكزات هذا «العلم» الجديد الذي يتشكل عبر القارة الأوروبية، ولو أن تسميته بالفلسفة الطبيعية ستحقق مزيدًا من الدقة؛ لأن مصطلح «عالِم» لم يشِع استخدامه حتى منتصف القرن التاسع عشر.
أصبحت المعرفة الموضوعية هي الأمنية العظمى التي تتأتى من خلال تكوين فرضيات حول قوى الطبيعة ثم تصميم تجارب يمكنها اختبار صحة الفرضيات. كان بيكون قد سمع الكثير من الآراء على الملأ خلال حياته المهنية الطويلة في المحاكم؛ فتعلم أن يُعلي الحقائق على الآراء، وقال إن الطبيعة ترد على ما يقال عنها، قاصدًا بذلك أنه إذا كانت آراء شخصٍ ما بشأن نظام الأمور خاطئة، فإن التجارب لن تثبت صحتها. من ناحية أخرى، استمرَّتِ الآراء في الانتشار دون قيد لأنَّه في أغلب الأحيان لم تكن هناك طريقة لدحضِهَا. وقد أيَّدَ بيكون نشر المعرفة الجديدة. وهذا أيضًا كان خروجًا على المألوف؛ لأن المعرفة طالما كانت تُعامَلُ على أنها كيان من الأسرار التي لا تمرر إلا لزمرة مختارة. وأسفرت ممارسة مشاركة الملاحظات والتحليل على الملأ إلى توسيع نطاق الاستكشاف. وعملت النتائج المنشورة للبحوث كالمغناطيس، إذ جذبت برادة الفضول من جميع الأنحاء لتتركز حول مشاكل بعينها.
وانشغل خيرة الرياضيين والفلاسفة في جميع أنحاء أوروبا بأعمال جاليليو عن قوانين الحركة، وعلم البصريات، واستخدام النماذج. وطوال القرن السابع عشر تزايد الفضول العلمي، لا سيما في إنجلترا، لكنه كان واضحًا في ألمانيا وإيطاليا وهولندا وفرنسا أيضًا. ثم أجرى رجلان إنجليزيان، إسحاق نيوتن وروبرت بويل، التجارب التي كانت في طريقها لأن تؤثر أشد التأثير على الاختراعات الصناعية. ولد نيوتن عام ١٦٤٢ — نفس العام الذي توفي فيه العالم جاليليو — وكان بويل يبلغ خمسة عشر عامًا في ذلك الوقت. وقد خلف هذان العالمان سلسلة من العرافين الآخرين.
كان النموذج السائد في الفلسفة الطبيعية موروثًا عن أرسطو، الذي عاش منذ عشرين قرنًا مضت قبل ذلك العصر. وصف أرسطو العالم من خلال الفصل بين المادة والشكل. ورغم أن عمله كان مذهلًا من حيث اتساع نطاقه، فقد كان يصف الأشياء في الطبيعة ويعرِّفها، لا يفسرها؛ فسلوك المادة كان يختلف وفقًا لجوهرها أو شكلها، والعناصر الأساسية الأربعة من هواء وماء وتراب ونار تحمل الخواص: جاف، ورطب، وبارد، وحار. والأشياء الثقيلة تسقط على الأرض بسبب خاصية الثِّقَل المتأصلة بها. لكن نظريات نيوتن حول عمل الجاذبية قدَّمَت مبدأً جديدًا تمامًا في عمل المادة. الأجرام السماوية أيضًا، شأنها شأن تلك الموجودة على الأرض، خاضعة هي الأخرى لقوة الجاذبية. كانت هذه القوانين أكثر من مجرد مبادئ؛ إذ كان يمكن التعبير عنها حسابيًّا، وكان من الممكن أيضًا إثبات صحتها، على الرغم من أن قلةً فقط من الناس هم من كانوا يستطيعون أن يتعاملوا مع العمليات الحسابية وقت أن نشر نيوتن كتاب «المبادئ» عام ١٦٨٩.
وبطبيعة الحال فإن أيًّا من هذا ما كان ليُحدث أي تأثير على عالم العمل الذي يتصبب الناس فيه عرقًا بجانب أفران الصهر ويكدحون أمام أنوال النسج، لو لم تكن تلك القوانين الفيزيائية تؤثر على أعمال الرفع، والدفع، والدوران. كان وجود الفراغ وقياس ضغط الهواء هما الاكتشافان الهامان بالنسبة لاختراع المحرك البخاري، باعتباره الابتكار المحوري للقرن. وربما حتى هذه المعرفة كانت ستظل حبيسة في مضخات الهواء والنواقيس الزجاجية لو لم تكن هناك قناعة شائعة، منذ أن كتب نيوتن أن الطبيعة يمكن حملها على العمل من أجل البشر، بأن قوى الطبيعة يمكن فهمها والسيطرة عليها.
المخترعون ومخترعاتهم
يدل شيوع القدرة على الإبداع البشري في جميع أنحاء العالم على أن ما من دولة أو عرق أو قارة تمكنت من منعها من الانتشار. كان العرب والصينيون قد أحرزوا تطورات مهمة في العلوم قبل الأوروبيين بفترة طويلة من الزمن، وطوروا كذلك أنظمة هيدروليكية معقدة. وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى برع الحرفيون الأفارقة في استخراج المعادن وصنع القطع الفنية من الذهب والنحاس والقصدير والحديد. وشيَّد المايا والإنكا والأزتك مبانيَ رائعة في العصر ما قبل الكولومبي دون استخدام الحديد أو العجلات. إن أمثلة كهذه تخبرنا أن ما أدَّى إلى الثورة الصناعية ليس ذكاء متفوقًا لحضارة بعينها، وإنما الربط الموفق بين فضول تكنولوجي تجاه الفرص الاقتصادية وبيئة اجتماعية داعمة. ببساطة، تطلب الأمر ذكاءً ومعرفة يعملان في مجتمع كان يحفز على تطبيقهما على عمليات الإنتاج. اضطرت البيئة المحيطة أيضًا لمنح الأفراد مجال عمل كي يجربوا. أو بالأحرى، لم تمتلك السلطات القدرة على تحويل العقول المتسائلة عن مجالات التساؤل، ولم تعاقب — بالقانون أو من خلال التحامل — أولئك الذين تعهدوا الابتكارات التي من شأنها أن تربك أماكن العمل التقليدية.
تحسين صناعتي النسيج والفخار
أصبح صنع الأشياء الجميلة أيضًا أكثر سهولة باستخدام البخار. كان الأوروبيون يستوردون الخزف من الصين منذ القرن السادس عشر، وكانت هذه القطع المزخرفة والمصنوعة بدقة تضع الأواني الفخارية الثقيلة التي كان ينتجها الفاخوريون الأوروبيون في موقف حرج بتفوقها عليها. أظهر هذا أيضًا ما يمكن تحسينه. وفي الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أخذت الشركات في مدينتي سيفر وليموج بفرنسا، وستافوردشاير بإنجلترا، تخوض التحدي المتمثل في محاولة بلوغ جودة الخزف الصيني. جرت هذه المحاولة بقيادة جوسيا ويدجوود، الذي ولد لأسرة فاخوري، وعرف خلال نشأته التنظيم العفوي للعمل في مصانع فخار ستافوردشاير. فكما هي الحال بالنسبة لمعظم الحرف اليدوية في ذلك الوقت، كان العمال يتركون العمل لأجل حضور حفلات التأبين، وحفلات الزفاف، والمعارض، وقضاء فترات خاصة في احتساء الشراب. لم تكن الساعات منظَّمة، ولم يكن الفاخوري صاحب العمل — الذي عادة ما كان يملك محلًّا فضلًا عن ثمانية أو تسعة من العمال والصبيان المتدربين — يراقب سير العمل كما ينبغي. لكن كان كل فاخوري على علم بمعظم الحيل التي يمكن من خلالها تحويل الطين إلى وعاء، وكان الفاخوريون ينجزون هذه المهام بنجاح متوسط، عدا استثناءات نادرة. فبدأ ويدجوود — الذي كان يعد شخصية أسطورية في تاريخ التصنيع — ينظر إلى هذه الملامح على أنها تَحدٍّ يحتاج للإصلاح.
لقد أخذ ويدجوود مزيج الأشخاص الذين كانوا مدرَجين على جدول رواتبه، وصهرهم على شكل قوة عمل حديثة. كان يستخدم أجراسًا وساعات لغرس الالتزام بالمواعيد، وكان الحفظ الدقيق للسجلات يمكِّنه من تحديد الموظفين المتمردين وتوقيع الجزاءات عليهم، وكان يستخدم النساء في مصانعه؛ مما أثار غضب موظفيه من الذكور، على الرغم من أنهم كانوا يتقاضون أجورًا تفوق أجور النساء بكثير. ولم يكن يتسامح مع عادات العمل المتراخية التي كانت سائدة بين أبناء جيل والده، لكنه كان يراعي احتياجات عماله المادية، ويدفع لهم أجورًا مرتفعة، ويعتني بصحتهم، ويبني لهم منازل بدلًا من الأكواخ التي كانوا يعيشون فيها.
أحدث أربعة رجال — عملَ كلٌّ منهم على حدة — تحولًا في صناعة النسيج باختراعاتهم — مغزل جيني، وبغل الغزل، والمنسج الآلي — التي صممت كلها لتسريع عملية تحويل الصوف إلى خيط ثم تحويل الخيط إلى قماش. وتلخص نجاحاتهم المختلفة المصير المشترك الذي يجمع المخترعين؛ فقد اخترع جيمس هارجريفز وتوماس أركرايت «مغزلَ جيني»، وجيني هو اسم زوجة جريفز، وهو عبارة عن جهاز بسيط مكَّن من زيادة دورات خيط الغزل التي تدورها العجلة الواحدة. وما إن بدأ هذا الجهاز يُستخدم في الغزل، حتى ارتفع عدد لفَّات المغزل ارتفاعًا سريعًا من ٨ إلى ٨٠ لفة. كان هارجريفز نسَّاجًا، لكن أركرايت تمتع بعلاقات أفضل مع مساندي هذه الفكرة وكان قادرًا على إنشاء مصنع، حيث نجح في جمع ٦٠٠ عامل — الكثير منهم من النساء والأطفال — تحت سقف واحد. الرجل الثالث هو إدموند كارترايت، وهو رجل دين قروي تخرج من جامعة أكسفورد، لكنه صار منشغلًا بعملية النسيج إثر زيارته مصنعًا لغزل القطن. وبعد مرور عام، في ١٧٨٥ حصل على براءة اختراع المنسج الآلي الذي يستخدم قوة البخار لتشغيل النول العادي لصنع القماش؛ فأصبح هذا النول هو النموذج المبدئي للنول الحديث. ورغم أن كارترايت بنى مصنعًا للنسيج فقد أشهر إفلاسه. الرجل الرابع هو صامويل كرومبتون الذي اخترع بغل الغزل، الذي — كما يوحي اسمه — يجمع بين اختراعين: مغزل جيني والمنسج الآلي. لكنه اضطر لبيع حقوق استغلال اختراعه هذا لأنه كان أفقر من أن يقدر على دفع ثمن عملية تسجيل براءة الاختراع.
منحت قوة البخار البريطانيين ميزة تنافسية في صناعة الغزل والنسيج، لا سيما غزل القطن ونسجه. وصار البريطانيون قادرين على بيع منتجاتهم بأسعار تقل عن أسعار بيع جميع المنتجات الهندية والصينية. كانت سوق القطن سوقًا عالمية، وكانت الأقمشة الإنجليزية رخيصة للغاية بحيث كانت تستطيع أن تقتحم الكثير من الأسواق المحميَّة في العالم. وعاد انتعاش مبيعات القطن بفائدة على الأصباغ أيضًا، التي كان معظمها يُصنع في العالم الجديد. فقد كان الخشب البرازيلي يفرز صبغة حمراء، وكذلك نبتة الفوَّة التي كانت تُجلب من تركيا. إن الإبداع البشري شيء رائع؛ فقد اكتشف شخص ما بطريقة ما أن الجثة المجففة لإناث إحدى الحشرات — هي دودة القرمز التي تعيش على الصبار المكسيكي — تستطيع أن تعطي لونًا قرمزيًّا رائعًا. وقد صار هذا اللون فيما بعدُ جزءًا من ألوان الأقطان. ويعود أصل صبغ النيلة — الذي يعطي تدرجًا جميلًا من اللون الأزرق — إلى الهند. وقبل أن يحل عصر الأصباغ الكيميائية كان يصعب الحصول على الألوان، وكان ارتداء الملابس ذات الألوان الزاهية يدل على الثراء. نجحت إليزا لوكاس بينكني — إحدى المبدعات الإناث القلائل في هذه الفترة — في تجربتها لزراعة النيلة في ولاية ساوث كارولاينا. أمكن الاستفادة من صورتي المناخ بالمستعمرة في إنتاج شيئين للسوق العالمية؛ إذ أنتجت الأراضي الرطبة الأرز، فيما أنتجت أراضي المرتفعات الأكثر جفافًا النيلة. حولت هذه الأصباغ الرائعة أيضًا إحدى وسائل الترف إلى مسرة تتمتع بها بائعات المتاجر ويتمتع بها عشاقهن أيضًا. وبات بمقدور الناس العاديين ارتداء اللون الأرجواني — الذي كان في الماضي حكرًا على الملوك — لكن ذلك لم يمر دون أن يثير الدهشة في بادئ الأمر.
حوَّل البخار صناعة النسيج إلى صناعة رئيسة في القرن التاسع عشر. كانت الأماكن التي تصلح لزراعة القطن أكثر من تلك التي تصلح لزراعة السكر، لكنها كانت رغم ذلك أماكن محدودة. ولم يبدأ الأمريكيون زراعة الأقطان قصيرة التيلة حتى اخترع إيلي ويتني محلج القطن عام ١٧٩٣. وبعد ذلك الاختراع، صار الطلب هائلًا، وازداد بمقدار عشرين ضعفًا في ٥٠ عامًا. وفي النهاية صارت مصانع مانشستر تستقبل إمدادات منتظمة من القطن؛ نتيجة لانتقال المستوطنين وعبيدهم لاستغلال الأراضي البكر في جورجيا، وألاباما، ومسيسيبي. وعندما نجحت ولايات الشمال في إيقاف شحنات القطن إلى إنجلترا خلال الحرب الأهلية تحولت بريطانيا العظمى إلى مصر، حيث كانت الحكومة تشجع إنتاج القطن. لكن في وقت لاحق أدَّى توافر الطاقة الرخيصة اللازمة لضخ المياه لمسافات طويلة إلى إتاحة زراعة محصول القطن المربح في الصين، فضلًا عن أجزاء من ولايتي أريزونا وكاليفورنيا. لكن هذا استباق لأحداث قصة الرأسمالية في القرن الثامن عشر.
ظهور المصانع
أوجد نجاح ويدجوود وظائف لسكان ستافوردشاير؛ فنما مسقط رأسه أكثر من خمس مرات خلال حياته. لكن أدت اختراعات أخرى موفرة للوقت إلى طرد الرجال والنساء من أعمالهم. فقد أحدثت جميع الابتكارات تغييرًا جذريًّا في حياة العمال. وبإلقاء نظرة طويلة الأمد، يستطيع خبراء الاقتصاد أن يبرهنوا على أن جعل السلع أرخص عادةً ما ينتهي بخلق فرص عمل من خلال تحرير الطلب على سلع أخرى. لكن الألم يحدث على المدى القصير، والعديد من العمال الإنجليز استجابوا لهذا الألم استجابةً مريرة. ففي العقد الثاني من القرن التاسع عشر، حطم عمال يوركشاير — الذين كانت أسرهم تعمل في جَزِّ صوف الأغنام على مدى أجيال — آلات جز الصوف التي كانت تقضي شيئًا فشيئًا على سبيلهم الوحيد لكسب العيش. اتخذ هؤلاء العمال اسم نِد لود، وهو أحد المقاومين الأوائل. وأعلن هؤلاء «اللوديون» الحرب على الماكينات التي انتهكت روتين العمل الموقر وسلبت الراحة وحميمية العيش المشترك من مكان العمل.
في الواقع كان صناع الأقمشة الصوفية في غرب إنجلترا قد بذلوا في وقت سابق جهدًا كبيرًا لمنع صناع الأقمشة من استخدام مغزل جيني الذي كان يشكل تهديدًا لهم؛ لأن هذا الجهاز يستطيع القيام بعمل عشرين نساجًا. كان هؤلاء الحرفيون يستفيدون من تقاليد تنظيم عريقة في صناعة الصوف؛ لذلك ناشدوا البرلمان بتطبيق القوانين التي كانت مدونة في الكتب منذ أجيال. وبعد عشر سنوات من تقديم الالتماسات، وممارسة الضغط، وتوزيع المنشورات حظي صانعو القماش أخيرًا بتحقيقٍ برلماني. كان هؤلاء العمال يحاربون للإبقاء على الطريقة القديمة والمستقرة للعيش، في حين كان أرباب العمل يحاربون لزيادة الأرباح عن طريق توفير تكاليف الأيدي العاملة. وحين لجأ العمال للقوانين التي كانت موضع اعتبار في الماضي وكانت تثبط الابتكارات؛ رد المصنِّعون بأن هذه القوانين عَفَا عليها الزمن وبأنها ستُحدث المزيد من المشاكل. كان هذا منعطَفًا جديدًا في النزاع الأزلي بين التقليد والإصلاح، وبين الجمود والتغيير.
إذا تناولنا هذا الأمر من منظور تاريخي، فسنجد أن هذه الحملات العدائية من جانب العمال كانت إلى حد كبير محاولة أخيرة ويائسة للحيلولة دون حدوث التغييرات. لكن من منظور المستقبل القريب لهؤلاء العمال الذي تعيَّن عليهم أن يعيشوه جميعًا، نرى أن هؤلاء المحتجين كثيرًا ما فازوا بمكتسبات. وكان الجمهور في أغلب الأحيان في صف العمال لأنهم كانوا يؤيدون التمسك بالقديم. وقد صادر البرلمان سلطة قضاة الصلح في تنظيم الأجور، وهي حماية قانونية كانت تمثل سلاحًا ذا حدَّين بالنسبة للعمال. كان عصر الطريقة الأبوية يفسح المجال لعصر التقدم، وهذه هي الفكرة التي كانت قد سيطرت بقوة على مخيلة أفراد الطبقة الراقية في بريطانيا. كانت قلة من العاملين في الصحافة تعبر عن جانب العمال لعامة الناس. ولو أن آدم سميث علق تعليقًا لاذعًا في كتابه «ثروة الأمم» حينما قال إن المصنعين لم يجتمعوا قط لتناول العشاء، بل من أجل تحديد الأجور. وبينما كان من السهل على أرباب العمل عقد اتفاقات غير رسمية بين بعضهم وبعض، كان العمال يصطدمون بالقوانين المضادة للتآمر عندما يمارسون ضغطًا بغرض اكتساب أي حقوق. وقد مر قرن آخر قبل أن تصبح المفاوضة الجماعية جزءًا من النظام الرأسمالي ويصبح العمال قادرين على التمتع بمنافع التصنيع في العمل والمنزل على حد سواء.
التأثير الفكري للتغير التكنولوجي
دائمًا ما يُرجع الناس التفوق الإنجليزي الصناعي إلى مَزِية بعينها — سواء أكانت ارتفاع الأجور أو انخفاض تكاليف الوقود، أو تأمين ملكية الأراضي، أو التحسينات الزراعية، أو انخفاض الضرائب، أو ازدياد المدن، أو ثقافتها العلمية — لكن لماذا لا يلاحظون كيف كانت جميع هذه العناصر تعزز بعضها بعضًا؟ إذا وضعنا في الاعتبار كيف كانت هذه السلسلة من الاختراعات غير مسبوقة، فسندرك أنها تطلَّبت العديد من العوامل التي تعمل على نحو تفاعلي — شأن الجينات ذات الآليات الاسترجاعية — كي تحقق هذه الثورة في عمليات الإنتاج. وأولئك الذين يؤكدون على أن الحوافز المالية دفعت الرجال إلى اختراع الأجهزة التي توفر الأيدي العاملة إنما يُغفِلون مكوِّنًا رئيسيًّا لهذه الأفضلية الإنجليزية، ألا وهو تشجيع التوجهات التي تدعم المشاريع الاقتصادية. ويمكن عزو العديد من هذه المزايا إلى ابتعاد بريطانيا عن الاضطراب السياسي للقرن السابع عشر.
حركة التنوير في فرنسا وإنجلترا
فيما يخص الأفكار التي أصبحت ضرورية للغاية لإحداث تحولٍ في المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن عشر، جمعت علاقة مدهشة بين فرنسا وإنجلترا. كان البريطانيون قد دخلوا القرن بمجتمع من نوع جديد؛ مجتمع نبذ الرقابة وقهر الاستبداد السياسي من خلال دستور متوازن جعل السلطة موزعة بين الملك والنبلاء والعامة. (في الحقيقة لم يكُن «مجلس العموم» يمثل عامة الناس العاديين بالضبط؛ فقد كانت ثروة أعضائه المتراكمة تفوق ثروة الطبقة الأرستقراطية، لكنه كان يرمز للشعب.) أمَّا في فرنسا، كانت القوانين الغامضة تعرقل كل من يرغب في ممارسة العمل الحر. وكان العمال والفلاحون يتمتعون بامتيازات تثبط التنمية الاقتصادية. وسواء في المقاطعات أو بين النبلاء أو بسبب احتكار موروث يملكه أحد الأفراد أو في أي شركة، كانت قطاعات واسعة من المجتمع قادرة على مقاومة هذا الشيء المفزع الذي يدعى التغيير.
ظل النظام الملكي الفرنسي المحتضر متشبثًا بسلطته المطلقة حتى عام ١٧٨٧، حينما دفع خواء الخزانة الملك لاستدعاء المجالس العمومية التي كانت قائمة في الماضي. لم تكن هذه المجالس قد اجتمعت منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، لكنها سارعت بتحويل نفسها إلى ما عرف باسم الجمعية الوطنية. هذه الخطوة القاتلة قذفت البلاد إلى أتون ثورة. وهذا تحديدًا ما كان يلزم للتحرر من القيود والروتين الحكومي، والتراخيص، وخطابات التأسيس، وجميع القوانين القديمة التي كانت تعزز استعلاء الطبقة الأرستقراطية وتشد وثاق ذلك المارد الجبار؛ فرنسا. خلال القرن التاسع عشر، عملت البلاد على اللحاق بالركب، وبحلول الحرب العالمية الأولى صارت تضارع بريطانيا العظمى من حيث معدل ثروة الفرد.
كانت التغيرات الجلية في البيئة المطورة تثير الخيال بإلحاح يضارع ذلك الذي أثارته الأسئلة التي طرحها الفلاسفة. واجتذب شكل مكثف على نحو استثنائي من أشكال الفضول بلدان أوروبا الغربية إلى المُضي قُدمًا في طرق الابتكار التي باتت أكثر رحابة من أي وقت مضى مع تنحية الناس الممارسات التقليدية جانبًا. وعلى طرق الإبداع البشري الرحبة هذه اكتشف الأوروبيون أنهم صانعو عالمهم الاجتماعي الخاص. كانت أصداء هذا الإدراك بالغة الأهمية، وتتعارض بشدة مع تقاليدهم الدينية، وبدا أن العالم ليس مخلوقًا للتأمُّل والتبجيل، بل هو عملٌ متواصل ينبغي تحسينه.
وكما رأى نيوتن التجانس الكامن وراء التنوع المذهل للكواكب والنيازك والنجوم، وجد سميث أيضًا اتساقًا في المعاملات التجارية المتعددة التي تشكل السوق، ووصف عالمًا اقتصاديًّا لا يخضع لقوانين الدولة، بل على العكس من ذلك، يُخضع الدولةَ لقوانينه. ورغم أن الاختراعات التي بلغت ذروتها في مجال التصنيع كانت في بدايتها بالكاد حين وضع سميث مؤلفاته؛ فقد كان يشهد من التحسينات ما يكفي ليتنبأ بالمستقبل.
قدم سميث وزملاؤه الاسكتلنديون تاريخًا افتراضيًّا للبشرية يتتبع المجتمع البشري منذ مرحلة الصيد وجمع الثمار إلى الرعي، ثم إلى الزراعة المستقرة، وأخيرًا إلى المجتمع التجاري. وقد ساعد اكتشاف الشعوب الأصلية في الأمريكتين الشمالية والجنوبية — التي كان أبناؤها لا يزالون يمارسون الصيد وجمع الثمار — على إثبات الفرضيات الاسكتلندية من خلال وقائع أمكن رؤيتها على أرض الواقع. ومن هذا المنظور، تبين أن عملية بطيئة من التغيير التدريجي — لا أحداثًا طارئة وأشخاصًا ذوي نفوذ كما تقول كتب التاريخ — هي التي دفعت التاريخ للتحرك قُدمًا. كان التركيب الموزون للحقائق الاقتصادية الذي طرحه سميث ينطوي ضمنيًّا على الافتراضات بأن البشر شركاء سوق منسجمون ومنضبطون ومتعاونون، وبأن ثمة قوانين طبيعيةً تحكم مجال الأنشطة التطوعية لأن هذه الصفات يمكن الاعتماد عليها.
شدَّد الاسكتلنديون على أن تاريخ البشر لم يتباين ويتقلَّب خلال دورات من التغيير، كما كان يُعتقد من قبل، بل إن أنماطًا من التحسينات التراكمية التي لا رجعة فيها هي التي سيَّرت الأحداث في اتجاه جديد. فقد حمل الوقت في ركابه تطورًا، وليس تغييرًا وحسب. قلب هذا الإدراك موقف الأوروبيين إزاء الماضي والمستقبل على حد سواء. فمن قبل كانت جنة عدن تذكِّر المسيحيين بأنهم يعيشون حالة انحطاط، وكان عصر النهضة يمجِّد اليونان القديمة، وكان المفهوم الكلاسيكي للتغيير الدوري يربط حياة الإنسان بالدورات التي يمكن ملاحظتها في الولادة ثم النمو النشط إلى مرحلة النضج، ثم الاضمحلال والموت اللذين لا مفر منهما. لكن بعد أن بات الوقت يُقسم إلى عمليات مضمونة، وأنماط متعاقبة، ومسارات لا رجعة فيها، بات من الممكن رؤية كل ينبوع من ينابيع النشاط البشري يصب في النهر الكبير للتقدم، ولو أن هذا المصطلح لم يلقَ الرواج حتى القرن التاسع عشر. هيمن سيناريو التنمية الجديد على فضاء الخيال الذي كان مكرسًا من قبل للإيمان بالقصة الشجيَّة للتقهقر المحتوم. وانتحى الخوف جانبًا مفسحًا المجال للأمل.
خلال الأوقات التي لم يكُن بين يؤلف فيها كتيبات تحريضية، كان يعمل على تصميم لجسر حديدي تم بناؤه في نهاية المطاف؛ فقد كان يجمع دعاواه السياسية المتطرفة بحماس للتقدُّم الاقتصادي. وكانت مظاهر الظلم الموروث للمجتمع الأرستقراطي هي أهدافه، لا الانتهاكات الجديدة التي تحدث في المجتمع الصناعي. ولم تؤثر كتاباته في تاريخ الرأسمالية فقط لأنه شجع على تحرر المستعمرات الأمريكية من حكم الإمبراطورية البريطانية، بل أيضًا لأنه جعل الهجوم على التقليد شأنًا شعبيًّا. كان رجال أمثال بين معجبين باقتصاد المشاريع لأنه مفتوح أمام المواهب، وليس حكرًا على أولئك الذين يحظون بمكانة اجتماعية موروثة. وهذا لا يزال صحيحًا إلى اليوم، ولو أن الحصول على رأس المال بات أكثر صعوبة.
تلاشى تهديد الأعداء القدامى ببطء، على الأقل من المخيلة. وقد واصل توماس بين الهجوم على أرستقراطيي إنجلترا بينما كان أصحاب المصانع الجدد يستجمعون قوة أكبر بكثير من تلك التي كانوا يحوزونها من قبلُ. خسر العمال العاديون الكثير من الحرية في هذا العصر؛ ففي القرن التاسع عشر مارَسَ أصحاب المصانع — الذين كانوا قد توحَّدُوا حديثًا في طبقة قوية — السيطرة عليهم من خلال حقهم في التعيين والإقالة كيفما طاب لهم ومن دون سبب. ورفضوا فكرة أن الحرية شيء ثمين بالنسبة إلى العمال مثلما هي ثمينة بالنسبة لهم أيضًا، جاعلين الملكية الخاصة هي الغاية الاجتماعية الأولى. ونظرًا لأن حماية العمال الذين كانوا يحاولون التضامن للحصول على حقوقهم في ممتلكات رؤسائهم الخاصة تطلبت تشريعات، فقد كان الملاك كثيرًا ما يتعاملون مع حملات العاملين باعتبارها اعتداءات على الحرية. أما بالنسبة لآخرين، فإن المعركة التي طال أمدُها بين العمال والإدارة، على ظروف السلامة وأجور العمل وساعاته وظروفه، أثارت الجدل حول ارتباط الحريتين الاقتصادية والسياسية، الذي لم يبدُ في الماضي مثارًا للجدل حينما كان الرأسماليون يقاتلون ضد فئة حصينة من ملاك الأراضي.
خلال القرن الثامن عشر كان من الممكن رؤية الأثر التراكمي للممارسات الرأسمالية بوضوح وهو يشكل نظامًا. فقد نُظم الإنتاج بحيث يعود بالربح، بدلًا من أن يكفل بقاء المجتمع فحسب. وأخذ الأفراد الذين يستخدمون مواردهم الخاصة يتخذون القرارات المتعلقة بكيفية استخدام تلك الموارد من دون تدخل كبير من جانب السلطة العامة. وأصبح مجموع القرارات واقعًا اقتصاديًّا ذا أهمية كبيرة بالنسبة لتحديد الأسعار. وصارت المعلومات التي تسري من خلال شبكة غير رسمية لنقل المعلومات في شكل أسعار أو معدلات فائدة أو إيجارات؛ تؤثر على اختيارات المشاركين الآخرين في السوق. ونظم أرباب العمل الأعمال التي يتعين القيام بها، بدلًا من ترك هذه المهمة لتقاليد المهنة. وصارت السلطة الشخصية حقًّا لأولئك الذين اكتسبوا أموالًا من خلال الآليات المحايدة للسوق. ظلت النظم الهرمية القوية — على غرار الكنيسة وطبقة أصحاب الممتلكات — تمارس تأثيرًا، لكنها كانت في كثير من الأحيان تضطر للإذعان لأصحاب السلطة في المجال الاقتصادي.
عند تتبع مسار التصنيع في الولايات المتحدة، يمكن القول إن العبودية كانت إحدى ساقين قام عليهما التصنيع. فقد لعبت العبودية آنَذاك دورًا استراتيجيًّا في حدوث التحول في صناعة الغزل والنسيج التي كانت القطاع الرئيسي في الاقتصادين الأمريكي والبريطاني على حد سواء. في القرن التاسع عشر، شكَّل الشمال والجنوب الأمريكي علاقة اقتصادية متناغمة؛ فقد كان المصنعون الشماليون يوردون الملابس والأخشاب والأدوات لمزارعي الجنوب، الذين كانوا يركزون رءوس أموالهم في إنتاج القطن الذي كان سلعة التصدير الرئيسية للدولة على مدى العقود الخمسة الأولى من القرن. ولولا الأرباح التي كانت تأتي من العبودية في الجنوب، لكان الاقتصاد الأمريكي بالتأكيد تطور بوتيرة أكثر بطئًا، لكن هذا البطء لم يكن ليعوق التقدم في حد ذاته.
في كثير من الأحيان، كان يصعب رؤية القيود المفروضة على العمال الأُجراء؛ إذ حظيت العبودية بالقدر الأعظم من الاهتمام. لقد بدأتُ هذا الفصل بربط استغلال عمالة العبيد في مزارع سكر منطقة الكاريبي بالاختراعات التي أدت إلى ميلاد الثورة الصناعية؛ فهناك أوجه شبه بينهما نظرًا لأن كليهما مدفوع بحافز الربح نفسه، ويعتمد على الموارد نفسها المادية والثقافية على حد سواء. لكن بحلول نهاية القرن الثامن عشر، كان كلٌّ منهما قد اختلف عن الآخر اختلافًا حادًّا؛ إذ نشأت الابتكارات الصناعية في الوطن إبان إحدى أكثر الفترات الفكرية خصوبة على مر التاريخ، بينما ازدهرت العبودية بعيدًا عن الأعين في مناطق نائية ومتخلفة، لكنها لم تكن بعيدة تمامًا عن القلب، بل كان إدراكها سببًا في زيادة انتشار الوعي بها. ففي أرض الوطن كان التحقق الشامل للتقدم الاجتماعي — الذي كانت الآلات الرائعة جزءًا منه — يوقظ الضمير النائم الذي سمح بنظام الرقيق على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي.
في خِضم هذا الحراك الأخلاقي، غزت المخيلةَ الشعبية في أوروبا الغربية روحٌ جديدة للعمل الإنساني. خلق الفضول التزامات جديدة، وألهمت هذه الالتزامات منظمات متحمسة أطلقت بدورها حملات سياسية، وأسفر نشر الكتيبات الجدلية، ومذكرات العبيد، وشهادة المتورطين في تجارة العبيد؛ عن دفع الصورة الحية للرجال والنساء الأفارقة المقيدين بالسلاسل إلى صدارة المشهد. كان التناقض بين نضال قادة الثورة الأمريكية من أجل نيل الحرية، وبين إبقائهم في الوقت نفسه على نظام العبودية واضحًا وضوحًا محرجًا لهم ولخصومهم البريطانيين. وفي نهاية المطاف، برروا الانفصال عن بريطانيا العظمى بأحقية كل البشر في «الحياة، والحرية، والسعي إلى تحقيق السعادة». وبعد مرور أربع سنوات من إعلان الاستقلال، ألغت السلطة التشريعية لولاية بنسلفانيا العبودية. وبموجب قوانين الاتحاد الكونفدرالي، صارت بنسلفانيا دولة ذات سيادة بحق، وهكذا أصبحت أول حكومة تبين أنه من الممكن القضاء بسلام على نظام تشريعي قديم قِدَم الكتاب المقدس من خلال هيئة تشريعية منتخبة انتخابًا ديمقراطيًّا.
ثم تبعت كل الولايات الشمالية الأخرى ولاية بنسلفانيا نحو هذا العصر الجديد. وبحلول عام ١٨٠١ كان خط ماسون ديكسون — الذي بدأ على شكل خط يفصل بين أراضي ولايتي بنسلفانيا وميريلاند — قد بات يرمز إلى الحد الفاصل بين ولايات العمال الأحرار وولايات العمال العبيد في الولايات المتحدة. وكانت قوانين الإلغاء التدريجي للعبودية في ولايات الشمال تنص على منح الحرية للعبيد الذين ولدوا بعد تاريخ معين بمجرد بلوغهم سن الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين أو الثامنة والعشرين. وحتى في الولايات الجنوبية، نمت جمعيات مناهضة للعبودية حتى عشرينيات القرن التاسع عشر، حينما دعمت زراعة القطن المربحة بقاء العبودية لأربعين سنة أخرى. خلافًا للبريطانيين — الذين كان لديهم قانون يطبق على ممتلكاتهم الجزرية البعيدة عن الوطن — حرر المستوطنون الشماليون العبيد الذين كانوا يعيشون وسطهم. وبات عدد العبيد الذين ظلوا عبيدًا أقل بكثير في ولايات الشمال منهم في ولايات الجنوب. لكن يقدر أن عدد الرجال والنساء المستعبدين كانوا يشكلون نسبة الربع من مجمل السكان القادرين على العمل في مانهاتن. وحينما ألغى قانون ولاية نيويورك مشروعية الاحتفاظ بالبشر كممتلكات، شكل هذا أكبر تعدٍّ سلمي على الملكية الخاصة على مَرِّ التاريخ. وتطلَّب الأمر أن تكمل الحرب الأهلية الأمريكية ما كانت ولاية بنسلفانيا قد بدأته، إضافة إلى تمرير التعديل الرابع عشر للدستور الفدرالي عام ١٨٦٨. إذا تشكك المرء في أي وقت من الأوقات في أن الأفكار تمتلك حقًّا قوة في العالم العادي، فمن المفترض أن تدرأ حملة القضاء على العبودية أي شكوك في ذلك.
في الوقت الحالي، هناك تجارب رائعة للرأسمالية تتشكل حول العالم، لكن الرأسمالية جاءت في الأصل — وعلى مدى ما لا يقل عن ثلاثة قرون — من الغرب. وقد حمل زخمُها الأوروبيين وأساليب عملهم إلى جميع أنحاء العالم. وما إن صارت الرأسمالية منظومة كاملة ذات قِيم ثقافية وعادات اجتماعية تعزز قوتها، حتى مضت لتسحق كل ما يمكن أن يعترض سبيل توسعها. وأصبحت صفات الأوروبيين الغربيين — الانفتاح على الحداثة، والإقدام، والمثابرة، والإبداع، والشعور بالتفوق — أكثر وضوحًا في ظل ازدياد نجاحهم. هذه هي أوروبا التي تعرفها بقية بلدان العالم، وتعجب بها وتخشاها. وهذه هي الثقافة التي شجعت الحقوق الطبيعية، والديمقراطية، والوعي بالقضايا الإنسانية.