عمالقة الصناعة ومعارضوهم
أحدثت قوى القرن التاسع عشر الصناعية الكبرى — بريطانيا العظمى ومنافستاها ألمانيا والولايات المتحدة — تحولًا في العالم المادي؛ فقد شيدت السكك الحديدية عبر آلاف وآلاف الأميال، وأقامت مصانع ضخمة، استقطبت إليها ملايين الرجال والنساء، الذين كان معظمهم يعمل من قبلُ بالزراعة. وجمعت رءوس الأموال في المصارف، واستهلكت الفحم، وصنَّعت الحديد الصُّلب، واستخرجت المعادن من باطن الأرض، ومهدت التلال، وحولت المياه من الأنهار إلى القنوات، وأظهرت عمومًا قوة البشر وبراعتهم غير المكتشفتين من قبل. وعلى الرغم من عمومية كل هذه التغييرات، كان ثمة أشخاص بعينهم هم من تسببوا في إحداثها: إنهم رواد الأعمال المغامرون الشجعان والعاملون والعاملات الذين قلب التصنيع حياتهم رأسًا على عقب. إن قِلةً من الرجال فطنوا تمامًا إلى ديناميات الرأسمالية بدرجة جعلتهم يشيدون مؤسسات لا تزال إلى اليوم من أكبر المؤسسات في العالم. صحيح أن هؤلاء الصناعيين هم الذين اتخذوا الخطوة الأولى، لكن عمالهم تمكَّنوا بشجاعتهم وبتصميمهم من إيجاد طرق لتنظيم حركات معارضة نشطة تقاوم حكام عالمهم الجدد. كان نجاح هذه الحركات العمالية يتوقف على الخطط السياسية، والافتراضات الأيديولوجية، والسوابق التاريخية المشابهة داخل مختلف البلدان الرأسمالية. وتبدأ القصة برواد الأعمال.
نظرًا لأن الرأسمالية أوجدت حرية منقطعة النظير للعمل في الاقتصاد؛ فإن تاريخها ممتلئ بقصص عن المساعي الفردية. لقد وجهت الإنجازات الكبيرة في مجالَيِ العلوم والهندسة أصحاب الأعمال في القرن التاسع عشر الذين أصقلوا هذه التطورات لخدمة فرصتهم التجارية. ومع اتساع نطاق الأعمال أكثر فأكثر، جاهد عدد قليل من الأفراد وأسسوا لأنفسهم نطاقات اقتصادية ضخمة. وقد كان كورنيليوس فاندربيلت وأندرو كارنيجي وجون روكفلر في الولايات المتحدة، وأوجست تيسن وكارل زايس وسيمنز في ألمانيا هم العمالقة الذين قادوا أُمَّتيهم إلى بلوغ التفوق الاقتصادي في القرن التاسع عشر، فأسسوا شركات كارل زايس، وتيسن، وكروب، وسيمنز في ألمانيا، وشركات نيويورك للسكك الحديدية المركزية، والولايات المتحدة للصلب، وستاندرد أويل للنفط في الولايات المتحدة. امتلك عمالقة الصناعة هؤلاء قوى ساحقة كقوى الملوك. ومن قبيل المفارقة أن هذا الأمر كان يعني أن هؤلاء المنافسين الأقوياء قلَّصوا المنافسة نتيجة للحصة التي يملكها كلٌّ منهم في السوق. كانت المؤسسات العملاقة التي أسسها عمالقة الصناعة أضخم من أن يديرها رجل واحد أو حتى عائلة. وأصبحت هذه المؤسسات إحدى الصفات المميزة للرأسمالية في القرن العشرين.
لم يكسب هؤلاء الرجال ثروات طائلة فحسب، بل رادوا الصناعات التي كانت مهيمنة على عصرهم وهي: السكك الحديدية، والصلب، والنفط، والأجهزة التي تعمل بالكهرباء، والأجهزة العلمية، والأدوية، والأصباغ. وكان أصحاب الأعمال الأمريكيون مثل فاندربيلت، وروكفلر، وكارنيجي — الاسكتلندي المولد — متنافسِين شرسِين، يخفضون الأسعار وفي الوقت نفسه يخرجون الشركات المنافسة من السوق. واعتمد كبار رجال الصناعة الألمان مثل زايس وسيمنز أكثر مما هو معهود على الدعم المؤسسي للبحوث الرامية لتطوير الاقتصاد الألماني وتوسيع دائرته. كان رجل الأعمال الألماني تيسن يلقب بالأمريكي، وهو لقب انطوى على انتقادات لاتِّبَاعه القوي لمذهب الحرية الاقتصادية التي كانت أكثر ترسُّخًا في رواد الأعمال الأمريكيين عنها في رواد الأعمال الألمان.
في كثير من الأحيان كان هؤلاء المؤسسون للمؤسسات العملاقة ينحدرون من عائلات مرموقة؛ فقد تولى رجل الصناعة الألماني ألفرِد كروب إدارة شركة المنتجات الحديدية التي كانت ملكًا لوالده. وكانت أسرة تيسن تمتاز بأنها تضم رواد أعمال ناجحين. وفي وقتنا الحاضر، تلقى بيل جيتس دعمًا من أبيه الثري. ومع ذلك، هناك عمالقة آخرون بدءوا من الصفر في عالم التجارة، ولم يكن في أوضاعهم الاجتماعية الكثير مما يُنبئ بنجاح باهر في المستقبل. خير مثال على ذلك هو كورنيليوس فاندربيلت، الذي بدأ اعتلاء السلم الاجتماعي من مزرعة ساحلية متواضعة في جزيرة «ستاتن آيلاند». كما انحدر كارنيجي من عائلة مهاجرة فقيرة، وبدأ روكفلر من أسفل درجات سلم الأعمال، وبدأ سيمنز من خلال خدمته في الجيش الألماني، ونشأ زايس في كنف أسرة تعمل في صنع الألعاب.
كان كلٌّ من كارنيجي وروكفلر مليونيرًا عصاميًّا. فقد قضى ظهورُ المناسج التي تدار بالبخار على مصدر رزق والد كارنيجي، ودفع والدته لأن تدخر من إيراد متجرها ما يكفي لنقل عائلتها من اسكتلندا إلى الضفاف السخامية لنهر مونونجاهيلا. مهدت براعة كارنيجي المذهلة في وظيفة عامل التلغراف له طريقًا واعدًا في «شركة سكك حديد بنسلفانيا»، ومنها انطلق ليصير صاحب رأس مال مغامر يعمل في مجال السكك الحديدية والجسور وروافع النفط.
بعد عقد من الزمان اشترى المصرفي جي بي مورجان شركة كارنيجي ليكوِّن شركة الولايات المتحدة للصلب، وأعلن مورجان أن كارنيجي أغنى رجل في البلاد؛ فقد كانت عقاراته التي بلغت قيمتها ١٠٠ مليون دولار تشكل نسبة واحد على عشرين من إجمالي الدولارات الأمريكية في ذلك الوقت لو تمت تصفيتها عقب وفاته عام ١٩١٩! كان العمال المبتدئون وقتها يتقاضون نحو ٨٫٥ دولارات في الأسبوع. (على سبيل المقارنة، كانت ثروة بيل جيتس البالغة ٥٣ مليار دولار تشكل دولارًا واحدًا من كل ١٣٠ دولارًا، عندما كانت أقل الوظائف أجرًا عام ٢٠٠٩ تدر ٢٩٠ دولارًا أسبوعيًّا.) ونظرًا لأن كارنيجي كان يهب الأموال بنفس الحماس الذي يكتسبها به، فقد قلص تركته سريعًا؛ فباتت تقدر لدى وفاته بمبلغ ٢٣ مليون دولار، وكان يشعر بالامتنان لتمكنه من ارتياد مكتبة خاصة حينما كان صبيًّا، فأسس أكثر من ٢٥٠٠ مكتبة عامة في الولايات المتحدة، وكندا، وفي وطنه الأم اسكتلندا.
قد يكون كارنيجي أحد أكثر الشخصيات تعقيدًا في تاريخ الرأسمالية الأمريكية؛ فقد حُرم التعليم الرسمي، لكنه اطَّلع على الأدب والتاريخ خلال حياته، وتجاوزت اهتماماته الفكرية القراءةَ، وكتب الكثير عن النظم السياسية وفلسفته الخاصة بالعمل الحر، وأرشيفُ أعماله حافل برسائل وجهت إلى عدد من رؤساء الولايات المتحدة، ومحاضر اجتماعات مجلس الإدارة المذيَّلة بتعليقات في الحواشي، ومذكرات تحوي نصائح يُسديها لنفسه، ومذكرات إلى مرءوسيه، وصفحات تحوي تدقيق محاسبات، ومسودات للعديد من المقالات التي كان ينشرها. لقد تخلى كارنيجي عن إحدى الخصائص التي تميز مواطنيه الاسكتلنديين عندما جاء إلى أمريكا، وهي دعمهم المتطرف للعِمالة. وكرجل عصامي، كان يعتقد أن أي صبي في أمريكا يستطيع إحراز النجاح، جاعلًا بلوغ القمة غاية أقرب إلى التحقيق. لكنه كان يعتبر السعي لتحقيق الأرباح أمرًا كريهًا، وكتب يقول: «ما من معبود أكثر إذلالًا في هذا العالم من المال!»
نشأ روكفلر — مثل فاندربيلت وكارنيجي — في عائلة فقيرة، لكن والده امتلك ١٠٠٠ دولار كي يقرضها له عندما أراد أن يؤسِّس نفسه ليعمل وسيطًا تجاريًّا لبيع الحبوب والتبن واللحوم والسلع المنزلية ومعدات المزارع. في عام ١٨٥٣، أثبت بنجامين سيليمان — سليل إحدى العائلات المرموقة في نيو إنجلاند — أن المادة النفطية التي تنبعث منها شعلة دخانية كريهة الرائحة، هي في الواقع عبارة عن خليط من المواد الهيدروكربونية التي يمكن تنقيتها عن طريق التقطير التجزيئي. عزز هذا قيمة النفط الذي اكتشف بكميات كبيرة في ولايتي أوهايو وبنسلفانيا بعد أن تم إتقان تصنيعه كمادة للتشحيم ومصدر للضوء الرخيص والنظيف؛ فقرر روكفلر السعي للعمل في مجال تكرير النفط، وأطلق على أولى شركاته ستاندرد أويل.
تتضمن عملية التقطير التجزيئي تسخين النفط. ولأن لكل عنصر من عناصر النفط المختلفة نقطة غليان مختلفة، تنتج هذه العملية عدة منتجات بحسب التسلسل التالي: الغاز ثم النفتا ثم البنزين ثم الكيروسين ثم زيوت التشحيم. في ذلك الوقت كان لكلٍّ من هذه العناصر — عدا البنزين — استخدام عملي. لكن ظهور السيارات بعد ثلاثين عامًا غيَّر هذا الوضع. صارت شركة ستاندرد أويل تتمتع بسيطرة احتكارية على صناعة النفط. وفي عام ١٨٨٢ أسس روكفلر من حوالي ٤٠ شركة منفصلة أحد أول الاتحادات الاحتكارية، وهو شكل من أشكال الأعمال الذي يعزز صنع القرار الموحد. وعندما كانت اتحادات الشركات كهذه تثير الجدل، كان يدافع عنها قائلًا إنها ضرورية للتحكم في رأس المال وإنتاج المزيد من المنتجات بأسعار أقل. في الواقع أدت هذه الاتحادات إلى تسهيل الإدارة المركزية. وبحلول عام ١٨٩٦ كانت ثروة روكفلر تبلغ حوالي مائتي مليون دولار، أي ضعف ثروة فاندربيلت لدى وفاته قبل ٢٠ عامًا من ذلك العام.
لم تفلت تكتيكات روكفلر التجارية من الانتقاد؛ فتحول إلى مسيحي معمداني متدين بعد أن شاع عنه أنه شخص عديم الرحمة، خاصة بسبب الطريقة التي وصفته بها الصحفية أيدا تاربل في سلسلة أعداد من إحدى المجلات الشعبية التشهيرية. وبناء على نصيحة أحد مستشاري العلاقات العامة لديه، زاد روكفلر تبرعاته للكنائس المعمدانية وبدأ تمويل كليات الطب. وبعد أن شرع في حياته الجديدة في سن السابعة والخمسين كرجل من رجال البر، رعى فكرة تجميع أموال التبرعات المتساوية، حيث كان لا يسهم في مشروع خيري إلا بمشاركة آخرين بتبرعات مساوية. وقد أسس جامعة شيكاجو بهذه الطريقة. وفي عام ١٩١٣ أسس مؤسسة روكفلر التي تهدف إلى «تعزيز رفاهية البشر في جميع أنحاء العالم» وتوفي مكللًا بحب الناس بعد أن تبرع بثروة بلغت خمسمائة مليون دولار.
إذا قارنَّا بين حياة كلٍّ من رواد الأعمال الناجحين هؤلاء فستبدو لنا جميعها متشابهة على نحو يبعث على الملل، لا سيما إذا كانوا قد بدءوا حياتهم فقراء؛ فجميعهم تفوق في صغره في وظيفة ما بدأ امتهانها من سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، ثم ازدهرت أحواله كعصامي يتميز بالنضج المبكر، وجميعهم أبدى تصميمًا على بناء مشروعه الخاص، وثابر بدأب كي يحرز مستوًى معينًا من الرخاء؛ ما أدى إلى جذب انتباه من يمكنه تقديم العون له، ثم انطلق وأسس صناعة جديدة، وكان دائمًا ما يفطن ببديهته إلى الاتجاهات الصحيحة التي تؤدي للنمو الاقتصادي. لكنَّ أبرز ما يميزهم هو تصميمهم على الهدف، وعدم قدرتهم على التوقف عن التقدم إلا بعد الوصول للقمة، أو حتى صنع قمة أخرى أعلى، تفوقُ ما تصوره أي شخص من قبل. إن فاندربيلت في مجال السكك الحديدية، وكارنيجي في مجال صناعة الصلب، وروكفلر في مجال النفط، تجاوزوا تكاليف رأس المال الثابت بانتقالهم إلى العالم الجديد للشركات العملاقة، والاتحادات الاحتكارية؛ فغيَّر هؤلاء وأمثالهم شكل الرأسمالية. كان آدم سميث يقول إن اليد الخفية للمنافسة تعمل على توفير السلع بأسعار أقل بسبب سعي رجال الأعمال للحصول على حصة أكبر من السوق، وهذا يفترض أن دخول منافسين جدد أمر سهل، لكن ثبات التكاليف المرتفعة يقصر عدد المنافسين على ذوي الأموال الحاضرة.
رجال الأعمال الألمان
حينما توفي أوجست تيسن وصفته صحيفة نيويورك تايمز في نعيها له بأنه «روكفلر وادي الرور». وقد اختير اسم روكفلر هنا نظرًا لتشابه الحرف الأول لاسمه مع الحرف الأول من اسم وادي الرور، رغم أن تيسن في واقع الأمر كان أشبه برجل الأعمال أندرو كارنيجي. لقد أحدثت طاقة تيسن التنافسية الضارية تحولًا في صناعة الصلب الألمانية. كان تيسن ينحدر من عائلة ثرية مصرفية من مقاطعة راينلاند الألمانية، وأضاف زواجه في سن الثلاثين المزيد من المال لعمله الحر. بدأ تيسن بشراء المصانع كَي يلبي الطلب المتزايد على قطاعات الصلب التي تُستخدم لصنع البراميل والبالات والصناديق والأنابيب والمواسير. وكان يسوِّق بضاعته في بلدان بعيدة مثل روسيا، فأسس لنفسه بذلك طلبًا خارجيًّا على بضاعته باعتبار ذلك عنصرًا رئيسًا في أعماله التجارية. وعندما أدت الأزمة الاقتصادية عام ١٨٧٣ إلى انخفاض الأسعار، تجاوب تيسن مع ذلك بجرأة وعمل على زيادة إنتاجه، وتنويع مشروعاته، ولجأ لترويج مبيعاته. هذا طبعًا هو ما فعله فاندربيلت؛ فقد اتخذ كِلَا الرجلين قرارات كانت تخالف المنطق وخاضَا المجازفات؛ ما جعلهما في عداد الأساطير.
كان إرنست فيرنر فون سيمنز عالمًا ومهندسًا ومخترعًا أكثر منه رجل أعمال، ومع ذلك، فقد أسس إحدى أكثر شركات العالم نجاحًا. خلال سنوات نشأته، كانت الميزانية البروسية تخصص للتعليم قدرًا من الأموال يكاد لا يقل عن الأموال المخصصة للجيش. ونظرًا لعدم امتلاك سيمنز ما يكفي من المال للإنفاق على دراسة الهندسة المدنية، التحق بسلاح المدفعية البروسي عام ١٨٣٥. في ذلك الوقت، كان إمضاء الشاب ست سنوات من الدراسة الفنية يُعفيه من سنتين من الخدمة العسكرية ويكلفه بالخدمة ضمن ضباط الاحتياط بالجيش خدمة كاملة تشمل حصوله على بزة عسكرية! وكان الجيش يستفيد أيضًا من هذا البرنامج. شملت ابتكارات سيمنز الأولى عملية الطلاء الكهربي بالذهب والفضة، ومنظم جهد كهربي متردد، والعديد من الأجهزة التي تستخدم لتحسين أداء جهاز التلغراف الذي اخترعه ويتستون. وبعد خروجه من الجيش، ركز سيمنز على التطبيقات العملية كي يتمكن من الحصول على المال اللازم لإجراء تجاربه المحببة إلى نفسه. وكان أول من اقترح استخدام المادة التي تعرف باسم جاتا برشا — وهي عبارة عن مادة مطاطية تستخرج من أشجار استوائية مختلفة — لتغطية الكابلات الكهربائية التي توضع تحت الأرض وتحت سطح الماء. وطور أجهزة لاختبار أداء كابلات الكهرباء باستمرار، مثل الكابل الذي كان يربط بين بريطانيا والهند.
وفي عام ١٨٤٧ دخلت شركات سيمنز بقوة مجال الكهرباء الجديد؛ إذ اكتشف سيمنز مبدأ الدينامو لتوليد الطاقة الكهربية الذي جعل البطاريات تولد تيارًا مستمرًّا وفولطية عالية. وفي ستينيات القرن التاسع عشر حصل على براءة اختراعات تتعلق بمجال الكهرباء. كانت المنتجات الجديدة تخرج من مختبره بانتظام يضارع انتظام النظام الشمسي. إن ما أبدعه سيمنز من نشر أبحاث حول المولِّد الكهربي، ومقاومة الحرارة، وأجهزة قياس والعديد من الأجهزة المغناطيسية الكهربائية، وجَّه الصناعة الألمانية نحو عمليات ومنتجات جديدة، وخلَّف وراءه شركة ظلت أقرب ما تكون إلى مبادراته التأسيسية في الهندسة والطاقة والاتصالات.
تأثر كارل زايس بالتقاليد الحرفية الألمانية الراسخة التي كانت تمنح تخصصًا لكلٍّ من المدن والمناطق الألمانية العديدة على النحو التالي: صناعة الأدوات من الصلب والذهب والفضة والنحاس في مدينة أوجسبورج، وصناعات الأخشاب واللعب في نورمبرج، والسكاكين والمقصات في منطقة الراين، والأدوات المصنوعة من الصُّلب في ريمشايد، والأدوات النحاسية في ستولبرج. ويمكننا أن نضيف إلى كل هذه المنتجات البيرة التي تُصنع في بافاريا. بعد أن تدرب زايس لمدة ١٢ عامًا، استفاد من اهتمام علماء الأحياء الجديد بدراسة الخلايا. وفي عام ١٨٤٦ حصل على عقد لتصنيع جميع الأجهزة العلمية لجامعة جينا وصيانتها أيضًا. وبعد عشرين عامًا أنتجت شركته الميكروسكوب الألف، وبعد أربعين سنة أنتجت الميكروسكوب رقم عشرة آلاف. وفي عام ١٨٦٦ تعاون زايس مع إرنست آب لعلاج مشكلة زيادة الحاجة للزجاج التي نجمت عن الطلب الكبير على أحدث الميكروسكوبات. كان التحدي الذي يواجهانه يتمثل في تخفيف مادة الزجاج بحيث يمكن تلبية هذا الطلب. في الوقت نفسه، كانا يُجريان تجارب على الكاميرات، التي كانت تمثل اختراعًا متزايد الأهمية بالنسبة للمستهلكين، والعلماء، والمصنِّعين. وقد أدرك زايس وآب أن مسارات الأشعة النافذة من العدسات تتركز على أماكن مختلفة. وأسفرت دراسة الرياضيات المتعلقة بهذه الظاهرة عن ظهور النظرية الموجية الجديدة للضوء. وفي عام ١٨٧٠ انضمَّ لمشروع زايس وآب كيميائي آخر متخصص في الزجاج، هو أوتو شوت.
عند هذه المرحلة انتقلت الشركة إلى ما يتجاوز آفاق معظم الحرفيين الألمان بالتأكيد على خطة تصميم المنتجات الجديدة. ومن خلال تحسين زايس الدائم للأجهزة العلمية اللازمة لموائمة التقدم العلمي، نجح مع معاصريه الآخرين سيمنز والكيميائيين يوستوس فون ليبيج وفريتز هابر في ربط الرأسمالية الألمانية بالجوانب التكنولوجية. بعد وفاة زايس عام ١٨٨٨، أنتجت شركته ميكروسكوبات جديدة بقوة تكبير بلغت ألفي ضعف أدت إلى إتاحة التمييز بين نوعي البكتيريا المفيدة والخبيثة. واليوم، تنتج الشركة المناظير والكاميرات ونماذج تمثيل النظم النجمية والميكروسكوبات وأشباه الموصِّلات وتقنيات النانو وأجهزة المطياف وتقنيات البصريات الإلكترونية.
تغير الخيارات أمام الفقراء
أحدثت ميكنة المعدات الزراعية — التي كانت تعمل أولًا باستخدام الخيول ثم باستخدام محركات البخار والاحتراق الداخلي — تأثيرًا في جميع أنحاء العالم، وأذِنت وفرة محاصيل المزارع الأمريكية — التي يعزى الفضل فيها بدرجة كبيرة إلى آلة الحصاد التي اخترعها الأمريكي سايروس ماكورميك — بحلول فترة رخاء في المزارع العائلية هناك، ودفعت أسعار السلع الأساسية في العالم إلى الانخفاض. لكن محاصيل الحبوب الأمريكية رخيصة الثمن أثارت منذ سبعينيات القرن التاسع عشر نداءات داخل البلدان الأوروبية تطالب بالحماية من خلال فرض تعريفات جمركية؛ إذ تسببت المحاصيل الأمريكية الوفيرة في القضاء على اقتصادات الفلاحين في شرق أوروبا وجنوبها تدريجيًّا، بعد أن بات نقلها عبر المحيط الأطلنطي أسهل نتيجة لانتعاش صناعة الشحن بواسطة السفن البخارية؛ فترتب على ذلك عملية إعادة ترتيب للإنتاج الزراعي في تلك البلدان التي أسرعت إلى العثور على مكان لها في التقسيم العالمي للتخصصات الزراعية. وفقًا لهذا النظام، صار المزارعون يزرعون محصولًا واحدًا أو اثنين بدلًا من المحاصيل المتنوعة التي كانوا يزرعونها من قبل، وبدأت الشركات الزراعية تحل محل العائلات الزراعية، التي اكتظَّ أفرادها في المدن القريبة أو هاجروا إلى خارج البلاد.
كان البحث عن موطن جديد في بلدان أمريكا الشمالية أو الجنوبية أو الذهاب إلى أبعد من ذلك، إلى أستراليا أو نيوزيلندا، بديلًا عن تحمل الظروف المعيشية السيئة في أوروبا. ومنذ عام ١٨١٨، كان المسئولون في مقاطعة وستفاليا يتحدثون عن «روح التجوال» و«هوس الهجرة إلى أمريكا». وبحلول أربعينيات القرن نفسه كان يَفدُ إلى الولايات المتحدة ألف أوروبي أسبوعيًّا. وبعد عقدين، كانت معظم الدول الأوروبية قد رفعت جميع القيود المفروضة على سفر النساء فضلًا عن الرجال الذين انتهوا من أداء خدمتهم العسكرية. وبدءًا من نهاية القرن التاسع عشر، بات فائض العمال الريفيين في بولندا وروسيا والمجر وإيطاليا وصربيا واليونان يعبر المحيط الأطلنطي لبدء حياة جديدة في الخارج، وهاجر آخرون إلى المدن الصناعية داخل بلدانهم. وفي عام ١٨٩٢، افتُتح مركز استقبال للمهاجرين في جزيرة إليس في ميناء مدينة نيويورك. وحينما بلغت الهجرة ذروتها في العقد الأول من القرن العشرين، كان ما يقرب من مليون رجل وامرأة وطفل يفدون إلى أمريكا في كل عام.
في غضون قرن ونصف من عام ١٧٥٠ إلى عام ١٩٠٠، ازداد عدد السكان الأوروبيين من ١٤٠ إلى ٤٣٠ مليون نسمة. وكان عددهم في الماضي يشكل ١٧٪ من سكان العالم، أما الآن فيشكل الربع. كانت الأسباب المباشرة لهذه الزيادة الهائلة في عدد السكان ناجمة في المقام الأول عن انخفاض معدل الوفَيَات. فعلى مدى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أسفر تحسن الصحة والأدوات الصحية وتطور الأدوية عن زيادة الأمد العمري للبشر، بينما انخفض معدل الوفَيَات الناجمة عن الأمراض القديمة الفتاكة مثل الكوليرا والتيفوس والسل والجدري والتيفوئيد. ويفسر ارتفاع معدلات الخصوبة سبب الارتفاع طويل المدى في عدد السكان. في عام ١٨٧٠، انخفضت هذه الزيادة سريعًا إلى حدٍّ ما، لكن عدد السكان ظل يزداد نتيجة لازدياد أمد العمر المتوقَّع للبشر.
كانت مصانع الصلب، ومصافي النفط، وورش المصنوعات الصغيرة، وعدد لا حصر له من المصانع في مدن بيتسبرج، وبافالو، ويانجزتاون، وتوليدو، ونيوارك تجتذب أولئك الذين تطأ أقدامهم جزيرة إليس؛ فعمل معظم المهاجرين في المصانع، لكن بعض الذين وفدوا من السويد والنرويج توجهوا غربًا لتمهيد الأراضي المفتوحة حديثًا في ولايات أيوا وويسكونسن ومينسوتا. وكانت المرأة تعمل في وظائف المصنع، أو في الخدمة بالمنازل، أو تقبع في بيتها لتصنع الزهور الاصطناعية والقبعات والملابس، وفقًا لما يتماشى مع عادات وطنها الأم، سواء أكانت من اليونان أو ألمانيا أو أيرلندا. وكانت ماكينة الخياطة تشكل لهذه المجموعة الأخيرة تحديدًا اختراعًا حيويًّا. وفي بعض الأحيان كانت عائلات بأكملها تكدح داخل منازلها التي تتحول عقب إفطار كل صباح إلى ورش عمل صغيرة.
شكل هؤلاء العمال الإضافيون وفرة في المعروض من أحد عناصر الإنتاج، عنصر العمالة؛ مما أدى لانخفاض أسعارهم، أو بالأحرى أجورهم. وفي معظم المدن الأمريكية التي كان يبلغ عدد سكانها ما يقرب من ٥٠٠ ألف نسمة، كان ثلثا السكان إما مولودين خارج أمريكا أو أبناء وُلدوا لآباء وأمهات كانوا قد وصلوا إلى أمريكا حينما كانت تُدار من قِبل المستوطنين البيض الأنجلوساكسونيين البروتستانت المنحدرين من أصول بريطانية وألمانية، فأصبحوا يشكلون فئة كان يطلق عليها فئة «الأمريكيين ذوي الشَّرطَة»، كما هو الحال في الشَّرطة المستخدمة عندما نقول: أمريكي-بولندي، أو أمريكي-إيطالي … إلخ، بحسب وطنهم الأم.
نقاش حول أصول الرأسمالية
لقد أعادت الثورة الصناعية تشكيل الطبقة العاملة (البروليتاريا)، وتباينت استجابة أعضاء البروليتاريا الجديدة إزاء المتغيرات الاقتصادية التي كانت تغير وضع بلادهم ضمن بلدان العالم. وكان وصول التصنيع إلى ألمانيا وبلجيكا وفرنسا خلال العقود الوسطى من القرن التاسع عشر أسرع من وصوله إلى بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. كان وصوله يهاجم الأعراف المتبعة، بينما في العالم الأنجلوأمريكي بدأت ميكنة أماكن العمل في القرن الثامن عشر ثم انتشرت ببطء. لكن امتداد هذه الوتيرة الوئيدة على مدى أجيال تجعل من المعقول النظر إلى التصنيع الأمريكي على أنه جزء من تطور يكشف عن قدرة المجتمع الأمريكي الطبيعية على تحقيق التنمية الاقتصادية، وذلك وفق ما ذهب إليه آدم سميث. لكن لم يكن هذا هو الرأي السائد في القارة الأوروبية؛ فهناك نظر النقاد إلى التصنيع بوصفه تحوُّلًا أدارتْه طبقة عليا من حديثي النعمة الحريصين على تدمير طبقتي الأرستقراطيين والفلاحين، الذين كانوا يتمتعون في الماضي بالحماية من الاضطرابات الاقتصادية.
وفي ظل وجهة النظر العامة التي ترى أن الرأسمالية الصناعية تتسم بالإضرار والاستغلال، ازداد المعارضون بسرعة، وكان المعارضون مختلفين في توصياتهم أكثر من اختلافهم في فهم الكارثة التي ضربت أوروبا، فتشرذموا في مجموعات أيديولوجية كبيرة. وكان «النقابيون» — أو دعاة تشكيل النقابات للدفاع عن حقوق العمال، الذين تمتعوا بسطوة في فرنسا على وجه الخصوص — يؤمنون باتخاذ خطوات مباشرة — مثل تنظيم الإضرابات العامة — كي يتمكنوا من انتزاع السيطرة على أماكن العمل من أصحابها. ولأنهم أرادوا أن تكون الاتحادات أو النقابات العمالية في موقع المسئولية فقد اتخذوا اسم «النقابيين». من ناحية أخرى، كان الفوضويون يريدون إلغاء شكل الحكومة برمته؛ بحجة أن الحكومة تتعاون مع رجال الصناعة. وقال منظِّرهُم الأساسي بيير جوزيف برودون: «إن الملكية سرقة.» وهنا يشدد برودون على الفكرة المؤثرة التي تذهب إلى أن الملكية الخاصة ليست موجودة على نحو طبيعي بل إنها أداة تستخدم لمصادرة فوائد الثروة الصناعية من العمال الذين يصنعون هذه الثروة في الأصل. كان الفوضويون أكثر مثالية من الآخرين، وتطلعوا إلى مستقبل يحمل نوعًا من التبادلية الطوعية التي توجه القرارات الاجتماعية. أما كارل ماركس فقد قدم نظرية أكثر تعقيدًا عن التاريخ في حد ذاته؛ فقد رأى التصنيع على أنه مرحلة في تطور حتمي لعملية توزيع الثروة الضخمة التي صنعها رجال الصناعة في المجتمع، وكان يعتقد أن الشيوعية تمثل التطور النهائي الذي سيجعل سيطرة الحكومة تقتصر على إدارة الأمور، وليس حكم الناس.
أصبحت هذه النظريات هي المبادئ التنظيمية التي تدعم الجهود الرامية لاستقطاب الأشخاص لاعتناق هذه المذاهب الفكرية. ولما كانت أيام العمل التي تتكون من عشر أو اثنتي عشرة ساعة في اليوم على مدى ستة أيام أسبوعيًّا في المصانع تشكل خطرًا على صحة الرجال والنساء؛ رحب العمال بفكر منظِّمي العمل النقابي. بدأ الأمر بحملة تدعو لأن يكون طول يوم العمل ثماني ساعات فقط. وفي عام ١٨٦٤ أسس الراديكاليون وأتباعهم جمعية العمال العالمية في لندن، وكانت كثيرًا ما تُدعى «الأممية الأولى»، وكانت تعقد اجتماعها سنويًّا في مدن تقع في أوروبا الغربية، وبلغ نشاطها ذروته ببلوغ عدد أعضائها خمسة ملايين نسمة. لكن نتيجة لاندلاع حركات التمرد في عدد من الدول الأوروبية عام ١٨٤٨ صارت الحكومات تتعامل مع دعاوى تحريض العمال بارتياب؛ الأمر الذي جعل أفراد الشرطة والمخبرين يحضرون التجمعات العمالية بانتظام.
أثَّر ماركس وبرودون أحدهما في الآخر، لكنهما اختلفَا في استخدام القوة؛ فقد آمن برودون بإمكانية التغيير السلمي، بينما انفصل الفوضويون عن الماركسيين في «الأممية الأولى». لكن في وقت لاحق أيَّد الفوضويون استخدام العنف في سبيل خدمة العدالة الاجتماعية. وفي ظل وجود مجموعة من التفسيرات الراديكالية، اختلف مؤيدو العمال حول ما إذا كان عليهم تشكيل حزب سياسي من أجل تغيير الحكومة، أو الانضمام إلى الماركسيين في انتظارهم سقوط النظام الرأسمالي، أو العمل ضمن منظومة من أجل توزيع ثمار التصنيع.
نشطاء العمال في أوروبا
أثار نمو الجماعات الراديكالية قلق الزعماء في الغرب الرأسمالي. وبعد وقوع اعتداءين على حياة القيصر فيلهلم الأول عام ١٨٨٣، حظرت الحكومة الألمانية جميع التنظيمات الديمقراطية الاجتماعية، والاشتراكية، والشيوعية. وكانت تجدد هذا القانون كل ثلاث سنوات. كانت ألمانيا — على عكس الولايات المتحدة — تمتاز بعُرف يعزز الدعم الاجتماعي، نابع من المذهب الأبوي الموروث من حقبة ماضية. وكان القانون الصارم بشأن تنظيمات العمال قد صدر وسط موجة من تشريعات أخرى تتعلق بالرعاية الاجتماعية. وقد قال المستشار الألماني أوتو فون بسمارك في ذلك، إنه على الطبقات العمالية أن تدرك أن «الدولة ليست مؤسسة ضرورية فحسب بل إنها أيضًا مؤسسة لتحقيق الرفاهية … تخدم احتياجاتهم ومصالحهم». وفي غضون عقد من الزمن، كان قد تمكن من إصدار قوانين لتأمين العمال ضد المرض، والحوادث الصناعية، والشيخوخة، والإعاقة. ولما صار أرباب العمل مسئولين عن تنفيذ هذه البرامج، صارت وثائق التأمين تطبق بكفاءة وفي جميع الحالات.
عندما خرج ما يزيد على نصف مليون إنجليزي من الرجال والنساء في مسيرة إلى حديقة هايد بارك عام ١٨٩٠ للتظاهر من أجل جعل يوم العمل ثماني ساعات فقط، حوَّلوا عطلة الأول من شهر مايو الوثنية القديمة إلى عيد عالمي للعمال. وفي أمريكا اللاتينية، بدأت الاضطرابات العمالية في العقد الثاني من القرن العشرين. ونظم النقابيون والفوضويون في الأرجنتين والبرازيل وأوروجواي إضرابات عامة لم تكن تهدف لتحقيق مكاسب عمالية فحسب بل أيضًا للإطاحة بالحكومات التي كانت تتواطأ مع أرباب العمل ومُلَّاك الأراضي للإبقاء على السيطرة على الطبقة العاملة. حتى في الولايات المتحدة، تقدمت أحزاب الاشتراكي الوطني، والعمل الاشتراكي، والعمال المزارعين، والعمل الشيوعي بترشيح أعضاء منها في انتخابات عامي ١٩١٨ و١٩٢٠. ومع ذلك، لم يتبنَّ العمال الأمريكيون الأفكار الراديكالية بسهولة، وفضَّلوا العمل ضمن إطار النظام من أجل تحسين الأوضاع والأجور.
في ألمانيا وبريطانيا العظمى ظهرت أحزاب عمالية قوية تتنافس مع المحافظين على نيل السلطة السياسية. وبعد عقود من النضال ضد الحكومة وداخل الحركة العمالية المتشعبة، شكل العمال الإنجليز حزب العمل عام ١٩٠٠. أما النقابات المهنية التي كانت تمثل أعلى فئات العمال أجرًا، وأفضلهم تعليمًا، فقد قصرت أنشطتها على استهداف التحسينات المطَّرِدة في الأجور وظروف العمل. كان العمال غير المهرة — الذين شكلوا نقابات في ثمانينيات القرن التاسع عشر — أكثر عدوانية وجرأة على مواجهة الاعتقال والسجن جراء مظاهراتهم العامة الصاخبة التي كانت تنادي بالعمل لثماني ساعات في اليوم وبظروف أكثر سلامة للعمال. وكانوا يعرضون على الملأ نساء تشوهت وجوههن نتيجة التعامل مع مادة الفوسفور أثناء عملهن في صنع الثقاب. لم يتمكَّن العمال غير المهرة من تقييد الانضمام إلى مهنهم مثلما كانت النقابات المهنية تفعل، ولجئوا إلى الإضرابات والاعتصامات والمسيرات الحاشدة من أجل جذب الانتباه، وبات القيام بأعمال الشغب من الأمور المألوفة.
تدهورت الصناعة البريطانية في أوقات عصيبة بسبب ما كانت تواجهه من منافسة ألمانية وأمريكية على نيل حصتهما من الأسواق العالمية. وأصبح العمال البريطانيون يعملون في ظل فقدان الوظائف وتدنِّي الأجور، فشكلت مجموعة من المثقفين البريطانيين البارزين «الجمعية الفابية» لإقناع الرأي العام بتأييد تدابير اشتراكية مثل تأميم الصناعات الرئيسة. لكن الذين فضلوا بناء حركة سياسية هم من نجحوا في مسعاهم. وفي غضون عقدين من الزمن كان حزب العمال البريطاني قد حل محل الحزب الليبرالي بصفته المنافس الرئيسي لحزب المحافظين.
النضال الاستثنائي للعمال الأمريكيين
تبنى الأمريكيون في حماس مَثل المواطنة والمساواة الأعلى وكانوا بوجه عام لا يعيرون انتباهًا للفوارق الهائلة في الثروة فيما بينهم. وكان العمال الأجانب يسعون سعيًا حثيثًا للانضمام إلى الطبقة الوسطى الكبيرة في البلد الذي اختاروه. لكن السود كانوا يشكلون أكثر الاستثناءات الواضحة في التزام أمريكا باستيعاب جميع الأعراق؛ فما إن أقرت ولايات الجنوب نظام الفصل بين السود والبيض في المدارس والحافلات والمطاعم بعد الحرب الأهلية، حتى صار سكانها مهووسين بفكرة إبقاء الأمريكيين الأفارقة «في وضعهم الملائم». وكان يوجد تقسيم اجتماعي شبه مطلق يُلاحظ في العلاقات بين الأعراق؛ الأمر الذي لم يكن له أي وجود في أوروبا. لكن ما يشكل قليلًا من العزاء أن هذا الترتيب وفَّر فرصًا لرواد الأعمال السود بحيث تمكنوا من تقديم سلع وخدمات لمجتمعاتهم.
كانت الأيديولوجية المتمايزة التي سادت الخطاب العام في الولايات المتحدة تتعارض مع تنظيمات العمال؛ فقد كان الجمهور يميل للنظر إلى العمال كأفراد مكلَّفين برعاية أنفسهم وأسرهم. وكان الرئيس توماس جيفرسون قد جعل الحد من دور الحكومة قيمة أمريكية راسخة. كان جيفرسون بطلًا في نظر الأمريكيين العاديين، وكان يعتقد أن تقليص السلطة الفدرالية هو أفضل وسيلة لتقليص نفوذ النخبة الثرية. ورغم أن التركُّز الجديد للسلطة في يد المؤسسات الصناعية قوَّض افتراضاته، استغرق الجمهور وقتًا طويلًا كي يدرك أن ثمة حاجة لوجود حكومة مؤهلة لمراقبة المشاريع الصناعية الكبرى وشكمها. أما الشعبويون — وهو الاسم الذي كان يطلق على الراديكاليين — والتقدميون الأعلى ثقافة — الذين أكملوا مسارهم الإصلاحي في مطلع القرن العشرين — فقد نجحوا أخيرًا في تنبيه الرأي العام إلى مخاطر القوة الاقتصادية غير المحكومة.
وقد وفرت مجموعات ساخطة متنوعة عناصر الضغط السياسية اللازمة لنيل تشريع إصلاحي عن طريق الكونجرس. تنوعت هذه المجموعات من المزارعين المعتمدين على شركات السكك الحديدية إلى أصحاب الشركات الصغيرة المهددة بأن تلتهمها شركات أكبر. وقد فضحت زعيمات الإصلاح من النساء البيئة الاجتماعية البائسة التي تعيش فيها العائلات المهاجرة؛ فكشفت جين آدامز وفلورنس كيلي — من خلال عملهما في منازل الاستيطان في المناطق الحضرية — ما كان على العمال الأجانب مواجهته من مساكن غير آمنة وأرباب عمل مؤذين. كان إصلاحيو مطلع القرن العشرين يصفون عمالقة الصناعة بأنهم «البارونات اللصوص» مستلهمين هذا الوصف من الكلمات الرنانة العتيقة المناهضة للأرستقراطية، وكانوا يضاهون تصرفاتهم الطغيانية بالتصرفات الأرستقراطية. لقي هذا المصطلح رواجًا في الولايات المتحدة لأن البلاد كانت تتفاخر طويلًا بأنها بلا ماضٍ إقطاعي كما هي الحال في أوروبا. وكانت الطبقة الوسطى البيضاء من العمال المولودين في أمريكا يرون أن الإضرابات والاحتجاجات التي كثيرًا ما اتسمت بالعنف في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر مستوحاة من الفكر الأوروبي، ولم تحظ الطبقة العاملة بتأييد الجمهور — الذي اكتفى بالمشاهدة — إلا بعد وقت طويل.
شعر الناس بالقلق حينما بات عدم اكتراث الشركات وأنانيتها يشكلان تهديدًا لنوعية الطعام الذي يتناولونه؛ فقد ألَّف الكاتب الأمريكي أبتون سنكلير رواية «الغابة» كي يوجه انتباه مواطنيه إلى ظروف العمل المريعة في مصانع تعليب اللحوم. واستعرض أبتون على نحو يكاد يكون تفصيليًّا كيف كان السجق يعبأ بما يحويه من شوائب مختلفة مثل نشارة الخشب! وقد ظلت هذه التفصيلات الحية عالقة في أذهان القراء؛ فأقر الكونجرس قانون التفتيش على اللحوم، وقانون الأغذية والأدوية السليمة في نفس العام الذي نُشرت فيه رواية «الغابة» عام ١٩٠٦. وبدأت الولايات تضع تشريعات لحماية العمال من فئتي النساء والأطفال. وأدى إصلاح هيئة الخدمة المدنية إلى كبح فساد المحليات المستشري الذي اتَّسم به العصر الذي وصف بأنه «الذهبي».
كان وفود مليون شخص أجنبي سنويًّا يثير استياء بعض الأمريكيين المولودين في الولايات المتحدة إزاء هؤلاء الغرباء الذين بدا أنهم يستولون على مدنهم؛ إذ لم يكن الوافدون الجدد يتَّسمون بلون بشرة وشعر أكثر قتامة فحسب، بل كان الكثير منهم في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر من الكاثوليك أو اليهود، لا البروتستانت كحال الغالبية العظمى من الأمريكيين. فأدت مشاعر كراهية الأجانب هذه إلى غلق باب الهجرة أمام المهاجرين الصينيين عام ١٨٨٢. وفي ظل تشبُّع بعض العامة بالشعور بأن الولايات المتحدة شكلت ملاذًا آمنًا للمهاجرين من الظروف السيئة في أوروبا، كانوا يرون أن إثارة المهاجرين الرأي العام من أجل تحسين أوضاعهم نكران للجميل، مع أن معظم العمال المهاجرين كانوا منشغلين أشد الانشغال بالتكيُّف مع البلد الجديد الغريب إلى حدٍّ لا يجعلهم يتجاوبون مع منظمي الاتحادات إلا إذا كانوا قد اكتسبوا الفكر الراديكالي بالفعل في أوروبا. لكن الفقر المدقع للمهاجرين المكتظين في مساكن واقعة في المدن الشرقية — إلى جانب عاداتهم الغريبة — أثار الشكوك واستنهض الحملات المطالبة بالحد من الهجرة. لقد كان تحويل قوة عمل بهذا التنوع العرقي إلى حركة عمالية مؤثرة يشكل تحديًا.
كوَّن سبعة خياطين منظمة «النظام النبيل والمقدس لفرسان العمال» في الولايات المتحدة قبل وصول من أُطلق عليهم المهاجرين الجدد. ومنذ أن تأسست منظمة فرسان العمال عام ١٨٦٩، حافظت على السرية التامة لتتلافى القمع الحكومي. وقد امتدت لتشمل العمال المهرة وغير المهرة، والسود، والنساء، فضلًا عن الأكثرية التي يشكلها العمال من الذكور البيض. كانت الجماعات المحظورة رسميًّا تضم الأطباء، والمصرفيين، والمحامين، ومنتجي المشروبات الكحولية، والمقامرين. كان برنامجها يشمل المطالبة بجعل يوم العمل ثماني ساعات، وحظر عمل الأطفال، وتصاعد ضريبة الدخل، وتأميم المرافق العامة والسكك الحديدية، ودفع الأجر الملائم للعمل، وإنشاء مؤسسات عمالية تعاونية، وهي مؤسسات يعمل بها العمال ويشاركون في إدارتها في الوقت نفسه، تكون بديلًا عن العمل بالمصانع لقاء أجر. ورغم أن منظمة الفرسان كانت في بداياتها تتحاشى الإضرابات، فإنها شاركت في أعمال الشغب التي اندلعت في ساحة هايماركت؛ الأمر الذي أدى بدرجة كبيرة إلى وضع حد لمسارها الصاعد. بدأت هذه الحادثة الشنعاء حينما ألقى مجهول من بين متظاهري شيكاجو قنبلة على أفراد الشرطة، فلقي سبعة ضباط وعشرات المدنيين مصرعهم؛ فانقلب الجمهور انقلابًا حادًّا على منظمي الاتحادات والنقابات العمالية، ما سهل نسبيًّا إدانة أربعة من الفوضويين وتنفيذ حكم الإعدام فيهم.
خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة من القرن، تقلَّص أعضاء فرسان العمال إلى مائة ألف عضو فقط بعدما كانوا من قبلُ نحو مليون عضو. وفي أعقاب هذا الانخفاض، شكل صامويل جومبرز — وهو مهاجر إنجليزي كان يعمل صانعًا للسيجار — اتحاد العمال الفدرالي عام ١٨٨٦. وتمكن هذا التنظيم النقابي الأكثر نجاحًا في الولايات المتحدة من نيل استقلالية النقابات المهنية التي كانت مشاركة فيه. كان جومبرز — الذي ظل يرأس الاتحاد حتى وفاته عام ١٩٢٤ — في واقع الأمر يرى الفوائد التي يمكن أن تعود على العمال في النظام الرأسمالي. ولما كان الاتحاد يؤكد على «الالتزام المجرد والمطلق بالمبادئ الاتحادية» شهد نموًّا مطَّردًا لأنه كان يعمل من أجل تحقيق التحسين العاجل لرواتب العمال وأحوالهم. لكن انفتاحه على العمال غير المهرة، والسود، والنساء الذي تميَّز به في بداياته انتهى بمرور الزمن، وكان ذلك ناجمًا في جزء منه عن التحيز لأعضاء الاتحاد الذين فرضوا التمييز ضد نقابات العمال السود. وكانوا ينظرون إلى النساء — في أحسن الأحوال — باعتبارهن جزءًا من التجمع العمالي يساعد في بقاء الأجور منخفضة، مثلما هي الحال بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين حاليًّا. أو في أسوأ الأحوال، على أنهن يشكلن عمالة احتياطية يُستعان بها لسد محل العمال المضربين في حالات الإضراب.
في عام ١٩٠١، طالب الكونجرس بتجديد قانون عام ١٨٨٢ الذي يفرض قيودًا على هجرة الصينيين، وهو ما كان يتماشى مع ما يدين به الاتحاد من ولاء قوي لأعضائه البيض المُهمين. لكن عضوية الاتحاد لم تضم قط أكثر من ٥٪ من إجمالي قوة العمل. وكان الاتحاد يخوض صراعًا عصيبًا لأن الأمريكيين المولودين في أمريكا والذين كانوا ينتقلون من الريف إلى المدينة بعد الحرب الأهلية شهدوا تحسينات حقيقية في مستوى معيشتهم، بفضل عملهم في وظائف المصانع الثابتة، وحصولهم على الرعاية الطبية والتعليم الحكومي المجاني.
أثار «العمل النقابي التجاري» — وهو عبارة عن فلسفة نقابية تركز على تحسين الأجور، وساعات العمل وظروفه، بدلًا من التركيز على إصلاح النظام الرأسمالي عمومًا، الذي كان يمارسه جومبرز — استياء الراديكاليين، الذين كانوا يريدون الإطاحة بالنظام الرأسمالي الذي اعتبروه احتكارًا غير منصف للأرباح الناتجة من إنتاجية العمال. كان العمال الصناعيون في العالم قد صدَّروا بعض الراديكالية إلى الحركة العمالية الأمريكية حينما بدأت عام ١٩٠٥. ومن بين النقابيين والاشتراكيين والفوضويين الذين فاض بهم الكيل من ممارسات جومبرز: يوجين دبس، ودانييل دي ليون، وجو هيل، وبيج بيل هايوود، و«الأم» جونز، وجميعهم شخصيات بارزة في النهج الراديكالي الأمريكي، فأسسوا اتحاد العمال الصناعيين الذي يكاد يكون على عكس اتحاد العمال الفدرالي تمامًا. فقد كانوا يسعون لتقوية تضامن العمال بما يكفي لقلب النظام الرأسمالي. وتحت شعار «إصابة الواحد هي إصابة للجميع» أصر «الغاضبون» — وهو اسم آخر كان يطلق على هذا الاتحاد — على أن ما من شيء يمكن أن يؤلف بين أرباب العمل وعمالهم. وظهرت العدوانية القوية لعمال المناجم الذين شكلوا النواة الأولى لعضوية اتحاد العمال الصناعيين، وضم الاتحاد أيضًا الحطابين، والعمال الجوالين من فئة العمالة المهاجرة، وصنَّاع الحرير، وعمال النسيج الذين كان كثير منهم في أقصى الجنوب وفي شمال غرب المحيط الهادي. شارك «الغاضبون» في ١٥٠ إضرابًا خلال العقدين الأولين من إنشاء الاتحاد. ورغم عدد التحركات العمالية، ظلت الحركة النقابية في الولايات المتحدة ضعيفة، خاصة إذا ما قورنت بنظيرتها في الدول الأوروبية.
كان الفوضويون — الذين كان أكثرهم من الأجانب — يأملون في أن يثير العنف عمال أمريكا ضد مفاسد النظام الصناعي. ودبَّر اثنان منهم — هما ألكسندر بيركمان وإيما جولدمان — عام ١٨٩٢ لقتل هنري كلاي فريك — مدير مصنع الصلب المملوك لأندرو كارنيجي — إثر كسره شوكة نقابة عمال الصلب. لكن بيركمان فشل في قتل فريك، وقضى ٢٨ عامًا في السجن، في حين صارت إيما جولدمان إحدى أكثر المتحدثين تأثيرًا في أوساط الراديكاليين. لكن النجاح حالف ليون تشولجوز، الذي أطلق النار على الرئيس المنتخب حديثًا ويليام ماكينلي أثناء حضوره معرض الولايات الأمريكية عام ١٩٠١. وقد أثار موقف اتحاد العمال الصناعيين العدواني إزاء المؤسسات الأمريكية ردود فعل قوية من جانب حكومات الولايات والمدن، فضلًا عن جماعات حفظ الأمن الأهلية التي كانت تتوق لتطبيق بعض أحكام العدالة الصارمة عليهم.
بعد أن أسفر نجاح الثورة الروسية عن تولي الشيوعيين زمام السلطة عام ١٩١٧، أصبح الأمريكيون يخافون أشد الخوف من الفوضويين الموجودين بينهم. حتى إن حكم القضاة المتعصبين بإدانة نيكولا ساكو وبارتولوميو فانزيتي بتهمة قتل اثنين من موظفي صرف الأجر في مدينة برينتري، بولاية ماساتشوستس، كان إلى حد كبير قائمًا على أساس كونهما من الفوضويين. أصبح ساكو وفانزيتي شهداء بعد تنفيذ الحكم بإعدامهما؛ ما دفع الفوضويين إلى تدبير تفجير آخر في وول ستريت أسفر عن سقوط ٣٠ قتيلًا وإصابة ٢٠٠ شخص، وتدمير مكتب جي بي مورجان. تلت ذلك عملية ترحيل جماعي، تضمنت ترحيل بيركمان وجولدمان. ويذكر أنهما في أثناء ترحيلهما تناهى لسمعهما خبر مقتل هنري كلاي فريك؛ فعلق بيركمان ساخرًا: «ها قد رحَّله الرب.»
كان اتحاد العمال الصناعيين ينتقد اتحاد العمال الفدرالي لتفاخره بعضوية ٥٪ فقط من قوة العمل الأمريكية، مع أن عدد أعضائه لم يتجاوز قطُّ الخمسين ألف عضو، بالإضافة إلى أن شقاقاته الداخلية وكراهية العامة له عرقلت تقدمه. ولم تفلِح الاغتيالات التي خطط لها الفوضويون في إثارة العمال الأمريكيين. كان معظم الجماعات الراديكالية ضد الحرب العالمية الأولى. وممَّا خيَّب آمالهم إلى حد كبير أن الحرب قوَّضت التضامن الذي كانوا قد بنَوه على مدى أكثر من نصف قرن بين العمال في العالم؛ فحينما اندلع القتال، انحاز كل تجمع عمالي إلى جانب بلاده؛ ومن ثَمَّ كان اتحاد العمال الفدرالي أكثر قدرة على البقاء والاستمرار في الولايات المتحدة لما يتسم به من سياسات أكثر اعتدالًا وتسامحًا في الخلافات بين مجموعات أعضائه. لكنه لقي جزاءه العادل فيما بعدُ، حينما أصبح «كونجرس المنظمات الصناعية» يضم العمال غير المهرة عام ١٩٣٨.
كان عامة الناس ينظرون إلى العنصر الأجنبي القوي في النقابات العمالية الأمريكية على أنه سبب في عدوانية النقابات. وكانوا يرون أن الإضرابات التي تنفذها النقابات في غاية الخطورة. وتمكنت كراهيتهم لوفود المهاجرين الجدد إلى الولايات المتحدة من التغلُّب على تعطش المؤسسات للعمال حينما نجح أعداء المهاجرين في حمل الحكومة على تمرير قوانين هجرة قصرية تحظر وفود بعض المهاجرين؛ فقد وضع القانون ١٩٢١ نظام حصص يقيد عدد المهاجرين الجدد من دول معينة في الفترة من عام ١٨٨٠ إلى عام ١٩١٤. كان القانون يقضي بأن يكون عدد المهاجرين سنويًّا ٣٥٧ ألف مهاجر بحد أقصى، مانحًا أكبر حصة من هذا العدد للمهاجرين القادمين من شمال غرب أوروبا. وفي غضون جيل آخر، كان «الأمريكيون ذوو الشَّرطة»، أو المختلطو الجنسيات، قد تم استيعابهم تمامًا في المجتمع الأمريكي، لكن نظام حصة الأصول القومية ظل معمولًا به حتى عام ١٩٦٥.
الأهمية المتزايدة للمستهلكين
بدلًا من الهرم الذي غالبًا ما يستخدم لوصف شكل أي بنية اجتماعية، بحيث يشكل أكبر عدد من الناس القاعدة العريضة، ثم يتدرج صاعدًا إلى أعلى، إلى أن تستدق قمته التي تضم النخبة الضيقة على القمة، كان شكل المجتمع الأمريكي أشبه بثمرة الطماطم، حيث الشريحة الغنية في الأعلى، ثم تليها شريحة وسطى عريضة لا تلبث تَضيق بالتدريج. ونتيجة لخلو ماضي الولايات المتحدة من الطبقة الأرستقراطية واحتوائها على طبقة عاملة ظلت حتى وقت قريب مكوَّنة بالأساس من المزارعين؛ فقد شهدت نمو طبقة وسطى واسعة النطاق. صحيح أن الاختلافات في الذوق والتعليم والأهمية الإقليمية ظلت قائمة، إلا أنها افتقرت إلى الدعم الذي يتوفر لها في وجود طبقة عليا ذات نفوذ. ولا شك أن الأذواق الرفيعة كانت تلقى الرعاية في الدوائر الاجتماعية المغلقة. وكان يوجد متغطرسون، لكنهم كانوا كثعابين الحديقة، سمُّهم قليل. علاوة على أن معظم الأمريكيين كانوا يحبون أن يكونوا بعضهم مثل بعض.
انضوى التجانس بين السكان البيض في الولايات المتحدة على ظاهرة جديدة من ظواهر الرأسمالية تمثَّلت في السوق الشاملة للسلع الاستهلاكية. لم يكُن معظم الأمريكيين حريصين على التميُّز، بل كانوا يتمتعون إلى حد ما بشراء نفس الأشياء التي يشتريها جيرانهم. في الواقع لم تكن «مواكبة الجيران» لبعضهم بحثًا عن التميُّز وإنما عن المساواة؛ إذ كانت الأسر تفتخر بقدرتها على شراء نفس الأشياء التي يملكها الأصدقاء. وكان الانتماء لطبقة وسطى متجانسة مدعاة للشعور بالراحة؛ الأمر الذي يشكل وضعًا مثاليًّا لنظام الإنتاج الضخم. وحينما تحوَّلَت الشركات عن الاقتصاد الذي يركز على صنع الأجهزة، ومد السكك الحديدية، وغيرها من عناصر الإنتاج في العقود الأولى من القرن العشرين، بدأت تكثر من إنتاج أنماط موحدة من ديكورات المنازل، ومستلزمات الأطفال، والسلع الترفيهية، والموضات الرائجة.
نتيجة لظهور القطارات وعربات الترام، صار بناء مساكن في ضواحي المدن حيث يعمل الناس أمرًا مجديًا. وكانت نفس عربات الترام، وعربات المترو التي تربط بين المدن، والسيارات الخاصة التي تنقل الرجال إلى «قلب المدينة التجاري» — حيث المراكز التجارية الضخمة الشهيرة — في بداية يوم العمل ونهايته متاحة أيضًا لنقل المتسوقين — الذين كان معظمهم من النساء — في وسط النهار. وأضحت هذه قوة أخرى تعمل على تجانس الطبقة الوسطى العريضة من المستهلكين الأمريكيين. كانت بعض الأسر أفقر من أن تستطيع الاستمتاع بالبضائع المصفوفة على الأرفف والمصورة في كتالوجات الطلب بالبريد وتعجز عن المشاركة في فورة الإنفاق الكبير هذه، لكن كان وجود البضائع يشكل حافزًا جبارًا يدفع هذه الأسر للسعي للانضمام إلى حشود المستهلكين. وكذلك سهَّل توافر أرصفة المشاة والشوارع المعبَّدة وخطوط الهاتف ربطَ الأحياء البعيدة بأيٍّ من المراكز التجارية التي كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد.
لقد حدث الكثير كي تتأتى فورة الإنفاق الاستهلاكي. وبطريقة ما، خلقت الرأسمالية مستهلكيها؛ فقد نَمَت أجور العمال، واستتبع تأسس الشركات العملاقة تكون حشود من الموظفين من ذوي الياقات البيضاء، كالمحاسبين والكتبة والمختزلين، وموظفي المبيعات والمحامين والمصرفيين. كانت شركات كثيرة تُحجم عن توظيف النساء المتزوِّجات في كثير من هذه الوظائف لأسباب ارتبطت بالتحيُّز الاجتماعي أكثر من التفضيلات الرأسمالية. لكن في المقابل، تدفَّقت النساء غير المتزوجات في الأوساط التجارية بالمدن، لتملأن بنايات المكاتب التي ارتفعت إلى جانب المحال التجارية الكبرى. وتحسن المستوى المعيشي، وازداد أمد العمر المتوقع، وأمطرت المصانع سيلًا مستمرًّا من الاختراعات لإبهاج النفوس وتقليل العمل الشاق في المطبخ، والمزرعة، والمصنع.
خلقت هذه الأنماط الجديدة من السلوك الاستهلاكي تحديات أمام المنتجين. كانت الشركات الرأسمالية حتى هذه النقطة قد نجحت إلى حد كبير في تلبية الطلب الذي كان ثابتًا، والذي يسميه الاقتصاديون: الطلب غير المرن. كان الناس ينفقون الجزء الأكبر من ميزانية الأسرة على الطعام والمأوى والملبس. وكانت الصناعات التحويلية والصناعات الاستخراجية تشتري ماكينات ومعدَّات للوفاء بحاجات استهلاكية محددة. لكن كل ذلك تغيَّر حينما صار المشتري المهم رجلًا عاديًّا أو — على الأرجح — امرأة عادية. ومع انخفاض أسعار البضائع الجديدة الرائعة، صار عدد أكبر من الناس يستطيع توفير المال اللازم لشرائها إذا أرادوا ذلك. وهنا كانت تكمُن المشكلة التي تمثلت في حالة عدم اليقين إزاء الإنفاق الاختياري الذي يخضع لمزاج المستهلك، والإنفاق النابع من الرغبة في الإنفاق لا الاحتياج؛ إذ كان المستهلكون في مطلع القرن العشرين يُنفقون مبالغ كبيرة من المال في شراء أشياء غير ضرورية مثل إكسسوارات الأزياء، وقطع الأثاث المنَجَّد، والأجهزة الكهربائية المريحة، والسيارات، والممتلكات الترفيهية. لم يكن الطلب يعكس القوة الشرائية فقط، بل يعكس أيضًا ما يمكن أن نسميه قوة التفضيل. وكان على تلك الشركات التي تلبي احتياجات المستهلكين أن تتجاوب مع الأذواق أو — ما هو أسوأ من ذلك — مع الموضات التي كانت تظهر وتختفي بسرعة مذهلة.
كان لا بد لأمر مهم مثل الأذواق الاستهلاكية الجديدة أن يفرخ خبراءه. وسرعان ما ظهر هؤلاء الخبراء في شكل وكالات الإعلان التي كرست جهودها لنشر المعلومات المتعلقة بالسلع وتحفيز الطلب. وقد ظهرت الحاجة إلى الإعلان في نفس الوقت الذي ظهرت فيه المجلات الرائجة والبرامج الإذاعية التي أصبحت وسيلة لتحقيق المكسب لنفسها وللوكالات الإعلانية؛ فأَوْلت الإعلانات المطبوعة والإذاعية — التي تضمن لفت انتباه الجمهور — اهتمامًا للصور الملونة، والأصوات المُقنِعة، وفهم طبيعة النفس البشرية. في عام ١٩٠٠ أنشأت إحدى المجلات الرائجة: «جود هاوسكيبينج» — أو التدبير المنزلي الجيد — مركزًا تجريبيًّا لاختبار السلع المنزلية الجديدة. وسرعان ما باتت تمنح «خاتم الموافقة» للمنتجات التي كانت تعلن عنها. وأصبحت اللافتات الضوئية الكهربائية الخارجية ظاهرة مألوفة في المدن الكبرى بحلول عام ١٩١٠. كان الترويج للمنتجات وتقديم الترفيه يعملان على نحوٍ تفاعلي على خلق ثقافة شعبية جعلت الناس يدندنون بأغاني الإعلانات التجارية كما يدندنون بالأغاني الرومانسية.
بينت حملة جومبرز لطلب «المزيد» ضرورة التعامل مع العمال باعتبارهم كائنات ثقافية واجتماعية، وأنهم الحل للمعضلة الأساسية للعمل التجاري، والتي تتمثل في القدرة على تقديم قدر من السلع يفوق عدد المشترين. كان الاقتصاديون الشباب يتفقون مع جومبرز في رأيه؛ لأنهم نبذوا نظرية قيمة العمل وتبنوا النظرية التي تركز على الطلب. وقد ارتفعت الأجور بالفعل — على الرغم من أن ذلك حدث في حالات متفرقة — وبدأ ينتشر يوم العمل الذي يتضمن ثماني ساعات من دون حدوث انخفاض في معدل الأجر. لم يكن جومبرز الوحيد الذي أدرك أن الاقتصاد قد تحول جذريًّا من اقتصاد يعتمد أساسًا على الندرة إلى اقتصاد مدفوع بالوفرة؛ فقد أضاف الخبير الاقتصادي الأمريكي سايمون نيلسون باتن في دراسته التي نشرت عام ١٩٠٧ في كتاب بعنوان «أساس جديد للحضارة» قوة فكرية للمفهوم القائل بأن عصر الوفرة قد حل.
تعيد هذه المسألة إلى الأذهان النقاشات الاقتصادية في إنجلترا في أواخر القرن السابع عشر، حينما ظهرت لأول المرة الفكرة الذاهبة إلى أن الإنفاق الشعبي قد يُحدث تأثيرًا على الاقتصاد. في ذلك الوقت، كان من يعملون في التجارة الخارجية بنشاط يحفزون أذواقًا جديدة بما يجلبونه من أقمشة الكاليكوس القطنية الملونة. وأبلغوا القول في رغبات البشر اللامحدودة. وكانوا يقولون إن الطلب غير المرن على الغذاء والمأوى ليس هو الطلب الذي سيدفع الاقتصاد إلى الأمام، وإنما الطلب على السلع الكمالية مثل اقتناء بلوزة ثالثة أو رابعة. لكن المصنِّعين — الذين كانوا ينظرون إلى الناس العاديين على أنهم كسالى، ومسرفون، ومتبلدون، ومعرَّضون للحوادث، وكادحون — كانوا يعارضون بشدة هذا الرأي الإيجابي. وبعد ثلاثة قرون، تحول التوتر بين هاتين المجموعتين من الرأسماليين إلى معارك على تطبيق إجراءات حمائية كفرض التعريفات الجمركية، وقوانين الحد الأدنى للأجور، وتوسيع شريحة المستفيدين من الدعم الاجتماعي. لكن القدرة الإنتاجية المتنامية للاقتصادات الرأسمالية زادت من ضرورة الاختيار بين إبقاء الأجور منخفضة أو تعزيز القوة الشرائية للعمال من الرجال والنساء.
إن رجال الأعمال بطبيعتهم ليسوا مولعين بالتأمل، فهم يحبون العمل. وقد حقَّق حيتان الرأسمالية الصناعية العجائب في المصانع، والمناجم في مختلف أنحاء العالم خلال القرن التاسع عشر. ومع افتخارهم بما حققوه من إنجازات، كانوا يحملون شعورًا بالازدراء تجاه العاملين الذين يستخدمون قوة التجمع لإجبارهم على تقديم تنازلات. وظل هناك لغز محير كامن في قلب نظامهم الاقتصادي، لكن جومبرز وباتن تمكَّنَا من اكتشافه. فالعمال أشخاص مستخدَمون؛ ومن ثم هم عنصر في تحديد الأسعار، وزبائن في الوقت نفسه، ويملكون القدرة على زيادة المبيعات من خلال مشترياتهم. لكن الأفكار تستغرق وقتًا كي تواكب الأحداث. لكن فيما بعدُ، تقدمت الرأسمالية الاستهلاكية بسرعة، مدفوعة قدمًا بمعجزتي الكهرباء والتلغراف. وقد كشفت أن الرجل والمرأة يلعبان أدوارًا كثيرة في الاقتصاد تتنوع بين المُعيل، والعامل بدوام كامل أو بدوام جزئي، والمدَّخِر، والمنفِق، والمستهلك، ومحدد الأذواق، ومنتج عمال المستقبل. ولا شك أن أي تحليل وافٍ للاقتصادات النامية في الغرب ينبغي أن يستكشف دلالة جميع هذه المراحل من خبرة المرء، وتأثيرها.