الحكام الرأسماليون
خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أصبحت الدول الأوروبية دولًا رأسمالية مغامرة، وهو ما عاد بنتائج غير سعيدة عليها هي نفسها وعلى الكثير من بقية دول العالم. فعلى مدى المائتي سنة المنصرمة قبل ذلك، كان اقتصاد السوق الحرة يتبع المسار الذي رسمه مستثمرو القطاع الخاص. وكانت عمليات التواصل غير الرسمية للسوق — التي يجري التحدث فيها باستخدام لغة الأسعار والمعدلات — توجه المشاركين إلى اختيار أفضل الصفقات. وباتت المعلومات في حد ذاتها سلعة مادية توجِّه العمال والمنتجين والمستثمرين نحو مصالحهم. وخلال مرحلة الحبل الطويلة هذه، كانت الحكومات تلعب دورًا مساندًا، فكانت ترعى عمليات التجسس الصناعي، وترفع التعريفات الجمركية، وتبت في العقود في محاكمها. وفي بعض البلدان، كانت تبني السكك الحديدية وتؤسِّس بنوكًا وطنية. لكن الملوك والرؤساء والمستشارين ورؤساء الوزراء منحوا السياسة العليا للدبلوماسية والحرب نصيب الأسد من اهتمامهم.
ثم لم يَعُد القادة الأوروبيون راغبين في الجلوس في المدرجات، ومشاهدة شعوبهم وهي تقود دفة هذه المعجزة وحدها. كانوا قد اكتسبوا الكثير من المال من رعاياهم الأثرياء، وبدءوا استثمارها في إقامة الإمبراطوريات الشاسعة، لا لكي ينتزعوا الجزية — مثلما كان يفعل الرومان والمغول — وإنما لكي يديروا عمالة الرعايا ومواردهم ليصنعوا أشياء للسوق. فأصبح الملوك ورجال الدولة أصحاب مشاريع، وتم إيلاء الكثير من الاهتمام للتحدي المتمثل في الميل لمراكمة رأس المال، بينما لم تلقَ دراسة كيفية تأثير زيادة رأس المال على الخيارات الاقتصادية سوى القليل من الاهتمام. وبنهاية القرن التاسع عشر، بات معظم الناس في الغرب يعرفون أن المال ينبغي أن يظل طوال الوقت يصنع مالًا، وبدت فكرة المال العاطل غير المستغَل بغيضة، ولم يختلف الحكام كثيرًا عن غيرهم في هذا الصدد. ولما كانت إيرادات قادة بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا مرتفعة، فقد خاضوا مغامرات متهورة في الخارج، وأعادت قدرة الرأسمالية الفريدة على توليد الأرباح تشكيل المشهد السياسي.
كان جمع شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية داخل فلك الرأسمالية يَعِد بسلطة وثروة لحكام أوروبا. لكن — ويا للأسف — لم تُصلح الرأسمالية من شأن التنافس الحاد بين الدول الأوروبية. كان توماس بين يتوقع أن تعمل التجارة على إشاعة الود بين البشر، لكن ذلك لم يحدث، بل أضحت البلدان بعد الرأسمالية تمتلك المزيد من المال لتسليح نفسها. ومن ثَمَّ ولَّد امتلاك المزيد من الأسلحة طموحات أعظم؛ إذ بدأت بلدان أوروبا الغربية تتنافس على الأقاليم في الخارج، في حين كانت لدى إسبانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى والبرتغال إمبراطوريات قديمة لتستغلها. إن إيجاد مصادر جديدة للدخل قدَّم الوسائل والدوافع التي حفزت حكام أوروبا للانخراط في التنافس الدولي الذي انتهى بالحرب العالمية الأولى الكارثية.
لم يظل العالم ولا الرأسمالية على حالهما بعد أن زجت الدول الغربية بنفسها في المناطق النائية من أفريقيا بحثًا عن المواد الخام الجديدة. وأصبح الفارق بين التوسُّعَين الصناعي والتجاري حاسمًا. كانت التجارة تمس التجار وخدمهم وأولئك الذين كانوا يعيشون بالقرب من السواحل فقط، بينما كان إنتاج السلع في أراضٍ غريبة يتضمن إرسال مجموعات سكانية بأكملها للعمل من أجل أسيادهم الجدد. وقد كان ما فعلته بريطانيا العظمى مع الصين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مألوفًا في الغزوات الخارجية المبكرة؛ إذ كانت شركة الهند الشرقية البريطانية حريصة على إقامة تجارة لترويج الأفيون الذي يُزرع في الهند. وكانت الحكومة الصينية ترفض السماح لشعبها باستخدام مخدر إدماني كهذا؛ فحظرت التجارة وطردت التُّجَّار البريطانيين. ورغم اندلاع الاحتجاجات داخل البلاد، فرض البريطانيون إرادتهم على الصين. وبعد قصف المدن الساحلية، نجحوا في ممارسة التجارة في خمسة موانئ صينية وسيطروا على هونج كونج. كان هذا التدخل عنيفًا، لكنه كان محدودًا.
غيرت آلية تعبئة الأيدي العاملة في الخارج الطابع الأخلاقي للمشاريع الرأسمالية؛ لأن هذه المشاريع كانت تتطلب ما هو أكثر من الحوافز الاقتصادية للإيقاع بالرجال والنساء الذين كانوا يعيشون بالقرب من أماكن تواجد النفط والغابات الاستوائية. خلق حصاد المحاصيل الاستوائية واستخراج المعادن النفيسة الحاجة لوجود العمال بالقرب من أماكن هذه المواد الخام. بالطبع كانت المصانع المقامة في مزارع قصب السكر بمنطقة الكاريبي ومناجم الفضة في المكسيك وبيرو خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر تشكل نموذجًا للتحرك الرأسمالي الجديد لجعل المستعمرات مراكز للإنتاج.
كانت الحكومات تمتلك ما تفتقر إليه الشركات: القدرة على تجنيد العمال بالقوة عن طريق انتزاع التنازلات من قادتهم المذعنين، أو اقتحام المناطق التي ليس لها نظام سياسي معترَف به، كما حدث في مناطق كثيرة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وكانت المستعمرات الأوروبية موجودة بالفعل على السواحل بحيث تقدم الدعم لرحلات التجارة عبر المسافات الطويلة. ثم أثارت الثروات غير المستغلَّة الموجودة في عمق أفريقيا الخطط الاستعمارية. وبدأت الدول الأوروبية تتعارك على من سيحصل على ماذا، دون التفكير كثيرًا في الشعوب التي تعيش هناك. وتضافر الطمع والفضول والتبشير المسيحي والتسليح العدواني القوي. وباتت إساءة المعاملة — التي لم تكن مقبولة في أرض الوطن — شائعة بعد أن خرجت الرأسمالية خارج حدودها الأصلية. وانطوى في غياهب النسيان ما استغرقه أسلاف المستعمرين من الوقت في الماضي كي يتأقلموا مع إيقاعات العمل الحديثة؛ فبدا لهم رعايا المستعمرات الجديدة متخلفين، وهو ما جعل أسيادهم الجدد لا يبذلون أدنى جهد لرفاهيتهم، وكانت أي مقاومة منهم تقابل بالعنف.
المبشرون الأوروبيون في أفريقيا
من الأمور الباعثة على الدهشة مدى قلة المعلومات المعروفة عن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى قبل خمسينيات القرن التاسع عشر، وذلك بالنظر إلى الامتداد المذهل للاستكشافات الغربية في ذلك الوقت. فلسببٍ ما لم تكن تلك المنطقة أبدًا مرشحة للاستعمار كما كانت الحال بالنسبة لأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا وإندونيسيا والهند. وكانت الأمراض الفتاكة — لا سيما الملاريا — تجعل الأوروبيين يعتبرون استكشاف الصحراء الأفريقية مُخاطرة قاتلة. ومن المثير للدهشة أيضًا أن شخصًا واحدًا، هو ديفيد ليفنجستون، هو الذي فتح الطريق إلى النصف الشرقي من القارة.
إن سيرة حياة ليفنجستون من السِّير التي تجعل البشر العاديين يشعرون بالضآلة لدى معرفة تفاصيلها. فقد كان يعمل من سن العاشرة حتى سن الرابعة والعشرين في مصنع للقطن في مسقط رأسه اسكتلندا. وكان قد فتح عينيه على اكتساب العلم والعقيدة المسيحية في أواخر سِنِي مراهقته، فعلَّم نفسه اللغة اللاتينية، التي كانت شرطًا مسبقًا للقبول في التعليم الجامعي، حتى إنه ابتكر طريقة تمكِّنه من القراءة خلال ساعات عمله الأربع عشرة؛ إذ كان يعلق كتبه على عجلة الغزل. وادَّخَر ما يكفي من المال للالتحاق بكليتي الطب في جلاسكو ولندن، ومن هناك ذهب إلى جنوب أفريقيا طبيبًا تبشيريًّا، وما لبث أن اتخذ زوجة من إحدى العائلات التبشيرية المرموقة. وسرعان ما وجد ليفنجستون مهنتيه التوأمتين كمعالج مسيحي ومستكشف مقدام بعد فترة وجيزة من وصوله إلى كيب تاون عام ١٨٤١. ظلت المهنتان متضافرتين طوال الثلاثين عامًا التالية، وكان ينظم رحلات إلى «أفريقيا الأشد ظلمة»، وهذه تسمية شائعة كانت تعبر عن الظلمة المعرفية، وقتامة لون بشرة السكان.
ظل ليفنجستون حتى آخر أيام حياته يرتحل سيرًا على الأقدام، وفوق متون الثيران متوغلًا وسط القارة السمراء، متتبعًا مسارات الأنهار، صاعدًا السلاسل الجبلية وهابطًا منها وسائرًا حولها في المناطق التي لم تطأها قدمَا رجل أبيض من قبلُ. فشق طريقه عبر آلاف الأميال من غابات السافانا البكر، والسهول والصحاري والبحيرات والجداول والمنحدرات، وملأ دفاتر يومياته بتفصيلات مثيرة عن الحياتين النباتية والحيوانية وعن الناس في أفريقيا، كانت تتخللها تأكيدات على التزامه بالعقيدة المسيحية. كان ليفنجستون أول أوروبي يعبر القارة الأفريقية من ساحل المحيط الأطلنطي إلى ساحل المحيط الهندي. واكتشف في هذه الرحلات المضنية مواطن جمال أفريقيا وجَلَد شعبها. ووسط ما خاضه من معارك مع الأسود والملاريا، كان يكتب بطابع ديني حول الأمراض التي كان يعالجها، ومن بينها الملاريا التي أفلح في علاجها بفعالية حينما استخدم مادة الكينين. لكن المستكشفين اللاحقين كانوا أقل حظًّا، وظلت الملاريا مرضًا فتاكًا، حتى إنها استمرت حتى عام ٢٠٠٦ تتسبب في وفاة نصف مليون رضيع أفريقي سنويًّا.
تسبب ليفنجستون دون قصد في إذكاء طمع مواطنيه بما كتبه من تفاصيل مادية عن الأرض المليئة بالموارد البكر. فحينما عاد إلى إنجلترا عام ١٨٥٧، نشر كتابه «رحلات تبشيرية وبحوث في جنوب أفريقيا» الذي أثار القراء بدرجة تضارع الإثارة التي حققها الجزء الأول من سلسلة أفلام إنديانا جونز «رواد السفينة المفقودة» في الوقت الحالي لجمهور المشاهدين. لكن ليفنجستون لم يكن إنديانا جونز؛ فقد أجمع الكل على أنه كان من ألطف الرجال، وهي السمة التي تفسر كيف كان ينجح دائمًا في نيل قبول القبائل الرافضة لتدخله.
في سياق تقديم مهارته الطبية وعقيدته المسيحية إلى أولئك الذين التقى بهم، احتك ليفنجستون مباشرة بتجارة الرقيق التي مارسها الأفارقة المسلمون والمتحدثون باللغة السواحلية في وسط أفريقيا. كان القادة العرب الأقوياء قد اخترقوا ساحلَي أفريقيا الشرقي والغربي خلال القرن التاسع عشر، وحولوا الكثير من القبائل الأفريقية لاعتناق دينهم. وكانوا يستعبدون الأفارقة أيضًا، ويرسلونهم إلى المشترين في زنجبار، وبلاد فارس، ومدغشقر، ومزارع شبه الجزيرة العربية. كرَّس ليفنجستون العقد الأخير من حياته لفضح وحشية تجارة الرقيق في شرق أفريقيا. وحينما نشر كتابه «زامبيزي وروافده» عام ١٨٦٥، تظاهر مئات المسيحيين مطالبين بإلغاء هذه التجارة الشنيعة التي ازدادت كراهة في نظرهم لما تحمله من طابع إسلامي. وقد تبين أن الشعور بالاشمئزاز من تجارة الرقيق هذه والطلب الأوروبي النَّهِم على العاج المستخدم في صنع آلات البيانو وكرات البلياردو والمجوهرات وتطعيمات الأثاث؛ كانا عاملَيْن يعزِّز أحدُهما الآخر. وأدى الاحترام العالمي الذي يحظى به ليفنجستون إلى حفز حملة جديدة وقوية من أجل تصدير الحضارة لشعوب «القارة المظلمة». لكن كانت هذه الفكرة الأوروبية غطاء لإخفاء كم هائل من الآثام. حينما عاد ليفنجستون إلى أفريقيا مرة أخرى، توغل في العمق الأفريقي كي يستكشف هذه المرة منطقة منابع نهر النيل. وانقطعت كل اتصالاته بالمراسلين الأوروبيين لمدة خمس سنوات؛ ممَّا أضفى على سمعته المرموقة في المجالات الإنسانية مزيدًا من الغموض الجذاب.
عند هذه المرحلة من القصة ظهر هنري مورتون ستانلي، وهو مهاجر ويلزي من الولايات المتحدة. كان ستانلي من قدامى المحاربين في الحرب الأهلية، ومراسلًا صحفيًّا خارجيًّا، وهاويًا لعلم الجغرافيا؛ فقبل المهمة التي كلفته بها صحيفة «نيويورك هيرالد» عام ١٨٧١ بالعثور على ليفنجستون المفقود. كان ستانلي قد قاتل في صفوف كِلَا الجانبين خلال الحرب الأهلية، وهو ما يعطينا فكرة عن ازدواجية شخصيته. استغرق بحث ستانلي عن ليفنجستون عبر منطقة وسط أفريقيا ستة أشهر، لكنَّه نجح في نهاية ذلك العام في مهمته، حينما ألقى تحيته الشهيرة على التبشيري العظيم المفقود قائلًا: «أعتقد أنك الدكتور ليفنجستون؟» خلال السنوات القليلة التالية، صار ستانلي وليفنجستون اسمين شهيرين. وشحذت أخبارهما الخيال والفضول والطموح في نفوس الأوروبيين الذين بدءوا يعتبرون العالم بأسره مملوكًا لهم.
الطموحات الاستعمارية لليوبولد ملك بلجيكا
لا شيء من شأنه أن يمنحك إحساسًا باختلاف عالم القرن التاسع عشر عن عالمنا الآن أكثر من تتبع مسار ليوبولد الذي نجح بعزمه المدفوع بجنون العظمة في اكتساب مستعمرة أفريقية تفوق مساحتها مساحة بلاده بلجيكا ٧٦ مرة. لكن ذلك ليس صحيحًا تمامًا؛ إذ إن دولة الكونغو الحرة التي أنشأها ليوبولد بهذه الغطرسة كانت ملكية شخصية يديرها بموافقة البرلمان البلجيكي ودعمه المالي وكأنها شركة خاصة. ونظرًا لأن قادة بريطانيا لم يُبدوا أي اهتمام بالحصول على مستعمرة في المناطق الداخلية من أفريقيا، تمكن ليوبولد من الاستعانة بستانلي، الناجي المقدام من سنوات الاستكشاف في أفريقيا؛ فاستخدمه بموجب عقد مدته خمس سنوات وأرسله على الفور مرة أخرى إلى وسط أفريقيا مزودًا إياه بالأموال اللازمة لبناء الطرق وإنشاء المحطات عبر شبكة نهر الكونغو، وشراء الأراضي، وإبرام المعاهدات. وهذا ما فعله ستانلي على مدى خمس سنوات بمهارة فائقة؛ إذ أقنع ٤٥٠ من حكام حوض الكونغو بقبول هداياه مقابل منحه حقوقًا إقليمية.
الدول الأوروبية الأخرى في أفريقيا
لما كان الألمان قد دخلوا حلبة التنافس الدولي حديثًا — شأنهم في ذلك شأن الملك ليوبولد — كان عليهم أن يبحثوا عن مستعمرة لأنهم لم يشاركوا في مغامرات في القرن السادس عشر لاقتحام العالم الجديد. وقبل أن يندفعوا نحو أفريقيا، عثروا على مكان تحت شمس جنوب المحيط الهادي. كان النقص الحاد في القطن الخام جراء الحرب الأهلية الأمريكية قد تسبب في خسائر فادحة لمصانع النسيج والموانئ التي تعتمد على صادرات القطن في وادي الراين؛ فبعث رجل أعمال مرموق ومبدع من هامبورج مندوبين إلى منطقة المحيط الهادي للبحث عن أراضٍ على طول خط الاستواء تصلح لزراعة القطن، وتمكن من العثور على موطئ قدم في ساموا. ثم أتبعت الحكومة الألمانية هذه المحاولة بإقناع إسبانيا بأن تبيعها غالبية الجزر التي تقع بين جزر سولومون، وكارولين، وماريانا، وبيليو. ولم تكن فرنسا ولا بريطانيا العظمى مستعدتين للتنازل عن جزر المحيط الهادي الجنوبية الخصيبة هذه لألمانيا؛ لذا قسمتا فيما بينهما الجزر المتبقية إلى ثماني مجموعات مختلفة. في أقصى الغرب، وقعت بريطانيا العظمى عام ١٨٩٨ معاهدة مدتها ٩٩ عامًا مع الصين حصلت بموجبها على هونج كونج. وفي هذه الأثناء في أفريقيا، أعلن الألمان ملكيتهم لمناطق توجولاند، والكاميرون، وناميبيا، وتنجانيقا، الواقعة على كلا جانبي القارة الأفريقية.
كانت إيطاليا آخر الدول التي انضمت لهذا التهافت على الأراضي الأفريقية؛ فاستولت على ليبيا وإريتريا وجزء من أرض الصومال، لكنها منيت بهزيمة مخجلة على أيدي الإثيوبيين. ولم تتبقَّ أي أراضٍ أفريقية مستقلة سوى إثيوبيا وليبيريا — المستعمرة التي أسسها الأمريكيون للعبيد المحررين — خلال هذا النزاع الأوروبي المفتوح على أراضي أفريقيا. بالنسبة لفرنسا وبريطانيا، أصبحت مواطئ القدم التي كانت قد أسست في وقت سابق منصات انطلاق لعمليات استباحة أخرى على مستوى العالم، على الرغم من أنها كانت تجري بأساليب مختلفة اختلافًا ملحوظًا.
عندما انتهى ليوبولد من تنفيذ خططه عام ١٨٧٥ كانت بريطانيا العظمى أكثر حرصًا على التجارة من الاستحواذ على الأراضي، فأحكمت سيطرتها على مصر. وكانت بريطانيا قد بدأت تسعى وراء مصالحها في مصر بعد هزيمة نابليون الذي كان قد غزا البلاد عام ١٧٩٨. رسميًّا كانت تحكم مصر عائلة مالكة مصرية في ظل ارتباط واهٍ بالإمبراطورية العثمانية. لكن عمليًّا ظلت البلاد ضمن دائرة النفوذ الأوروبي. وأصبح هذا الوضع المهين مثار جدل بين المؤمنين بالقومية المصرية، الذين أسفرت تحريضاتهم عن ثوران اجتماعي هدَّد الاستثمارات الضخمة لبريطانيا العظمى في مصر. وكذلك بدأت أعداد متزايدة من أساطيل بريطانيا التجارية تستخدم قناة السويس بعد افتتاحها عام ١٨٦٩؛ فقد ربط هذا الممر المائي الممتد بطول ١٠٠ ميل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وكان احتمال تعرضه لأي عنف احتمالًا مرفوضًا بالنسبة للمستثمرين البريطانيين؛ فأمرت الحكومة البريطانية بغزو مصر عام ١٨٨٢، فيما يدل على الاندماج بين المصالح الاقتصادية العامة والخاصة الذي بات أكثر وضوحًا على نحو متزايد.
على الجانب المقابل من القارة، كانت بريطانيا العظمى تواجه مشكلة في جنوب أفريقيا، التي كانت قد استولت عليها من شركة الهند الشرقية الهولندية خلال الحروب النابليونية. كانت مدينة كيب تاون تلعب دورًا حيويًّا بالنسبة للتجارة البريطانية الخارجية، حيث كانت تخدم الأساطيل التجارية والملكية المتجهة إلى الشرق والقادمة منه. وكانت بريطانيا قد وَرثَت عن هولندا أيضًا مجموعة سكانية من المزارعين الهولنديين الذين ازدادوا تمردًا في ظل الحكم البريطاني بعد أن شنَّت بريطانيا حملة ضد العبودية عام ١٨٣٣؛ فقرر حوالي ستة آلاف من هؤلاء الأفارقة الهولنديين — أو البوير، كما كانوا يطلقون على أنفسهم — الرحيل شمالًا لإنشاء مستوطنات خاصة بهم، آخذين معهم نحو ستة آلاف عبد وقطعان الأغنام والماشية التي كانوا يعتاشون عليها. ولم يكن البريطانيون على استعداد لمنح أي سيادة لا لمقاطعة ترانسفال ولا لولاية أورانج الحرة، خصوصًا بعدما عثر أحد الأفارقة على الماس هناك في أحد أيام عام ١٨٦٧. ولم يحسم هذا الأمر لمصلحة بريطانيا سوى صراع دموي اندلع في السنوات الأخيرة من القرن، في الوقت الذي كان فيه الأوروبيون قد أعلنوا سيطرتهم على معظم أراضي القارة الصالحة للعيش.
لقد تبين أن من الأشياء التي قدمت عونًا كبيرًا للأوروبيين في استيلائهم على الأراضي الأفريقية المدفع الرشاش الذي طوَّره الأمريكي هيرام ماكسيم وفي ذهنه أن يستخدمه الأوروبيون بعضُهم ضد بعض! كان أحدهم قد اقترح على ماكسيم أنه إذا كان يرغب في كسب المال، فعليه أن «يخترع شيئًا من شأنه أن يمكن هؤلاء الأوروبيين من ذبح بعضهم بعضًا بطريقة أكثر سهولة». لكنهم في الواقع استخدموا سلاح ماكسيم الجديد ضد الأفارقة. كان ذلك المدفع الرشاش الأوتوماتيكي المحمول يطلق ٥٠٠ طلقة في الدقيقة الواحدة — وهذا يعادل قوة إطلاق النار من ١٠٠ بندقية — ويستغل أيضًا قوة ارتداد كل رصاصة لإخراج الخرطوش المستهلك وإدخال الطلقة التالية. وفي إحدى الاشتباكات التي وقعت في الأراضي التي باتت اليوم دولة زيمبابوي، تغلب ٥٠ جنديًّا بريطانيًّا على نحو خمسة آلاف محارب بفضل أربعة فقط من مدافع ماكسيم الرشاشة. لا شك أن البندقية الآلية، والتحسينات المتعددة التي أدخلت على رشاش ماكسيم خدمت أوروبا خدمة كبيرة سواء حينما كانت في أيدي الجنود أو أيدي رواد الأعمال الذين كانوا يرغبون في تسريع وتيرة احتلال أفريقيا.
ومثل أي جبهة، اجتذبت أفريقيا قطاع الطرق الذين كانوا في بعض الأحيان يعملون رجال استطلاع للوقوف على إمكانية عمليات استحواذ بلادهم على الأراضي. كان سيسيل رودس مثالًا على هذا النوع من الرجال. كان رودس قد لحِق بشقيقه إلى جنوب أفريقيا عام ١٨٧٠. وفي غضون عقد من الزمان كوَّن شركة دي بيرز للتعدين، التي استحوذت على الجزء الأكبر من الماس المجلوب من أفريقيا طوال القرن اللاحق. وكان رودس يستلهم حماسه من حلمه بغرس العلم البريطاني «من كيب تاون الى القاهرة». لكن هذا أثار مخاوف البرتغاليين في موزمبيق والألمان الذين كانوا منشغلين بالاستيطان في شرق أفريقيا. استولى رودس على منطقة ظلت تحمل اسمه لمدة نصف قرن معتمدًا على الوقاحة التي من شأنها أحيانًا أن تبني إمبراطوريات كبرى. عززت الحكومة البريطانية في نهاية المطاف سلطتها السيادية على الأراضي، وإن كانت بطيئة في رد فعلها إزاء أساليبه المتعالية هذه. وبفضل رودس الذميم، صارت هذه السلطة البريطانية ممتدة على رقعة شاسعة من أفريقيا الجنوبية.
كانت الرأسمالية خلال تاريخها الطويل تتصرف في كثير من الأحيان مثل كشاف المواهب، بحيث أوجدت استخدامات جديدة للنباتات والمنتجات التي كانت موجودة منذ عصور. والمطاط مثال على ذلك؛ فهو ينمو بريًّا بوفرة في الغابات المطيرة في الكونغو وفي الأراضي الاستوائية من البرازيل وجميع أنحاء ماليزيا والهند، وله خواص مانعة للمياه فضلًا عن لدونته التي تم إدراك فوائدها؛ فقد اكتشف الأمريكي تشارلز جوديير كيفية تخليص المطاط من لُزوجته، لكن استغلاله تجاريًّا على نطاق ضخم لجعل المركبات ذات العجلات سلسة القيادة لم يبدأ إلا بعدَ أن نجح الإنجليزي جون دانلوب في صنع إطارات هوائية لدراجة ابنه ثلاثية العجلات عام ١٨٨٧. ترتب على ذلك انتشار صرعة ركوب الدراجات. وباتت صناعة السيارات قاب قوسين أو أدنى من حركة التقدم التكنولوجي في نفس الوقت الذي كانت فيه النماذج الأولى للسيارات الحديثة تخضع للتطوير في ستة بلدان؛ ومن ثَمَّ كان الطلب على المطاط اللازم لصناعة السيارات يبشر بدمج المناطق الاستوائية والشرق أوسطية التي كانت مهملة من قبل في الاقتصاد العالمي.
توسعت الولايات المتحدة خلال معظم القرن التاسع عشر من خلال إجلاء الهنود الذين كانوا يعيشون وراء جبال الأبلاش. وكان المستوطنون المسلحون المدعومون من الجيش الأمريكي يساعدون البلاد في تحقيق ما كانت تعتبره «مصيرها البيِّن» باحتلال القارة الأمريكية الشمالية. وفي ظل اتحاد ولايات كاليفورنيا وأوريجون وواشنطن سريعًا، شرع قادة البلاد ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة باسيفيكية وأطلسية معًا. وسرَت حمى الرغبة في تكوين إمبراطورية كبرى للعديد من الأمريكيين، ثم لاحت فرصة على بعد ٩٠ ميلًا فقط من سواحل فلوريدا. فبينما كانت القوى الأوروبية الأخرى تتسابق للاستيلاء على مستعمرات جديدة، كانت إسبانيا تواجه مشكلة في الاحتفاظ بسيطرتها على كوبا، وبورتوريكو، والفلبين، وهي الثلاث ممتلكات الأخيرة من ممتلكات الإمبراطورية التي كانت عظيمة يومًا ما. وفي عام ١٨٩٨ استحوذ النضال الكوبي من أجل نيل الاستقلال على تعاطف الأمريكيين، الذين بدأت صحفهم الصفراء الجديدة في إذكاء التمرد المندلع هناك.
استيقاظ الضمير الغربي
في السنوات التي أعقبت تقسيم غنيمة أفريقيا الكبرى، أصبح ديفيد ليفنجستون وهنري مورتون ستانلي هما الحافزان اللذان دفعا الأوروبيين لارتياد أفريقيا. كان ستانلي يرمز للاستغلال المتغطرس، بينما كان ليفنجستون يمثل التفاني في سبيل تحقيق رفاهية الآخرين على المستويين المادي والروحي. لقد تسببت المغامرات الشخصية — كمغامرة ستانلي — في القضاء على الوحدة الثقافية للبلدان التي كانت قوية في أشياء كثيرة سوى قدرتها على صد جبروت الغرب. صحيح أن المبشِّرين المسيحيين كانوا يهتمون بالشعوب الأفريقية، لكنهم كانوا عازمين بالقَدر نفسه على تغييرهم. ورغم الهوة الأخلاقية الفاصلة بين ستانلي وليفنجستون، أبدى كِلَا الرجلين سمات تتماثل تماثلًا ملحوظًا مع سمات رأس المال المغامر، كما يتبين من فضولهما النهم، وقدرتهما على تحمل المشقة قصيرة المدى في سبيل تحقيق أهداف طويلة المدى، ومثابرتهما الغالبة.
لقد غير الطمع التجاري — الذي ازداد حدة جراء التنافس بين دول أوروبا — شكل العالم؛ فبعدما انتهت هَبَّة عمليات الاستحواذ، بات نصف الكرة الأرضية يخضع لسيطرة تسع دول. ولو حاولت مثلًا أن تعين لونًا من الألوان لكلٍّ من إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا وهولندا وألمانيا والولايات المتحدة وبلجيكا كي تظهر المناطق الخاضعة لسيطرة كلٍّ منها — حتى الدنمارك أيضًا ستحتاج لونًا لمستعمرتها في جرينلاند — فستبدو خارطة العالم كقطعة قماش حافلة بالألوان. كان على ناقلي الهوية الوطنية للرأسمالية الغربية أن يستحدثوا كلمات جديدة لتسمية هذه الممتلكات، فظهرت مفردات «الانتداب» و«مناطق النفوذ» و«الحماية» و«الضم» كي تحدد الطبيعة الخاصة لسيطرة هذه الدول في مختلف أنحاء العالم. وفي مؤتمر عُقد في برلين في الفترة من ١٨٨٤-١٨٨٥ صدق المؤتمرون على المستعمرات الأفريقية المملوكة لكل الدول التي حضرت المؤتمر.
استمر الغربيون في مسيرتهم عبر جميع أنحاء العالم، معتبرين ذلك جزءًا من الخطة الكبيرة للتقدم البشري. كانت الرغبة الملحة في استغلال الموارد في كل مكان نادرًا ما ينظر إليها باعتبارها جزءًا من حراك الرأسمالية، بل كانت كثيرًا ما تنطوي ضمن الافتراض بأن الأوروبيين هم منفذو التطور التاريخي. وقد حقق الغربيون بالفعل العديد من الإنجازات الطيبة في الخارج، وشهدوا بأعينهم القسوة الشديدة للملوك المحليين وتزمُّت الهياكل الهرمية الاجتماعية التي كانت تكفل قمع الأكثرية على يد الأقلية. ومع ذلك، فقد أعماهم صلفهم المريض عن الضرر الذي كانوا يوقعونه بين الناس الذين لم يفهموا طبيعتهم أو يهتموا بشئونهم إلا قليلًا. إن أي تقدم ارتبط بالهيمنة الغربية خارج أوروبا إنما تحقق مقابل ثمن باهظ تَمثَّل في منح رعاياهم الأجانب شعورًا دائمًا ومثبطًا بالنقص.
على المستوى الشعبي، قُدِّم مبرِّران للانتهاكات الأوروبية: أن الرجال والنساء المتضررين كانوا أجهل وأكسل وأكثر إيمانًا بالخرافات من أن يدركوا ما يحدث لهم، أو أن الأوروبيين كانوا حاملين لهبات كريمة من ثقافتهم المتفوقة، التي تتجلى في دينها ومعداتها وثرواتها. ولأن الأمم الأوروبية متحضرة فهي تجلب التعليم العام، ومستوى أعلى من النظافة، ووسائل نقل أفضل، ومواقف أكثر احترامًا للمرأة، إلى رعاياها الجدد الغارقين في ظلمة الجهل. لكن حينما أوضح الإصلاحيون علنًا الفجوة الواسعة بين الفوائد المرجوة والإنجازات الفعلية على أرض الواقع، فقدَ مشروع بناء الإمبراطورية بريقه، على الرغم من أن عزمه على المُضي قُدمًا كان قويًّا بما يكفي لأن يشعل حربًا امتدت كامتداد ممتلكات أوروبا في جميع أنحاء العالم.
منافس جديد في الشرق
ثم وقع حدثان مؤثران دفعا اليابان لتغيير اتجاهها: وصول أسطول أمريكي يطالب اليابان بالانضمام لنظام التجارة العالمية غير الرسمي، ووقوع انقلابين شبه سلميين؛ الأول عام ١٨٥٣، والثاني عام ١٨٦٩. كانت الشهية الأمريكية للتجارة في جميع أنحاء المحيط الهادي قد ازدادت نتيجة الاستيلاء على موانئ كاليفورنيا في الحرب المكسيكية الأمريكية التي انتهت عام ١٨٤٨. وبدت اليابان للأمريكيين كمحارة لا تحتاج سوى لقليل من الضغط كي تكشف عن لآلئها؛ فأرسلوا الكومودور ماثيو بيري على رأس أسطول عبر المحيط الهادي لفتحه. كان بيري هو الرجل المناسب لهذه المهمة؛ فقد درس هدفه بعناية، ووصل بمزيج رائع من الأسلحة الحديثة والطقوس الحافلة بالفخامة. كان بيري يرمي من وراء استعراض بواخره التي تحمل المدافع الضخمة إلى إثارة انبهار اليابانيين بالتكنولوجيا الغربية، وهذا بالتأكيد ما أحدثه مشهد الاصطفاف المهيب للسفن الأمريكية السوداء في ميناء طوكيو.
كان بيري لا يتعامل إلا مع أعلى سلطة ويُبدي استعداده للقتال بطرد أي ياباني يحاول الصعود على متن إحدى سفنه. وكان صبورًا أيضًا؛ فقد منح اليابانيين مهلة طالت نصف عام لاتخاذ قرارهم. وتبين أن هذا وقت كافٍ بالنسبة لهم كي يدركوا أن الطريقة الوحيدة التي تمكنهم من تكوين قوة لصد النفوذ الخارجي هي أن يستفيدوا من القوة الحديثة للأجانب. وبعد خمسة عشر شهرًا من المفاوضات المتوترة التي طغت عليها تهديدات باستخدام القوة، نجح بيري في الفوز بمعاهدة وجرح كبرياء اليابانيين.
بينما كانت هذه الفتوحات المزعومة تضرب اليابان، كان جناح إصلاحي من الساموراي — الطبقة الأرستقراطية التقليدية — الذين يشكلون نحو ٧٪ من مجمل السكان اليابانيين، يدبرون عملية إعادة ترتيب للقوتين النبيلة والاستعمارية. وكان قادة حركة إصلاح ميجي — التي اتخذت اسم الإمبراطور الشاب — انتهازيين بما فيه الكفاية بحيث يقتبسون كل فكرة غربية قد تحيل اليابان إلى دولة حديثة. ولما كانوا غير راضين عن المعاهدات التجارية التي فُرضت على بلادهم، شرعوا يعززون عادات يابانية مميزة مثل الاعتقاد الشنتوي بألوهية الإمبراطور. وأصبح وجود دين مشترك أمرًا مهمًّا كقوة موحِّدة للشعب. وساعدت المدارس وقوات الجيش أيضًا في غرس الولاء والشعور القوي بالواجب الوطني بين اليابانيين. وربما الشيء الذي كان أكثر أهمية أن مصلحي نظام ميجي وضعوا منظومة تعليمية وأخلاقية أكثر علمية وتقنية بدلًا من المنظومة الأخلاقية والتعليمية الكونفوشيوسية الكلاسيكية القديمة. وفيما يُعَد مفارقة مثيرة للاهتمام — إن لم يكن تناقضًا — أن قادة ميجي كانوا يرغبون في الحفاظ على السمات التي تجعل اليابان فريدة وفي الوقت نفسه تهيئة شعبهم لدخول عالم حديث ومتعدد القوميات.
تبين أن مسئولي حركة ميجي يتبعون النهجين التجريبي والواقعي من دون أن يتهاونوا في تحقيق هدفهم المتمثل في اللحاق بركب الغرب. و«اللحاق بالركب» — كما اتضح فيما بعدُ — كان يعني تخليص البلاد من التدابير الإقطاعية، والولع بالتقاليد، وفئة الساموراي المكلفة، والنظام الضريبي الذي يحابي الأسياد الإقطاعيين على حساب الفلاحين؛ فحولوا رواتب الساموراي إلى سندات يمكن استخدامها كرأس مال بنكي ووحدوا العملات المتعددة وأصدروا عملة واحدة. فنما القطاعان الاقتصاديان القديم والجديد في نفس الوقت، وكانا في كثير من الأحيان يعززان أحدهما الآخر. في الواقع، كان رأس المال اللازم للتحديث ناتجًا عن تسريع وتيرة النمو في حرف النسيج والحرف التقليدية المبجلة.
تجلت كراهية الأجانب — التي أبقت البلاد معزولة — من خلال أيديولوجية عبادة الإمبراطور. لكن هذه الكراهية اليابانية للأجانب انقلب حالها حينما أصبحت محاكاة الغرب في اللباس والجماليات والتكنولوجيا مرتبطةً بحب الوطن. لكن التنازلات الجبرية التي انتزعتها بريطانيا العظمى والولايات المتحدة من اليابان ظلت تؤرق الكبرياء الياباني وتقدم الوقود الوجداني الدافع نحو سياسة خارجية توسعية. وما كان أكثر تهديدًا أن روسيا كانت تتحرك شرقًا نحو منشوريا، وسخالين، وكوريا، بعد أن ترسخ نشاط السكك الحديدية العابرة لسيبيريا خلال تسعينيات القرن التاسع عشر. كانت الصين أيضًا تطمح لمزيد من السيطرة على كوريا، وهو أمر ما كانت لتسمح به الحكومة اليابانية التي كانت على استعداد لإنفاق ثلث الميزانية الوطنية على الجنود ونظم الأسلحة.
كان العزم على طرد القوى الغربية التي توغلت بدرجة كبيرة في شرق آسيا جزءًا لا يتجزأ من سعي اليابان للاستقلال. كانت هذه القوى موجودة بالفعل — بريطانيا في هونج كونج، وهولندا في ماكاو وتيمور، وإسبانيا في الفلبين، وفرنسا في جزيرة تاهيتي في المحيط الهادي — وفيما بعد، عام ١٨٦٧، اشترت الولايات المتحدة ألاسكا وجزر ألوشيان من روسيا وضمت جزيرة ميدواي لممتلكاتها. وباتت حكومة ميجي الجديدة قادرة على مجابهة التحدي الصيني، وهو ما تمثَّل في الصمود الناجح في الحرب الصينية اليابانية التي دارت عامي ١٨٩٤ و١٨٩٥. وعندما توسعت روسيا إلى منشوريا، استتبع ذلك المزيد من التدابير، فانهارت المفاوضات بين روسيا واليابان حول مناطق النفوذ المشترك؛ مما أدى إلى شن هجوم ياباني على بورت آرثر في منشوريا في مطلع عام ١٩٠٤. وأعقب ذلك حرب سريعة للغاية، انتصرت فيها مجددًا اليابانُ الناشئة. ثم وضعت مفاوضات السلام التي عُقدت في نيو هامبشير حدًّا للأعمال العدائية، ومنحت جائزة نوبل للسلام للرئيس تيودور روزفلت، الذي توسط في هذه المفاوضات عام ١٩٠٦.
ولَّدت اليابان الاستعمارية ثورتين أنذرت كلٌّ منهما بانقلاب موازين العالم؛ فقد حركت الهزيمة المهينة التي لحقت بروسيا قادة الثورة الروسية عام ١٩٠٥ قبل الأوان. الحدث الآخر الذي كان أكثر مباشرة، وهو أن القادة اليابانيين شجعوا الثوريين الصينيين؛ اعتقادًا منهم أن ذلك من شأنه أن يسهل خططهم للسيطرة على منشوريا. فارتفع عدد الطلبة الصينيين الذين كانوا يفدون إلى اليابان للدراسة من ٥٠٠ طالب عام ١٩٠٢ إلى ١٣ ألف طالب بحلول عام ١٩٠٦. وعاد كثير من هؤلاء الثوريين السياسيين للوطن من أجل دعم صن يات سن. وكانت الحكومة اليابانية تدعم قيام جمهورية الصين — الذي تم بنجاح عام ١٩١٢ — ظنًّا منها أن ذلك سيحدث فراغًا في السلطة في منشوريا.
إعادة هيكلة الشركات
في مطلع القرن العشرين، عملت الرأسمالية المتلونة على تغيير سرعتها وهيكلها مرة أخرى. وفي تناقض حادٍّ مع نهج التدافع الاستعماري على اكتساب أراضٍ جديدة، كانت الشركات التجارية — التي أصبحت تمثل اللاعبين الأساسيين — تزداد عقلانية وكفاءة، وصارت أفضل تنظيمًا بكثير. كان التطور الذي حدث في وقت سابق في السكك الحديدية والتلغراف قد أتاح ظهور كيانات الأعمال المعقدة وجعلها ضرورية في نفس الوقت. وقد كسرت القطارات والتلغرافات عزلة القرى والبلدات والمدن المتباعدة عن بعضها. وساعدت طرقها وسككها الحديدية على استمرار حركة الناس والبضائع والمعلومات. وحينما باتت الشركات الجديدة منظمة تنظيمًا جيدًا، أتاح حجمها خفض التكاليف بالإضافة إلى شراء المواد، وتنظيم الإنتاج، وجذب الزبائن. وهكذا عزَّز كبر الحجم إعادة الهيكلة التنظيمية وسدد كلفتها.
مع حلول مطلع القرن العشرين، لم تعد الرأسمالية ذلك الدخيل البغيض الذي يُربك العادات الراسخة، بل صارت هي النظام الاقتصادي المسيطر في أوروبا والولايات المتحدة واليابان. وأظهر القرن التاسع عشر الارتباط الوثيق بين التكنولوجيا دائمة التطور ورواد الأعمال المغامرين. وقد كانت تجربة تفوُّق ألمانيا والولايات المتحدة على بريطانيا العظمى مصدرًا للعديد من الدروس، ولو أنها نادرًا ما حَظيَت باهتمام الدارسين. بالنسبة للمبتدئين، كان خوض المخاطر جزءًا أساسيًّا — لكنه مزعج — من الحراك الرأسمالي، وكان الابتكار يساعد على استمرار التنمية الاقتصادية، ولم يكن تشجيع الاستهلاك يقل أهمية عن توسيع الإنتاج. وكانت موجات الذعر المالي والركود تذكر الناس بأن أحدًا غير مسئول مسئولية واضحة عن اقتصاد الأعمال الحرة، حتى لو كان بعض المشاركين يملكون قدرًا أكبر بكثير من القوة ممن سواهم. وتبين أن التكيف مع تلك الحقيقة في حَدِّ ذاتها من الصعوبة بمكان على الشعوب والحكومات. إن تراكم الخيارات الذي يظهر في القرارات الشخصية الخاصة بالإنتاج والادخار والإنفاق، والتوظيف والعمل، والإقراض والاقتراض، كان — ولا يزال، وسيظل — قادرًا على إحداث مفاجآت ليست كلها سارة.
في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، صارت المنافسة الشرسة تلتهم الأرباح في جميع أنحاء العالم الرأسمالي، وكان ذلك يحدث بينما كانت الابتكارات التكنولوجية تبتلع المزيد من المال. في البداية، كانت الروابط التجارية هي الأمل في تهدئة حروب الأسعار، لكن إنشاء شركة قابضة تضم مؤسسات كثيرة كان حلًّا أكثر فعالية. سادت منظومة «الشركة» — وهي مفردة مختزلة لمصطلح «مؤسسة خاصة» — في نهاية عصر فاندربيلت وكارنيجي وروكفلر. في الواقع، قام روكفلر بخطوة جديدة حينما حققت شركته «ستاندرد أويل أوف أوهايو» شبه احتكار لحقول النفط، وخطوط الأنابيب، ومصافي التكرير؛ فبموجب ميثاق ولاية أوهايو الممنوح له، لم يكن مسموحًا له قانونًا بامتلاك أسهم خارج ولاية أوهايو، فابتكر استراتيجية جديدة؛ إذ كون مجلس أمناء ليمتلكوا أسهمًا في شركاته المتعددة، وأنشأ اتحادًا احتكاريًّا للنفط عام ١٨٨١. وهذا لم يمنع منافسة أي شركة أخرى فحسب، بل باتت الشركة الجديدة كبيرة بحيث صارت تحتاج لتغيير إداري شامل تتحمل كلفته.
ومما يثير الاستغراب أن البيروقراطية لم تكن هي الشيء الذي ميَّز الشركة عمَّا سبقها من تنظيمات تجارية وبيروقراطية وفصل للملكية عن الإدارة؛ فمنذ وقت طويل قبل أن تضع حكومة الولايات المتحدة كياناتها البيروقراطية التاريخية مثل: «لجنة التجارة بين الولايات» و«لجنة الأوراق المالية والبورصات»، كوَّنَت شركات: سكك حديد بنسلفانيا، ودو بونت، وستاندرد أويل، والشركة الدولية للهاتف والتلغراف منظمات متطورة تمخض تعقُّدها البالغ عن ميلاد مهنة جديدة؛ الإدارة. وقد اكتسب المديرون مكانة رفيعة حينما تعلموا مهارات جديدة. وتضافرت التطورات المتزامنة لتخلق مؤسسات أكثر تعقيدًا. وعمل التعليم الإلزامي على الارتقاء بمستوى قوة العمل بينما تعلَّم المديرون المدَرَّبون كيفية استخدام الإحصاءات والتقارير المالية، واستراتيجيات الاتفاقات والتعاقدات، والوثائق الفنية.
يمكنك أن تفهم المبدأ وراء كيانات الأعمال الجديدة إذا نظرت إلى المخطط التنظيمي النموذجي بما فيه من كومات من المربعات التي تتدرج هبوطًا من الطبقة العليا. تدل المربعات المرتبة بصورة عمودية على السلطة؛ بحيث يقع مجلس الإدارة بما يملكه من سلطة نهائية في قمة المخطط، إلا أن الرؤساء كانوا مسئولين طوال ٢٤ ساعة لسبعة أيام في الأسبوع. وأصبح المديرون التنفيذيون ذوو الأجر — الذين بات يطلق عليهم فيما بعدُ الرؤساء التنفيذيون — يديرون الشركات نيابة عن أصحابها. وكان لكل وحدة تنظيمية في الشركة مهمة محددة في هذه العملية من واقع ترتيبها الهرمي الخاص، بما فيها من مديرين وموظفيهم ومحاسبين ومهندسين وفنيين ومندوبي مبيعات — وفي حالة وحدات الإنتاج — عمال وملاحظين. وكان مديرو الوحدات هؤلاء يقدمون تقارير لمن هم أعلى منهم من خلال سلسلة ثابتة من الأوامر ومتصلة بعضها مع بعضٍ من خلال تدفق للمعلومات يتحرك ذهابًا وإيابًا.
بالنسبة للكثير من الشركات، كان أكثر السبل خطورة هو التحول من شركة عائلية إلى مؤسسة غير شخصية. حافظت عائلات مثل سويفتس، وديرز، وإيستمان، وشوابس، وفايرستون، وداوز، وواطسون، وماكورميك، ووستنجهاوس، وآرمرز على سيطرتها على شركاتها لأطول الفترات لأنها نمَت عن طريق إحداث تطورات داخلية لا عن طريق عمليات استحواذ. ورغم أن الارتباطات الشخصية والعائلية كانت تساوي الكثير، باتت تحديات نمو الشركات وتنويع أنشطتها أكثر شراسة. ولم يكن جميع من ورثوا شركات يتمتعون بنفس القدر من الإمكانات، وكان توجيه التوسع يتطلب دراية واسعة، فضلًا عن أن معظم الشركات العائلية لم تكن تمتلك مصادر تمويل كبيرة لتغطية التكاليف الكبيرة للتكامل الرأسي وإعادة التنظيم الإداري. على سبيل المثال، كانت شركة فاندربيلت هي الوحيدة التي كانت تمتلك المال اللازم لتحديث نظامها للسكك الحديدية.
ومثلما أتاحت الماكينات الجديدة تجزيء عملية الإنتاج إلى خطوات منفصلة، عملت الترتيبات المعقدة للمكاتب والإدارات على تسهيل الأعمال الورقية التي تشمل إصدار الطلبيات والفواتير، ومسك دفاتر الحسابات، وكتابة الرسائل، وإعداد المواد التسويقية لتخصيصها وتدوين كمياتها في وحدات منفصلة؛ بحيث تكون كل مادة تسويقية تابعة لفريقها الإداري. كان الهدف هو تنسيق الأنشطة المتنوعة التي تراوحت من شراء المواد الخام، وبناء المصانع، وتدريب قوة العمل، مرورًا بالتصنيع والتسويق وتسليم البضائع إلى تحرير الشيكات، وحساب التكاليف، ومتابعة البحوث ذات الصلة. وأصبح توظيف العاملين — الذي كان مهمة ملاحظ العمال — يحمل طابعًا مهنيًّا بعد إضافة مكاتب شئون الموظفين وخبراء الكفاءة إلى الشركات. وبوجود هذا التعقيد، اتَّخذ التنظيم البيروقراطي الشكل الذي نعهده، والذي يلخصه تعبير «التخصص الوظيفي».
كان للمنافسة التي شجعت تكوين الشركات العملاقة التي تقود السوق في الولايات المتحدة نتيجة مختلفة في ألمانيا؛ فهناك شجع الكساد الذي ساد من عام ١٨٧٣ إلى عام ١٨٩٦ المصنِّعين على تكوين اتحادات تجارية، وهي عبارة عن تنظيم يضم المنتجين في قطاع واحد بعينه ويرمي إلى تحقيق أهداف جماعية مشتركة. وبحلول عام ١٩١١ كان هناك ما يزيد على خمسمائة اتحاد تجاري، ثم ١٥٠٠ عام ١٩٢٣. كان القانون العام لإنجلترا والولايات المتحدة يعتبر ضبط الأسعار الذي تقوم به الاتحادات التجارية تقييدًا للتجارة. وحينما رعى فرانكلين ديلانو روزفلت — في خضم فترة الكساد الكبير خلال ثلاثينيات القرن العشرين — من خلال الكونجرس قانون الإصلاح الوطني، الذي فرض قواعد تعاونية على شركات التصنيع، أعلنت المحكمة العليا عدم دستورية هذا القانون. لم يكن ثَمَّةَ وجود لعائق كهذا في القانون المدني الأوروبي. كان هذا يعني إمكانية تكوين الاتحادات التجارية في بريطانيا أو في الولايات المتحدة، لكن مع عدم إمكانية إنفاذ قواعدها في المحاكم. وكان التنافس الشرس الذي ميَّز الشركات خلال القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر قد تطلَّب ضرورة تخفيف حدة الجوانب المدمرة للمنافسة.
نطاق الصناعات
مرة أخرى اختلف المسار التكنولوجي للولايات المتحدة عن مسار ألمانيا؛ فقد حوَّل مخترعون أمريكيون أفراد — مثل توماس ألفا إديسون وألكسندر جراهام بِل — ورشهم الخاصة إلى شركات كبرى، وأنشأ كِلَا الرجلين مختبرات من العائدات الأولى لاختراعاتهما، ونجحَا في تأسيس شركات مرموقة لاستغلال ما أحدثته الطاقة الكهربائية. كان كلٌّ منهما مولودًا في نفس السنة، ١٨٤٧، لكن من الصعب أن يجود الزمان بمثلهما ثانية. كان بِل ابنًا وحفيدًا لعائلة من المعلمين الاسكتلنديين المتميزين، وتوصل لاختراع الهاتف من خلال زمن من العمل كرَّسه لمساعدة من حُرموا نعمة السمع. وكان إديسون ممن علَّموا أنفسهم بأنفسهم. وحين ترك المدرسة، كان المعلمون مقتنعين بأنه بطيء التعلُّم. وقد ثقف نفسه في الكيمياء بينما كان يعمل في وظيفة عامل تلغراف.
وكان إديسون — الذي يُذكر في المقام الأول بمصباحه الكهربي الساطع، الذي قضى على ظلمة الليل من دون دخان أو سخام أو حرارة أو خطر الحريق — يتمتع بنبوغ وافر ومربح أيضًا. وهو لا يزال صاحب أعلى رقم قياسي عالمي في الاختراعات لأنه نال ١٠٩٣ براءة اختراع. وكذلك رعى موهبة أشخاص آخرين؛ فقد خرج من مختبر إديسون نيكولا تِسلا، وهو مهاجر مجري أقرت المحكمة العليا براءة اختراعه المذياع. كان عدد كبير من الرجال الموهوبين من العديد من البلدان يعملون على اختراع المذياع في وقت واحد، بمن فيهم جيمس ماكسويل الاسكتلندي، ومالون لوميس طبيب الأسنان الأمريكي، والإيطالي جولييلمو ماركوني. وقد انبثق الكثير من أفكار إديسون من التلغراف. بدأ بِل هو الآخر بالتلغراف، وكان إسهامه الكبير هو جعل الكهرباء تؤدي مهمة نقل الصوت. وتمكَّن غيرهم ممن كانوا يُجرون تجارب على الكهرباء والتلغراف من تطوير أجهزة الفونوغراف، والهواتف، والصور المتحركة. وعزز تسويق هذه الاختراعات أساليبَ ترفيهية شائعة أصبحت تشكل الطابع الثقافي للقرن العشرين.
تعدى فضل الكهرباء مجرد إلهام اختراعات جديدة؛ فقد وفَّرت شكلًا جديدًا من أشكال الطاقة، وقد تبيَّن أن التحول من طاقة البخار للطاقة الكهربائية في مجالات التصنيع معقد ومكلِّف؛ فالمسألة لم تكن مجرد مسألة إجراء تحويل، بل تغيير لمعدات أي مصنع بالكامل. وكان لا بد من تدبير مصادر الطاقة الكهربائية. كانت التوربينات المائية والبخارية تولِّد الكهرباء للمصنِّعين الذين كان يمكنهم شراء التيار الكهربائي من شركات المرافق الجديدة أو توليدها في مواقع مصانعهم. وقد لعب جورج وستنجهاوس دورًا كبيرًا في تعميم استخدام الكهرباء من خلال تطوير المحوِّلات التي استطاعت توصيل الكهرباء عبر مسافات طويلة؛ فقد سخَّر قوة شلالات نياجرا في إضاءة مدينة بافالو البعيدة عن الشلالات مسافة ٢٠ ميلًا وذلك عن طريق محطات توليد. كان وستنجهاوس أيضًا يناصر الاعتماد على التيار المتردد بينما كان إديسون يناصر التيار المستمر. كان عيب التيار المستمر أنه يضعف بعد أن يقطع مسافة ميل، بينما كان تيار وستنجهاوس المتردد ينتقل عبر مئات الأميال بكامل قوته. وقد اتخذ هذا التنافس منعطفًا غريبًا حينما ادَّعى وكلاء حملة دعاية إديسون أن خطورة التيار المتردد ثبتت بدليل استخدامها الفعال في الكرسي الكهربائي لولاية نيويورك؛ رغبة منهم في تشويه سمعة التيار المتردد.
ظهرت براعة فورد التقنية من خلال حصوله على ١٦١ براءة اختراع، لكن عبقريته الحقيقية ظهرت في الأنشطة الرأسمالية الكلاسيكية المتمثلة في المنافسة، والإنتاج، وإدارة العمل، والتسويق. ففي جميع هذه الجوانب لتشغيل أي شركة ناجحة، كان كل ما يفعله فورد مبتكرًا، مبتكرًا تمامًا، ولم يكن مستثمروه مثله. وحينما لم يوافقوا على برنامجه، اشترى حصصهم. كان أكثر العوامل حسمًا بالنسبة لنجاح فورد الهائل رؤيته التي تذهب إلى أن السيارة يمكن أن تكون في متناول الجميع إذا استطاع خفض التكاليف وتعزيز كفاءة عُمَّال المصنع. كانت هذه الرؤية بمثابة منارته الهادية.
كانت الإدارة العلمية للعمل قد جذبت بالفعل اهتمام فريدريك وينسلو تايلور، الذي لاحظ بعناية الرجال الذين يعملون في صناعة الصلب خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر. وبالإضافة إلى أبحاثه، كان تايلور مقتنعًا بأن الإدارة العلمية تستطيع المزج بين مصالح أرباب العمل والعمال. على الأرجح كان هذا توقُّعًا مبالغًا فيه، لكن تايلور وصف كيفية جعل الوقت والحركة في موقع العمل أكثر دقة وجعل الإدارة أكثر انسجامًا مع إيقاعات العمال. وقدم فكرة إدخال فترات راحة في جدول ساعات العمل. وارتفعت معدلات الإنتاج. كان تايلور يمتاز بأنه يحظى بإعجاب كلِّ من أدولف هتلر وفلاديمير لينين. وأصبح منهج تايلور (التايلورية) هو المكمل المثالي لترشيد إدارة الشركات، وما أصبح يُعرف باسم منهج «الفوردية»، أو الخلط بين الإنتاج الضخم والاستهلاك الجماعي.
تدرج ألفرِد سلون الابن في مناصب صناعة السيارات، وأصبح رئيسًا لشركة جنرال موتورز عام ١٩٢٣. كان سلون مهندسًا كهربائيًّا متخرجًا من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقد حوَّل شركة جنرال موتورز إلى أكبر شركات تصنيع السيارات في العالم وأعلاها من حيث المبيعات والأرباح. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، جعل السيارة شيفروليه — لا السيارة الفورد — السيارة المفضلة لمعظم المشترين الأمريكيين. استفاد سلون من ولع فورد بالتصميم النمطي فقدم تغييراتٍ جديدة في طرز سياراته سنويًّا لإسعاد المستهلكين الأمريكيين.
وبينما كان يجري معالجة مكامن الخلل في إنتاج السيارات خلال العقد الأول من القرن العشرين، كان ويلبور وأورفيل رايت يجريان تجارب على الطائرات الورقية، والطائرات الشراعية، وذات الجناح المزدوج قبل قيامهما بالرحلة الطائرة التي حظِيت بتغطية إعلامية مكثفة واستمرت ١٥ ثانية من كيتي هوك بولاية نورث كارولاينا عام ١٩٠٨.
متطلبات قيادة السيارات
إذا تأملنا الماضي، سيتراءى لنا أن التحوُّل إلى وسائل النقل الخاصة حدث على نحو سلس. لكن ينبغي النظر إلى ما تطلبته السيارة من مستجدات كثيرة؛ فبدلًا من الجلوس في الحافلة أو القطار، اضطر الناس العاديون لأن يتعلموا تشغيل آلة معقَّدة. وكانت القيادة لأي مسافة تتوقف على تشييد الطرق فضلًا عن توفُّر الوقود. من قبل كان النفط يباع في متاجر البقالة، لكن طلب السيارات عليه شجع نوعًا جديدًا من تجارة التجزئة في محطات البنزين المنتشرة على طول الطرق بين المدن. اضطر الناس أيضًا لاكتساب عادات جديدة للتأقلم مع ظهور السيارات؛ فقد صارت المسافة المحدودة — التي كان من الممكن قطعها مشيًا أو فوق ظهور الخيل من قبلُ — أكبر وامتدت إلى ما هو أبعد من مرمى نظر العيون اليقظة للآباء، والرؤساء، ورجال الشرطة. ومن ثَمَّ أدى اتساع نطاق التنقُّل وتوافر حيز مغلق إلى إتاحة قدر أكبر من الحرية الجنسية، أو على الأقل هذا ما كان الآباء يخشونه.
في بادئ الأمر استخدمت السيارات الطرق الوعرة التي كانت تسلكها العربات المكشوفة والصندوقية التي تجرها الخيول، لكن اهتزاز الركاب أدى لظهور الرغبة في أن تكون رحلات السيارة أكثر سلاسة. وكانت الطرق المرصوفة بالحصباء التي كانت تُشيد بدكِّ أجزاء الحجارة المكسورة موجودة منذ نصف قرن، لكن مع ظهور السيارات، وُضعت بعض الإضافات المختلفة لجعل هذه الطرق أكثر استواء. وقد نجح استخدام القار والحجارة المسحوقة لفترة من الوقت، إلى أن تطلبت السيارات الحل المناسب لها والمتمثل في تحدي رصف الطرق؛ فصار الطلب المطَّرد على النفط ينتج المزيد والمزيد من منتجات المشتقات البترولية، مثل الأسفلت الذي أثبت أنه ممتاز في رصف الطرق. كان سكان المدن يفضلون الأسمنت لأنه أكثر ملاسة وملاءمة لبناء الأرصفة التي كانت في ذلك الوقت إضافة جديدة للمدن. ومن المذهل تصور آلاف فرق البناء التي أُرسِلَت إلى جميع أنحاء البلاد من أجل تسوية ورصف ميل تلو الآخر من الطرق المعبَّدة التي تطلبتها السيارة وابنة عمها الخشنة؛ الشاحنة.
كانت السيارات قادرة أيضًا على إيذاء الناس وتدمير الممتلكات؛ الأمر الذي منح صناعة التأمين دَفعة كبيرة. وظهرت الحاجة للميكانيكيين المدرَّبين لضبط هذه الآلات المعقدة التي استقرت في مرائب ملايين الناس، الذين كان إلقاء نظرة تحت غطاء محرك سيارتهم يؤدي لإصابتهم بالدوار. لكن ذلك تغيَّر، فكم من فتًى أمريكي بات يمضي أيام السبت مستلقيًا تحت سيارة الأسرة في محاولة لإصلاح محركها. ولما كانت إطارات السيارات كثيرًا ما تفرغ ما تحويه من هواء؛ أصبح تغييرها مهارة ضرورية ضمن ذخيرة المهارات الذكورية، إلى أن ظهرت الإطارات المطعَّمة بالأسلاك (التيوبلس) في سبعينيات القرن العشرين، وجعلت تفريغ الإطارات شيئًا من الماضي. والآن أدَّى استخدام المعالجات الحاسوبية الدقيقة إلى حرمان الهواة من تصليح سياراتهم.
وبطبيعة الحال ظهرت شهية السيارات الشرهة للوقود؛ فقد صار النفط — الذي خرج من الأرض في جميع أنحاء العالم — مصدرًا للحرارة، ولو أن الكيروسين كان هو الذي يُستخدم في إشعال المصابيح. وكان البنزين ناتجًا ثانويًّا غير مهم من مشتقات النفط؛ لكن حينما بدأ إنتاج سيارات فورد، وأولدزموبيل، وبويك، وبنز، وديملر، وأوستن، وموريس، وبيجو، ارتفع الطلب على البنزين ارتفاعًا هائلًا، وسرعان ما صارت محركات الاحتراق الداخلي تسيِّر الحافلات والشاحنات والمركبات العسكرية؛ الأمر الذي جعل روكفلر أغنى رجل في أمريكا. وبارتفاع الطلب على النفط ومشتقاته العديدة، انتشر رواد الأعمال في مجال النفط في جميع أنحاء العالم بحثًا عن الوقود الحفري المخبوء لآلاف السنين تحت سطح الأرض. ونتيجة لأن «الذهب الأسود» كان يُثري المستثمرين الأجانب، أدى هوَس النفط إلى ارتفاع سعر العِمَالة المحلية. وفي أوروبا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، صارت عائلة روتشايلد في القطاع المصرفي، وعائلة نوبل في مجال المتفجرات تعملان في إنتاج النفط في منطقة باكو في روسيا.
اتخذت الشركات البريطانية والهولندية والأمريكية قرارًا مصيريًّا حينما سعت للتنقيب عن النفط في شبه الجزيرة العربية والأراضي المجاورة. وقد عثرت عليه بكميات وافرة، لكن ذلك لم يَمُر من دون غرس بذور الكراهية. ويستعرض عبد الرحمن منيف في روايته الرائعة «مدن الملح» على نحو لاذع أول اتصال بين الكثير من أبناء الشرق الأوسط والغربيين، من خلال احتكاك مديري الشركات المتغطرسين مع العمال الذين يعملون في حفارات النفط التي شيدت في ثلاثينيات القرن العشرين. وتكرر ما حدث في أفريقيا في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان الأوروبيون والأمريكيون يشاركون في مؤسسات أجنبية لا تحمل إلا القليل من الاحترام للشعب أو للثقافات التي وجدتها. استغلت هذه المؤسسات موارد هذه الأراضي البعيدة كما لو لم يكن هناك غد آتٍ، واعتمدت على حكام محليين مُوَالِين في تمكينها من الوصول إلى العمال والموارد التي أرادتها.
وبسبب السرعة المذهلة التي تفوَّقت بها الولايات المتحدة على كل الدول الأخرى في العقود الأولى من القرن العشرين، اكتسب إنتاجها الضخم وتنظيمها الإداري هالة من التطور الكاسح المثالي، وقد تولدت هذه الهالة من داخل مناطق المشاريع الرأسمالية تحديدًا. لكن هذا التفسير التقليدي مضلل؛ إذ إن عمليات الدمج وإعادة التنظيم التي ابتكرتها الشركات الأمريكية ليست بأي حال من الأحوال حتمية أو مفروضة من اتجاهات أكبر، بل كانت إلى حد كبير نتاج ظروف سياسية وقيم اجتماعية؛ منها على سبيل المثال الظروف الثلاثة التالية: ضعف الحكومة، وفرة الأيدي العاملة الرخيصة، ووجود جمهور كبير متقبل للمنتجات النمطية موحدة التصميم. فقد لعب الأمريكيون عن طيب خاطر دور المستهلك، وتهافتوا على شراء السلع الرخيصة، حتى لو بدت جميعًا بنفس الشكل وكانت من نفس الذوق. هذا التقبُّل للنمط الموحد كان يعني أن الشركات تستطيع الاستفادة من توفير التكاليف المتحقق في حالة الإنتاج الضخم، وهذه استجابة لم تكن الشركات في أوروبا لتُعول عليها دائمًا، حيث استمر المشترون الأوروبيون يقدرون قيمة البضائع المصنوعة يدويًّا.
السلطة الفدرالية الأمريكية
حدث أول تقليص جِدِّي لنفوذ الشركات عام ١٨٨٧، عندما أسس الكونجرس لجنة التجارة المشتركة بين الولايات التي تمكنت من تنظيم خطوط النقل الممتدة خارج حدود كل ولاية. وبعد ثلاث سنوات، كان قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار هو الطعنة الأولى التي وجهت لإدارة الشركات الكبيرة التي يمكن النظر إلى حجمها بوصفه مقيدًا للتجارة. لكن الأوان كان قد فات وكانت الخيول قد هربت من الإسطبل بالفعل. فقد أقدمت الشركات على خطوة التوحد قبل أن يحل عصر الحكومة الكبيرة. وفي غضون عشرين عامًا، سيطرت أقل من ٦٠٠ شركة على نصف أصول شركات البلاد البالغ عددها أربعمائة ألف شركة. وحينما حكمت المحكمة العليا بأن تخضع الاتحادات الاحتكارية لقانون مكافحة الاحتكار لم يتراجع عدد الاندماجات إلا قليلًا.
مع بداية القرن العشرين، شرعت الدول الغربية — التي كانت في معظمها ممالك — في مغامراتها الرأسمالية، حاملة الأدوات والتوجهات والمؤسسات الحديثة — فضلًا عن السلوكيات التي تنم عن التفوق الثقافي — إلى آسيا وأفريقيا. وقد مارست نفوذًا مهيمنًا ومتغطرسًا على أولئك الذين كانت تعتبرهم متخلفين، وهنَّأت نفسها على الرسالة الحضارية التي تضطلع بها. في القطاع الخاص، جرت تصفية الشركات الصغيرة مع سيطرة الشركات العملاقة على الأسواق. وفي ظل اكتظاظ الكوكب بالمزيد من السكان وازدياد اعتماد الإنتاج على الميكنة، زاد استخدام الموارد الطبيعية — لا سيما الوقود الحفري — بمعدل ينذر بالخطر. وصارت البلدان الصغيرة خارج الغرب — فضلًا عن المدافعين عن الرأي العام في الغرب — في كفاح لتقبُّل حقيقة أن الدول الاستعمارية والشركات المتنامية الحجم باتت هي التي تحتل مقعد السائق، ومن المرجح أن تدهسهم.