الحرب والكساد
في عام ١٩١٤ حلَّت الحرب على أوروبا بعد عملية تعبئة متدرجة للجيوش. تصاعد الموقف على نحو تدريجي؛ فحينما ارتأت بعض الدول أن تبدأ مبكرًا لتكون قواتها على أهبة الاستعداد، دفع الحرص دولًا أخرى لأن تدرك أنها يجب ألا تقف دون حراك. وكانت دول عديدة قد توخت السلامة من خلال تحالفات في ظل احتدام التوترات الدولية، لكن هذه التحالفات لم تُسفر إلا عن زيادة دواعي إثارة العداءات. واجهت ألمانيا والإمبراطورية المجرية النمساوية — وانضمت لهما الإمبراطورية العثمانية فيما بعدُ — بريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا. كانت الثروة التي ولدتها الرأسمالية خلال نصف القرن المنصرم سببًا في تمكين جميع المحاربين المحتملين من بناء جيوش ضخمة والاستعاضة عن سفنهم البحرية الخشبية ببوارج مصفحة. ودفعت القوة العسكرية المؤسسات الصناعية لإجراء تحسينات واعدة؛ فصبت مؤسسات مثل فيكرز في إنجلترا أرباحها في تطوير عتاد التسلُّح، وكذلك فعلت منافستها كروب، الشركة الألمانية للحديد والصلب. كان اندفاع قادة أوروبا ينبع من تعدد مواردهم حول العالم؛ الأمر الذي ولَّد لديهم شعورًا بالمنعة.
دخل سباق التفوق الصناعي — الذي كان قد غذَّى التطور الألماني المثير للإعجاب في القرن التاسع عشر — جولةً ثانية في التنافس على المستعمرات مع بريطانيا العظمى في نهاية القرن التاسع عشر. وقد أشعلت كلتا الدولتين نيران العداء القومي. وسرعان ما صارت الشوفينية — التي كانت تبرر الطموحات الاستعمارية لكل دولة — تبرر سباق تسلُّح أيضًا. وروَّجت الدعاية — وهي الكلمة التي اكتسبت معنًى جديدًا في هذه الفترة — رسالة عدائية حول التفوق القومي. لا يزال الشغف الذي شجع به المتحاربون في الحرب العالمية الأولى وسائل شن الحرب ودوافعه مثارًا للدهشة إلى الآن. ولا ريب في أن اندلاعها عام ١٩١٤ — رغم غياب أي سبب في الحقيقة لذلك سوى التهور الغالب وسوء التقدير الفادح — كان يتَّسِم بعزم مفرط.
لم تكن قدرة أبناء ذلك العصر على حل النزاعات الدولية تضارع قدرتهم الظاهرة على كسب الثروة. علاوة على أن التوقعات بأن أي حرب ستكون قصيرة — كالحرب الفرنسية البروسية التي وقعت من عام ١٨٧٠ إلى ١٨٧١ — ساهمت في استشراء الميل للقتال. ولم يكلف أحد نفسه — عدا القليلين — تذكُّر حمَّام الدم الذي نجم عن الحرب الأهلية الأمريكية التي وقعت بين عامي ١٨٦١ و١٨٦٥.
لم تكن أوروبا قد شهدت حربًا مدمرة منذ القرن السادس عشر، إلا أن ذكريات الحرب الأهلية الأمريكية كانت لا تزال حية في نفوس الأمريكيين، ولعل هذا يفسر عدم دخولهم الصراع الأوروبي إلا عام ١٩١٧، بعد أن ظل مشتعلًا لثلاث سنوات. في ذلك الحين كان الجميع قد تحرروا من الوهم بأن القتال لن يدوم طويلًا؛ فقد اتخذت حرب الخنادق الطاحنة الحمقاء التي لم يكن ثمة سبيل لتبريرها نوعًا من الديمومة على امتداد ما بات يطلق عليها الجبهة الغربية. وقد تبين مدى السوء الذي ستئول إليه الأمور في الثلاثة شهور الأولى من الحرب، حينما حصد القتال أرواح مليون ونصف المليون جندي.
لم يزد ارتفاع عدد الضحايا عزم الجانبين على النصر إلا إصرارًا. إن إدراك كل شعب لفداحة هذه الخسائر المروِّعة عزَّز الصورة التي يملكها في ذهنه عن مدى الخسَّة التي يتَّسِم بها جيش العدو. جرى تعبئة ٦٤ مليون أوروبي على الأقل بالإضافة إلى ثلاثة ملايين آخرين من خارج أوروبا. وكان تعداد الجيش الروسي وحده ١٢ مليون جندي، من بين مجمل ٦٤ مليون جندي وبحار، مات ٨ ملايين ونصف، وأصيب ٢١ مليونًا، وأُعلِن ٧ ملايين آخرون في عداد المفقودين. كانت الحرب الشاملة تعني أن الإنتاج الصناعي في الوطن يجري على قدم وساق. وانضم عدد كبير من النساء إلى قوة العمل، لا سيما في أنظمة خطوط التجميع التي تنتج الذخائر. (أطلق الألمان في يوم واحد مليون قذيفة على قلعة فردان الفرنسية.)
خرج كل بلد من البلدان المشاركة — عدا الولايات المتحدة واليابان — من حرب الاستنزاف هذه منهكًا، وخائب الأمل، وغارقًا في الديون. لكن هذه الإحصاءات لا تبدو مهمة إذا ما قورنت بعدد ضحايا الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت بعد ٢١ عامًا. ويظل المرض هو أكثر حاصدي الأرواح شراسة؛ فقد حصد وباء الأنفلونزا الذي تفشَّى عامي ١٩١٨ و١٩١٩ أرواح ٢٠ مليون رجل وامرأة وطفل في جميع أنحاء العالم. وكما حدث في حرب الثلاثين عامًا خلال القرن السادس عشر، تجاوزت معاناة المدنيين معاناة المقاتلين.
وقع أكثر أحداث هذه الحرب إثارة قبل نهايتها، عندما أدت سلسلة من الثورات لإسقاط الملكية الروسية وإقامة أول الأنظمة الشيوعية في العالم. وأثار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية ذهول العالم برفضه كلا النظامين؛ الملكي والبرلماني. وخلال الاثنتين والسبعين سنة التالية من وجود الاتحاد السوفييتي، تحدَّى العالم الغربي مرارًا مباهيًا بعدم اكتراثه لحقوق الملكية والعمل الحر. وبدأ مسئولو التخطيط المركزي على الفور إدارة الاقتصاد السوفييتي. وكانت أي مقاومة داخلية للمبادرات السوفييتية تقابَل بقمع شديد. وأومأ الاتحاد السوفييتي بنيته الخروج على الأعراف السياسية التقليدية عندما نشر الأوراق السرية للدولة القيصرية، والتي تسببت في إحراج دبلوماسيين أوروبيين؛ حينئذٍ لم يشُكَّ سوى القليلين في أن عهدًا جديدًا قد انبلج فجره.
كان كارل ماركس يتصور أن تتحول دولة ذات اقتصاد متطور — كبريطانيا العظمى أو ألمانيا — إلى الشيوعية، لا دولة متخلفة كروسيا التي تحتاج إلى اللحاق بالركب من أجل الحفاظ على استقلالها. وبعد الانسحاب من الحرب، كرَّس القادة السوفييت موارد روسيا وقدرات الرجال والنساء لتحديث البلاد، وهو جهد تنوع بين تعزيز حقوق المرأة ومحو الأمية إلى فرض معايير جديدة في مجال النظافة الصحية. وحلت المزارع الجماعية محل المزارع الخاصة، على الرغم من المقاومة العنيدة من جانب الفلاحين. وأعلنت القيادة السوفييتية خطة خمسية عرضت للعالم برنامج الاقتصاد الموجه. وأعربت عن استهانتها باتفاقيات مثل اتفاقية معيار الذهب، وانسحبت لأقصى قدر ممكن من التجارة الدولية؛ فترسخ شَكٌّ عميق في الشيوعية لدى البلدان الرأسمالية عندما أدركت تمامًا خطورة التحدي السوفييتي.
بعد حمام الدم الذي سُفك خلال الحرب العالمية الأولى ثبت افتقار العالم للحكمة؛ فقد أثبت الأوروبيون والأمريكيون أن مهارتهم في إنتاج المدفعية الثقيلة، وغاز الكلور والمدافع الرشاشة، والغواصات والدبابات والطائرات الحربية، والأطراف الاصطناعية أكبر من مهارتهم في التفاهم مع جيرانهم. كانت الدعاية في زمن الحرب قد صورت كِلَا الجانبين على أنهما وحوش مفترسة. ومنح الانتصار الحلفاء قناعة متعجرفة بأنهم كانوا على حق. أما حليفتهم روسيا — بعد أن انسحبت من الحرب — فقد خسرت كل ارتباط بالانتصار المعنوي للطرف الغالب. كان الانتقام يحرك الفرنسيين والإنجليز عند جلوسهم إلى مختلف طاولات السلام لحل المشاكل المعقدة المتخلفة عن الحرب. وكما تذكر المراجع في كثير من الأحيان، كان واضعو المعاهدات يعيدون رسم خريطة أوروبا. وقد جمعت مكتبة الكونجرس — إدراكًا منها أن دولًا جديدة ستظهر للوجود من الإمبراطوريات القديمة — مجموعة رائعة من الخرائط ووضعتها تحت تصرُّف الوفود المشاركة في محادثات السلام في أحد فنادق باريس الراقية. لكن أحدًا لم يُعِر التفاتًا لهذه المجموعة قط، بل فضَّل الدبلوماسيون أن يعملوا على قصاصات من الورق.
ردود الفعل العالمية حيال الحرب العالمية الأولى
تسببت الحرب في زوال الإمبراطورية النمساوية المجرية، والإمبراطورية العثمانية، فضلًا عن النظام الملكي الألماني. وألهب الرئيس وودرو ويلسون — الذي كان يمثل الولايات المتحدة في مفاوضات السلام — حماس الشعوب المقموعة في جميع أنحاء العالم بدعوته المؤثِّرة لحق تقرير المصير لجميع الشعوب. ولما كانت الدول الأوروبية قد خاضت حربًا عالمية، فقد عبأت جميع مواردها، التي شملت ممتلكاتها الاستعمارية الشاسعة. لكن يبدو أن ويلسون كان يفكر في أوروبا فحسب — ولو أن هذا لم يتضح سوى الآن بعد انتهاء هذه الأحداث — رغم أن دعواته لبناء دول مستقلة لكل هوية من الهويات العرقية للشعب جعلته بطلًا في عيون القوميين في مصر، والصين، والهند والهند الصينية الفرنسية. فقد قرءوا خطبه هم أيضًا، حتى إن أحد الشباب الفيتناميين — يدعى هو تشي منه — جَدَّ في ادخار النقود كي يجمع ما يكفي منها للذهاب إلى باريس على أمل مستحيل بأن يتمكن من التحدث إلى ويلسون.
تشير الاتفاقات السرية التي عقدها قادة فرنسا وهولندا وبريطانيا بشأن كيفية تقسيم إقليم الشرق الأوسط إلى إيمان هذه الدول باستمرارية الاستعمار. وبما أنهم قد انتصروا، لم يكن من الممكن إثناؤهم عن التمتع بكامل ثمار الحرب. وقمعت القوى الاستعمارية بوحشية أي تحرك يهدف لنيل الاستقلال. وبات بإمكانها الوصول إلى الممتلكات الألمانية في أفريقيا أيضًا. وصار ارتباط بلدان آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية أكثر متانة بعالم التجارة المتمركز في أوروبا بعد الحرب. لم تكن لحظة الاستقلال عن الهيمنة الأوروبية قد حانت بعدُ، لكن خيبة الأمل الساحقة التي مُنِي بها القوميون في جميع أنحاء آسيا والشرق الأوسط حينما أذعن ويلسون للشروط الجزائية لمعاهدات السلام وضعت الأساس لمشاعر دائمة معادية للولايات المتحدة. لا شك أن التذكُّر عملية انتقائية، لكن أولئك الذين يتعرضون للظلم تبقى ذكرياتهم حية في أذهانهم أكثر من ظالميهم.
كان هناك استثناء واحد مشرق وسط هذا النمط الكئيب لإخماد حق تقرير المصير الوطني؛ فقد حوَّل مصطفى كمال أتاتورك مركز الإمبراطورية العثمانية إلى دولة تركيا العلمانية. وألغى هو وأتباعه — الذين أطلق عليهم «الأتراك الشبان» — الخلافة الإسلامية وشرع في برنامج مكثف لتحديث البلاد. ودعا الشباب للمشاركة في إقامة الجمهورية. وتبين أنه باني دولة رائع خلف إرثًا لا يزال حيًّا بدرجة كبيرة. وفي تركيا التي أسسها أتاتورك، حتى المرأة باتت تستطيع أن تتولى منصب القضاء. ونظرًا لوقوع جزء من تركيا في قارة أوروبا، يمكن اعتبارها الدولة المسلمة الوحيدة في أوروبا.
بنهاية الحرب، كانت ألمانيا دولة خربة على وشك الموت جوعًا، وكان القيصر فيلهلم الثاني قد فَرَّ إلى هولندا. وقد تأسست الحكومة التالية — جمهورية فايمار — في مطلع عام ١٩١٩، هذا لو كانت كلمة «تأسست» هي الكلمة الصحيحة في هذه الحالة؛ فقد كان عليها أن تناضل من أجل تحقيق الاستقرار ضد الجماعات الاشتراكية شبه العسكرية وقادة الجيش المهزوم الذين يتوقون لعودة النظام الملكي. ولعل كتاب تيودور بلفير «يذهب الملك، والجنرالات باقون» هو أفضل ما يعبر عما حدث. وقد صعبت معاهدة سلام فرساي استعادة ألمانيا عافيتها من خلال أخذ ١٣٪ من أراضيها وتوزيع ١٠٪ من سكانها على دول أخرى. وأُعيد إقليم الألزاس واللورين الغني صناعيًّا إلى فرنسا، واحتل الحلفاء منطقة الراين لمدة خمسة عشر عامًا. لكن وراء هذه العبارات العادية يكمن واقع معيشة مئات الآلاف من الألمان الذي انقلب رأسًا على عقب، وذكريات مريرة انغرست لم يكن من الممكن أن تذهب طي النسيان.
فُرضت أيضًا تعويضات باهظة على نحو ساحق على ألمانيا. كان هذا تعويضًا للفرنسيين الذين كانوا قد أُجبِروا على دفع تعويضات لألمانيا في أعقاب الحرب الفرنسية البروسية منذ ٣٨ عامًا مضت. وأنشأ القادة المنتصرون عصبة الأمم آملين في تسوية النزاعات في المستقبل تسوية علنية وتقديم ضمانات تكفل الأمن للجميع وتحل محل نظام المعاهدات الذي أدَّى إلى الحرب عام ١٩١٤. ورفض الكونجرس الأمريكي الانضمام إلى العصبة، لكنَّه شارك في عدد من المؤتمرات التي عقدت تحت رعاية العصبة. الشيء الأكثر أهمية، أن أمريكا لعبت دورًا رئيسًا في الترتيبات المالية عقب الحرب العالمية الأولى؛ لأنها كانت الدولة الدائنة الرئيسية. وقد ساهمت فعليًّا في إحداث الاضطرابات المالية من خلال مطالبتها بسداد ديون كبيرة كانت فرنسا وبريطانيا العظمى قد اقترضتها لتتمكنَا من تمويل التكاليف الباهظة بشدة لشن الحرب.
في عشرينيات القرن العشرين، التبست الإشارات الدالة على حدوث متاعب اقتصادية وشيكة. لم يتوقع أحد الانكماش الكبير الذي حدث فيما بعدُ. وكان هناك تحدٍّ يتمثل في تعويض الخسائر الكبيرة الناجمة عن الحرب، وهو المشروع الذي اضطلع به أناس أُنهِكُوا تمامًا من الحرب نفسها. ومع ذلك، استعاد المتحاربون السابقون قدراتهم الزراعية والصناعية في غضون خمس أو سِتِّ سنوات، لكن التشوُّهات الناجمة عن الحرب استغرقت وقتًا أطول. كانت تغذية ٦٧ مليون رجل مسلَّح تشكل تحديًا كبيرًا لمزارعي العالم الذين استطاعوا تلبية مطالب زمن الحرب بالإفراط في زراعة المحاصيل واستصلاح أراضٍ جديدة للزراعة. لكن وقف الأعمال العدائية خلَّف لدى هؤلاء المزارعين فائضًا من المواد الغذائية والمواد الخام. ولما كانت الزراعة لا تزال في كثير من البلدان — خصوصًا في أوروبا الشرقية — العمود الفقري للاقتصاد، كانت اقتصادات بأكملها على حافة الانهيار حينما حَلَّ الركود الزراعي.
في أوروبا، كانت نتائج الحرب عاطفية وفكرية بقدر ما كانت مادية. ولم يفلح انتماء إيطاليا للجانب المنتصر في أن يجنبها وضعًا خطيرًا تمخضت عنه الحرب؛ إذ تفتحت عقول الإيطاليين على أفكار سياسية راديكالية. وقد صنع صحفي اشتراكي اسمه بنيتو موسوليني لنفسه سمعة وشكل حزبًا جديدًا من خلال الترويج لما يتَّسم به نظام الغرب الليبرالي من عيوب تتمثل في السياسة الانتخابية والأسواق التي تصحح أوضاعها تلقائيًّا. ثم أدت الحركة الفاشية التي قادها موسوليني إلى حمله إلى السلطة عام ١٩٢٢. ولما كان قد تحرك نحو النزعة اليمينية تحركًا حادًّا، سرعان ما بدأ يعمل على إسكاتِ المعارضة، وسحقِ البرلمان، وقمعِ النقابات العمالية، بالإضافة إلى أي نوع آخر من النشاط السياسي المستقل. ونظم موسوليني أرباب العمل والعمال في اتحادات كونفدرالية كانت الحكومة هي التي تدير العلاقات فيما بينها. واستخدم التعريفات والحصص والدعم من أجل حماية الاقتصاد الإيطالي إلى أقصى حد ممكن من التجارة العالمية. لقد قدمت الفاشية في حقيقة الأمر قومية حية لتحل محل الرضَا الشخصي، ووحدت البلاد في شكل مؤسسة عملاقة يخدم فيها الأفراد مصلحة الجميع، كما كان يقول الدوتشي.
بحلول عام ١٩٣٥، كان موسوليني على استعداد لإظهار ما يمكن أن تفعله إيطاليا خارج حدودها؛ فغزا إثيوبيا، التي كانت قد نجحت في صد الإيطاليين منذ ٤٠ عامًا مضت. وردًّا على هذا العمل العدائي المحض، فرضت عصبة الأمم المتحدة عقوبات، لكن البلدان الأعضاء أثبتت عدم استعدادها لدعم أي تضحية، لا سيما خسارة مبيعات النفط إلى إيطاليا. كان موسوليني ينشد التثبت من جدية تهديد العصبة، وكانت إثيوبيا سبيلًا لذلك. كان هذا عملًا ذكوريًّا حاسمًا عنيفًا يهدف لإظهار قوة إيطاليا مقابل ضعف بقية أوروبا وإيمانها بالحريات المدنية واتخاذ القرارات الفردية. علاوة على أن مفهوم موسوليني الداعي لدولة تضامنية واكتفاء ذاتي اقتصادي، مدعومًا باستثمارات تعزز القوة العسكرية، جنَّب إيطاليا الركود الذي كان يلوح في الأفق الأمريكي والأوروبي.
كساد عالمي متفشٍّ
يمكن لحراكين قويين بطيئين أن يساعدا في تفسير زيادة حدة الركود الاقتصادي الذي تجسد في ذلك الكساد الذي بدأ في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين؛ فقد بدأ الرجال والنساء — من فئة الشباب عادة — يتحولون من العمل في وظائف المناطق الريفية كالزراعة والخدمات إلى وظائف المراكز الصناعية في المناطق الحضرية، وصارت الشركات الوطنية أكثر ارتباطًا بالسوق العالمية. وبرغم أن كلًّا من هذين التطورين يدل على التقدم، فإنه تسبب كذلك في تعريض المزيد من الناس والشركات إلى الضرر الآتي من أماكن بعيدة. كانت سيطرة الدول على اقتصاداتها تقلُّ شيئًا فشيئًا. وهناك سمة أخرى من سمات الرأسمالية ساهمت في جعل هذا الركود مفاجئًا على نحو مؤلم. وهذه السمة يمكن ربطها مباشرة بالتفاؤل الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من المشاريع الحرة، حيث يتعين على المشاركين تخيُّل أرباح مغرية ليستمروا في استثمار وقتهم ومواردهم من أجل النتائج مستقبلًا. وإحدى الطرق لإبقاء الأمل حيًّا هي تجاهل الغيوم البعيدة والتركيز على الشمس التي لا تزال مشرقة. لا شك أن تحقيق التوازن بين التفاؤل والحذر أمر صعب. لكن التفاصيل الكثيرة لحقبة الثلاثينيات الراكدة تنطوي على اتجاهات عامة نحو مزيد من التكامل العالمي وروح مصرة على المضي قدمًا.
واليوم — بعد ما يقرب من ٨٠ عامًا من حقبة الكساد الكبير — لا يوجد إجماع بين الخبراء على أسباب وقوعه، لكنَّ معظم الناس متفقون على العوامل التي ساهمت في وقوعه، وهي تشمل: زيادة الفائض من السلع الزراعية والمواد الخام، عدم كفاية القوة الشرائية بما يتماشى مع كمية السلع المصنَّعة التي يجري إنتاجها، وعدم استقرار النظام المالي، والتعريفات الجمركية المرتفعة، والضربتين المتتابعتين المتمثلتين في هوَس المضاربة بالأسهم المتبوعة باقتراب الاستثمارات من نقطة الصفر، وبطبيعة الحال، الهزات القوية التي استتبعتها الحرب العالمية الأولى. لكن مع وجود كل هذه الأخطار، لم يتوقع أحد أن ينهار اقتصاد دولته سوى القليلين. في الواقع، شهد عام ١٩٢٩ ارتفاعًا في التجارة الدولية والإنتاج الصناعي بنحو ٢٠٪ عن نسبتهما عام ١٩٢٥.
لكن ثمة شيئًا واحدًا يُجمع الخبراء عليه، وهو أن الانخفاض الحاد الذي حدث لأسعار الأسهم الأمريكية يوم الثلاثاء الأسود الموافق ٢٤ أكتوبر عام ١٩٢٩ لم يكن سبب الركود، ويرجع ذلك — إلى حد كبير — لأن الأسباب كانت قد بدأت في وقت سابق وتم تجاهلها في خضم حالة النشاط العام لسوق الأسهم. أدى الانهيار الاقتصادي إلى الكثير من الأزمات المالية وشعور بالحسرة بسبب انخفاض مؤشر أسعار سوق الأسهم من ٣٨١ إلى ١٩٩ نقطة في غضون ثلاثة أسابيع ليواصل انخفاضه إلى ٧٩ نقطة بعد عامين. والأمر الذي كان له تأثير مباشر على الكساد هو فقدان الثقة في البنوك، بما فيها بنوك المدن الكبرى وبنوك البلدات والبنوك المركزية. كانت البنوك قد أثبتت أنها ملائمة للغاية لتلبية احتياجات المدَّخرين والمقترضين؛ فكانت تحفظ أموال الناس في أمان، وتدفع لهم فائدة، وتوفر لهم الوصول الفوري لها متى شاءوا ذلك. وكانت تُقرض المشاريع الجديدة أموالًا، عادة ما تفوق الأموال الفعلية الموجودة بها في أي لحظة بعينها. وهذا جعل البنوك معرَّضة على نحو استثنائي لأن تواجه موجة من تهافت المودِعين على سحب أموالهم في نفس الوقت نتيجة خشيتهم على سلامة مدخراتهم. كانت هذه الموجات هي ما حدث بالضبط في جميع أنحاء العالم الرأسمالي، لا سيما في الولايات المتحدة، حينما أغلق ٩ آلاف بنك أبوابه في الفترة من عام ١٩٣٠ إلى عام ١٩٣٣. أما في ألمانيا فقد انهار النظام المصرفي برمته.
بدا التقدُّم كتيار يستحيل إيقافه إلى أن حل الكساد الكبير. كان الأمر صعبًا على الولايات المتحدة على نحو خاصٍّ لأن اقتصادها يعتمد أكثر على المستهلكين، الذين باتت قراءة ردود فعلهم أكثر صعوبة ممَّا كانت عليه في وقت سابق. وأسفر انهيار سوق الأوراق المالية عام ١٩٢٩ عن عناوين رئيسية تصدَّرت الصحف تحمل أخبار مستثمرين انتحروا قفزًا من فوق قمم المباني العالية. لكن أفراد الشعب الذين تضرَّروا حقًّا من حالة الركود التي تلت ذلك كانوا بالفعل في القاع أو بالقرب منه. وصار تسريح العمال الذي كان يحدث من قبلُ في مناسبات معينة ظاهرة دائمة؛ لأن الناس فقدوا الثقة وتوقَّفوا عن الشراء. وتلاشت المدخرات وخطط التقاعد بفعل التخلُّف عن سداد الرهون العقارية ومصادرة الممتلكات والإفلاس. وباتت عائلات بأكملها عاطلة عن العمل. وازداد الضغط على شبكة الأعمال الخيرية في جمعيات المساعدة المتبادلة وبرامج الرعاية الكنسية حتى قاربت على الانهيار. فعلى عكس الدول الأوروبية، كانت الولايات المتحدة تعتمد على تخفيف القطاع الخاص للوضع حينما تسوء أحوال الاقتصاد. لكن الأزمة الاقتصادية الكبيرة بيَّنت عدم كفاية هذا الأمر.
كان الاقتصاد العالمي يشبه إلى حد كبير سفينة جانحة بلا قبطان، وكانت بريطانيا العظمى — رائدة الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر — قد مارست القيادة طويلًا، خاصة في مجال المبادلات النقدية والقروض المصرفية الدولية. وكانت العملات الوطنية الأخرى تقيَّم مقابل الجنيه الإسترليني البريطاني، وذلك يُعزى جزئيًّا إلى أن بنك إنجلترا كان يضع كمية محددة من الذهب مقابل الجنيه الإسترليني. وبحلول عام ١٩٣١، لم تعد بريطانيا قادرة على الحفاظ على هذا الالتزام، وتخلَّت عن معيار الذهب، وكذلك فعلت الولايات المتحدة. تبعتهما ستٌّ وعشرون دولة أخرى بعد سنة واحدة؛ مما يعني أن هذه الدول لم تعد تدعم عملاتها بالذهب، فظهر خليط متباين من العملات شمل الجنيه البريطاني والدولار الأمريكي المُعوَّمين (الحرَّيْن حرية كاملة) بالإضافة إلى كل العملات الأخرى المتقلِّبة إلى حد كبير. ولم يعد معيار الذهب — الذي كانت معظم الدول الرأسمالية قد اعتمدته في ثمانينيات القرن التاسع عشر — موجودًا ليسهل تسوية الحسابات الدولية. لكن كل هذا ما كان ليتسبب في كثير من الضرر لو لم تعول معظم الاقتصادات على التجارة الدولية كي تحافظ على نشاط اقتصاداتها؛ فقد حل ركود ذو أبعاد هائلة.
على رأس كل هذه المشاكل الهيكلية والعابرة، كان معظم القادة السياسيين — بمن فيهم الاشتراكيون — مقتنعين بالميزانيات المتوازنة (بين الإيرادات والمصروفات) بكل العناد الذي يضارع اقتناعهم بأن الأرض تدور حول الشمس. ربما كان توسيع نطاق إعانات البطالة سيحفز الاقتصاد، وبالتأكيد سيساعد العاطلين عن العمل، لكن الحكومات خفضت إعانات البطالة لتحقيق التوازن في ميزانياتها. كانت الوظائف شحيحة بدرجة جعلت العديد من العائلات تهاجر عائدة إلى الريف، على الرغم من أن المزارعين كانوا مثقَلِين بفائض كبير من محاصيل القمح والذرة والقطن. وقد أعرب الكثير من الخبراء — في تصريحات تثير الضحك من فرط سخفها — عن خوفهم من أن عصر الابتكار والتوسع كان يقترب من نهايته. وتحدث بعض النقاد عن الكساد باعتباره عتاب للبشر على انغماسهم في عصر مادي. قالوا إن الكساد يمنح فرصة للرجوع إلى طريقة العيش البسيطة التي كانت سائدة قبل اختراع المحرك البخاري.
أدت شدة الكساد الكبير وعالميته واستمراريته إلى دحض الادِّعاء القائل بأن الاقتصاد له طرقه الخاصة لتصحيح أوضاعه. وكان عدم استعداد الولايات المتحدة لإظهار سمة الحرص المستنير على المصلحة الذاتية — والذي يجعل الزعيم مستعدًّا لتلقي بعض الضربات في سبيل تحقق الانتعاش على المدى الطويل — مخيبًا للآمال. وبيَّن الكساد أيضًا الحاجة إلى آليات لتحقيق الاستقرار في العملات والقروض وتدفق السلع. بدأ اللاعبون الكبار — بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والسويد والولايات المتحدة، علاوة على ألمانيا وإيطاليا لفترة من الوقت — يعترفون بأهمية العمل السياسي من أجل تحسين آليات السوق، التي صارت اقتصاداتها مرتبطة بها بإحكام. وظهر هذا الوعي الجديد في شكل دراسات ولجان بالإضافة إلى مؤتمرات كان كثير منها — كالمؤتمر الاقتصادي العالمي — ينتهي دون نتائج ملموسة. كانت الرغبة في التعاون موجودة، لكنها لم تكن من القوة بحيث تتغلب على هيمنة الأولويات الوطنية.
تدخل النظريات المتعلقة بطريقة عمل الاقتصاد تاريخ الرأسمالية عن طريق صانعي السياسات. وهي تقدم تحليلات يمكن استخدامها للتنبؤ بنتائج، ومن ثَمَّ تصبح لها أهمية حاسمة في تقرير كيفية تحقيق النتائج المرجوَّة. وصانعو السياسات يشبهون إلى حد كبير مديري المسارح؛ فهم لا يكتبون المسرحيات، أو يُعِدون الكواليس، أو يلعبون أدوارًا تمثيلية، لكنهم — كمديري مسارح — يستطيعون تحديد إلى أي مدى يمكن مواصلة العرض بسلاسة. وببلوغ الكساد أبعادًا مأساوية، كان ثمة نص اقتصادي جديد على وشك أن يعرض. وبعد إعادة نظر في أسس التفكير الاقتصادي، أشار البريطاني جون ماينارد كينز على الحكومات بأن تتوقف عن موازنة ميزانياتها وتبدأ في إنفاق المال، والاستدانة، إذا لزم الأمر، من أجل أن «تعمر بندقية» اقتصاداتها.
بدأت خطة التعافي الاقتصادي في الولايات المتحدة — والمعروفة باسم الصفقة الجديدة — تتبع هذه الوصفة. كان قانون الرعاية الاجتماعية شائعًا في أوروبا أكثر من الولايات المتحدة المعروف عنها انحيازها التقليدي للحرية الفردية والاعتماد على الذات. وقد رعَى الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت خلال «أيامه المائة الأولى» الشهيرة إصدار الكونجرس قوانين تمنح إعانة مباشرة للعاطلين عن العمل. بعد ذلك، جاء تمويل مشاريع العمل، التي اندمجت في وقت لاحق لتشكل إدارة تطوير الأشغال وإدارة الأشغال العامة، اللتين بنتا كل شيء من حاملات الطائرات إلى المدارس والجسور والطرق. وانضم الملايين لقائمة الرواتب الحكومية، وبنَوْا مكاتب البريد، وأقاموا المشاريع الفنية العامة، ومشاريع الصيانة.
كان الجهد الكبير المبذول لتنسيق السياسات الصناعية — قانون الإصلاح الوطني — يتعارض مع أحد أقوى المبادئ الأمريكية وأكثرها خصوصية؛ مبدأ الالتزام بتغليب الحرية على التخطيط الاجتماعي، وتغليب الحقوق الفردية على المصلحة العامة. فقد جرى تغريم اثنين من الجزارين الذين يبيعون اللحوم المذبوحة وفقًا للشريعة اليهودية وحكم عليهما بالسجن بتهمة — ما أطلق عليه — التخفيض المفسِد للسعر. وبعد معركة للطعن على هذا الحكم امتدت لتصل إلى المحكمة العليا، فازت القضية التي عرفت باسم «الأخوان شختر» بقرار بالإجماع على أن القانون الصناعي الذي يتضمنه قانون الإصلاح الوطني غير دستوري. ولما تسبب هذا القرار في عرقلة سياسة روزفلت، حاول أن يزيد عدد أعضاء المحكمة العليا، بحيث يتمكن من تعيين من يوافقونه على سياساته. لكن العبث بالمحكمة العليا لم يرُق للأمريكيين، وتراجع هو عن هذه الخطوة. وبعد أن أعلنت المحكمة أن أقسامًا من قانون الإصلاح الوطني غير دستورية، اقتطع الكونجرس هذه الأقسام التي تتعلق بالعمالة ووضعها في قانون واجنر للعمل لعام ١٩٣٧، الذي عزز بشكل كبير فرص إجراء الاتحادات مفاوضات ناجحة مع أرباب العمل. وسرعان ما أصبحت نقابات المهن غير الزراعية تمثل ٣٦٪ من قوة العمل، وهو أعلى مستوى تمثيل بلغته على الإطلاق.
إذا كانت الأسباب التي أدَّت إلى الكساد الكبير تراوغ الخبراء؛ فهذا لأن هناك أسبابًا كثيرة كانت تتفاعل بطرق خفية. وهذا يؤكد على أنه لا يوجد مسئول بعينه في اقتصاد السوق الحرة، على الرغم من أن بعض الناس يكونون أكثر قوة بكثير من سواهم؛ فجميع الجوانب المادية للاقتصاد — رأس المال المتاح، وطاقة المصانع، والأدوات المالية، والنقل، وأنظمة الاتصالات — تعتمد على الخيارات الشخصية والمؤسسية. وممًّا يسبب مزيدًا من الحيرة أن الأفراد الذين يتخذون القرارات لا تختلف قيمهم الثقافية فحسب، بل تتباين توجهاتهم أيضًا تبعًا لما إذا كانوا متقدِّمين في العمر بحيث يكونون قد عاصروا الكساد السابق الذي وقع في نهاية القرن التاسع عشر، أو دخلوا عالم التجارة حديثًا. والاقتصاد ليس شديد الغموض بحيث تعجز الحكومات عن اتخاذ تدابير لمنع تكرار آخر كساد مرَّت به، لكن عادة ما يكون هناك تطور غير متوقع في جعبة المستقبل القريب.
المآسي التي خلفتها الحرب العالمية الأولى
كما تبين بكل أسف، لم تكن أسوأ عواقب الحرب العالمية الأولى اقتصادية، بل سياسية. في اليوم التالي لتنصيب روزفلت في شهر مارس عام ١٩٣٣، تسلم أدولف هتلر السلطة الكاملة لحكم ألمانيا. لقد شوهت تجارب حقبة الثلاثينيات سمعة الديمقراطيات الليبرالية بما تحويه من مجالس تشريعية نيابية وحقوق مدنية، وأسواق حرة وحريات سياسية شخصية. كان نجاح هتلر — مثل نجاح موسوليني — يتغذى على الاستياء الذي يصاحب تدهور الاقتصادات خلال الفترة التي تعقب الحرب. ولما كان هتلر طموحًا في خططه لألمانيا — التي كانت رغم كل شيء ثاني أكبر اقتصاد قبل الحرب العالمية الأولى — فقد أنفق نفقات ضخمة لتوفير فرص عمل بينما كان يعيد تسليح ألمانيا متحديًا معاهدة فرساي للسلام. كان هتلر معجبًا بموسوليني، فحذَا حذوه في استخدام تابعيه في الحزب النازي لقمع النقابات وكافة المؤسسات السياسية المستقلة كالصحف. ووحد هتلر أيضًا أشياعًا غذَّى حماسهم بالعروض العسكرية والتجمعات العملاقة، حيث كان يخطب فيهم لساعات بلا انقطاع. كان يشحذ سخط مواطنيه حيال ما لقُوه من معاملة بعد الحرب العالمية الأولى، ويلعب على تحيُّزاتهم المعادية للسامية من خلال حملة رهيبة لتخليص العالم من اليهود وثقافتهم.
كان هتلر قد ألغى من جانب واحد الكثير من شروط المعاهدة التي أنهت الحرب العالمية الأولى. استولى على النمسا وتشيكوسلوفاكيا، لكن بريطانيا وفرنسا لم تستيقظَا على التهديد الذي يشكله هتلر وتُعلِنا الحرب إلا حينما قام بغزو بولندا في سبتمبر ١٩٣٩. حينئذٍ صارت بريطانيا وفرنسا تواجهان استراتيجية هتلر للحرب الخاطفة، التي استغلت كل تقنيات الحركة من طائرات ودبابات وقوات المشاة المنقولة بالمركبات. نجح هتلر نجاحًا مدويًا في السنة الأولى، وأجهز على بولندا بالتنسيق مع حليفه الجديد؛ الاتحاد السوفييتي. ومن ثَمَّ غَزَا الدنمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا وفرنسا. وبنهاية عام ١٩٤٠، كانت بريطانيا تواجه ألمانيا وحدها، وكان يحول بينها وبين التعرُّض للغزو الألماني سلاح الجو الملكي الذي يستخدم آليتي الرادار والدفاعات المضادة للطائرات الجديدتين. وبعد أن أجبرت ألمانيا جميع القوات الإنجليزية على الجلاء من القارة في يونيو ١٩٤٠، باتت معظم أوروبا ملكًا لها. وتحول البريطانيون للدفاع عن قناة السويس والهند، في حين بدأت الولايات المتحدة تعد العتاد كي ترسل لهم الدعم المادي. منح هذا القرار بريطانيا فرصة لالتقاط الأنفاس.
عندما دخلت اليابان الحرب العالمية الثانية — كحليفة لألمانيا الهتلرية وإيطاليا موسوليني — كانت تسعى بالفعل منذ عقد تقريبًا لشن حملة شرسة تحت شعار «نطاق الرخاء المشترك لشرق آسيا الأكبر». كانت كلمة «مشترك» في هذا الشعار خادعة؛ لأن هذا كان في حقيقة الأمر برنامجًا لإقناع جيران اليابان بالانضواء تحت سيطرتها الاستعمارية. أحد الظرفاء قلب بيت شعر قاله الكاتب الإنجليزي روديارد كيبلينج حول عبء الرجل الأبيض، رأسًا على عقب حينما قال إن اليابان سوف تريح الآن كاهل الرجل الأبيض من هذا العبء. وزرع صناع الرأي اليابانيون فكرة أن الياباني سليل آلهة الشمس يمتلك طهارة أخلاقية وتفوقًا ثقافيًّا يؤهله لقيادة آسيا للخروج من مستنقع التأخُّر الذي صنعته القوى الغربية. ورغم أن بعض المثقفين اليابانيين تجاوبوا مع الوعد بالخلاص من الاستعمارية الغربية وإحلال مجتمع دولي آسيوي عام محلها، كانت أهداف الحكومة أكثر مادية واستغلالية، إذ كانت تركِّز على اكتساب المواد الخام التي تفتقر إليها اليابان واحتكار الأسواق الآسيوية.
في عام ١٩٤٤، ربط هجومٌ يابانيٌّ ناجحٌ اليابانَ بإمبراطوريتها التي امتدت من كوريا إلى ماليزيا. حينئذٍ كان الطريق إلى جزر الهند مفتوحًا في نفس الوقت الذي كانت اليابان فيه تواصل حربًا شاملة باتت أكثر ضرورة بالنسبة لها بسبب حاجتها للنفط، ومعدن البوكسيت (لتصنيع الألومنيوم)، والمطاط من جزر الهند الشرقية الهولندية وبورما، وهي المناطق التي احتلتها اليابان كلها في نهاية المطاف. وأخيرًا تمكنت اليابان من الحصول على المواد الخام اللازمة لاستمرار أعمال القتال، لكن للأسف، كانت ممتلكاتها الجديدة بعيدة؛ مما جعل تجارتها وأساطيلها البحرية عرضة للهجوم.
الإنتاج المذهل في زمن الحرب
كانت الحاجة الماسة لإنتاج لوازم الحرب تمارس أقصى قدر من الضغط على اقتصادات جميع الأطراف المتحاربة. وكانت بريطانيا العظمى، وألمانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي؛ تتحرك في طرق تنسجم مع قدراتها الصناعية المختلفة ومع أهداف الحرب. في بادئ الأمر، كانت هذه الدول تلبي مطالب زمن الحرب من خلال توفير فرص عمل للعاطلين عن العمل نتيجة الأزمة الاقتصادية للكساد بدلًا من تطوير الإنتاج المحلي. هذا الإنفاق الحكومي وضع خاتمة للكساد الكبير. وبعد عام من نشوب الصراع، كانت صناعة منتجات الحرب قد سحبت نسبة تتراوح بين النصف والثلثين من قوة العمل الصناعي. وتفاعلت أهداف الحرب مع طبيعة النظام السياسي في كل بلد محارب كي يتحول اقتصاده إلى اقتصاد حرب بالكيفية الملائمة له.
في زمن الحرب، تصبح جميع الاقتصادات موجَّهة؛ ومن ثَمَّ — وفقًا لهذا المنطق — لم يكن الإنتاج الحربي في روسيا الشيوعية يختلف كثيرًا عن الإنتاج الحربي للحلفاء الذين يعتمدون نظام السوق الحرة. كانت روسيا تواجه معركة تحدد مصير بقائها القومي في ظل خضوع جزء كبير من أراضيها للاحتلال الألماني، فبذلت قصارى جهدها في هذه الحرب. الشيء الأكثر أهمية وغرابة، أن تعبئة الاتحاد السوفييتي للحرب كانت أكثر فعالية بكثير من تعبئة ألمانيا النازية، بل إن الولايات المتحدة — ذات الخبرة الأقل فيما يتعلق بالتخطيط الموجه — كانت أفضل أداءً بكثير في إعطاء أولوية للإنتاج الحربي. وبحلول عام ١٩٤٤، كانت المصانع الأمريكية ترسل تيارًا ضخمًا من الدبابات والشاحنات والعربات المدرعة، وحتى الأغذية المعلبة لخطوط الدفاع الروسية. ونتيجة لتفوق أمريكا على كل المتحاربين الآخرين من حيث امتلاكها منشآت صناعية أكبر بكثير، كانت لا تزال تورد الحاجات المادية إلى دول أخرى من خلال عقود إعارة وتأجير؛ فكانت توفر ثلث الحاجات المادية لبريطانيا وربعها بالنسبة للاتحاد السوفييتي.
دائمًا ما عملت الحروب كمحفِّز للتكنولوجيا، لكن في الحرب العالمية الثانية قدم العلم مساهمات مذهلة بتطوير الرادار، وأجهزة الكمبيوتر التي ترسم مسارات المقذوفات، وعلم الصواريخ، والطائرات النفاثة، ومجموعة كبيرة من المنتجات التركيبية المطورة لتحل محل الموارد الطبيعية التي لم تعد متاحة للمتحاربين عن طريق التجارة. وقد يكون للتطورات الصغيرة في بعض الأحيان تأثيرات كبيرة؛ فقد مكن جهاز الاستقبال والإرسال الأمريكي الروس من تحسين تكتيكات دباباتهم. وأدت طفرة تكنولوجية أخرى — هي القنبلة الذرية — إلى انتهاء الحرب في المحيط الهادي بعد ثلاثة أشهر على استسلام ألمانيا في مايو ١٩٤٥.
صار مصير أرواح الملايين معلقًا بالحرب، وبذلت الدول المتحاربة جهودًا ذات أبعاد بطولية، وهذا أمر مأساوي يذكر بأن البشر يبذلون قصارى جهدهم حينما يتهددهم الفناء. لقد كبدت الحرب العالمية الثانية المتحاربين فيها تكلِفة رهيبة، بل وفاقت معاناة المدنيين معاناة المقاتلين. وفيما قد يعد نتيجة متوقعة لتطوير أسلحة جديدة، تجاوزت الخسائر البشرية للحرب العالمية الثانية الخسائر البشرية للحرب العالمية الأولى؛ فقد لقي إجمالي ١٧ مليون مقاتل مصرعهم، وبلغ عدد القتلى من المدنيين ٣٣ مليونًا، كان أكثرهم من الروس والألمان، علاوة على ستة ملايين يهودي من جنسيات عديدة تم قتلهم في معسكرات الاعتقال النازية. وتسببت الحرب في تشريد ملايين آخرين أو إصابتهم أو تركهم فريسة للموت جوعًا. وكان القصف الجوي المكثف يدك المنازل والسفن والجسور وخطوط السكك الحديدية والمصانع والمطارات والموانئ، ومدنًا عن بكرة أبيها في بعض الأحيان. ولم ينجُ من ضراوة الحرب سوى الأمريكتين فقط.
وضعت الحرب العالمية الثانية الإمبراطوريات الممتدة لبريطانيا العظمى وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال وهولندا على حافة الانهيار إن لم تكن في الواقع قد خطت نهايتها. فخلال الحرب استولت اليابان على الفلبين الأمريكية، وجزر الهند الشرقية الهولندية، والهند الصينية الفرنسية، وبورما وماليزيا البريطانيتين. وبعد الهزيمة، قام اليابانيون بدور المفسد، وشجعوا المحرضين على الاستقلال بينما كانوا يغادرون ما كانت ستصبح فيما بعدُ إندونيسيا. وظهرت فدرالية جديدة في ماليزيا انفصلت عنها سنغافورة لتصبح جمهورية مستقلة عام ١٩٦٥. وقبلت بريطانيا العظمى قيام دولتين قوميتين هما الهند وباكستان عام ١٩٤٧. وانفصلت بنجلاديش عن باكستان، وكونت جزيرة سيلان دولة سريلانكا. ومنحت الولايات المتحدة الفلبين الاستقلال عام ١٩٤٦، بعد ما يقرب من خمسين عامًا من وعدها به.
شنت فرنسا حربًا طويلة الأمد ضد الجزائر حتى عام ١٩٦٢، لكن الدول العربية الأخرى في شمال أفريقيا أفلتت من الهيمنة الأوروبية بسهولة أكبر. وحارب الفرنسيون في الهند الصينية أيضًا. وحصلت لاوس وكمبوديا على الاستقلال، لكن الولايات المتحدة استكملت حرب فرنسا ضد فيتنام كجزء من جهودها خلال الحرب الباردة لوقف انتشار الشيوعية. ومُنيَت بالهزيمة هناك عام ١٩٧٣. وأجهضت البرتغال حركات التحرر الوطني في أنجولا وموزمبيق. ولم تنل المستعمرات البرتغالية حريتها إلا مع سقوط الدكتاتورية البرتغالية عام ١٩٧٥. وفي عام ١٩٦٣، رضخ البريطانيون أخيرًا — بعد عشر سنوات من القتال الوحشي — لثورة الماو ماو لتصبح كينيا الدولة الأفريقية المستقلة الرابعة والثلاثين. وبلغت الإمبراطورية البريطانية نهايتها رسميًّا عام ١٩٩٧، حينما أُنزل العلم البريطاني في هونج كونج، المدينة التي كانت قد استأجرتها من الصين لمدة قرن. وانتهت حروب التحرير الوطني حينما اجتمعت ٣٥ دولة في هلسنكي لتوقيع اتفاقات بشأن حق تقرير المصير عام ١٩٧٨.
أحيانًا ما يصف الناس أي قوة عظمى بأنها «الطاغوت جوجرنات». ولعلهم لا يعلمون أن الطاغوت — كما ورد في الأسطورة الهندوسية — هو أحد ثمانية تجسُّدات للإله فيشنو الهندوسي، الذي يقوم من نذروا حياتهم له برمي أنفسهم تحت عجلات سيارة تحمل تمثال الإله في المواكب السنوية. وبنهاية الحرب العالمية الثانية، صارت الرأسمالية أشبه بهذا الطاغوت؛ لم يكن اتجاهها واضحًا، ولا كانت قوتها ظاهرة، وكان عبَدتُها على استعداد لتدمير أنفسهم تدميرًا فادحًا. وفي عام ١٩٤٥، واجه الطاغوت الرأسمالي تحديًا جذريًّا من الاتحاد السوفييتي، حليفه أثناء الحرب. كان كلاهما زوجين غريبين حقًّا، فأحدهما كان اقتصاده قائمًا على رأس المال الاستثماري ويتوق لأن يجعل البلدان الأخرى تتبنى أساليبه، والآخر كان اقتصاده موجهًا ويقوم بمهمة نشر مؤسساته الشيوعية على مستوى العالم. كان عدد الضحايا السوفييت ٢٠ مليون ضحية من بين إجمالي ٥٠ مليون ضحية عسكرية ومدنية. وبالرغم من هذه الخسائر المروعة بحق، خرج الاتحاد السوفييتي من الحرب أقوى من أي وقت مضى بمجرد أن سيطر على بلدان أوروبا الشرقية، بما في ذلك ثلث ألمانيا. وصارت الرأسمالية — التي تعارض تمركز السلطة — تواجه كتلة من الدول المصممة على فضح مثالبها وتضخيمها واستغلالها.
إن الأشخاص الذين ولدوا عام ١٨٨٠ وشاهدوا شق الطرق من أجل السيارات وانتشار الأدوات الكهربائية والأجهزة المنزلية وإعادة تجديد قلب كل مدينة ببناء ناطحات سحاب تحوي مكاتب ومتاجر فخمة، تحتَّم عليهم أن يقاسوا حربًا عالمية وعشر سنوات من الكساد ثم معاودة القتال في حرب عالمية أخرى أكثر فظاعة. وفي شيخوختهم تفكَّر هؤلاء في نوع جديد تمامًا من التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في شكل ما بدا في ذلك الوقت كأنه صراع هائل حول حقائق أساسية ويعدو كونه تعارضًا بين نظامين اقتصاديين مختلفين. وبينما كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تواجهان الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، كانت الشعوب التي استعمرها الأوروبيون تطالب بحق تقرير المصير الذي حُرمت منه عام ١٩١٨. وما عاد من الممكن تلوين المناطق على خريطة العالم بعدد قليل من الألوان الاستعمارية الأوروبية كما كان الحال من قبل؛ فقد أظهرت حربان عالميتان، وركود في جميع أنحاء العالم، قدرة الرأسمالية على التدمير. وحان الوقت لأن تكشف عن خصائصها المفيدة.