تغريدة البجع
يُقال عن البجعة: إنَّها إذا ما دنت من ختام حياتها سُمعت لها أنات منغومة تُطْرِب آذان البشر، ولا يمنع طربها أن تكون تلك الأنات صادرة — على الأرجح — من ألمٍ يكويها، ومن هذه التغريدة الجميلة قُبيل موتها جاء التشبيه عند أدباء الغرب الذي يصفون به عملًا جيدًا أنجزه صاحبه ليختم به حياته، إذ يقولون عنه: إنه تغريدة البجعة، وقد أراد هذا الكاتب أن يقولها عن نفسه؛ لأنَّه لا يتوقع أن يقولها عنه سواه.
ففي هذه المجموعة من الأحاديث، اجترار منسق ومدبر، لحياة أعطت فكرًا وأدبًا، وظلت تعطي ستين عامًا، ولا يذكر صاحبها يومًا أخذها فيه يأس أو ملل، ولم يكن ليلومها لو قعد بها القنوط، فهي حياة بشرية يعتورها ضعف الغرور، الذي يوهم الإنسان آنًا بعد آن، أنه يستطيع لو جد وأجاد أن ينتزع المجد انتزاعًا ولو كره المخالفون، أو قل: ولو كره الذين أغمضوا أعينهم، وصموا آذانهم، وألهتهم شواغل الدنيا حتى لم يعد لديهم فراغ من وقت يقدحون فيه أو يمدحون، اللهم إلا إذا رأوا في قدح هذا ومدح ذاك أسبابًا للصعود، لا، إن صاحب هذه الحياة لا يذكر لها يومًا ألمَّ بها فيه ملل أو يأس؛ لأنها أعطت عطاءها صدوعًا لفكرة غالبة، إنه ليعجز إذا أراد أن يتعقب تلك الفكرة الغالبة إلى مصادرها، فمن أين جاءته، وكيف جاءته؟ لكنها هناك تملأ صدره وتهز قلبه وتحرك عقله، ما تحركت قدماه أو وقفت، وما اضطرب فؤاده أو سكن.
والفكرة الغالبة الدافعة التي أعنيها، فكرة بسيطة غاية البساطة، كبيرة غاية الكبر، فهي فكرة تسأل حاملها وتلح في السؤال: كيف جاز أن يلتئم ذلك التَّاريخ الطويل المجيد، مع هذا الحاضر الذليل العقيم؟ بل هو ذليل لأنه عقيم، فالسادة هناك في أعالي البحار ينتجون علمًا وفنًّا وثراءً وسلطانًا، والأتباع هنا قد جعلوا غاية المُنى أن ينقلوا عن السادة نفحات متقطعة من علم وأدب وفن، تاركين لهم الثراء والسلطان، نعم كيف جاز لتاريخنا ذاك، في عزه ومجده، أن يلد لنا هذا الحاضر في عقمه وذله؟ وإنه لسؤال لا يأتيه الجواب في سطر من كتاب، بل لا بد له من نظر يمعن، ومن شجاعة تواجه الصعب، أما أن تثمر ثمارها هذه الشجاعة الجسور، أو ذلك النظر الممعن، فذلك مرهون بتوفيق من الله، على الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح، وفي وسع الفارس الذي تخونه قواه، أن يعتذر بما اعتذر به شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:
كان صاحبنا منذ أوائل شبابه طُلَعة (بضم الطاء وفتح اللام) يرى، ويسمع، ويقرأ، فضلًا عن دراسته النظامية، وقد لحظ في نفسه، منذ تلك السنين الباكرة، إقبالًا شديدًا على الأفكار التي من شأنها أن تغير من حياة النَّاس، لتنقلها من قديم إلى جديد، ونفورًا من الأفكار التي تعمل على ركود الحياة وجمودها، وقد تنبه منذ ذلك العهد البعيد، إلى أن الفكر — بل والثَّقَافة كلها بجميع أطرافها — ليس ترفًا يلهو به صاحبه ليزجي به ساعات الفراغ، وليلهي معه النَّاس بأن يقدم لهم وسائل لتسرية النفوس عن همومها، بل الفكر السوي القوي السليم هو أداة للعمل، إذ هو — حتى وهو في أعلى درجات تجريده — يرسم ما يشبه الخرائط الجغرافية، فيهتدي العاملون بها في طرق الحياة العملية، الفرق الحقيقي بين مجتمع جمدت دماؤه في شرايينه فتخلف عن موكب الحضارة، ومجتمع آخر توقدت فيه الصحوة وتوثبت الهمم، هو فرق بين مجموعة الأفكار التي حصلها واختزنها أفراد النَّاس في كل من الحالتين.
وصاحبنا منذ أوائل شبابه — كما أسلفت عنه — كان على يقظة كافية تحثُّه على أن يرى ويسمع ويقرأ، فكان له بهذا كله أن تجمعت لديه أفكار من هنا وهنا وهناك، تتفق أحيانًا، وتتعارض أحيانًا، وقد كان يمكن أن يقف عند هذا الحد من التحصيل الذي يجمع ولا يعرف كيف ينتقي ويختار، وما أكثر ما تصادف بين الدارسين والقارئين من وقف عند عملية الجمع والتحصيل والحفظ، لكن صاحبنا بتوفيق الله قد وجد في تكوينه دوافع داخلية تدفعه إلى مجاوزة تلك المرحلة إلى ما بعدها، وأعني مراجعة المحصل مراجعة نقدية تقبل هذا وترفض ذاك وتعدل من ذلك، حتى يحس بنفسه وقد اطمأنت لوجهة من النظر تستريح لها، فتشعر وكأنما جات تلك الرؤية ثمرة طبيعية من إبداعها، وليست شيئًا غريبًا أُقحم عليها.
وكان لا بد لتلك النفس مع تعاقب الأعوام وامتدادها، أن يعاودها القلق آنًا بعد آن، حول فكرة كانت قد اطمأنت إليها في مرحلة سابقة من مراحل العمر، فلم يكن صاحبنا يتردَّد في تصحيح فكره، فليس هو من ذلك الصِّنف الذي يتوهم بأن كرامته تقتضي أن يتمسك بفكرة ثبت له بطلانها، ولم يَعُد لها — فيما أصبح يراه ولم يكن يراه — قوة عملية تطبيقية في ظروف جديدة استحدثتها الأيام، ومن هنا قد نجد له فكرة أخلص لها في عهد من عهوده، ثم تنكر لها في عهد آخر، وليس في ذلك ضير، بل الضير هو في عكسه، والذي يحسن بالإنسان السوي أن يثبت عليه ثباتًا نسبيًّا، هو الغاية البعيدة، (وهي ما نصفه اليوم عادةً بكلمة «الاستراتيجية») وأما الوسائل التي نراها مؤدية بنا إلى تحقيق تلك الغاية، فيجوز لنا، بل يجب علينا، أن نغيرها كلما وجدنا وسيلة أفضل منها على تحقيق الغاية المقصودة، فليست حقيقة الإنسان شبيهة بالحقائق الرياضية، كالمثلث والمربع والدائرة، فإذا كان لكل هذه الحقائق الرياضية «تعريف» لا يتغير ولا يتبدل باختلاف المكان أو الزمان أو ما يحيط بهما من ظروف، فإن حقيقة الإنسان حياتية (بيولوجية) عضوية، خُلقت لتواجه ما حولها مواجهة تساعد على بقائها وازدهارها، وانظر إلى أبسط الكائنات الحية في عالم النبات ودع عنك عالم الحيوان وما هو أرقى في عالم الإنسان — وأعني تلك الأنواع النباتيَّة الهُلاميَّة التي تنمو في مياه البحار، ويكاد ألا يكون قد اكتمل لها شكل محدد المعالم — أقول: انظر إلى هذه الكائنات النباتية البسيطة، تجدها تغير من نفسها كل لحظة، بما يساعدها على التقاط الغذاء، أو التعرض للضوء، وغير ذلك مما يقيم لها الحياة.
عاش صاحبنا طوال حياته الواعية في عالم «الأفكار» أكثر مما عاشها مع النَّاس، لكن هذه السمة تريد شيئًا من التحديد حتى لا يُساء فهمها، ويأتي تحديدها الشارح لها من عدة جوانب، وأحد هذه الجوانب هو أن دنيا «الأفكار» التي يحياها من يحياها من أفراد النَّاس، الذين وجدوا في أنفسهم ما يميل بهم نحو الاهتمام ﺑ «الفكرة» والاحتفال بها، لا يقتضي العزلة الكاملة عن الحياة اليومية الجارية، وما تقتضيه هذه الحياة من عمل، وأداء للواجبات الاجتماعيَّة، وانتماء إلى الوطن الكبير، وإلى القرية الأم، وإلى الأسرة، وإلى من اصطفاهم من أصدقاء، بل إن صاحبنا قد عُرف بحرصه على إقامة هذه الروابط بينه وبين الآخرين، فهو مشغوف بوطنه ومواطنيه، ودود مع أصدقائه ينعم بلقائهم نعيمًا لا تحده حدود، وإن تكن بساطة طباعه التي كثيرًا ما بلغت به حد السذاجة، قد أوقعته في «صداقة» مزورة ندم عليها فيما بعد أشد الندم، بعد أن لم يعد ينفع الندم، نعم، إن دنيا «الأفكار» لمن يحياها أكثر مما يحيا مع النَّاس، لا تعني تلك العزلة عن المواطنين والأقربين والأصدقاء، لكنها تعني أولوية «الفكرة» على قضاء المصالح المادية في تيار الحياة العملية، وهناك كلمة في اللغات الأوروبيَّة، يُقال إنها روسية الأصل ثم انتقلت إلى سائر اللغات في أوروبا أولًا، وفي أمريكا بعد ذلك، وهي كلمة «أنتلجنتسيا» يطلقونها ليشيروا بها إلى تلك الفئة من أفراد النَّاس، الذين يعلون من شأن «الأفكار» حتى يجعلوها تسبق في اهتمامهم عالم الأشياء في تيار الحياة الجارية، وإنه ليتعذر أن نجد مرادفًا دقيقًا في اللغة العَربيَّة لكلمة «أنتلجنتسيا» هذه، فلا كلمة «مثقف» ولا كلمة «مستنير» ولا — حتى — كلمة «مفكر» تعطيك المعنى المطلوب في دقته، ولا مفر لنا من اللجوء إلى جملة شارحة إذا أردنا الوصول إلى ذلك المعنى، وهو — كما أسلفت — أن يكون لعالم «الأفكار» أولوية وأعلوية على عالم الأشياء، وليس ذلك استغناءً عن عالم الأشياء، كلا، بل هو من أجل أن نفهم عالم الأشياء فهمًا أدق وأصدق، فليس الأجدر بزعامة المجتمع، هو رجل غمس نفسه من الرَّأس إلى القدمين في بحر التفصيلات كما تقع في الحياة الفعليَّة كما تراها الأعين وتسمعها الآذان، بل الأجدر بتلك الزعامة هو من قبض على «الفكرة» قبضًا واعيًا، لينتقل منها إلى تفصيلات التطبيق، وأظنه هو «هرقليطس» — أحد فلاسفة اليونان فيما قبل سقراط — الذي قال ليصف نفسه، إنه لو خُيِّر بين «فكرة» جديدة يقع عليها، وبين عرش فارس، لاختار الفكرة، وإنه لقول يحدد المعنى الذي نريده أدق تحديد؛ ذلك — إذن — هو أحد الجوانب الشارحة لمعنى إيثار العيش في دنيا «الأفكار» على العيش في دنيا النَّاس، وجانب ثانٍ يتلخص في أن صاحبنا لا يملك منع نفسه من محاولة «التَّعليل» لأي شيء يلفت نظره في ظواهر الحياة كما يراها متمثلة في مسالك الأفراد أو الجماعات، إنه يبحث لكل ظاهرة سلوكية عما يفسرها، وهو بحث يتم أكثره في صمت، ويخرج أقله إلى العلانية قولًا منطوقًا في أحاديثه مع من يجالسهم، أو كتابة منشورة ليقرأها من أراد، المهم عند صاحبنا هو أن يقع على تفسير ما يراه وما يسمعه، تفسيرًا يَرُدُّ به الواقعة الجزئية إلى قانونها العام، وربما أوغل صاحبنا في تحليلاته الصامتة حتى يرد ذلك القانون العام الذي فسر به الواقعة الجزئية إلى «المبدأ» الأعم والأشمل، الذي يطوي تحت جناحَيْه ذلك القانون وغيره مما يقع معًا في أسرة عقلية واحدة.
وجانب ثالث من تلك العزلة التي مالت بصاحبنا نحو أن يعيش حياته مع «الأفكار» أكثر مما يعيشها مع النَّاس، وهو جانب لا يجوز إغفاله إذا أردنا للصورة أن تكتمل، ونعني به تلك الرغبة الشديدة في أن يعتصم بجدران بيته، وأن يوغل فينكفئ على دخيلة نفسه يجتر من مكنونها ما عساه يطفو على سطح الوعي من ذلك المكنون.
وهي عادة رسخت عنده، حتى لنراه يحاول عبثًا أن يُقلع عنها فلا يستطيع، ولماذا يحاول هذه المحاولة ولا يترك نفسه تجري على سجيتها؟ ألم يمده ذلك المكنون الطافي بكثير جدًّا مما أوحى له بفكر عرض بعضه على النَّاس، والجواب هو أنَّ شيئًا ما في طبيعته، يجذبه جذبًا نحو أن يلتقط من مخزون الذاكرة، كلما بسط في دخيلة نفسه شريط حياته بأحداثها التي رسخت عنده آثارها كما ترسخ النقوش المنقورة على جذوع الأشجار، لا بل إن تلك النقوش لتكبر وتتسع كلما عمرت تلك الجذوع أعوامًا بعد أعوام، أقول إن شيئًا ما في طبيعة صاحبنا ذلك، يجذبه جذبًا كلما بسط ذلك الشريط ليجتر مما فيه مضغة يلوكها في مسرحية، نحو أن يلتقط اللحظات المُرة الأليمة، وهي في مخزون ذاكرته تُعد بالألوف إذا شئت العدد، ولها من القوة الجارفة ما تطغى به على ما عداها من ساعات الضحك والمرح، فكم ألف مرة سمع من النَّاس ما يؤلمه ويؤذيه، ولو كانوا من غمار النَّاس لقلنا إن العدوان هو من طباع الغمار، ولكنهم كانوا — أو كان بعضهم — من الصفوة التي امتازت بثقافتها، ممن كان لا بد لصاحبنا أن يلتقي بهم خلال حياته التي غلبت عليها صلات اجتماعية في مجال الثَّقَافة، من لجان تجتمع، ومجلات تُنشر، وأحاديث تُذاع، وكتب تُطبع، وما يدور في هذا الفلك من أوجه النَّشاط، بالإضافة إلى زملاء العمل في الجامعة، ولما كان صاحبنا ممن إذا أصابهم سوء جمدت أعضاؤهم بما يقرب من الشلل، فلا تتحرك منه ذراع أو قدم، ولا ينطق لسانه بنبرة، بل إنه كثيرًا ما يحس بجفاف لسانه وشفتيه، وتفصد جسده بالعرق، أقول: إنَّه لما كان صاحبنا من هذا الطِّراز عند المفاجأة بما يسيء من قول أو فعل، فسرعان ما يمسك الآخرون بهذا الخيط فيستغلون ويستذلون، إذا لم يسرع هو إلا ملاذه ليحتمي وراء الجدران، وأمثال هذه اللحظات هي التي تقدم نفسها إليه كلما سرح في فراغه مستعيدًا أحداث ماضيه.
ورُبَّ ضارَّة نافعة — كما يقولون — فقد كانت مُحصلة تلك النَّفس وطبيعتها المنطوية، أن اتسعت ساعات الفراغ أمام صاحبها، اتساعًا أخذ يزداد معه كلما تقدم به العمر، فازدادت تبعًا لذلك فرصة القراءة الجيدة المتمهلة، ألا ما أسرع ما ينسى النَّاس أن الكتاب المقروء هو إنسان يتحدث إلى قارئه بأحسن ما عنده من مادة للحديث! إن الوحدة العددية لمن يعتكف، وأعني حين يكون الإنسان في هدوء عزلته، ليست بالضرورة غربة يغترب فيها عن النَّاس وما يحيون به ويفكرون فيه، بل إنها كثيرًا ما تكون هي الفرصة الذَّهبية للاتصال بخيرة النَّاس يستمع إليهم فيما يقولونه شرحًا لأفكارهم وتعبيرًا عن وجدانهم، وإنها لأفكار، وإنه لوجدان، لم ينزع من خلاء، بل استصفاه واستقاه هؤلاء المؤلفون من صميم الحياة التي يحيونها في دنيا الفعل والتفاعل، إذن فنحن إذا قلنا: إنَّ صاحب تلك النفس المنطوية على ضلوعها بكل ما يكمن وراء تلك الضلوع من ذكريات تسعده أو تشقيه، قد اتسعت له ساعات اللقاء مع خيرة البشر، وأعني العلماء والأدباء الذين رصدوا في مؤلفاتهم ما قد دار في رءوسهم من فكر، وفي قلوبهم وصدورهم من مشاعر، فقرأ على مهل، وتدبر ما قرأ، فقبل ما قبله، ورفض ما رفضه، وعدل ما عدله، مستعينًا في قبوله ورفضه وتعديله بالغاية التي خلص إليها منذ زمن بعيد، لتكون هي المعيار الاستراتيجي الذي على أساسه تُقام الموازين.
فما هي الفكرة الاستراتيجية الكبرى، التي اختارها لتكون عنده غاية الغايات، أي أن تكون هي الغاية التي ليست وراءها غاية تُرجى في هذه الحياة الدنيا؟ لقد كان هذا القرن العشرون في عشرينات أعوامه، عندما كان صاحبنا كذلك في عشرينات عمره، وكانت تلك الفترة مزدحمة بالأفكار والمشاعر، المتفقة حينًا والمتضاربة حينًا آخر، إنها فترة توسطت الطريق بين حربين عالميتين ذُبحت فيهما عشرات الملايين من رقاب البشر، وكانت فترة غَصَّت بالثورات الوطنية، وبالثورات المذهبية وبالحروب الأهلية، كانت فترة أراد العالم فيها أن ينتقل من حضارة إلى حضارة، ومن نظام إلى نظام، ففيما سبق تلك الفترة، كانت حياة النَّاس قد استقرت على قوائمها التي قرَّت في النُّفوس فاكتسبت بذلك هالة من التَّقديس، والويل لمن أراد أن يُغيِّر منها شيئًا، فالجنس الأبيض جنس أبيض، وسائر ألوان الجلود البشرية هي ما هي في سوادها وسمرتها وصفرتها، فللأبيض يكون الحُكم وعلى سائر الألوان أن تتبع، وكانت حقوق النَّاس وثقافاتهم تُقاس بذلك المقياس نفسه، فالحقوق تكون كاملة بجميعها لمن يحكم، وتتناقص كلما نزلت خطوة على السفوح المحكومة، والثَّقَافة تكون في أعلى ذراها عند الأبيض وعند من يحكم تحت مظلته، ثم تُوزن أقدار الثقافات الأخرى بعد ذلك بدرجة قربها أو بعدها عن تلك الذرى، لكن كان أيضًا فيما قبل تلك الفترة استقرار اقتصادي كاستقرار الجبل على أرضه، فالغني غني والفقير فقير، كل أسرة تستطيع أن تتنبأ بمراحل مسيرتها المقبلة على درجة كبيرة من الدقة وتبني تخطيطها على ذلك التصور المسبق وهي آمنة من المفاجآت، تدخر من دخلها ما يمكنها ادخاره، دون أن يحدث ارتفاع في سعر العملة أو انخفاض؛ لأنَّ العالم كله يومئذٍ — فيما أظنُّ — كان يعتمد في تقويم عملاته على رصيد من الذَّهب، وقيمة الذَّهب ثابتة ثباتًا نسبيًّا … إذ لم يكن يُغيرها إلا زيادة المُستخرج من مناجمه، نعم، كانت حياة النَّاس فيما قبل الفترة التي أشرنا إليها ثابتة ثبات الصَّخرة الصَّماء، ومن ثم انعدمت الآذان التي تسمع صرخات المظلوم، وعُميت الأبصار عما كانت ترزح تحته ملايين الكادحين، مسخرين أو كالمسخرين، وبالطبع كانت هنالك تقاليد وأعراف مرعية، لا يجرؤ على اختراقها إلا مقامر لا يبالي ما سوف يلحق به من صنوف الأذى، وهي تقاليد وأعراف استمدت قوتها الحديدية من كونها تخدم الأغنياء وأصحاب السلطان.
وجاءت فترة ما بين الحربين، التي شهدها صاحبنا، في أوائل شبابه الواعي، فازدحمت ساحاتها الثَّقافيَّة بالأفكار والمشاعر على أقلام الكاتبين، وصاحبنا يتابع ذلك ما وسعته المتابعة، كان اللسان عربيًّا أم كان إنجليزيًّا، فهو على شيءٍ من القدرة في اللغتين، وكان يستعرض ما تكتبه الأقلام هنا وهناك، وكأنه ينظر إلى طاولة البلياردو تتدحرج فوقها الكرات منسابة آنًا متصادمة آنًا: الحريَّة بكل أنواعها، السِّياسي منها الذي تطالب به الشعوب المستعمَرة (بفتح الميم الثانية) وغير السِّياسي، كحرية التعبير وحرية الاقتصاد، وحرية التعليم، وغير ذلك من صور، وحقوق الإنسان لمن سُلبت منه تلك الحقوق، كالمرأة والعامل والطفل، وفردية الفرد المسئول، بكل ما تعنيه هذه العبارة من بناء الشَّخصيَّة الإنسانية المستقلة الحرة المسئولة غير التابعة لسادتها تبعية العبيد، ثم كانت هنالك أفكار كبرى غزيرة المضمون متعددة الجوانب والأبعاد كفكرة «التطور» بشتى صورها التي لم يعرف منها معظم المثقفين إلا صورة البيولوجية التي تُنسب إلى «دارون» في كتابه «أصل الأنواع» وانعكاساتها التَّطبيقيَّة على كثير من جوانب الحياة الاجتماعيَّة، كما أوضحها بصفة خاصة «هربرت سبنسر»، وكان أبرز من عرض الفكرة في صورتها الداروينية: إسماعيل مظهر، بترجمته الكاملة لكتاب «أصل الأنواع»، كما كان أبرز من أشاع جوانبها التَّطبيقيَّة في المجال الاجتماعي، نقلًا عن هربرت سبنسر «شبلي شميل»، وازدادت الفكرة شيوعًا بعرضها عرضًا موجزًا متكاملًا على يدي سلامة موسى، لكن فكرة التطور لم تقتصر في تلك الحقبة الزمنية على صورتها البيولوجية وانعكاساتها الاجتماعيَّة، وهي الصورة التي شاعت وعرفها النَّاس، بل كانت لها صور أخرى أهم وأعمق وأشمل أفقًا، وهي صور تناولت التَّطور الكوني بصفة عامة، أو تطور «الحياة» من حيث هي حياة تبدع أشكالها وترتقي على امتداد الدهور درجة كيفية بعد درجة، كل ذلك عرضه فلاسفة تلك الحقبة «برجسون»، و«لويد مورجان» و«صموئيل إسكندر» و«وايتهدا» ممن اقتصر العلم لهم على الدراسين لفلسفاتهم المختلفة، التي قدمت صورًا فكرية رائعة لهذا الكون العظيم: كيف تطور مما يشبه العدم حتى أصبح على ما هو عليه، وليس الذي يهمنا في هذا السياق، ما الذي قالوه، وإنما يهمنا أن نعلم كيف كانت روح العصر النزاعة نحو أن يتحطم ذلك الجمود الثابت، الذي تحجرت به حياة النَّاس في قوالب من حديد لا يجرؤ على تغييرها إلا المغامرون، أقول: إن الذي يهمنا هنا هو أن نرى في تلك الأفكار الكبرى كيف كانت روح العصر تنادي بضرورة تحطيم الجمود، ولن يكون ذلك إلا بالتمهيد له بإقناع النَّاس بأن كل شيء، من الكون العظيم، إلى أصغر كائن من كائناته يتطور ويتغير في صور تتلاحق مع الزمن.
وإننا اليوم لنستطيع — خلال هذه الخلفية الفكرية التي سادت النصف الأول من هذا القرن العشرين بصفة عامة — أن ندرك قيمة الأدوار التي اضطلع بها أعلام الفكر والأدب في حياتنا إبان تلك الفترة، وبصفة خاصة ما شهدناه منها خلال العشرينات من أعوام القرن، ومن عمر صاحبنا في آن واحد، فقد كان هؤلاء الأعلام يجسدون بأشخاصهم وبأعمالهم روح هذا العصر الجديد، كل منهم في جانب من جوانب تلك الروح: أحمد لطفي السيد بما نادى به من وجوب الحريَّة الفردية المسئولة، رجلًا كان ذلك الفرد أو امرأة، وطه حسين بما عمل على إشاعته في النفوس من إزاحة التَّقديس عن حقائق التَّاريخ، فالتَّاريخ الأدبي إذا رُوي عن شعراء عاشوا في فترة ماضية، كان من حق الناقد العصري أن يتثبت من روايته، بدءًا من حقيقة وجود الشَّاعر، فإذا ألف المُعاصرون منا أن يروا في الأسلاف بشرًا من البشر، جاء ذلك كسبًا لحرية الفكر والاعتداد بالنفس، وعباس محمود العقاد بمجموعة دواوينه الشِّعريَّة، إنما قدم للنَّاس تطبيقًا مجسدًا للفردية المستقلة الحرة التي اضطلع لطفي السيد بالدعوة إليها في مجال السياسة، ويمكن القول كذلك — ما دمنا نتحدث عن الشعر — بأن أمير الشعراء أحمد شوقي قدم إلى الأمة العَربيَّة شعرًا يرسخ في قلوبهم روح الانتماء القومي، وكان ذلك منه ظاهرًا في الشكل وفي المضمون معًا، ولئن كان شعر العقاد تعبيرًا عن الفردية في وجودها السِّياسي، فإن جماعة «أبولو» التي تكونت في أوائل الثلاثينات، حرصت على أن تمثل بشعر شعرائها روح الفردية من جانبها الوجداني الخاص، وهكذا نستطيع أن نجد في روادنا من أعلام الجيل الماضي مرايا تعكس صورة العصر من شتى جوانبه.
لم تكن تلك الروح النَّزاعة نحو أن يتغير الإنسان تغيرًا يهدم به صورة حضارية تحجرت صورها وأشكالها في أوضاع سياسية أقرت أن يكون بين النَّاس — جماعات وأفرادًا — سيد ومسود، أقول: لم تكن الروح التي طالبت بأن تهدم الصورة الحضاريَّة التي تعفنت بحلول هذا القرن، تقتصر علينا، بل العكس ربما كان أقرب إلى الصواب، أنها كانت قبل ذلك مشتعلة عند أعلام أوروبا من رجال الفكر والأدب، وجاءتنا نحن ومضات من ضيائهم، بما كان قد تود من صلات بين رواد حياتنا الثَّقافيَّة ورواد حياتهم هناك في الغرب، إلا أن انعكاس الضوء على مرآتنا قد جاوز حدود الأصل ليثور على ذلك الأصل الوافد نفسه، كلما تعارض مع ركائز ثقافتنا، ومن هنا رأينا بين روادنا من شغل نفسه بالرد الرافض لما يكتب عبر البحر أو يُقال على غرار ما فعل الأفغاني في «الرد على الدَّهريين» والشِّيخ محمد عبده في الرد على «هانوتو» و«رينان» والعقاد في الرد على كثير مما قاله مستشرقون كتبوا عن الإسلام والمسلمين، وإلى جانب هؤلاء الذين تأثروا بما كُتب أو قيل في الغرب وتولوا الرد عليه، كانت هنالك جماعة تتخذ أسلوبًا آخر في إيجاد التوازن الثقافي الذي يصون الهُوية العَربيَّة الإسلاميَّة حتى لا تنجرف مع تيار الفكر المنقول، وتتمثل تلك الجماعة في أفراد عرفوا كيف يكتبون بأقلام عربية قوية رصينة، مادة عربية وإسلاميَّة أصيلة، كالذي نراه عند مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، والشيخ عبد العزيز البشري وغيرهم.
في هذه الدوامة الفكرية ووسط إعصار من رياح التَّجديد والتَّغيير، وقف صاحبنا في شبابه الطَّموح، وقفة من أراد أن يلتهم الأضداد جميعًا، لعله يحيط بعصره من يمينه وشماله، لكنه آخر الأمر قد أمسك بطرف الخيط الذي يهديه إلى الطَّريق.