مطالع النور «٢»
هي صفة واحدة، لو أُتيح لها أن تشيع في جماعة من النَّاس اتساعًا وعمقًا، لكانت وحدها كفيلة أن تحقق لتلك الجماعة قفزة جبارة إلى أعلى وإلى أمام في وقت واحد، ألا وهي صفة «الصدق»، ولهذه الصفة أبعاد كثيرة وخطيرة، تجاوز بها المجال الخلقي المحدود، الذي ألف معظم النَّاس أن يجدوا فيه هذه الصفة مستخدمة، وهو المجال الذي يروي فيه راوية عن حدث وقع أو عن حديث قيل، بحيث تجيء روايته وصفًا صحيحًا للحدث، أو نقلًا أمينًا لما قيل، فعندئذ نقول عن ذلك الراوية إنه صادق، فإذا حَلَّلنا موقف «الصدق» تحليلًا يبين أطرافه، وجدناه موقفًا يتضمن صورتين، قد تكونان من نوع واحد، كأن تكون كلتاهما تركيبة لغوية تكرر إحداهما الأخرى لفظًا ومعنى، وقد لا تكونان من نوع واحد، كأن يشهد شاهد أمام المحكمة بما قد رآه في حادثة معينة، فتجيء الصورة «اللفظية» التي يقدمها مطابقة للحادثة في تفصيلاتها وما بين تلك التفصيلات من علاقات، فتفصيلات الحادثة وطريقة ارتباطها بعضها ببعض ليست «ألفاظًا» لغوية، كما كانت شهادة الشاهد ألفاظًا، إلا أن الصورتين برغم اختلافهما مادة، فقد تكونان متطابقتين، ومن هنا يجيء صدق الشهادة، ولكن كيف يتحقق التطابق التام بين صورتين اختلفتا مادة، بل وشكلًا، اختلافًا يبلغ أن تكون إحدى الصورتين مرئية بالعين، وتكون الأخرى مسموعة بالأذن، وبين المشهود والمسموع ما بينهما من اختلاف الخامة، فالمشهود في حالة البصر موجات من الضوء، والمسموع بالأذن موجات من الصوت، ولكل من الحالتين عصب أو أعصاب تتلقى، غير العصب أو الأعصاب التي تتلقى في الحالة الأخرى، لكننا نرجئ القول في الطريقة التي تتطابق فيها المختلفات مادة وتكوينًا، إلى موضع آخر من هذا الحديث، وحسبنا الآن أن نقول: إن مثل هذا التطابق بين ما يرويه الراوية عن حدثٍ رآه، أو عن قولٍ سمعه، هو ما قد ألف معظمنا أن يستعمل في شأنه صفة الصدق والصادق، وهو نفسه المعنى الذي يكاد يقتصر عليه المبدأ الخلقي.
لكن هذا الهيكل الصوري نفسه، الذي يتألف من جانبين متطابقين، انطباقًا لا يمنع تحققه اختلاف الجانبين مادة وشكلًا، أقول: إن هذا الهيكل الصوري نفسه، يمتد نطاقه ليشمل حالات أخرى، في ميادين متباعدة متباينة، ومن ثم يتسع مجال «الصدق» اتساعًا يستوعب في آفاقه كثيرًا جدًّا من مقومات الحياة، إذ يشمل العلوم بجميع فروعها، كما يشمل الدين، والفن، والأدب، والعلاقات الاجتماعيَّة في حياة النَّاس العملية جميعًا، كيف؟ ذلك هو ما سوف نبينه ما استطعنا له بيانًا، على أن يكون معلومًا بادئ ذي بدء، أن المعاني المباشرة لصفة «الصدق» تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف ميادين استعمالها، لكنه اختلاف ظاهري، وراء هيكل شكلي واحد، يدل على العلاقة الأسرية بين تلك الفروع الكثيرة؛ فكل «صدق» في مجال معين هو أخ شقيق لكل «صدق» آخر في مجال آخر، ومن هنا رأينا في فاتحة هذا الحديث أن هذه الصفة الواحدة كفيلة وحدها، إذا ما رسخت في أخلاقيات جماعة معينة من النَّاس، أن تقفز بها قفزة جبارة إلى أمام وإلى أعلى، وسبيلنا الآن أن نفصل القول في بعض الفروع فرعًا فرعًا، ليزداد القارئ وضوحًا فيما أجملناه.
ونبدأ بالصدق في مجال «العلوم»، والعلوم — كما هو معروف — ثلاث مجموعات أساسية: رياضية، وطبيعية، واجتماعية (أو إنسانية)، وذلك على أساس موضوعاتها، لكنها من ناحية منهج البحث تصبح مجموعتين، إذ تنضم العلوم الاجتماعيَّة مع العلوم الطبيعيَّة في منهج واحد، وتقوم الرياضة وحدها منفردة مع شقيقها علم المنطق، تحت لواء منهج آخر، على أن العلوم الاجتماعيَّة أو الإنسانية مختلف عليها: أهي فرع من العلوم الطبيعيَّة منهجًا؟ أم هي قائمة برأسها في منهج خاص بها؟ لكن صاحبنا وهو يرسم خطته الفكرية التي اعتزم النشاط على أساسها، أخذ بوجهة النظر الأولى، ومع ذلك فلتختلف فروع العلم موضوعًا ومنهجًا ما شاء لها أصحابها أن تختلف، فهي جميعًا — من الزاوية التي تهمنا في هذا الحديث — تقيم صدقها على أساس الهيكل الصوري الذي ذكرناه، وهو أن يكون في كل حالة صادقة من حالاتها جانبان متطابقان.
فإذا كنت في مجال العلم الرياضي أمام معادلة، أو أمام فرض ونتيجة تلزم عنه، ففي كل من الحالتين أنت أمام طرفين، ويتوقف الصدق على ما بين الطرفين من تطابق، فإذا كانت المعادلة في الحالة الأولى — مثلًا — ٣ + ٤ = ٧، فلكي ترى التطابق واضحًا، حلل كل شطر من شطري المعادلة إلى آحادها، تجد بين يديك سبعة آحاد في كل منهما، ولو كان الذي بين يديك هو فرض ونتيجة تلزم عنه، كقولنا — مثلًا — إذا «أ» ضعف «ب»، كانت «ب» نصف «أ»، ففي هذه الحالة، إذا أردت رؤية التطابق بين الفرض والنتيجة، حلل معنى كلمة «ضعف» وكلمة «نصف» فعندئذ ترى أن الفرض بأن «أ» ضعف «ب»، هو كالقول بأن «أ» إذا قُسِّمت نصفين، كان كل نصف منهما هو «ب»، فيظهر لك في وضوح أن النتيجة لا تقدم لنا شيئًا أكثر من أنها كررت الحقيقة الماثلة في الفرض، أي إن بين الشقين تطابقًا، ومن ثم جاء الصدق.
أريد للقارئ ألا يترك هذا الموضع من سياق الحديث، منتقلًا إلى ما بعده، قبل أن يلحظ نقطة مهمة فيما ذكرناه عن مصدر الصدق اليقيني في الاستدلالات الرياضية، وأهميتها لا تقتصر على مجال الرياضة، وإلا لتركناها لعلماء الرياضة وأعفينا منها القارئ العام، بل إن أهميتها لتجاوز تلك الحدود التخصصية لتضرب في أصلاب العمليات الفكرية أيًّا ما كان موضوع النظر، وسوف يرى القارئ الآن كيف أن من يحسن إدراك هذه النقطة المهمة، كان بمثابة من وقع على أخطر مفتاح للنور العقلي في حياته الفكرية كلها، فدقق النظر فيما ذكرناه لك في المثلين اللذين وضعناهما بين يديك لتوضيح الفكر الرياضي كيف يسير ليصل إلى نتائجه الصحيحة، ففي المثل الأول عرضنا معادلة حسابية لنبين أن صحتها نابعة من التطابق بين شطريها، تطابقًا يجعلهما — إذا أخضعناهما للتحليل — على تشابه تام إحداهما مع الأخرى، فكأننا نكرر حقيقة واحدة مرتين، وفي المثل الثاني قدمنا فرضًا ثم استخرجنا منه نتيجة تلزم عنه، فتصبح النتيجة صادقة صدقًا محتومًا، إذا سلمنا بصدق الفرض، وأيضًا أوضحنا للقارئ في هذا المثل، كيف ينبع الصدق من تطابق المقدمة مع نتيجتها تطابقًا يجعلنا وكأننا قد كررنا حقيقة واحدة معينة مرتين، وهنا تبرز أمام أعيننا تلك النقطة المهمة المضيئة التي أردنا أن نلفت إليها نظر القارئ، وهي أن نكون على حذر ويقظة واعية، حين نكون في أي سياق فكري مقدم إلينا، لنميز الفرق بين فكرة جاءت على النمط الرياضي وفكرة أخرى جاءت لتشير إلى جانب من دنيا الواقع، فإذا كانت الحالة الأولى هي المعروضة، تنبهنا بأن الفكرة المقترحة — حتى إذا صدقت — فلا شأن لها بالعالم المحيط بنا من أي وجه من وجوهه، فها أنت ذا قد رأيت أن صحة المعادلة في الرياضة وصحة استدلال نتيجة من مقدمتها، إنما هي صحة قررناها من داخل الرموز الرياضية التي استخدمناها، ولم نلجأ قط إلى عالم الأشياء والظواهر، لنرى إذا كان القول مطابقًا لشيء أو لظاهرة من أشياء الدنيا الخارجية وظواهرها، ومرة أخرى أعيد لك التحذير، بألا تقيم على أية فكرة تستمد صدقها من طريقة بنائها، أي دليل على صحة أمر يتعلق بعالم الأشياء والظواهر وكن على أوثق ثقة بأن هذا المفتاح التنويري وحده كفيل لك بالنجاة من التورط في خطأ وخلط وغموض، مما يقع فيه ألوف الألوف ممن أفلت منهم هذا الميزان، وتكفيك الآن في هذا الصدد حالة واحدة لتقيس عليها، وهي حالة كثيرة التكرار في العالم «الفكري» بين النَّاس، وهي أن يقدم صاحب الفكر «تعريفًا» لمدرك من المدركات، ثم يتوهم، ويوهم النَّاس أن ما قدمه إليهم هو فكرة ملزمة بصدقها، فافرض — مثلًا — أن كاتبًا بنى أفكاره على مبدأ قرره عند فاتحة تفكيره، هو القول بأن «العلم هو ما ينفع النَّاس» ثم أخذ يسلسل النتائج التي تتولد من ذلك المبدأ والتي قد يكون منها، أن الفيزياء النووية قد أدت إلى الفتك بأرواح البشر، وقد يكون منها كذلك أن اختراق الإنسان بصواريخه للفضاء، حتى وصل إلى القمر ومشى على سطحه، وعاد إلينا بنماذج من معادنه وصخوره وترابه، شيء لا نفع فيه لأهل الأرض، إذن فلا الفيزياء النووية ولا رحلات الفضاء تندرج حقًّا تحت العلم بمعناه الذي قرر عنه الكاتب في بدء حديثه «تعريفًا» من عنده يقول فيه إن «العلم هو ما ينفع النَّاس» فانظر إلى موقف كهذا، تجده رياضي التركيب، بمعنى أنه ينتزع نتائج من مقدمة مفروضة، وما دام الاستدلال صحيحًا إذن تكون العملية كلها صحيحة، ونسي مثل هذا الكاتب وأراد لنا أن ننسى معه، أن مصدر الصحة في هذه العملية الفكرية هو أن النتائج «تكرر» مضمون المقدمة، وبذلك تتوقف صحتها على صحة المقدمة، مع أن تلك المقدمة كانت فرضًا مفروضًا، فالعملية كلها، إنما بدأت وسارت، وانتهت داخل الدماغ، ولا شأن لها بأي شيء من كائنات الواقع وظواهره ومواقفه.
وهنا ننتقل بحديثنا عن «الصدق» من مجال الفكر الرياضي، وكل ما يركب على غراره، إلى مجال العلوم الطبيعيَّة، التي جعلناها تشمل العلوم الاجتماعيَّة أو الإنسانية لنسأل: متى يحكم بالصدق على قانون علمي، أو أية نتيجة تتأدى إليها في مجال تلك العلوم؟ والإجابة هنا أيسر من مثيلتها في مجال العلوم الرياضية، فهناك كان الصدق نابعًا من تطابق طرفي المعادلة، أو التطابق بين النتيجة ومقدمتها المفروضة، وأما هنا فصدق القول مرهون بتطبيقه على الواقع، فإذا انتهى العلم الطبيعي إلى قانون كقانون الجاذبية أو قوانين الضوء — مثلًا — فبرهان الصدق هو أن نرجع إلى الظاهرة ذاتها التي جاء القانون قانونًا لها، أو جاء أي قول مما يدعي له أنه يصف أمرًا من أمور الواقع، ومع هذا الاختلاف بين العلوم الطبيعيَّة والعلوم الرياضية، في السند المرجعي الذي نحتكم إليه في التمييز بين الصحة والخطأ، فالمجالان كلاهما يشتركان في الهيكل النظري المتضمن، وهو أن يكون هناك طرفان، وأن يُعد صحيحًا أو صادقًا ما تطابق فيه الطرفان.
وهنا أيضًا نناشد القارئ ألا يترك هذا الموضع من سياق الحديث، قبل أن يلحظ نقطة مهمة، تضيء الطريق في كل عملية فكرية، يسير فيها العقل مثل سيره في العلوم الطبيعيَّة، دون أن يكون الأمر المعروض للفكر مما جرى العرف أن يُدرج في الموضوعات العلمية، والنقطة المهمة التي أعنيها هنا، هي أنه في أي موقف يدير الإنسان فكره فيه حول شيء من كائنات الواقع، كائنًا ما كان، فذلك المفكر عندئذ ملزم بأن يجعل سند الصدق فيما يزعمه، هو صلاحية التطبيق على ذلك الشيء من أشياء الواقع، الذي أدار حوله فكرته، وإني لأرجو القارئ أن يتنبه ها هنا بكامل وعيه إلى هذه الحقيقة الآتية، وهي أنه لما كان عالم الواقع لا يشتمل إلا على «أفراد» أو «مفردات» معينة محدودة بمكانها وزمانها، فإذا كان «الفكر» بطبيعته يتناول أفكارًا فيها تعميم، وفيها تجريد، فبرهان صدقه يجب أن يستند إلى واقع متعين بفرديته وتخصيصه وتحديده، فإذا وجدنا أنفسنا أمام فكرة مزعومة لا نجد لها، ولا يجد لها صاحبها نفسه، تطبيقًا على كائنات الواقع الفردي الجزئي المرئي أو المسموع — أو المحسوس به بحاسة أخرى من الحواس — أصبحنا بين أمرين: إما أن نعلق تلك الفكرة المزعومة في أذهاننا، لا نحكم عليها بالصدق إلا إذا حدث أن وجدنا لها ما تتجسد فيه وتطابقه، وإما أن نجد فيها ما يبين لنا بأن وجود مثل ذلك الواقع المنتظر مستحيل استحالة منطقية فنرفضها ابتداءً؛ لأنه لا أمل في أن ننتظر ظهور الواقع الذي يتطابق معها، وإلا فهل ننتظر ظهور دائرة مثلثة الأضلاع؟
لا بد أن يكون القارئ قد لحظ أن الطرفين اللذين يتطابقان ليتحقق «الصدق» هما — في حالتي العلوم الرياضية والعلوم الطبيعيَّة، بما في هذه من علوم اجتماعية أو إنسانية — طرفان من واقع أو من «رموز» لها دلالاتها، وهي إما رموز من مفردات اللغة ومركباتها، وإما من أرقام أو حروف أو غيرهما مما قد اصطلح عليه عند المشتغلين بتلك العلوم، وإذا كان كل ما هنالك هو إما واقع وإما رموز متفق على دلالاتها، فإن الأمر — إذن — متعلق بأطراف لا دخل للمشاعر الإنسانية فيها، حتى إذا ما تنبه ناقد بأن الإنسان القائم بالعملية العلمية قد أقحم ميوله العاطفية فيما يقرره، لم يتردد أحد من رجال العلم عندئذ في التشكك في القيمة العلمية لقول تسللت إليه ميول صاحبه؛ لأن «الموضوعية» الخالصة — إلى آخر حد يستطيعه بشر — هي شرط ضروري للعمل العلمي في شتى ميادينه … لكن كل العلوم مجتمعة، لا تستغرق ما عند الإنسان، فلئن حرص الإنسان وهو في دائرة العلم ألا يقحم مشاعره في موضوع بحثه، حتى ولو كان ذلك الموضوع هو «الإنسان» كما هي الحال في العلوم الاجتماعيَّة، إذا هو مطالب عندئذ بأن ينظر إلى الإنسان من حيث هو «ظاهرة» كأية ظاهرة أخرى مما يخضع للبحث العلمي، أي إنه ينظر إلى الإنسان من «ظاهر» كما يفعل مع سائر «الظواهر».
وتأمل كلمة «ظواهر» لأنها تشير إلى أن شأن العلم هو ما يظهر من الأشياء أقول: لئن حرص الإنسان على التزام «الظاهر» وهو يبحث ما يبحثه في دائرة العلم، فإن ذلك لا يعني أن بقيةً عظيمةَ الشأن في حياته تبقى ومن حقها ومن حقه أن تنال من عنايته ما تنال موضوعات البحث العلمي، وتلك البقية التي أشرنا إليها، هي «الحالات» التي يحسها صاحبها وهي تعتمل في جوفه، وهي «حالات» لا تنفك ملحة على صاحبها أن «يعبر» عنها ليراها أو يسمعها الآخرون، وانظر إلى كلمة «يعبر» هذه وصلتها اللغوية ﺑ «العبور» لترى كيف تلح «الحالات» الداخلية من كل إنسان تريد لنفسها ويريد لها صاحبها «عبورًا» من كونها «حالة» لا يحسها إلا حاملها، لتكون ذات وجود محسوس للآخرين، وأغلب وسيلة من وسائل «العبور» من داخل إلى خارج، أو من باطن إلى ظاهر، هي وسيلة اللغة، ومن اللغة إذا ما ملكها موهوب تُشَكَّل أشكال تقوي عملية العبور أو التعبير، وعندئذ يكون المنطوق أو المكتوب، شعرًا وغير شعر من صور الإبداع الأدبي، بيد أن اللغة ليست كل وسائل التعبير الذي يعبر به باطن الإنسان ليصبح ظاهرًا معروضًا أمام الآخرين، فهنالك وسائل أخرى يتحقق بها العبور كأنغام الموسيقى، وألوان التصوير وخطوطه، وأحجار النحت والعمارة، وهنالك الرقص والتمثيل، بل والانفعالات بالضحك أو بالبكاء، وغير ذلك.
والسؤال الذي يمس موضوع هذا الحديث، هو: ماذا يعني «الصدق» في هذه الأمور وأشباهها؟ أيظل محتفظًا بجوهر معناه الذي رأيناه في مجال «العلوم» وأعني أن يكون هنالك طرفان فنراهما متطابقين؟ والجواب هو بالإيجاب، وهاك شيئًا من التفصيل:
نحن الآن في الدائرة الثانية من دائرتَيْن إدراكيتَيْن تتألف منهما معًا حقيقة الإنسان من حيث هو كائن ذو وجدان، كما رأيناه في دائرة العلوم كائنًا يسترشد بمنطق العقل في إدراك دنياه، ونستطيع أن نحدد في دائرته الوجدانية جانبين: الدين والفن، بما في هذا الدين فنون الأدب، وإذا كنا نميز «العلم» من «الثَّقَافة» لنجعل منهما معًا ركيزتين تقوم عليهما حياة الإنسان، فماذا تكون «الثَّقَافة» غير ما نراه بين أيدينا من ثلاثة فروع تجتمع معًا في بنية الحياة الثَّقافيَّة، لا غناء للإنسان عن أي منها، لكنها تتفاوت أهمية وقدرًا وتلك هي: الدين، والفن ومنه الأدب، ومجموعة التقاليد المتعارف عليها، ينقلها جيل عن جيل، وسوف نغض النظر عن «التقاليد» لأنه لا مجال فيها لأن تُوصف بصدق أو كذب؛ لأنها كما يدل عليها اسمها صور من السلوك يقلد فيها الولد والده، وبهذه المحاكاة المادية الآلية يمتد حبلها عبر الأجيال، وسنقصر القول في معنى «الصدق» على الإيمان والفن.
فمتى وكيف يكون الإنسان صادق الإيمان؟ فأولًا يحسن بنا بادئ ذي بدء أن نستحضر في أذهاننا بوضوح أن «الحالة» الداخلية التي نطلق عليها اسم «إيمان» هي حالة القبول المباشر قبولًا نصدق به نبأ سمعناه أو رؤية دُعينا إلى اصطناعها لينظر من زاويتها إلى ما ننظر إليه من شئون حياتنا، فالإيمان في جميع حالاته هو قَبول بغير تحليل ومراجعة، هو قبول ينبض به القلب بغض النظر عما قد يقيمه العقل بعد ذلك أو لا يقيمه من برهان عقلي على صحته، هو إدراك بالبصيرة سواء أدرك البصر ما يؤيده أم لم يدرك، وإذا استخدمنا كلمة «حدس» التي هي مصطلح أظن أن الإمام الغزالي كان أول من استخدمه ليدل على ذلك النوع من إدراك حقيقةٍ ما إدراكًا مباشرًا، لا يستند فيه إلى تعليل أو تحليل أو إقامة الدليل؛ ولذلك فلا غرابة أن قُورن بلمعة النور يقذف بها الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فيؤمن بما آمن به، وعن مثل هذا القبول القلبي المباشر تقول الآية الكريمة رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا فإذا استخدمنا كلمة «الإيمان» في غير مجال الدين فقد يختلف بنا الموقف؛ لأن من يعلن إيمانه بمذهب سياسي معين، أو بوجهة نظر معينة في أوضاع المجتمع أو غير ذلك، فربما جاء إيمانه ذاك تلبية لدعوة من زعيم فقبل الدعوة قبولًا سلبيًّا بغير مراجعة نقدية، وربما سبق تلك الحالة الإيمانية عنده فحص وتمحيص، إذن فلنحصر قولنا هنا في حالة الإيمان الديني على سبيل التحديد والتخصيص.
ونسأل ما الذي نعنيه ﺑ «الصدق» حين نصف به حالة «الإيمان»؟ إننا نعني أن ينعكس ذلك الإيمان الذي هو حالة داخلية في صدر صاحبها، لا سبيل لأحد أن يراها رؤية العين ولا أن يسمعها سمع الأذن ولا أن يلمسها بالأصابع، فلا مرجع فيها إلا ما ينبئنا به صاحبها لكن مثل هذا النبأ — بالطبع — لا يكفي دليلًا على صدقه، وإنما الذي يكفي هو أن نرى ذلك الإيمان الداخلي المزعوم، منعكسًا في المواقف السلوكية لصاحبه، كلما استحدثت له الحياة العملية موقفًا يتطلب منه الرد عليه برجع حركي يفعل به شيئًا، أو يكف به عن فعل شيء، فالطرفان اللذان نتوقع لهما أن يتطابقا في حالة الإيمان الصادق، هما المضمون الإيماني المزعوم وجوده بشهادة صاحبه، من جهة، وضروب العمل التي تظهر للناس في سلوكه المرئي إزاء مثيرات السلوك من وقائع الدنيا، على كثرتها واختلافها من جهة أخرى، وأن في اقتران «الإيمان» بالعمل الصالح اقترانًا مطردًا في الكتاب الكريم لدليلًا على معنى الإيمان أقطع دليل.
أمعن النظر مليًّا فيما يُطلب من المؤمن الصادق في إيمانه، من مطابقة سلوكه وردود أفعاله إزاء ما يحيط به من أحداث ومؤثرات تجد صدق الإيمان ليس هنة هينة يسيرة التحقيق، ولكي تقترب من التصور الصحيح فانظر مرة أخرى نظرة فاحصة متأنية في التفصيلات التي يشتمل عليها المضمون الإيماني عند مسلم آمن بالله وشهد بأنه: لا إله إلا الله، وحسبنا في هذا الصدد أن نذكر جانبًا واحدًا مما يقتضيه ذلك الإيمان، وهو ما يُطلب من المؤمن بأن يتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، تخلقًا يقف عند حدود القدرة البشرية، فما معنى ذلك؟ معناه أن يروض الإنسان نفسه حتى تصبح عليمة بالحق، ما مكنتها حدودها البشرية وأن تكون مريدة فعالة لما أرادت، ومسئولة بعد ذلك عما فعلت، ما استطاعت بطبيعتها البشرية إلى ذلك سبيلًا، ومعناه أن تكون كريمة حليمة، حكيمة، خبيرة بديعة «أي مبدعة» معناه أن تكون معايير السلوك هي تلك الصفات التي وردت في الكتاب الكريم، ولعل ذلك بل لا بد أن يكون ذلك هو ما قصدت إليه السيدة عائشة رضي الله عنها، حين سُئلت عن أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت ما معناه: إن خلقه هو القرآن الكريم. تأمل ما يتلوه المؤمن بلسانه ألف ألف مرة بعد ألف ألف، حين يتلو وهو يقرأ «الفاتحة» إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، ثم حاول أن تترجم في ضميرك هذا القول الكريم إلى سلوك عملي فماذا أنت صانع؟ إنه هو ألا تعبد إلا إياه، وألا تستعين إلا إياه، فلا عبادة لمال ولا عبادة لسلطان لا عبادة لوسيط أو شفيع ولا استعانة بذي نفوذ أو بذي جاه، فأنت وما تعمل مما يرضي ربك وما يرضيه مذكور في كتابه الكريم، وحاول أن تتخيل كم يكون قدرك أمام نفسك حين لا تتجه بعبادتك إلا لله وحين لا تستعين إلا بالله، وأظنه الإمام علي بن أبي طالب هو الذي قال، ولست على يقين في ذلك: «احتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغنِ عمن شئت تكن نظيره.» وهذا الجزء الثالث هو الذي يهمنا أكثر من سواه فيما نحن بصدد قوله الآن، «استغنِ عمن شئت تكن نظيره» نعم إن كل من حملتهم الأرض على ظهرها من أصحاب الهيل والهيلمان لا سلطان لهم عليك إذا كنت عنهم في غنًى، ويتحقق لك ذلك إذا صدقت في إيمانك وأنت تتلو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لكن صدق الإيمان وأعني التطابق بين ما قد أعلنت إيمانك به، وبين ما تسلك في حياتك، ليس هنة هينة وإنما هو هدف أسمى لا سبيل إلى تحقيقه إلا برياضة النفس وجهادها.
وأخيرا ننتقل إلى الصدق في مبدعات الفن والأدب، والمبدأ هنا هو نفسه المبدأ الذي رأيناه في صدق العلوم بجميع فروعها، ورأيناه في صدق الإيمان، فلا يزال المقياس هو أن يكون هنالك طرفان نراهما متطابقين، إلا أن التطابق في حالة العلوم يكون بين رموز ورموز في الرياضة، وبين رموز وواقع في العلوم الطبيعيَّة، وأما في الإيمان وكذلك في الفن والأدب فهو تطابق بين مضمون باطني في ذات الإنسان وسلوك يسلك أو قول يُقال، ففي كل موقف إبداعي في فن أو أدب هنالك «حالة» في نفس صاحبها يريد أن يجد لها طريقًا لتعبر به من داخل إلى خارج فتظهر أمام النَّاس أو على مسمع منهم: معزوفة، أو قصيدة إلخ، لكن مجال الفن والأدب ينفرد دون سائر المجالات بأن الطريق يجيء على ثلاث خطوات وليس على خطوتين، ومعنى ذلك أن العملية الإبداعية الواحدة تتضمن التطابق مرتين، فتطابق بين الحالة التي أحسها المبدع والشكل الذي استعان به في إخراجها، ثم هنالك التطابق بين ذلك الشكل عند وقعه على المتلقي وما يستثيره فيه من حالة نفسية داخلية يرجح لها أن تجيء شبيهة بما انطوت عليه ذات المبدع حين أبدعت.
لقد كان من أهم المهام التي اضطلع بها صاحبنا ليرضى عن نفسه قبل أن ترضى عنه نفوس الآخرين، هو أن يقيم الحدود للصدق الثقافي يقينًا منه أن هذه الصفة الواحدة — صفة الصدق — لو رسخت في حياتنا رسوخ الإيمان لكانت وحدها كفيلة لتلك الحياة بما نتمناه لها من نمو وازدهار.