المطبوعة الزرقاء «٢»
«سر البلاغة في الوصل والفصل» … هذا مبدأ في نقد الأدب، صاغه في هذه العبارة الموجزة ناقد عربي قديم، ولست على رأي ثابت في مدى صحته، فبينما هو أمر مقطوع بصوابه، أن يكون جانب من براعة الأديب أن يحسن «الوصل» و«الفصل» بين أجزاء الكلام، بحيث تجيء «عبارته» منسابة في يسر وكأنها مسلسل من ينبوع دافق، لا يتعثر فيها القارئ عند الفواصل، لكنها — مع ذلك الانسياب المتصل — لا يفوتها أن تقف وقفات مفاجئة، بطريقة من طرق الفصل بين سابق ولاحق، وذلك عندما يُراد للقارئ أن يتنبه لحقيقة هامة يوردها الكاتب في سياق حديثه؛ لأنه إذا امتد الأمد بالقارئ في انسياب موصول منغوم، فقد تأخذه سِنة من خدر، وعندئذ يصبح في حاجة إلى «فصلة» تشق عليه الطريق المطرد، فتوقظه، وهكذا يظل القارئ، بين انزلاق يسهل فوق سطح أملس، من كلام محبوك الوصلات، بين أجزائه، ووقفات تقطع الرتابة، عند مواضع ينفصل فيها سابق عن لاحق. أقول إنه بينما هو أمر مقطوع بصحته أن يكون على براعة يحسن بها وصل الكلام وفصله، فهنالك ما يبرر لنا أن نتساءل قائلين: أحقًّا إن سر البلاغة كامن في هذه البراعة وحدها؟ فنحن إذا ما أدرنا البصر بلمحة واحدة، إلى آيات الإبداع الأدبي، وجدناها أكثر تنوعًا من أن تكون هذه الظاهرة وحدها — وأعني إجادة الوصل والفصل بين أجزاء الكلام — هي الشرط الضروري والكافي لتعليل «البلاغة» وتأصيلها.
على أننا وإن كنا نتردد في قبول هذا المبدأ النقدي القديم — الذي أراد أن يجعل في «الوصل والفصل» أساسًا تُقام عليه «البلاغة» بجميع أشكالها — فنحن على استعداد لقبول هذا الأساس نفسه، لنقيم عليه «وضوح الأفكار»، والفرق بعيد بين «أدب بليغ» و«فكر واضح»، وليس أمامنا أدنى مجال للشك، بأن الحد الفاصل بين «فكرة واضحة» و«فكرة غامضة»، هو أن الأولى تدقق في جمع ما هو متشابه ليكون بمثابة الأفراد في أسرة واحدة، قد يختلفون في صفات عارضة، لكنهم يتفقون في عصب واحد، وفي الوقت نفسه، تدقق الفكرة الواضحة في إبعاد ما ليس ينتمي بطبعه إلى تلك الأسرة، ومعنى ذلك هو أن وضوح الفكر يكمن في «وصل» ما هو متشابه الجوهر، و«فصل» ما ليس منه؛ حتى لا يختلط حابل بنابل، وليست هذه العملية الفكرية الواصلة الفاصلة، بالهنة الهينة التي يستطيعها كل عابر طريق، بل هي مما تحتاج من كاسبها إلى تدريب منهجي طويل، انظر — مثلًا — إلى قول الكتاب الكريم، موصيًا الولد أن يخفض لوالديه جناح الذل من الرحمة، فها هنا تصوير «للرحمة» بطائر ذي جناحين، إلا أن الجناحين غير متشابهين، فجناح منهما تكون فيه «الرحمة» استعلاء من الراحم على من يتجه إليه برحمته، وأما الجناح الثاني فتكون «الرحمة» فيه عن استسلام وخضوع لمن يتلقى منه تلك الرحمة، وهذا الضرب الثاني هو الذي يوصي الكتاب الكريم بأن يراعيه الولد نحو والديه، فصاحب الفكر الغامض المتعجل، قد يكتفي بنظرة سطحية إلى معنى «الرحمة» على ظنٍّ منه أن المعنى واضح لا يحتاج إلى تحليل وتمييز، فتضيع منه هذه التفرقة بين نوعين غير متشابهين، برغم كونهما يندرجان معًا تحت اسم واحد.
وربما دُهشت إذا زعمت لك أن جانبًا ضخمًا من التخلف الفكري الذي يلفنا بسواده، إنما يرجع إلى خلط فاضح تخلط به بين المعاني، حتى لقد جاءت الأمثال الشعبية لتشير إليه لعلنا ننتبه فنحذره، وذلك في مثل قولنا: «إذا قلنا: ثورًا، قالوا: احلبوه»؛ خلطًا منا بين الثور والبقرة، فما بالك إذا ارتفعنا بمستوى الحديث لنتناول الفوارق بين ما يكون من الكتابة «أدبًا» وما لا يكون؟ لقد حدث لي ذات يوم بعيد، أن دعاني جار كريم على شاي العصر، مع ضيف دعاه لزيارته، وكان الضيف حاملًا لإجازة الدكتوراه في القانون من السوربون بباريس، وهو من مناصب القضاء في درجاتها العليا، وما كادت تدور بيننا أطراف الحديث، حتى اتجه نحوي بهذا السؤال: من أي الكليات الجامعيَّة يتخرج «الأديب»؟ أهي جامعة الأزهر التي تخرج «الأدباء»؟ وكان أعجب ما عجبت له من السائل وسؤاله، هو أن حديثنا قُبيل ذلك كان عن توفيق الحكيم وأدبه، وكان السائل هو نفسه الذي بادرني بقوله: إن توفيق الحكيم برغم كونه أديبًا عظيمًا فهو من رجال القانون، فلما رددت عليه قائلًا: ولماذا تريد حرمان رجال القانون من موهبة الإبداع الأدبي؟ فاجأني بسؤاله الذي أسلفت ذكره عن الأدباء ومن أية كلية أو جامعة يتخرجون، دون أن يلحظ التناقض الصارخ بين ما تحدث به عن توفيق الحكيم، دارسًا للقانون ومبدعًا للأدب — وبين سؤاله بعد ذلك مباشرةً عن تخريج الأدباء من أين يكون؟ وبرغم ذلك التناقض كله، وهذا التجاهل كله، أخذت أشرح له — مع ذكر الأمثلة من حياتنا الأدبيَّة — كيف أن موهبة الإبداع الأدبي لا شأن لها بنوع الدراسة الجامعيَّة أو غير الجامعيَّة، فأحمد شوقي شاعر ودراسته القانون، وحافظ إبراهيم شاعر ودراسته عسكرية، وإبراهيم ناجي شاعر ودراسته الطب، وعلي محمود شاعر ودراسته الهندسة، وصالح جودت شاعر ودراسته المحاسبة، وصلاح عبد الصبور شاعر ودراسته الأدب العربي، وعباس العقاد شاعر ودراسته في مكتبة منزله.
فإذا رأينا رجلًا في مثل هذه الدرجة العالية في التعليم والمنصب، وفي موضوع كموضوع «الأدب» من حيث هو موهبة خُلقت خلقًا في مبدعيه، قد اختلطت في ذهنه المعاني، اختلاطًا أدى إلى ما قد رأيناه من غموض فكري — وهو غموض ربما اقتصر عنده على مجالات غير مجال تخصصه الذي هو «القانون» في صورته النظرية وفي تطبيقه — أقول: إذا رأينا رجلًا في مثل هذه المكانة قد انبهمت أمامه الفواصل التي تقيم الحدود بين فكرة وفكرة، فماذا نحن قائلون في أنصاف المثقفين وأرباعهم — ودع عنك عامة النَّاس — ولا سيما إذا كان الموضوع المطروح بطبيعته صعب التحديد، هلاميَّ المفهوم، وفيه مرونة تسمح لمن شاء أن يخلع عليه من المعاني ما شاء؟! و«القيم» كلها من هذا القبيل: كفكرة الحريَّة، والعدل، والوطنية، والانتماء، والتضحية، وغير ذلك من المعاني التي هي قوية التأثير في حياة النَّاس، وهي في الوقت نفسه على كثير جدًّا من التداخل بعضها في بعض.
إن هدفنا من هذه «المطبوعة الزرقاء»، هو أن نبين ما وسعنا البيان، أقسام الحياة العقلية والوجدانية التي يحياها الإنسان، وأن نحدد ما استطعنا التحديد، الروابط «الواصلة» بين مختلف الأقسام، كما نحدد في الوقت نفسه، أوجه الاختلاف «الفاصلة» قسمًا منها عن سائر الأقسام، وذلك يقينًا منا أن مثل هذا التحديد هو الخطوة الأولى والضرورية، نحو الفكر الواضح، ووضوح الفكر — بدوره — هو الأساس الذي لا يعادله أساس آخر، من حيث قوة البناء الثقافي الذي يُبنى عليه، لتدور في غرفه وأبهائه حياة النَّاس، ولقد أسلفنا لك في حديثنا السابق، ما بين «العلم» و«الدين» من صلات وفواصل، وسبيلنا الآن هو أن نبين المعالم الرئيسية التي تميز ذلك الشيء الذي يسمونه «أدبًا» والذي كثيرًا ما غمض فيه الأمر حتى ليعد كل ما أمسك بقلم، وجرى به على ورق «أديبًا»؛ فما هي أهم المعالم التي تميز «الأدب» تمييزًا يتباين به عما عداه من أقسام البناء الفكري والوجداني في حياة النَّاس؟
الحق أن ما قد احتفظت به خزائن الشعوب، من نفائس تركتها لهم أقلام النابهين من أسلافهم، بل وإلى جانب تلك النفائس المكتوبة، ذخائر ليست بالقليلة مما نطق به اللسان قبل أن يعرف الإنسان ما الكتابة وما العلم؟ ثم جاء بعد ذلك — في عصور التدوين — من دون تلك الذخائر الصوتية التي لم تكن قد وجدت ما يحافظ عليها سوى ذاكرة الإنسان الحافظة، أقول إن ما قد حفظته خزائن الشعوب من تلك النفائس والذخائر، هو من الكثرة والتنوع، ما يخيل إلينا بإزائه، أن محاولة الوقوع على صفات مشتركة بين تلك الكثرة الهائلة والمتنوعة، إنما هي ضرب من المحال، فهنالك «الشعر» قد جاءنا على صور مختلفة، وهنالك النثر من الأدب قد رأيناه على ألف شكل وشكل، فما هو الرباط الواصل بين هذه المتنوعات، الذي يتيح لنا أن نقول عنه، إنه هو الصفة الحاسمة المميزة لما يستحق أن يعد «أدبًا»؟ ومن هنا اختلف بيننا الرأي، فما يسلكه أحدنا في عالم «الأدب» قد يخرجه آخر من ذلك العالم ليجعله كلامًا كسائر الكلام، ويحدث هذا الاختلاف في الرأي، حتى في الحالات التي يُخَيَّل إلينا فيها أن الحق واضح أبلج لا مكان فيه لريبة المرتاب، وليس تاريخنا في ذلك ببعيد، حين رأينا شاعرًا مثل أحمد شوقي، يكاد يجمع عليه الرأي بأنه شاعر لا شك في مكانته من دنيا الأدب، ومع ذلك لم يخلُ ميدان «النقد الأدبي» من جماعة لها وزنها الراجح في تقويم «الأدب»، تعلن بأن أحمد شوقي لا هو شاعر ولا شبيه بالشاعر (بهذا النص وبهذه الكلمات) فمن أين لنا — إذن — أن نتفق على خاصية تميز «الأدب» من سائر الأجناس من التي تجتمع معًا في الوعاء الثقافي المشترك؟ لكن الأمر الواقع في التَّاريخ الأدبي، عندنا وعند غيرنا، قد استقر — برغم ذلك التباين الواسع في أحكام النقاد — على خصائص بعينها، لا بد أن يتوافر منها عدد مقبول، إن لم تتوافر كلها، في العمل الذي يستحق أن يُدْرَج في الميراث الأدبي.
وأولى تلك الخصائص — في تقدير هذا الكاتب — أن يكون مدار الاهتمام في العمل الأدبي — أيًّا كان نوعه — هو «الإنسان» لا من حيث أن يُنظر إلى «الإنسان» من زاوية تجعله «ظاهرة» في الطَّبيعة، كسائر الظواهر، بحيث يدرسها الدارس من ناحية الواقع الظاهر، ليستخرج ما قد يراه من «قوانين» مطردة، كما هي الحال بالنسبة إلى علماء العلوم الإنسانية، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وما إليها؛ لأن هذه كلها «علوم» كسائر العلوم، ومطالبة بما يُطالَب به «العلم» على اختلاف ميادينه، من ناحية «المنهج» الذي أجاز للباحث العلمي أن ينتهي إلى النتائج العامة التي انتهى إليها، ومن علامات الوقفة «العلمية» أن يكون من حق كل مختص في ميدان علمي معين، أن يطالب البحث الذي وصل به بحثه العلمي إلى نتيجة معينة، أن يبين له كيف استطاع الوصول إلى النتيجة تلك؟ على أن يكون التطبيق على الواقع أحد المراجع الحاسمة التي تميز الخطأ من الصواب.
والفرق بعيد بُعد النقيض من النقيض، بين ما نعنيه ﺑ «الإنسان» حين يكون موضوعًا لأحد العلوم الإنسانية، و«الإنسان» الذي نقصد إليه، حين نقول عنه إنه هو مدار الاهتمام في الإبداع الأدبي، فبينما الباحث العلمي في الإنسان يطرح من حسابه ما هو خاص بهذا الفرد من النَّاس أو بذلك الفرد، ليستبقي من حقيقة «الإنسان» ما هو مشترك بين النَّاس جميعًا — أو بين النَّاس في المجموعة المعينة التي اختارها موضوعًا لبحثه — نرى صاحب الإبداع الأدبي يسير في الاتجاه المضاد، بمعنى أنه يطرح من حسابه ما هو عام ومشترك بين النَّاس، ليستبقي ما هو خاص بالفراد الواحد الذي جعله مدارًا لاهتمامه في إبداعه الأدبي، وواضح أن ذلك التخصيص والتفريد — لا يتناقض مع تصوير الأدب لجماعة من الأفراد — يجمعهم معًا في ساحة واحدة ليجعلهم يتفاعلون معًا، فيتحابون أو يتنافرون، بل إن ذلك التفاعل البشري، الذي هو عمل الأديب الروائي في المقام الأول، هو من أقوى الوسائل الأدبيَّة إظهارًا لحقيقة كل فرد من جماعة الأفراد المتفاعلة بعضها مع بعض، على أن الأديب قد يركز الرؤية على فرد واحد، وربما كان هذا الفرد الواحد هو الأديب نفسه، كما هي الحال فيما يُسمى بالشعر الغنائي، الذي ينصب معظم القول فيه على ذات الشاعر نفسه من الباطن، يتعقب خلجاتها في لحظة زمنية بعينها، كالذي نراه في شعر الغزل عند المحبين، وهنا نلاحظ أن عملية «التفريد» والتخصيص، التي تميز الأدب بصفة عامة، إنما تبلغ أقصاها؛ لأنها لا تكتفي بأن يكون «الواحد» المتميز فردًا من النَّاس، بل إنها لتجتزئ من حياة ذلك الفرد الواحد «حالة» واحدة، في «لحظة» واحدة، وقد يقول الشاعر عن نفسه شيئًا آخر، إذا ما انتقلت حياته إلى «حالة» أخرى، في «لحظة» أخرى.
وأرجو أن يلحظ القارئ هنا، تلك النتيجة الهامة المترتبة على أن يكون العمل الأدبي قائمًا — من جهة — على التخصيص والتفريد، لا على التعميم والتجريد اللذين يتميز بهما العمل «العلمي»، وقائمًا — من جهة أخرى — على أنه ينقل «حالة إدراكية» عند الأديب، إزاء موضوع معين، لا على أن يقدم «فكرة» لها طبيعة الأفكار التي تقدمها العلوم، وتلك النتيجة الهامة التي أشرت إليها، هي ألا يكون من حق المتلقي للناتج الأدبي، لقصيدة الشعر، أو المسرحية، أو الرواية، أن يُطالَب صاحبها بإقامة «البرهان» على أن ما قد أورده في كلامه صحيح، بالنسبة إلى واقع الأشياء، فإذا قال المتنبي مثلًا:
فلا يجوز لأحد أن يعترض على ذلك بقوله: إن الأعمى لا ينظر، وإن الأصم لا يسمع؛ لأن الشاعر هنا قد أحس تجاه شعره، إحساسه بما يستحيل وجوده في الحياة الواقعة كما يألفها الآخرون، فنقل إحساسه هذا إلى المتلقي، فإذا كان الأثر عند هذا المتلقي هو أن يفتح عينيه، ويفغر شفتيه، ذهولًا من ذلك المستحيل الذي عرضه عليه الشاعر، كأن الشاعر قد نجح في توصيل «الحالة» التي اختلجت بها نفسه حين أرادت تلك النفس أن ترى قدرها بالقياس إلى أقدار الأنفس الأخرى.
لكن كيف يُتاح لصاحب الإبداع الأدبي أن ينقل «حالته» الإدراكية الخاصة به إلى الآخرين؟ إن ذلك يكون بالطريقة التي يرتب بها كلماته، وذلك «الترتيب» أو «التنظيم» أو «النظم» هو ما يسمونه بالصورة، أو الشكل، أو «الفورم»، ومن هنا كان «الشكل» — أعني الطريقة التي رُتِّبَت بها أجزاء العمل الأدبي بجميع أنواعه — شرطًا ضروريًّا لأي عمل يُراد له أن يكون أدبًا أو عَمِّمْ هذا القول إن شئت، وقل: إن «الشكل» شرط ضروري لكل فن، أدبًا كان ذلك الفن أم كان فنًّا آخر من فنون التشكيل والتعبير، والمراد بالشكل في أي تكوين فني، بما في ذلك، «الأدب»: هو ذلك التنظيم الذي يجعل المتلقي، إذ هو ينتقل من جزء إلى جزء يليه، يبني في نفسه — جزءًا جزءًا — «حالة» نفسية، هي ذاتها الحالة التي اختلجت بها نفس الفنان، فأخرجها كما أخرجها، بحيث إذا ما جاء المتلقي إلى خاتمة مطافه، كانت تلك «الحالة» قد اكتمل وجودها عنده، وأنه لأمر يتعذر حدوثه، إذا لم تكن القطعة الفنية قد صِيغت كما صِيغت، ورُتِّبَت أجزاؤها كما رتبت.
ولما كانت كل حالة إدراكية أو وجدانية، مما يجيء به تيار الوعي في نفس الإنسان، فريدة نوعها، بمعنى أن تكون معدومة النظائر، لا عند الآخرين فحسب، بل عند صاحبها نفسه؛ لأنه إذا ما امتلأ — مثلًا — بحالة من «اليأس» في لحظة بذاتها، ثم انتقل في لحظة أخرى إلى حالة أخرى من حالات «اليأس»، فلكلٍّ من هاتين الحالتين ظروفها، التي لا تجعل الحالتين تتساويان كما يتساوى الشطران في معادلة رياضية، بل إن المذاق ليختلف بينهما برغم اشتراكهما معًا في أسرة «اليأس»، ولو لم يكن الأمر كذلك، لاكتفينا من قيس في حبه لليلى، بقصيدة واحدة، بل لاكتفينا منه ببيتٍ واحد، ومن ذلك نفهم أن متلقي القطعة الفنية إذا تكونت لديه «حالة» كالحالة التي اختلجت بها نفس الفنان، وهو يبدع، لم يكن معنى ذلك أن يتطابق الأصل والصورة تطابق الشيء وانعكاسه في المرآة؛ لأن لكلٍّ من الفنان ومتلقي فنه، حياته الخاصة وظروفها، فيكفي إذن أن تجيء الحالة عند الفنان، وانعكاسها عند المتلقي، كالأخوين في أسرة واحدة، يتشابهان لكنهما كذلك يختلفان.
وهذه الفردانية المطلقة التي نزعمها «للحالة» التي يهم الأديب بنقلها، تقتضي أن يجيء التعبير عنها منفردًا فردانية مطلقة كذلك، فالمثل الأعلى الذي نتوقعه، من الأثر الفني أيًّا كان نوعه، هو أن تجيء بلا مثيل في كل ما أنتجه بشر، فيأتي اللفظ — في الأدب — وكأنه مستخدم في صورة جديدة، والصورة الأدبيَّة لا بد أن تكون مبدعة غير مسبوقة عند أديب آخر، وهكذا الأمر في كل تفصيلة من تفصيلات البناء الأدبي، وهذا الإبداع لما هو جديد غير مسبوق، لا ينفي أن يقوم إلى جانبه «جديد» من نوع آخر، وهو تلك الروح التي تشمل جميع المبدعين في العصر الواحد المعين، بحيث يتميز كل عصر بما يميزه في عصور التَّاريخ الأدبي.
وأود أن أختم حديثي هذا عن «الأدب» وما يتميز به من ملامح وسمات، دون سائر ضروب الكتابة الأخرى، بكلمة أحدد فيها للقارئ عن «المقالة» متى تكون أدبًا ومتى لا تكون، فقد لا يصعب على القارئ أن يتبين خصائص «الأدب» في الشعر، وفي المسرحية، وفي الرواية، وفي القصة لكنه كثيرًا جدًّا ما يلتبس عليه الأمر، إذا ما كان المعروض بين يديه ذلك الضرب من الكتابة الذي يسمونه «مقالة»، فآنًا ترى من يجعل كل مقالة «أدبًا» مهما كان موضوعها، ومهما كانت صورتها، وآنًا آخر ترى من يخرج «المقالة» من دنيا الإبداع إخراجًا يباعد بينها وبين أن يكون لها بالأدب نسبة ولا صلة، وآنًا ثالثًا ترى من يجيز إطلاق اسم «الأدب» على «المقالة» وكأنه يفعل ذلك تصدقًا وتفضلًا.
وحقيقة الأمر في «المقالة» حين تُعَدُّ «أدبًا» وحين لا يتوافر لها ما تستحق به أن تكون «أدبًا» هي حقيقة واضحة، ﻓ «المقالة» التي يُراد لها أن تكون أدبًا من الأدب، لا حق لأحد أن يعفيها من شروط «الأدب» الأساسية، وهي الشروط التي أسلفنا لك بعضها؛ فأولًا: يجب أن يكون موضوعها وهدفها هو بيان «الإنسان» في جانب من جوانب طبيعته، على ألا يجيء ذلك بطريقة «العلوم الإنسانية»، بل لا بد أن يجيء بطريقة الإبداع الأدبي، ما دام كاتبها قد أراد لها ذلك.
وطريقة الإبداع الأدبي — كما أسلفنا القول — تختلف أساسًا عن طريقة «العلوم» في أن البحث العلمي من شأنه أن يسقط من حسابه خصائص «التفريد»، أي الخصائص التي تجعل من الموقف المعين، أو من الإنسان المعين، كائنًا مفردًا وفريدًا، يختلف بخصائصه عن كل ما عداه أو من عداه من سائر المواقف أو من سائر الأفراد، نعم إن «العلم» من شأنه أن يطرح من حسابه كل ما هو «خاص» بحثًا عما هو عام وشامل للنوع كله، في حين يتجه «الأدب» اتجاهًا مضادًا، فيبقى بين يديه ما يخصص الموقف المعين أو الفرد المعين، مُسقطًا من حسابه التعميمات المجردة الشاملة؛ وعلى هذا ﻓ «المقالة» تكون «أدبًا» إذا تركت قارئها بانطباع فيه خصائص التمييز والتفريد، ولا تكون من الأدب، إذا شابهت في طريقة عرضها طريقة البحث العلمي، بمعنى أن تعرض نفسها في فقرات، كل فقرة منها بمثابة المقدمة المنطقية التي يتولد فيها ما يليها.
وربما يكون تصويرنا للفرق بين الحالتين أوضح إذا قلنا: إنه بينما المقالة غير الأدبيَّة تكون في تتابع أجزائها، كدرجات السلم التي تصعد بالصاعد من أرض المبنى إلى سقفه، وها هنا لا بد لكل درجة من سابقتها ليتمكن الصاعد من الصعود، نرى المقالة التي هي «أدب» تلجأ إلى طريقة أخرى للوصول إلى هدفها، إذ تعرض خطوطها، وكأن كل خط وحدة قائمة بذاتها، إلا أنها تحرص على أن تتلاقى جميع تلك الخطوط المستقلة، عند نقطة واحدة، هي النقطة التي أراد كاتب المقالة الأدبيَّة أن يوصلها إلى القارئ.
ذلك — إذن — هو شرط من شروط «المقالة» حين تكون «أدبًا»، وأما الشرط الثاني، فهو أنها — شأنها في ذلك شان كل صورة أدبيَّة أخرى — يجب أن تنصب في «شكل» يدبره لها كاتبها، أعني أنها يجب أن يُقام لها «فورم» يُنظم على أساسه تتابع تلك الخطوط المستقلة التي ذكرناها، فليس في عالم الفن كله — أدبًا وغير أدب من موسيقى وتصوير ونحت وعمارة — فن واحد لا يتوافر فيه «الشكل» أو «الفورم» أو خطة الترابط الذي يربط الأجزاء بعضها ببعض، وفيما يختص ﺑ «المقالة» فإنها حين لا يُراد لها أن تكون أدبًا، لا يتقيد فيها تتابع الأجزاء إلا بالرابطة المنطقية وحدها التي تجعل السابق مقدمة تستلزم التالي، وأما حين يُراد «للمقالة» أن تكون قطعة من أدب، فيلزم اللجوء إلى «شكل» يوصل المضمون إلى المتلقي بطريق غير مباشر، حتى لكأن ذلك المضمون أقرب إلى «حالة» منه إلى «فكرة»، وإذا نجح الكاتب في بث «حالة» نفسية معينة في قلب المتلقي، نجح كذلك في أن يودع فيه حوافز العمل نحو التَّغيير.
وغني عن البيان أن تجيء «المقالة» الأدبيَّة — كأي أدب آخر — حاملة في سطورها شخصية كاتبها، حتى ليقرأ له القارئ فيحس كأنه يراه أمامه متحدثًا، فبينما «العلم» يستهدف موضوعية عارية مجردة تخفي قسمات الباحث العلمي، فلا يعرف القارئ أجاء من بلاد الغرب أم جاء من بلاد الشرق يستهدف الأدب «ذاتية» متميزة السمات، فإذا قرأت قلت هذا فلان.
إنها صلات وفواصل تتقارب بها نواتج الفكر والفن وتتباعد، وأولى درجات «الوضوح» أن نكون على بينة بما يصل وما يفصل، وبقدر ما استطعناه من هذا التَّمييز تكون الهداية في تسديد الخُطى نحو الأهداف.