المطبوعة الزرقاء «٣»
قال لي صاحبي: كنت في العشرين من سنوات عمري، عندما علمت مصادفة، بأن هنالك في حي عابدين بالقاهرة، معرضًا أقامته وزارة الصحة، عرضت فيه ضروبًا مختلفة من التصوير والتجسيد، تبين للناس كيف رُكِّبَ جسم الإنسان، وكيف تتسلل إليه جراثيم المرض، وكيف تكون الوقاية، فذهبت لأرى، وهناك وجدت عند المدخل صفًّا من أنابيب زجاجية، كانت هي أول ما يراه الزائر، وهي أنابيب تتدرج ارتفاعًا وحجمًا، وتبدأ بأنبوبة ضخمة، لا تناسب بينها وبين ما يليها في صف الأنابيب، امتلأت ماءً، ثم جاءت جارتها الصغيرات، لتحتوي كل منها على قطع صغيرة من مادة ما، فواحدة فيها قطع من حديد، وثانية فيها قطع من الفحم، وثالثة فيها قطع من كلسيوم، وهكذا، وعُلِّقَت فوق صف الأنابيب ورقة كُتب عليها عبارة كهذه: «بهذه المواد، وبهذه النسب بينها، يتركب الإنسان.» وإني لأذكر جيدًا، كيف أطلت الوقوف لأشهد وأتأمل، مع ابتسامة ساخرة على الشفتين، أوشكت أن تنفجر في ضحك مسموع، كأنما أردت أن أقول: أهذا — إذن — هو الإنسان المغرور؟ فعظمه ماء، وأضيف الماء إلى هذه الأحجام من مواد، إذا جُمِعَتْ كلها بِيعت في السوق بنصف قرش، هذا إذا وجدت لها بائعًا أو شاريًا؟ لكن أذكر جيدًا كذلك، أني لم ألبث إلا لحظة طائرة، حتى أفقت إلى نفسي أصيح: لا، لا، ليس هذا هو الإنسان، إن هذه المواد الرخيصة لن تكون ما عرفه الكون من كائنات، فالخطأ هنا، أفحش الخطأ، أن يُسَوَّى بين العناصر فُرادى ومجتمعة، إن قصيدة الشعر ليست هي كومة الألفاظ التي رُكِّبَتْ منها، ولوحة الفنان ليست هي كومة الألوان والخطوط التي فيها، إن «الواحد» هنا ليس متكثرًا في أجزائه، بل تبدأ حقيقته وهو «واحد»، وهذه الواحدية لا تتحقق إلا وهو في كيانه المتكامل، وعندئذ فقط يكون الإنسان إنسانًا، حتى وهو جنين لم يُولَد بعد.
ومضت بعد تلك الوقفة أعوام بعد أعوام، ثم جاءت وقفة أخرى، شديدة الشبه بالوقفة الأولى، لكنها كانت هذه المرة وقفة أمام تحليل «المعرفة» إلى عناصرها، فالإنسان — كل إنسان، وأي إنسان — هو بمثابة جهاز حي، عُبِّئَ بمعلومات أخذ يجمعها من خبراته معلومة معلومة كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة أو جزء من دقيقة.
وليكن التعاون بين الأفراد فيما جمعوه، كمًّا وكيفًا، ما يكون، فأقلهم محصولًا يشتمل جهازه البشري على قدر من المعلومات، محال أن يُعَدُّ أو يُحصى، وإن الشبه في ذلك بين الإنسان والكمبيوتر، شبه وارد، فلكلٍّ من الحالتين مخزونها، ولكلٍّ من الحالتين طريقتها في استخراج المطلوب من ذلك المخزون، وفق ما تقتضيه اللحظة القائمة، فها هنا كذلك لو عَنَّ لأحد أن يضع الجهاز الآلي، وأن يكتب في ورقة يعلقها فوق رأسه، عبارة كهذه: «هذا إنسان في مخزونه من المعرفة، وفي استخراجه لما هو مطلوب من ذلك المخزون.» لصحت الصيحة نفسها، التي صحتها في ذلك المعرض الصحي الذي أشرت إليه، وكل الفرق بين الصيحتين، هو أن الأولى كانت عن واحدية الجسم، وأما الثانية فهي عن واحدية المعرفة.
فكما أن الإنسان لا يكون إنسانًا بجسمه، إلا إذا توحدت أجزاء ذلك الجسم في كيان عضوي واحد، فكذلك هو لا يكون إنسانًا بمعرفته إلا إذا توحدت تلك المعرفة في نسق واحد، إلا أن ثمة فرقًا بين الحالتين يستوجب الذكر، وهو أن الوحدة النسقية التي يجب أن تربط أجزاء المعرفة، لا يشترط لها أن تتوافر في كل فرد على حدة، بل يتسع مداها ليأخذ المعرفة من مجموعة الأفراد الذين يحمل كل فرد منهم جزءًا منها.
على أننا ونحن في هذا المجال، وأعني مجال المحاولة التي نُوَحِّد فيها معارف الإنسان، لا نضيع الوقت في معلومات متناثرة وعابرة، مما يَلِمُّ به زيد من النَّاس أو عمرو، بل نحصر اهتمامنا فيما هو مهم، والمهم هو ما يجوز عليه البقاء لينتقل مع النَّاس عبر الأجيال، وأهم هذا المهم هو الأقسام الثلاثة التي أسلفنا لك الحديث عنها، فيما سبق من أحاديث عن «المطبوعة الزرقاء»، ألا وهي، بالترتيب الذي ورد في سياق تلك الأحاديث: العلم، والدين، والأدب والفن، فعلى الرغم من أننا أخذنا نبين ما تتصل به، أو تنفصل، تلك الأقسام بعضها عن بعض، فقد أرجأنا القول في طرائق تجميعها جميعًا في نسق معرفي واحد متكامل، لنتناوله بشيء من التفصيل والشرح في هذا الحديث.
والسؤال الذي نطرحه، لنبدأ به ذلك الشرح المفصل، هو: إذا كان الذي بين أيدينا هو أقسام ثلاثة: قسم فيه العلوم على اختلافها، وقسم فيه الدين متمثلًا في نصوصه، وقسم فيه مبدعات الفن أدبًا وفنونًا أخرى في التعبير والتشكيل، وإذا كان المراد جمع هذه الأقسام في بناء معرفي واحد، يضمها في كيان موحد كما يضم الجسد الحي مختلف أعضائه في كيان، أفلا نكون بحاجة إلى قسم رابع يضطلع بمهمة التوحيد؟ والجواب هنا هو بالإيجاب: نعم، لا بد من وحدة معرفية رابعة، لا تقف مع الوحدات الثلاثة المذكورة في صف أفقي واحد، بل تختار لنفسها موضعًا خارج ذلك الصف؛ ليُتاح لها أن تنظر إليها نظرة تحلل بها وتقارن، حتى تنتهي إلى الرابطة التي تضم الوحدات الثلاث في وحدة أعلى، وأما ذلك القسم الرابع، فهو «الفلسفة».
إنَّ المُهمَّة الأولى للفكر الفلسفي، هي إيجاد الوحدة التي يتوحد بها ما قد يبدو في الظاهر متفرقًا متناثرًا، سواء أكان ذلك فيما تفرق وتناثر من كائنات الطَّبيعة، فيوحدها الفكر الفلسفي ليراها الإنسان «كونًا» واحدًا متصل الأجزاء في بناء منظوم، أم كان ذلك فيما تفرق وتناثر من أجزاء المعرفة الإنسانية، فيوحدها الفكر الفلسفي في نسق واحد، يُظْهِر ما بين تلك الأجزاء من صلات وثيقة، برغم ما تحمله كذلك من فوارق تفصلها بعضًا عن بعض، ويهمني في هذا الموضع من سياق الحديث، أن ألفت النظر إلى أنه بغير هذه الوحدة النسقية لأجزاء المعرفة، تنعدم «الرؤية» الواضحة عند الفرد الواحد من النَّاس، فإذا كنت عالمًا أعظم علماء الدنيا في علمك الذي تخصصت فيه، ثم أوقفت نفسك عند حدوده، لا تعرف شيئًا عن وراء تلك الحدود، فمحال عليك أن ترى حتى ذلك العلم الخاص الذي نبغت فيه، رؤية صحيحة، إنك في هذه الحالة تكون كمن عرف كل شيء عن مدينة القاهرة، لكن وقف عند حدودها، لم يعرف ما هو وراء تلك الحدود من سائر أجزاء مصر، ودع عنك ما تمتد به مصر إلى بقية الوطن العربي، ثم ما وراء هذا كله من أقطار العالم الذي نعيش فيه، فهل يستحق مثل هذا العالِم بالقاهرة وأجزائها، أن يُقال عنه إنه حقًّا يعرف القاهرة؟ لقد أصاب «رديارد كبلنج» حين قال: إنه لا يعرف وطنه من لا يعرف إلا وطنه. وأقول ذلك لأني أعلم الكثير عما يضل علماءنا عن «الرؤية» الشاملة، فيغريهم الغرور العاجز بأن يقف عند حدود تخصصه العلمي، مستعليًا أحيانًا على أن يُقال عنه إنه مد البصر إلى غير ميدانه، وحين يتجه الفكر الفلسفي بأدواته نحو أقسام المعرفة ليوحدها، فليس له في ذلك سبيل واحد، فقد يختار أن يتناول موضوعه عن طريق البحث في «القيم العليا المتمثلة في تلك الأقسام»، ألم نقل إن الأقسام الأساسية ثلاثة: العلم، والدين، وعالم الفن بما فيه فن الأدب؟ فانظر إلى هذه الأقسام واحدًا واحدًا، باحثًا عن القيمة العليا التي اتخذها دعامة ومحورًا، إن «العلم» قد جاء باحثًا عن «الحق»، أي التصوير الصادق لظواهر الكون، وذلك بكشفه عن قوانينها، ومصداق صدقه في ذلك الكشف، هو أن تجيء القوانين العلمية دقيقة التطابق مع الظواهر، إلى الدرجة التي تمكن الإنسان من استخدام تلك الظواهر، كل ظاهرة بما تنطوي عليه من قوة، وأما «الدين» فالقيمة العليا التي ينشدها ويقيم لها قوائمها هي قيمة الخير، بمعنى أن يضع القوانين الضابطة لسلوك الإنسان، حتى يجيء ذلك السلوك على استقامة تنفع الدنيا وتزكي للآخرة، وأريد لك أن تلحظ هنا، أنه بينما الإنسان في مجال «العلم» هو الذي يستخلص من الظواهر الكونية قوانينها ليلجمها بها فتثمر، نراه في مجال الدين وقد وُضِعَت له هو القوانين الأخلاقية؛ لينضبط بها سلوكه فيستقيم، وأما في المجال الثالث، مجال الفن والأدب، فأصلابه وأوصاله قائمة على قيمة «الجمال»، والجمال يتمثل في دقة النسب في الشكل الذي يُبنى ليسرى المضمون في قوائمه، كل فن بمادته: الصوت في الموسيقى، والكلمات في الأدب، والألوان والخطوط في التصوير، والحجر في النحت والعمارة، فإذا ثبت لنا بالتحليل أن تلك القيم الثلاث: الحق، والخير، والجمال، لا تقوم إحداها إلا وهي مقرونة بشيء من أختيها، ثم إذا ثبت لنا كذلك أن تلك القيم الثلاث تتجاوب مع فطرة الإنسان، أي إن الإنسان بطبيعته يحس بأن الحق أولى من الباطل، وأن الخير يعلو على البشر، وأن الجمال أجذب من القبح، أيقنا بأن تلك القيم الثلاث، وإن تفردت كل منها بمعناها، إلا أنها تكون معًا كأضلاع المثلث، حتى وإن تفاوتت أطوالها في المواقف المختلفة، أما القيم الثلاث موصول بعضها ببعض، بحيث لا يُتاح لإحداها أن تستقل وحدها في حالة معينة، وكأنها ليس لها أختان تصحبانها، فيظهر لنا من أن كل واحدة منهما، لا يكتمل معناها في الحالات السوية، إلا إذا حققت القيمتين الأخريين: فإذا قلنا — مثلًا — إن قانون الجاذبية بين الأجسام «حق» أثبته العقل من أبحاثه العلمية، وجدنا أن تلك الجاذبية بين الأجسام هي التي قد أحدثت في أجرام السماء تعادلًا وتوازنًا، كما أنَّها هي التي بفعلها تدور الأرض حول نفسها فيتعاقب عليها الليل والنَّهار، وتدور في فلكها حول الشَّمس، فتتعاقب عليها الفصول، وكل ذلك «خير» ما كان يمكن بغيره أن تستقيم لنا حياة، وماذا يكون «الجمال»، إذا لم يكن ماثلًا فيما نراه حولنا — أينما وجهنا البصر في أنحاء الكون — من نظام مطرد دقيق؟ وقد يبدو لنا، أن «الحق» و«الخير» و«الجمال» أسماء ثلاثة على مسمًّى واحد، والذي يختلف في الحالات الثلاث، وهو وسيلة إدراكنا لذلك المسمى الواحد، فإذا أدركنا ظاهرة معينة ﺑ «العقل» (وذلك في حالة العلم) أدركنا عنها، ما هو «حق»، وإذا عدنا فأدركناها هي نفسها ﺑ «البصيرة» (وذلك في حالة الإيمان) أدركنا عنها ما هو «خير»، ثم إذا عدنا مرة ثالثة فأدركناها ﺑ «حاسة» من حواسنا، لندرك عنها طريقة تشكيلها وأثره في إحداث حالة معينة في نفوسنا، كان ذلك هو الجمال، وهكذا ترى كيف يوصلنا التأمل في القيم الثلاثة الكبرى (وهي التي تتفرع عنها كل ما يعرفه الإنسان من قيم) إلى ضم الكثرة الكثيرة التي نشاهدها في الكائنات المختلفة، حتى لتصبح أمامنا وجودًا واحدًا موحدًا تتكامل فيه تلك الكثرة كما تتكامل في الكائن الحي أعضاؤه.
وليس التوسل بالقيم الثلاث، هو الوسيلة الوحيدة التي يلجأ إليها الفكر الفلسفي ابتغاء الوصول إلى وحدة الكون، من خلال ما فيه من كثرة وتعدد، بل يمكنه الوصول إلى الغاية نفسها، إذا حصر انتباهه فيما أنتجه النَّاس من تشكيلات اللغة وما إليها من مجموعات الرموز، وقد يبدو هذا غريبًا للوهلة الأولى، إما إذا صبرنا إلى الوهلة الثانية زال عنا كثير من مصدر الغرابة، فالإنسان — دون سائر الكائنات جميعًا — لم يعش حياته على كوكبه الأرض صامتًا، بل ما فتئ — منذ خلقه الله إنسانًا — يتأمل ما حوله «لينطق» إلى الآخرين عما قد رآه وسمعه وتأمله، ثم ابتكر لنفسه وسيلة «الكتابة ليثبت» بها بعض ما قد أحسه بحواسه، أو فكر فيه بعقله، أو تأمله بكل ما وسعه من أجهزة الإدراك، وذهبت قرون وجاءت قرون، وكثر في أيدي الحاضرين محصول السابقين، فكان لا بد له من تصنيف وتبويب وشيئًا فشيئًا أخذت تتضح المعالم، التي يمكن على أساسها القيام — في دقة أكثر — بالتصنيف والتبويب، حتى انتهينا إلى ما نحن فيه الآن، وهو أننا لا نكتفي بأن يميز مجموعة من ذلك المحصول الموروث، بأنه «علم» ونميز مجموعة أخرى بأنَّها «دين» ومجموعة ثالثة بأنها «فن وأدب»، بل ازددنا إمعانًا في كل قسم من هذه الأقسام لنقسمه إلى فروعه، فالعلم — مثلًا — علم رياضي وعلم طبيعي، والعلم الرياضي جبر، وحساب وهندسة، إلخ، والعلم الطبيعي فلك، وعلوم الطَّبيعة، وكيمياء، وأحياء من نبات وحيوان، ثم نفرد من الأحياء نوعًا له أهمية خاصة هو «الإنسان»؛ فتُقام عليه علوم النفس، والاجتماع والاقتصاد إلخ، ومثل هذا التفريع نجريه كذلك فيما هو خاص ﺑ «الدين» مما اجتمع لدينا من موروث مكتوب، كما نجريه على مأثورات من الفن والأدب.
لم تكن هذه الأقسام مفرعة إلى فروعها الكثيرة منذ عصر الإنسان الأول، بل هي تتفرع فروعها تلك مع مر الزمن ودقة التخصصات، ثم يتعرض كل فرع إلى تفريع جديد، كلما ازددنا علمًا، وتعمقنا تخصصًا، فكان لا بد للعقل أن يقف إزاء هذه الفروع الكثيرة، ليسأل نفسه قائلًا: أئذا اضطررنا أمام المحصول العلمي الهائل، الذي ورثناه ثم أضفنا إليه، كما سوف يضيف اللاحقون جيلًا بعد جيل، أن نلجأ إلى تقسيم المعارف «العلمية» أقسامًا أقسامًا، ثم فروعًا فروعًا، وأن نترك أمرنا إلى أوهامنا التي قد تضلنا وتوهمنا بأن «الكون» هو بدوره مقسم ومفرع، بمثل ما تقسمت علومنا وتفرعت؟ أم هو أوجب علينا أن نفرغ إلى تلك الأقسام الكثيرة بفروعها الأكثر، لنرى كيف تتوحد؟ لكن ماذا تكون وسيلتنا إلى الكشف عن «الجذر» الواحد المشترك أو الأساس الواحد المشترك الذي أُقيمت عليه هذه الفروع كلها أو هذه الطوابق كلها؟ هل نغض النظر عما سطرته العلوم في دفاترها، ونتجه بأبصارنا مباشرةً إلى الكون نتأمله، التماسًا لرؤية واحديته؟ كلا؛ لأننا إذا فعلنا ذلك، فكأننا أهدرنا جهود العلماء عبر مئات القرون، فلم يبقَ إذن سوى أن أحلل هذا المكتوب في دفاتر العلم، لأرى — عن طريق الصياغة اللغوية — أهي في الحق علوم كثيرة لا سبيل إلى توحيدها في أساس واحد، أم أنها في حقيقة أمرها أساس واحد ثم تفرع بين أيدينا فروعًا بحكم ضرورة التخصص؟
وهذا هو ما كان، لكن من ذا الذي يتصدى له؟ هنالك علماء تعددت تخصصاتهم العلمية وتنوعت، فمنهم من اختار مجال العلوم الرياضية ومنهم من اختار فرعًا معينًا من العلوم الطبيعيَّة أو العلوم الإنسانية، كل منهم مشغول بميدان تخصصه، فمن الذي يريد منهم ويستطيع أن يخرج من جدران غرفته لينظر من بعيد إلى سائر الغرف محللًا ومقارنًا؟ الجواب هو أن الذي يتصدى لذلك — عادةً — واحد من هؤلاء جميعًا، تساوى معهم في مستوى التخصص العلمي ثم انفرد وحده بمزاج خاص وقدرة خاصة على أن يشمل بنظرته مجموعات العلوم: من حيث موضوعاتها ومناهجها ليرى هل تتحد؟ وإذا اتحدت، فأين وكيف؟ وذلك هو الفيلسوف، وليلحظ القارئ هنا، أني لا أشير بهذا الاسم إلى «أساتذة» الفلسفة «وطلابها»؛ لأن هؤلاء جميعًا يدرسون ما قد قدمه «الفلاسفة» من نتائج محاولاتهم، والأساتذة والطلاب يتفاوتون بالطبع في درجة التحصيل، وفي القدرة على تمثل ما قد حصلوه، لكن ذلك كله شيء وأما أولئك الذين يفرزون فكرًا جديدًا ويضيفون إضافات جديدة في الميدان الذي تصدوا لمشكلاته التماسًا للحلول فشيء آخر.
ولقد وُفِّقَ فلاسفة العصر الحديث بصفة خاصة إلى إيجاد ضروب من الوحدة بين العلوم، فعرفوا كيف يسلسونها في خط رأسي تتصاعد فيه بحسب ما فيها من تجريد وتعميم وكيف يرتبونها في خط أفقي تتنوع عليه بحسب موضوعاتها، فيجيء كل خط من الخطين موحدًا لها وكأنها أعضاء بدن واحد، وربما سأل سائل هنا — وكثيرًا جدًّا ما ورد السؤال — قائلًا: وما «فائدة» هذا العناء الفكري المبذول نحو توحيد المعرفة الإنسانية في جذور مشتركة برغم اختلافها فروعًا وثمارًا؟ وقبل أن أجيب، يطيب لي أن أذكر للقارئ عبارة عميقة الدلالة قالها «جوتة» وهي: «احرص على الفروع الثَّقافيَّة التي قد يبدو لك أنها غير ذات نفع مباشر؛ لأن الفروع ذوات النفع المباشر كفيلة بأن تحرص على نفسها بنفسها.» وشرح ذلك هو أن العلوم ذات النفع المباشر كالطب والهندسة، وما إليها تفرض نفسها على الإنسان فرضًا، فكل إنسان يريد أن يجد طبيبًا إذا مرض ومهندسًا إذا أراد أن يشيد مسكنًا، وأما الجوانب التي لا تفعل في الإنسان فعلها إلا بطريق غير مباشر فهي التي كثيرًا ما تثير السؤال: وما فائدة هذا أو ذاك؟ كالأدب والفن والفلسفة، وبعد هذه الملاحظة أجيب على سؤال السائل: وما فائدة الفكر الفلسفي في جهده المبذول نحو توحيد المعرفة؟ والجواب هو باختصار: إنه يمدك آخر الأمر بوجهة للنظر، وبغيره تظل أمام كومة من المعلومات والمعارف تزيد من محصولك، لكنها لا «تربيك» ولا «تصوغك» إنسانًا موحدًا بما لديه من «رؤية» موحدة. وهل «التوحيد» في الدين توحيد الله سبحانه وتعالى عند المؤمنين به إلا عقيدة استطاع الإيمان بها من استطاع أن تكون له رؤية موحدة إلى الكون؟ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
إلى هنا قد رأينا طريقين يمكن للفكر الفلسفي بسيره في أي منهما أن يبلغ «التوحيد» الذي ينشده فيما يراه من كثرة ظواهر وكائنات؛ كان أولهما طريق «القيم»: الحق، والخير، والجمال، وهي القيم الكبرى التي تحمل في جوفها جميع القيم التي نهتدي بها في حياتنا، «فالحق» في مجال المعرفة العلمية وما يدور مدارها و«الخير» في مجال السلوك التقي المستقيم وهو نفسه السلوك الذي جاء «الدين» ليرسم صورته أمام النَّاس، ثم «الجمال» الذي يشير إلى الحالة الوجدانية التي يشعر بها الإنسان إزاء ما يعمله بدافع المعرفة وما يعمله بدافع الدين، وأما الطريق الثاني الذي قد يسلكه الفكر الفلسفي؛ التماسًا «للوحدة» المنشودة في ظواهر الكون وكائناته، فهو طريق النظر إلى التشكيلات اللغوية والرمزية التي استخلصها الإنسان في تدوين ما «عرفه» عن الأشياء، وما «أحس» به من ضروب المشاعر نحو تلك الأشياء، فقد يؤدي النظر إلى تلك التَّشكيلات اللُّغوية، وهي التي تحمل «العلوم» و«العقائد» و«الأدب» وغيرها، إلى الوصول إلى جذر واحد مشترك تجيء تلك الأقسام فروعًا له.
وهنالك غير هذين الطريقين طرق أخرى يسلكها الفكر الفلسفي للوصول إلى الوحدة المنشودة، لعل أهمها هو ما يلجأ إليه «المتصوفة» وخلاصته: أن يلجأ الإنسان إلى اللقاء المباشر بالوجود العيني بدل أن يلجأ إلى «الأقوال» التي قِيلت عن ذلك الوجود، ولأضرب للقارئ مثلًا بسيطًا يفرق له بين الجانبين: افرض أن أمامنا «وردة» معينة فقال عنها قائل: «هذه وردة حمراء زكية الرائحة.» فهل ترى حقًّا أن بين هذين الطرفين تكافؤًا بحيث نستطيع أن نستغني بالجملة اللغوية عن «الوردة» ذاتها، التي قيلت عنها تلك الجملة؟ الواقع أن العلاقة بين الطرفين لا تؤدي بنا إلى مثل هذا التكافؤ، فبينما «الجملة» مؤلفة من عدة كلمات وكل كلمة منها مؤلفة من عدة حروف، نرى «الوردة» كائنًا موحدًا، إن «الجملة» جعلت للون الأحمر اسمًا قائمًا وحده وجعلت للرائحة الزكية رموزًا قائمة وحدها، وأما «الوردة» فلا انفصال فيها بين جسمها ولونها ورائحتها، كل هذه الجوانب التي باعدت بينها «اللغة» نراها في «الشيء» مدمجة بعضها مع بعض موحدة كلها في وجود واحد، وهكذا يرى «المتصوف» من الفلاسفة وأعني «التصوف» من حيث هو «منهج» للنظر يفضل أن يمس بوجدانه حقائق الأشياء، فإذا وجد نفسه مضطرًّا إلى اللجوء إلى «اللغة» ليعبر بها عما أحسه من وحدة كونه، كان على بينة بأنه في الحقيقة لم يضع فيما كتبه وجدانه الذي شعر به، إذ لا حيلة لأحد يستطيع بها أن يبلغ الآخرين وجدانه الداخلي، فهيهات للمحب — مثلًا — أن ينبئ الآخرين عن حقيقة حبه بكلمات يقولها، إذ الكلمات هي كلمات وليست شعورًا ينبض به قلب، وهكذا الحال فيمن أحسن الوحدة في الوجود، وهو إحساس يقرب صاحبه من إدراك الواحدية والأحدية في خالق الكون سبحانه وتعالى.
لقد سرت مع القارئ في رحلة ارتحلناها معًا في «مطبوعتنا الزرقاء» التي تصور بالخطوط الأولية أقسام المعرفة الأساسية: العلم، والدين، والفن، والفلسفة، إيمانًا منا بأن أول النهج المؤدي بصاحبه إلى «رؤية» صحيحة هو وضوح الفكر، ولن يتأتى لإنسان هذا الوضوح إلا إذا درب نفسه على إدراك الصلات والفواصل بين الأفكار، أو بين المعاني وبالتالي بين المواقف والأشياء، فليس في النَّاس من هو أشد جهلًا ممن يخلط الأفكار والمعاني والأشياء والمواقف بعضها ببعض ثم يحسب أنه قد عرفها، ألم أقل لك في فاتحة هذه الأحاديث أن أجهل الجاهلين جاهل يجهل أنه جاهل؟ فأود أن أختمها بقولي: إن أعلم العلماء عالم يعني أنه مهما بلغ من العلم فهو لم يؤتَ من العلم إلى القليل.